تفسير سفر يهوديت 15 للأنبا مكاريوس اسقف المنيا

هروب الآشوريين ومطاردة بنى إسرائيل لهم ورئيس الكهنة يبارك يهوديت

ولَمَّا سَمِعَ الَّذينَ كانوا في الخِيَم، دَهِشوا مِمَّا جَرىِ2 ووَقَعَت علَيهِمِ الرِّعدَةُ والخَوف، ولم يَبقَ رَجُلٌ أَمامَ قَريبِه، بل تَفَرَّقوا بِأَجمَعِهم وهَرَبوا في جَميعِ طُرُقِ السَّهلِ والنَّاحِيةِ الجَبَلِيَّة.3 والمُعَسكِرونَ في النَّاحِيةِ الجَبَليَّةِ حَولَ بَيتَ فَلْوى ولَّوا هارِبينَ هم أيضًا. حينئذٍ تَفرَّقَ علَيهم جَميعُ المُحارِبينَ مِن بني إِسْرائيل. 

الخبر المروع لمقتل أليفانا جعل الأشوريين تأخذهم الرعدة والمخاض، فقد هلك قائدهم فجأة وبكيفية نادرة، فهرب الجنود بطريقة غير منظمة، وفي المثل هذه الحالات في الحروب يتعرض الجنود لما يسمى اصطلاحًا ب (نيران صديقة) إذ تتضارب الأوامر وتحدث البلبلة ويقتل الجندي صاحبه، ويقع كثير من الضباط قتلى من قبل الجنود بدوافع شحصية، وقد حدثت مثل تلك البلبلة والفوضى بين جيش فلسطينيين عقب مقتل جليات الجبار وفخرهم بيد الفتى داود، إذ هربوا مشتتين أمام اليهود (1 صم 17: 50 – 52). كما أن الله أنزل الرعب بقلوب الأشوريين الذين كان من الممكن جمع صفوفهم سريعًا والبدء في الانتقام من اليهود وقد حدث مثل هذا كثيرًا في العهد القديم.

و قد استغل اليهود رعب الأشوريين، فأحدثوا جلبة شديدة وهم يطاردونهم، ذلك عن طريق الأبواق والهتاف (الترجمة اللاتينية) وهتاف النصرة الذي شق عنان السماء، وقد أسهم ذلك بطبيعة الحال في زيادة الرعب بين صفوف الأعداء، وأتاح الفرصة لليهود بأن يقتلوا من تخلف من جنود الأعداء (تقع عليهم الهيبة والرعب. بعظمة ذراعك يصمتون خر 15: 16) ولا عجب في ذلك فقد وعد الله بني إسرائيل – ووعده صادق – بفم يشوع النبي (قد طرد الرب من امامكم شعوبا عظيمة وقوية. واما انتم فلم يقف أحد قدامكم إلى هذا اليوم. رجل واحد منكم يطرد الفا لأن الرب الهكم هو المحارب عنكم كما كلمكم يش 23: 9، 10) راجع أيضًا (تث 32: 30).

4 وأَرسَلَ عُزَيَّا إِلي بَيتَ مُستَئيم وبيباي وخويا وكولا وإِلي بِلادِ إِسْرائيلَ كُلِّها رُسُلًا يُخبِرونَ بِما جَرى ويَسأَلونَهم أَن يَتَفرَّقوا على الأَعداءِ ويُبيدوهم.5 ولَمَّا سَمِعَ بَنو إِسْرائيل، اِنقَضُّوا جَميعًا علَيهِمِ انقِضاض رَجُل واحِدٍ وكسَروهم إِلي خويا. وقَدِمَ كذلِك الَّذينَ مِن أُورَشَليمَ ومِنَ النَّاحِيةِ الجَبَلِيَّةِ كُلِّها. فقد أُخبِروا بِما حَدَثَ في مُعَسكَرِ أَعْدائِهم. والَّذينَ في جِلْعادَ والَّذينَ في الجَليلِ هَجَموا على جَناحِهم بِضَرَباتٍ شَديدة، إِلي أَنِ آقتَرَبوا مِن دِمَشقَ وأَرضِها.6 وأَمَّا سائرُ سُكَّانِ بَيتَ فَلْوى فآنقَضُّوا على مُعَسكَرِ أَشُّور ونَهَبوه فآغتَنَوا كَثيرًا.7 وبَنو إِسْرائيلَ الَّذينَ عادوا مِنَ المَجزَرةِ آستَولَوا على الغَنائِم الباقِية، والقُرى والكُفورُ في النَّاحِيةِ الجَبَلِيَّةِ والسَّهْلِ أَخَذَت غَنائمَ وافِرة، فقَد كانَ مِنها شَيءٌ: كثيرٌ جِدًّا.

بَيتَ مُستَئيم: راجع (4: 6).

بيباي: BEBAI ويرى بعض العلماء أنهم بلمائين 1

خويا: CHOBAI كوبا، راجع (يهو 4: 4).

