كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

درجات الصلاة

أولاً : الهذيذ .

ثانياً : التأمل .

+ « فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت.» (1کو 13: 12 و13)

+ «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح.» (2کو 3: 18)

وكل درجة يتعالون بها نحو المجد
يظنون أنهم قد وجدوا الإنتهاء،
فإذا ارتفعوا أيضاً واستناروا
بنور أكبر نسوا درجتهم الأولى
وظنوا أن هنا نهاية المنتهى !
هذا لأنهم ليسوا هم المتحركين نحو
المجد إنما هو فعل الروح القدس فيهم .

(الشيخ الروحاني)

كثير منا لا يعرف عن الصلاة إلا أبسط صورة لها وهي التي نقوم فيها بتلاوة بعض الكلمات أمام الله سواء كانت من ترتيبنا الإرتجالي الخاص حسب ما توحيه إلينا الظروف، أو من ترتيب القديسين، أو كانت قطعاً مختارة من الكتاب المقدس كالمزامير أو الأناجيل أو خلافه … ولكن هذه كلها لا تخرج عن كونها تمهيداً للصلاة الحقيقية التي بالروح والحق…. و يقيناً لو عرف الناس ما تحويه بقية درجات الصلاة من الروعة والسمو وما تجلبه من نعم و بركات لما توانوا لحظة في البدء بممارستها.

وإن كان ليس من السهل تقسيم الصلاة إلى درجات منفصلة لما بين هذه الدرجات من وحدة وترابط متين، إلا أنه من الممكن توضيح كل نوع منها.

فالنوع الأول :
هو الصلاة الصوتية التي نستعمل فيها تلاوة الألفاظ والجمل كما سبق وشرحنا سواء كانت هذه الألفاظ من ارتجالنا أو من محفوظات الكتاب أو من ترتيب الآباء ، وهذا النوع يعتبر أساساً لأنواع الصلاة الأخرى أو تمهيداً للدخول مع الله في حديث واقعي… ولكن يُشترط فيها أن يلازمها مجهود ذهني لمتابعة معاني الألفاظ التي نقولها مع اهتمام داخلي بموضوعها ، فلا نتلو الكلام كأنه من الآخرين الله بل نحوّله لأشخاصنا فنقدمه منا مباشرة…

ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى أن الصلاة، سواء كانت بتلاوة الصلوات الفردية أو في وسط الكنيسة أو كانت بالترنيم الفردي أو وسط خورس التسبيح، يمكن أن تنفتح فجأة على حالة تأمل وانخطاف العقل للوجود في حضرة الله. لأن وقفة الصلاة في حد ذاتها سواء كانت داخل المخدع أو في الكنيسة هي في حقيقتها مثول لدى الحضرة الإلهية ودخول فعلي في مجال القوات الروحانية المسبحة والخادمة .

فإذا تقدم الإنسان إلى الصلاة الصوتية بانسحاق قلب واتضاع العبادة بشعور الخدمة أمام الثالوث القدوس، فإنه يؤهَّل من خلال الصلاة الصوتية عند بدء انفتاح فمه للدخول في معرفة وتأمل الأسرار الإلهية، وحينئذ تمتزج صلاته وتسبيحه بحرارة ونقاوة ومسرة فائقة الوصف.

ولكن ليس هذا معناه أن كل صلاة صوتية يلزم أن تنتقل إلى صلاة عقلية تأملية، فالصلاة الصوتية درجة خاصة بحد ذاتها لها قيمتها كخدمة إلهية، ولها فعاليتها في حياة الإنسان الروحية، وهي ليست بأقل قيمة من الصلاة التأملية.

والنوع الثاني :

الصلاة العقلية، وتسمى أحياناً بالصلاة الداخلية لأنها تكون من عمق القلب، وهذه يشترك فيها العقل مع القلب فيرتبط التفكير مع الشعور، وأحياناً يفصح عنها ببعض الكلمات، ولكنها في الغالب تُقدَّم في صمت وهدوء.

وأولى درجات الصلاة العقلية هي الهذيذ، ويمكن تعريفه بأنه حديث مع الله يتذاكر فيه الإنسان بعض أعمال الله مع خليقته و يشرح أحوال نفسه أمام الله ، فيندم على تقصيره وعلى خـطـيـتـه في موضع الندم و يقدم عبارات الشكر في موضع الشكر و يعزم على إصلاح سيرته حسب مسرة الله.

وهذا النوع يسمونه « التنقل في الصلاة»، فهو يشمل أشياء كثيرة متعددة أحياناً لا يوجد بينها رباط، وأعظم مثل لهذا النوع هو المزامير فهي قطع مختارة من هذيذ داود مع الله : تارة في الخليقة الصامتة وتارة في الخليقة الناطقة، ومرة في الناموس وأخرى في النفس، أو ربما هذه كلها في مزمور واحد، ولكنها لا تخرج عن كونها حديثاً واقعياً شجياً فيما تشعر به النفس نحو الله.

أما الدرجة الثانية في الصلاة العقلية فهي صلاة التأمل، وهنا الصلاة تدخل في حالة تركيز، ليس من جهة موضوعها فحسب كأن يركز الإنسان صلاته في محيط التأمل في وصية من الوصايا المحددة أو عمل من أعمال المسيح التبشيرية أو الفدائية، بل من جهة الإنسان نفسه، إذ يكون تحت تأثير قوي من المحبة تجعله في تيقظ ذهني كامل، وتكون كل حواسه مضبوطة وإرادته متركزة في الصلاة وقلبه مستعداً روحياً لتقبل أي توجيه من الروح القدس. لذلك فإن صلاة التأمل يتحتم تقسيمها إلى درجتين متلازمتين :

الدرجة الأولى: درجة التأمل الإرادي :

ونجاحهـا يـتـوقـف على مقدار ما يحمله الإنسان في قلبه من محبة نحو المسيح مع استعداد الإنسان لتركيز نفسه في موضوع معين يتأمله في أعماق فكره وقلبه و يكون في نفس الوقت في أتم استعداد لتقبل أي توجيه روحي.

