كثيرون أولون يكونون آخرين وآخرون أولين

إنجيل يوم الخميس من الأسبوع الثاني من الصوم المقدس

المزمور: “10نَظِيرُ اسْمِكَ يَا اَللهُ تَسْبِيحُكَ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. يَمِينُكَ مَلآنَةٌ بِرًّا. 11يَفْرَحُ جَبَلُ صِهْيَوْنَ، تَبْتَهِجُ بَنَاتُ يَهُوذَا مِنْ أَجْلِ أَحْكَامِكَ.” (مز 48: 10، 11)

الإنجيل: “16وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» 17فَقَالَ لَهُ:«لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. وَلكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا». 18قَالَ لَهُ:«أَيَّةَ الْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. 19أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». 20قَالَ لَهُ الشَّابُّ: «هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُني بَعْدُ؟» 21قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». 22فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ! 24وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». 25فَلَمَّا سَمِعَتَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ:«إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 26فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ». 27فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» 28فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 29وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 30وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ. ” (مت 19: 16-30)

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

إنجيل قداس هذا الصباح يتكلَّم عن البيع والتَّرْك، أي بيع الأموال والممتلكات، وترك الأهل مع كل المتعلِّقات الأرضية. فهو إنجيل يهمُّنا جداً كمسيحيين، وبصفة خاصة كرهبان.

في إنجيل القديس متى يقول: «وكلُّ مَن ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أُمّاً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية» (مت 19: 29). أما إنجيل القديس مرقس فيقول: «… يأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان، بيوتاً وإخوة وأخوات وأُمهات وأولاداً وحقولاً، مع اضطهادات، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية. ولكن كثيرين أوَّلون يكون آخِرين، والآخِرون أوَّلين» (مر 10: 31،30).

هنا يتبادر للذهن لأول وهلة أنَّ الموضوع موضوع تعويض، أي أن ”الذي يترك هنا الأهل، يأخذ عِوَضاً عنهم أهل…“. هذا هو مفهوم الواقع العملي الذي نراه، بمعنى أن الإنسان يُشْبِع النقص أو الحرمان من الأشياء التي قدَّمها أو بذلها، بأن يأخذ عِوَضاً عنها أضعاف ما تركه. ولكن مفهوم كلام المسيح لا يمكن أن يؤدِّي إلى هذا السلوك.

الأساس الذي تُبنَى عليه كل العلاقات: ”صُنْع مشيئة الآب“:

مكتوبٌ في إنجيل متى: «وفيما هو (الرب يسوع) يُكلِّم الجموع إذا أُمُّه وإخوته قد وقفوا خارجاً طالبين أن يُكلِّموه. فقال له واحدٌ: ”هوذا أُمُّك وإخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يُكلِّموك“. فأجاب وقال للقائل له: ”مَن هي أُمي ومَن هم إخوتي؟“. ثم مدَّ يده نحو تلاميذه وقال: ”ها أُمِّي وإخوتي. لأن مَن يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأُختي وأُمِّي“» (مت 12: 46-50).

في هذا النص من الإنجيل تبرز عبارة: ”يصنع مشيئة أبي“. فهذا هو الأساس الذي تُبنَى عليه العلاقات لِمَن تركوا الأهل والممتلكات، الذين قبلوا دعوة المسيح للتكريس. فـالعلاقات تقوم أساساً من خلال صُنْع مشيئة الله: أن أصنع أنا مشيئة الله، والذي أتعامل معه يصنع أيضاً مشيئة الله، وإلاَّ فلا توجد علاقة حقيقية البتة، هذا هو المفهوم الذي يريد المسيح أن يُوصِّله لنا. فالأهل الذين تركناهم مع البيوت والحقول والممتلكات من أجل المسيح ومن أجل ملكوت الله، تربطنا بهم علاقات على مستوى الطبيعة البشرية، علاقات إشباع تملك كل الكيان النفسي والجسدي والشعوري والعاطفي للإنسان.