كولا: CHOLA ووردت أيضًا في صيغة KOLA في (يش 15: 51) وهي حولون (اسم عبري معناه رملى) وسميت أيضًا في (1 أخ 6: 58) حيلين، وتقع في شمال غرب حبرون وتسمى حاليًا (حلين) 2.

طلب عزيا من قواد المدن والقرى الشمالية الغربية، التضييق على الأعداء الهاربين خشية أن يستتروا في الشعاب الجبلية حتى تنتهي ثورة اليهود ومن ثم يعيدون تنظيم صفوفهم للقيام بهجمة مضادة على اليهودية، وبذلك ينتهز اليهود فرصة هلع الأشوريين في إقصائهم عن اليهودية بعد الانتقام منهم، وهو ما حدث قديمًا عندما أرسل جدعون رسلًا إلى مدن جبل أفرايم للانتقام من المديانيين (قض 7: 24)

و على الرغم من قلة عدد اليهود بالنسبة للعدد الهائل لجنود الأشوريين، إلا أنه قد تم وعد الله لهم، بأن واحدًا منهم يطرد ألفًا، وبأن الأعداء يخرجون عليهم من طريق واحد وفي سبع طرق يهربون قدامهم راجع        (تث 28: 7، 25) فالحرب للرب ومسيحه، وعندما يشتد بك الضيق وترى أن الخطر يحيق بك من كل جهة، إلجأ إلى الله فيضيف إمكانياته إلى إمكانياتك فتصبح بلا حدود، ويزعج الله أعداءك ويعتبر الحرب موجهة ضده هو (لأن هيجانك عليَّ وعجرفتك قد صعدا إلى أذنى. أضع خزامتي في انفك وشكيمتي في شفتيك واردك في الطريق الذي جئت منه أش 37: 29).

و قد طارد اليهود فلول الأشوريين إلى مسافة بعيدة حتى مشارف سوريا حيث إغتنموا غنيمة كبيرة وإستولوا على الأسلحة والأمتعة التي لهم، ومن الجائز أنهم استخدموا مركباتهم وأسلحتهم في المطاردة.. حتى لقد صار الأعداء أنفسهم غنيمة، ولا شك أيضًا في أن كثرة الأعداء كانت سببًا فعالًا في هزيمتهم حيث تزاحموا في الهروب وكثر اللغط بسبب ذلك، فلم يكن الهجوم على بيت فلوى يحتاج إلى كل تلك الآلاف من الجنود والأسلحة (و الذين بقوا تشتتوا حتى لم يبق منهم اثنان معا 1 صم 11: 11).

 8 وقَدِمَ عَظِيمُ الكَهَنَةِ يُواكيم وشُيوخُ بَني إِسْرائيلَ السَّاكِنينَ في أُورَشَليم لِيُشاهِدوا ما صَنَعَ الرَّبُّ إِلي إِسْرائيلَ مِن الخَيرات وليرَوا يَهوديت وُيسَلِّموا علَيها.9 ولَمَّا دَخَلوا إِليها، بارَكوها جَميعُهم بِصَوتٍ واحدٍ وقالوا لَها: ((أَنتِ مَجدُ أَورَشَليم! أَنتِ آعتِزازُ إِسْرائيلَ العَظيم! أَنتِ فَخْرُ نَسلِنا العَظيم! 10 صَنَعتِ كُلَّ ذلك بِيَدِكِ أَحسَنتِ إِلي إِسْرائيلِ فرَضِيَ اللهُ عَمَّا صَنعتِ. بارَكَكِ الرَّبُّ القَديرُ أَبَدَ الدُّهور!)) وقالَ الشَّعبُ كُلُّه: ((آمين))

لاشك في أن رئيس الكهنة يواقيم، منذ أن أرسل إلى سكان بيت فلوى، ينبههم إلى الخطر المحدق باليهودية، ويطلب إليهم تأمين مداخل اليهودية، فقد كان يتابع بقلق بالع، الحصار الذي ضربه الأشوريون حول بيت فلوى ومستئيم باعتبارها مدخل أورشليم، لذلك فما أن علم بهزيمة الأعداء وتشتتهم وهروبهم وأن ذلك كان بفضل امرأة أرملة، ولعل تساءل من تلك الفتاة الشجاعة الجسورة التي قلبت الموازين، ودفعت الثقل الرهيب عن صدور اليهود وحققت لهم هذا النصر الساحق.

و ما أروع كلمات البركة والمديح التي فاه بها مع شيوخ أورشليم، وهو بذلك يؤمن على البركة التي نطق بها عزيا وشعب بيت فلوى ليهوديت (راجع 10: 8)

أَنتِ مَجدُ أَورَشَليم

أَنتِ آعتِزازُ إِسْرائيلَ العَظيم!: يهوديت هنا بطلة قومية، وسيعيد مدحها أفواه الجميع باعتزاز

أَنتِ فَخْرُ نَسلِنا العَظيم: ولسوف يفتخر بها أحفادهم على مر التاريخ

صَنَعتِ كُلَّ ذلك بِيَدِكِ: عظم الرب الصنيع معها وأيدت ذراع الله يمينها

أَحسَنتِ إِلي إِسْرائيلِ: غامرت يهوديت بحياتها في سبيل شعبها وها هي تلحق الشرف والفخر إلى إسرائيل.