ولكن لا تخلو هذه الدرجة من معونة خفية من النعمة تلازم إرادة الإنسان وتمنحه قدرة على المـتـابـعـة والإستمرار والتعمق في موضوع الصلاة مع فتح مجال الإستنارة أمامه، فيخرج الإنسان بحصيلة روحية كبيرة من صلاته.

الدرجة الثانية : درجة التأمل بالروح: وهي انفتاح قلب الله للإنسان بالمحبة رداً على مشاعر الإنسان وحبه التي يتقدم بها في الصلاة أمام الله . وهنا يدخل على الصلاة عنصر إلهي يُخرجها عن حيز الإمكانيات البشرية والإرادة، لذلك يصعب أن يقال عن هذه الدرجة إنها صلاة بل هي «نعمة الصلاة».

و بالرغم من أن هذه الدرجة تبدو خاصة وعالية في البداية، ولكن بمجرد أن يُنعم على الإنسان بالدخول فيها فإنه يعتادها أو إنها تعتاد عليه حتى تصبح سهلة وعادية وعندما يطلبها غالباً يجدها، وذلك بسبب بساطة الروح القدس وسهولته واستعداده المدهش للإجابة عن كل سؤال للمحبة. ولا يُطلب من الإنسان في هذه الدرجة ليدوم فيها إلا أن يكون موافقاً دائماً لمشيئة الروح القدس من جهة المحبة والبساطة والطهارة القلبية، وعدم الإنشغال بالأمور الأرضية وهمومها ، والقدرة على تنفيذ الوصية والمشورة الروحية، ولكن يلزم أن يفهم الإنسان أنه لا توجد أية استعدادات تجعله مستحقاً للدخول في درجة التأمل بالنعمة أو انفتاح قلب الله له بالمحبة، لأنها هبة خالصة.

فعلى الإنسان أن يطلبها بدموع وتوسل ، كما يقول مار إسحق : «أحببني يا رب ولو أني غير مستحق لحبك»، ولكن لا ينبغي أن يعتقد أنه أهل لها حتى ولو دخل فيها كل يوم ؛ بل حتى ولو استؤهل لكافة الفضائل الأخرى من طهارة ونسك وتواضع وصلاة دائمة، لأن موهبة التأمل بالروح وانفتاح قلب الله بالمحبة للنفس البشرية، شيء يفوق كافة الفضائل.

ولكن ليس هذا معناه أن درجة التأمل بالروح معجزة، ولكنها نعمة، والدليل على أنها نعمة هو ما يلازمها غالباً من عطية التمييز والحكمة، فدرجة التأمل الروحي هي في الواقع كمال الصلاة وكمال كافة النعم والمواهب.

والذين يؤهلون للمداومة في هذه الدرجة فإنهم يُستأمنون على المواهب الأخرى التي تعتبر فوق حدود الصلاة كالدهش، أي الإستغراق في التأمل في الله في شبه غيبوبة روحية حيث يعاينون حقائق إلهية لا ينطق بها.

هذه وغيرها من المواهب التي تُعتبر فوق حدود الصلاة سوف نفرد لها فصلاً خاصاً.

ويمكن أن نتباسط فنسمي أولى درجات الصلاة، التي هي الصلاة الصوتية، بالوقوف أمام الله بخوف؛ والدرجة الثانية، التي هي الهذيذ بالمسير نحو الله باشتياق؛ والدرجة الثالثة ، بالوجود في أحضان الله بالحب.

هي ويمكن أن نتباسط أيضاً فنميز هذه الأنواع الثلاثة من كلام الرب يسوع: «اسألوا تعطوا» وهذه الصلاة الصوتية ؛ « أُطلبوا تجدوا» وهذه هي الهذيذ ؛ « اقرعوا يُفتح لكم» وهذه هي التأمل أو درجة الوصول .

وقد اصطلح الآباء في كتاباتهم على تسمية درجات الصلاة بثلاثة أنواع من التاوريا. ( والتاوريا كلمة يونانية الأصل وترجمتها الحرفية : النظرة الروحية، وهي ما يقابل اصطلاح التأمل الروحي من حيث المعنى):

التاوريا الأولى : وهي تاورية الطبائع المادية المخلوقة، ويطلقون عليها أيضاً الهذيذ بالمخلوقات.

التاوريا الثانية : وهي تاورية الطبائع المعقولة أي الأرواح والملائكة والله فوق الكل. وهو ما يقابل التأمل بالروح بدرجتيه المكتسبة والموهوبة.

التاوريا الثالثة : وهي درجة الدهش المطلق في الثالوث الأقدس لا من حيث التأمل والفحص في طبيعته بل الإتحاد بنوره والذهول في عظمته وجلاله. وسوف نبدأ مباشرة في هذا الفصل وما يليه بالصلاة العقلية ودرجاتها وتداريبها، مرجئين الحديث عن الصلاة الصوتية ومتعلقاتها إلى الباب الأخير من هذا الكتاب في موضوع نواحي النشاط الخارجي للصلاة»، إذ أن الصلاة الصوتية هي في مجموعها نشاط خارجي.

أولاً : الهذيذ .

ثانياً : التأمل .

زر الذهاب إلى الأعلى