فالبشرية خُلِقَت لكي تنمو وتُثمر في الأرض، فلابد أن تكون لها مثل هذه الاحتياجات النفسية الداخلية. ولكن نحن مدعوُّون لملكوت السموات، ولذلك قال الشاب الغني: «أيها المعلِّم الصالح، أيَّ صلاحٍ أعمل لتكون لي (لأرث) الحياة الأبدية؟»، ليس لوراثة الأرض، ولذلك بدأ المسيح يوضِّح لكل مَن يسمعه مفهوم التَّرْك بمعناه الصحيح!

مفهوم التَّرْك بمعناه الصحيح:

لقد قال الرب في إنجيل مرقس: «ليس أحدٌ ترك… لأجلي ولأجل الإنجيل. إلاَّ ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان… مع اضطهادات» (مر 10: 30،29). معنى هذا أن العلاقة هنا لم تكن على مستوى السعادة في العالم، وليست هي علاقة على أساس العطاء والأخذ مع العالم للربح؛ لأن الترك في مفهوم الرب مـن أجله ومـن أجل الإنجيل ومـن أجل ملكوت السموات سيتضمن خسارة مائة في المائة في أمور هذا العالم: «مع اضطهادات».

معنى: «مع اضطهادات»:

عبارة: «مع اضطهادات»، تُغاير تماماً الفكر الذي يطرأ على ذهن الإنسان الذي يريد أن يُكوِّن علاقات مع الآخرين تُعوِّضه عن علاقات الأهل الذين تركهم أو الممتلكات التي تركها. فهذه العبارة: «مع اضطهادات»، تُظهِر أن تبعية الرب وتَرْك كل شيء من أجل تكريس الحياة له، ليست للسعادة الأرضية ولا للمتعة الوقتية ولا للإشباع العاطفي.

الإنسان يُولد في هذا العالم وفيه جوع من نحو العالم يحاول أن يُشبعه، جوع للأب والأُم، جوع للإخوة والأخوات، جوع للزوجة والأولاد، جوع إلى الغِنَى والتملُّك؛ هذا هو جوع العالم. هنا المسيح يُنبِّه أذهاننا أنه ليس هناك خلطة أو شركة بين الجوع إلى ملكوت السموات والجوع لهذا العالم. هذا الكلام ليس فقط مُوجَّه للرهبان الذين تركوا الأهل والممتلكات، ولكنه كلامٌ موجَّه لجميع المسيحيين، أي أن لا يكون القلب منقسماً على ذاته، أو مُوزَّعاً بين شهوة الملكوت وشهوة العالم.

التَّرْك الظاهري والتَّرك الداخلي:

فالتَّرْك والبيع الظاهران داخلٌ في مضمونهما التَّرْك والبيع الداخليان، وهذا أقوى وأشد وأعمق من التَّرك الخارجي والبيع الظاهري. وكلمة السرِّ في إنجيل هذا الصباح هي: «فقال لهم يسوع: ”الحق الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد…“» (مت 19: 28). فكلمة ”التجديد“ في اللغة اليونانية ????????????، وهي تعني: ”ولادة ثانية“ ”خليقة أخرى“، ”أنتم الذين تبعتموني في تجديد البشرية“.

ما بين الإنسان العتيق والإنسان الجديد:

هنا المسيح لا يُخاطِب الإنسان العتيق الذي يُكوِّن علاقات مع الناس على أساس الجوع البشري، ولكنه يُخاطب الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرِّ وقداسة الحق. فالإنسان الجديد الذي يُولَد ثانيةً وقد دخل في عهدٍ مع المسيح، يقتني – في الحال – شِبَعاً روحياً، كما يقول المُرتِّل: «أمامك شِبَعُ سرور، في يمينك نِعَمٌ إلى الأبد» (مز 16: 11). فالشِّبَع والسرور الروحيان لا يَفنيان، بل يطردان الجوع الجسدي، جوع العواطف والمشاعر للناس. فالإنسان الجديد الذي اقتنى الشِّبَع الروحي، يتعفَّف عن الجوع الجسدي، والعلاقات العاطفية، وهو بهذا قد أصبح مُهيّأً لملكوت السموات.