رضى الله عما صنعت: لاشك أن الله قد قبل تضحية يهوديت ورضى عنه فصنع بها النصر وحفظ حياتها سالمة.

11 ونَهَبَ الشَّعبُ كلُه المُعَسكَرَ مُدَّةَ ثَلاثينَ يَومًا. وأَعطَوا يَهوديتَ خَيمةَ أَليفانا وجَميعَ ما كانَ لَه مِن أَواني فِضَّةٍ وأَمتِعَةِ مَنَامَة وآنِيَةٍ وأَثاث. فأَخَذَته وحَمَّلَته على بَغلَتِها وقَطَرَت عَرَباتِها وكَدَّسَته علَيها. 12 وبادَرَت جَميعُ نِساءِ إِسْرائيلَ لِيَرَوها وبارَكْنَها، وأَقامَ بَعضُهُنَّ جَوقةً لَها. فأَخَذَت يَهوديتُ مَزاريقَ بيَدِها ودَفَعَتها إِلي النِّساءِ اللَّواتي كُنَّ معَها، 13 وكَلَّلت نَفسَها بِالزَّيتون، هي واللَّواتي معَها، وتقَدَّمتِ الشَّعبَ كُلَّه تُديرُ جَوقةَ النِّساءِ جَميعًا. وكانَ جَميعُ رِجالِ إِسْرائيل يَتبَعونَ مُسَلَّحينَ ومُكَلَّلين والأَناشيدُ على شِفاهِهم. 14 وأَنشَدَت يَهوديتُ نَشيدَ الشُّكرِ هذا في كُلِّ إِسْرائيل، وجَهَرَ الشَّعبُ كُلُّه بِهذا النِّشيد. فقالَت يَهوديت:

يبدو أن الغنيمة كانت من السعة والكثرة بحيث لم يستطيع اليهود أن يأتوا عليها في أيام، فكانوا يخرجون كل صباح على ما يبدو لتفقد خيام الأشوريين واختيار ما يحلو لهم مما تبقى فيها، هكذا صارت مساكن الذين ضايقوهم، نهبًا وخرابًا وصارت للدهش والصفير.

و للذكرى الطيبة وعلى سبيل المكافأة المعنوية والرمزية، فقد وهبوا يهوديت كل ما كان يخص أليفانا، فهوذا جواهره وأدواته الشخصية وفراشه، قد أعطيت لها، مثلما فعل داود بعد قتله لجليات، فقد احتفظ بسيفه وأدواته في خيمته (1 صم 17: 24) ولكن وكما سنرى في الإصحاح القادم، فإن يهوديت قد سلمت تلك الغنيمة كتقدمة للهيكل، إذ أن الله هو الذي حارب وهو الذي انتصر لهم، ففضل القوة له، لا منهم،

وأَمتِعَةِ مَنَامَهومعناها أمتعة النوم، أي سريره ومحتوياته، وما يشبه حجرة النوم فلم تكن الخيمة – كتلك التي ينزل بها قائد كبير مثل أليفانا – مجرد خيمة وإنما مسكنًا كبيرًا مقسم إلى عدة أجنحة.

و قد أقام اليهود احتفالات صاخبة بهذه المناسبة، وهي التي أطلق عليها فيما بعد اصطلاح (TRIUMPH) حيث يحملون المصابيح والسعف وهم يغنون بالآلات الموسيقية وهي التي سميت هنا: جوقة، وأما المزاريق فهي عبارة عن أغصان وعصى طويلة مزينة بالأوراق، وقد وردت في احتفالات المكابيين بنصرهم (راجع 2 مكا 10: 7) وأما التكليل بالزيتون هنا، فهو إحاطة الأعناق بأوراق الزيتون والورود، وكل ذلك مظهر من مظاهر الفرح والابتهاج، وقد تقدمت يهوديت موكب النصر.  يتبعها النسوة، مثلما حدث بعد عبور الشعب البحر الأحمر وهلاك المصريين (خر 15: 20) واحتفالات عيد الأسابيع (لا 23: 40) وكذلك بعد هزيمة الفلسطينيين (1 صم 18: 16) راجع أيضًا مز 118: 27، 1 مكا 13: 51، يو 12: 13). وأما حمل الرجال للأسلحة فهو مظهر من مظاهر الاحتفالات.

حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبان والشيوخ معا واحول نوحهم إلى طرب واعزيهم وافرحهم من حزنهم. (أر 31: 14).

زر الذهاب إلى الأعلى