كيف سيرث الإنسان الحياة الأبدية؟

والسؤال الآن: كيف سيرث الإنسان الحياة الأبدية؟

والجواب: لا يمكن لإنسانٍ جائع جسدياً لمشاعر جسدية أن يدخل ملكوت السموات، هنا الإنسان متوقِّفٌ عند حدود الإنسان العتيق، ومنحصرٌ في اللحم والدم والمشاعر النفسانية. شَبَعُ الإنسان الجديد ليس فقط شِبَعاً روحياً، ولكنه يأخذ حذره جداً من العالم والعلاقات العاطفية التي تشدُّه إلى العالم. ومن هنا تنشأ الضيقات بل والاضطهادات، لأن الإنسان العتيق كان منحازاً سابقاً للجسد، وللمشاعر النفسانية؛ أما الإنسان الجديد الآن فيسمو على الجسد والمشاعر النفسانية إلى سموٍّ روحي عميق، وبدلاً من انحصاره في الجسد والعاطفة، إذ به يسمو إلى المستوى الروحي العميق: فيحب الجميع بلا تفرقة، ويهب الكل بذلاً وعطاءً بلا تمييز؛ وبسبب هذا سيُعاني من معارفه وأقاربه وأصدقائه، رفضاً لأسلوب حياته، ومقاومةً لتصرُّفاته، وكلاماً جارحاً بسبب أفعاله الغريبة عن أفعالهم.

يقول الرب يسوع: «مَن ترك… من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية». فالإنسان في السابق قبل دخوله في عهدٍ مع الرب يسوع، كان القليل جداً يُشبِع شهواته، ويُحقِّق رغباته في الصداقة، في التعامُل مع الناس. أما إذا انفتح الإنسان على المسيح، وبدأت نفسه تشبع من الرب؛ يأخذ ليس فقط مئة ضعف في هذا الزمان، بل وأيضاً سيشبع من الرب إلى حدِّ الامتلاء ثم العطاء للآخرين. وحينئذ لا يكون لديه عَوَز أو جوع إطلاقاً، بل عطاء وبذل، وهذا هو المائة ضعف.

«أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون أوَّلين»:

يختم الرب يسوع حديثه قائلاً: «ولكن كثيرون أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون أوَّلين». ماذا يقصد المسيح من هذه الكلمات؟

ما يقصده المسيح: إنه لا ينظر إلى الظاهر من المعاملات والعلاقات، وإنما إلى الدوافع التي تُحرِّك تصرُّفات الإنسان. فيوجد إنسانٌ يظهر أمام الآخرين أنه يترك ويبيع الكثير ويُعطي الكثير، ولكنه من أعماقه منجذبٌ وملتصقٌ بالعالم، بالأهل، بالناس، بالمال، بالشهرة، بالقيم البشرية، بالعواطف والمشاعر؛ هذا يُعتَبَر جوعاً جسدياً ونفسياً إلى أمور هذا العالم. فالذي يترك بل ويخرج من العالم، ولم يستطع أن يتخلَّص من جوعه إلى العالم، وما يزال مشدوداً إلى كل ما في العالم؛ سيكون آخِراً، بل وما بعد الأخير.

أنواع الذين يتبعون الرب:

الذين تركوا كل شيء وتبعوا الرب نوعان:

الأول: إنسانٌ ترك الأشياء والأهل والممتلكات، ولكنه لم يتخلَّ عن الجوع إلى هذه الأشياء والأهل والممتلكات، بل هو مشدودٌ إليها وملتصقٌ بها. هذا هو الذي ينطبق عليه كلام المسيح: «كثيرون أوَّلون يكونون آخِرين».

والثاني: إنسانٌ ترك الأهل وكل الأشياء، وكذلك فطم نفسه عن الأهل والأشياء والممتلكات. وقد يكون ما تركه هذا الإنسان ليس بالشيء الكثير، مثل تلاميذ الرب الذين لم يتركوا أشياء لها قيمة كبيرة، ولكنهم تركوا كل شيء من كل قلبهم، من أعماقهم، وفطموا أنفسهم عن كل العلاقات الجسدية والعاطفية. هؤلاء ومن ينطبق عليهم كل هذا، يظهرون أمام الناس أنهم قليلون، وأنهم آخِرون، لكنهم في نظر الرب وفي تقييمه هم أوَّلون ويرثون ملكوت السموات.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى