تفسير المزمور 119 للقمص أنطونيوس فكري

قطعة (أ) الطوباوية في حفظ الوصية

آية (1): “طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقًا، السَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ الرَّبِّ.”

طوبى= كما بدأ الرب يسوع موعظته المشهورة على الجبل بالتطويبات بدأ المرتل مزموره هذا بالتطويبات أيضًا. والتطويب هنا للكاملين= الذين بلا عيب (سبعينية) ومن هم الذين بلا عيب = السالكين في شريعة الرب = فالطوبى أي البركة والسعادة في الأرض والحياة الأبدية لمن يجاهد أن يسلك بحسب شريعة الرب. ولأنه الرب فهو له الحق أن يعاقب أيضًا من لا يسلك في شريعته. وهذه البداية نجدها أيضًا في المزمور الأول.

 

آية (2): “طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ. مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ.”

من كل قلوبهم= أي يحفظ الوصية لا بالقول فقط بل بتنفيذها. (يو17:13). وهنا يطلب المرنم القلب الذي يطلب الله تمامًا، القلب غير المنقسم بين محبة الله ومحبة العالم (مت37:22).

 

آية (3): “أَيْضًا لاَ يَرْتَكِبُونَ إِثْمًا. فِي طُرُقِهِ يَسْلُكُونَ.”

السبعينية تترجم الآية “لأن صانعي الإثم لم يهووا أن يسلكوا في سبله”. والمعنى واحد فطرق الرب كلها نور. والشرير لا يهوي أن يسلك فيها فنور الطريق يبكت طرقه الشريرة. وهنا يقول طرق بينما في (آية1) نسمع عن طريق واحد. فالطريق الواحد هو المسيح “أنا هو الطريق”. والطرق أي أعمال الإنسان وإيمانه، محبته وإلتزامه بالأسرار….

 

آية (4): “أَنْتَ أَوْصَيْتَ بِوَصَايَاكَ أَنْ تُحْفَظَ تَمَامًا.”

تُحْفَظَ تَمَامًا = طلب الله أن نحفظ الوصايا تمامًا، وأي إهمال لوصية مهما كانت صغيرة يسبب للإنسان ألم، وفقدان السلام. (تث6:6-9). والإنسان إما يستجيب لوصايا الله أو لصوت قلبه. “والقلب أخدع من كل شيء وهو نجيس” (إر9:17). والوصية تحمينا من أنفسنا.

 

آية (5): “لَيْتَ طُرُقِي تُثَبَّتُ فِي حِفْظِ فَرَائِضِكَ.”

 ليتك تعينني يا رب حتى أحقق هذا، وأحفظ وصاياك جدًا.

 

آية (6): “حِينَئِذٍ لاَ أَخْزَى إِذَا نَظَرْتُ إِلَى كُلِّ وَصَايَاكَ.”

كان الله يعد من يحفظ الوصية ببركات كثيرة (تث1:28-14). والمرنم هنا يتأمل فيما يعطيه الله من بركات. فيصرخ ليعينه الله على حفظ الوصايا فلا يحرم من البركات ولاحظ قوله كُلِّ وَصَايَاكَ = هذه مثل تحفظ تمامًا (آية4). (مت20:28). ونلاحظ أن الخزي (أَخْزَى) مصاحب للخطية (كما حدث مع آدم وحواء) (دا8:9). ومن يتوب إذا خجل فهذا يفرح به الله، أما من يتمادَى يتقسَّى قلبه لدرجة أن يخطئ ولا يخجل = “فيشرب الإثم كالماء” (أى15: 16).

 

آية (7): “أَحْمَدُكَ بِاسْتِقَامَةِ قَلْبٍ عِنْدَ تَعَلُّمِي أَحْكَامَ عَدْلِكَ.”

إذ عرف المرنم قيمة الوصية وبركات من يطيعها يشكر الله الذي أعطانا شريعته وكتابه.

 

آية (8): “وَصَايَاكَ أَحْفَظُ. لاَ تَتْرُكْنِي إِلَى الْغَايَةِ.”

أكثر ما يخافه المؤمن تخلي الله عنه، حينئذ تهزمه الشياطين ويقوى عليه أضعف إنسان والله يتخلى عنا إذا تقست قلوبنا ولم نحفظ الوصايا. والمرتل هنا يقول أنا أحفظ حقوقك ولأنه لا يوجد إنسان كامل يا رب، فارحمني إن أخطأت، وحتى لو وجدتني أستحق العقاب وتخليت عني فلا تتركني إلى الغاية= UTTERLY “تمامًا، بكل ما في الكلمة من معنى” والله إذا تخلى عن أبنائه ليؤدبهم، يكون كالأم التي تعلم أولادها الصغار أن يمشوا، فهي تتركهم وقد يسقطون ولكن عينها عليهم.

 

قطعة (ب) نصيحة للشباب

في القطعة الأولى وضع المرنم القاعدة وهي الطوبى لمن يحفظ الوصية. وهنا كمجرب يعطي المرنم نصيحة للشباب أن يحفظوا الوصية فتكون لهم بركة في حياتهم.

آية (9): “بِمَ يُزَكِّي الشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ.”

بِمَ يُزَكِّي الشَّابُّ طَرِيقَهُ = “بم يُقَوِّم الشاب طريقه” (سبعينية). أي كيف يسيرون في طريق مضمون يؤدي للحياة الأبدية، بالإضافة للبركات التي يحصل عليها هنا على الأرض. ما الذي يزكيه ليحصل على هذا، هو أمامه طرق كثيرة، فالعالم يجذبه بمغرياته، والمرنم يشفق على الشاب فيعطيه نصيحة ثمينة. بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ = أي يصحح طريقه ليكون مطابقا للوصية = حَسَبَ كَلاَمِكَ = أي يحفظ الشاب طريقه ليكون مطابقا لكلام الله وإن إنحرف عن الطريق فعليه أن يعود للطريق الصحيح الذي هو بحسب الوصية كلام الله وهذا معنى قول المرنم “سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي” (مز119: 105)، فإذا حفظ الوصية يحفظ نفسه. والمرنم يوجه النصيحة للشباب، فالشاب بطبيعته مندفع. أما الشيخ فهو إما نضج أو ضعف. ولذلك فالجامعة يقول نفس النصيحة “أذكر خالقك أيام شبابك” (جا1:12).

 

آية (10): “بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ.”

من كُلِّ قَلْبِي = حينما أدرك أنه في حفظ الوصية بركات عظيمة فهنا نجده يطلب الله من كل قلبه حتى لا يضل مرة أخرى عن الطريق . والله يعلن ذاته لمن يطلبه بكل صدق، ولا يطلب سواه. وهنا المرنم يطلب من الله أن يعينه أن يستمر طوال حياته يدرس كلمة الله ويحاول أن ينفذها ولا يضل عن هذا. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ = الله لا يضل أحد والمعنى إن أنا ضللت أعدني للطريق. وفي الإنجليزية “لا تدعني أحيد عن وصاياك “.

oh, let me not wander from your commandments.

وفي السبعينية “فلا تبعدني عن وصاياك”.

آية (11): “خَبَأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ.”

نجد المرنم هنا قد حفظ كلام الله ووصاياه، فيستطيع أن يرددها في كل مكان وزمان ويستطيع أن يقارن كل تصرف له على ما يحفظه من كلام الله. والإنسان لا يخبئ إلا كل ما هو ثمين، فهو قد اكتشف أن كلمة الله كنز، وسلاح خطير ضد حروب إبليس (هكذا فعل المسيح) ولذلك قيل “من يحفظ المزامير تحفظه المزامير” فهو يرددها وسط أعماله أو سيره فلا تهاجمه الأفكار الخاطئة.

 

آية (12): “مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ.”

إذ تأمل المرنم في كيف تحفظ الوصية قلبه، طلب من الله أن يعلمه هذه الوصايا، ويدربه كيف يسلك فيها. ولاحظ الأسلوب الرائع فهو قبل أن يطلب يعطي المجد لله الذي يعطيه كل بركة وقد أعطاه الكثير فعلا. مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ = أي تستحق كل تسبيح وحمد.

 

آية (13): “بِشَفَتَيَّ حَسَبْتُ كُلَّ أَحْكَامِ فَمِكَ.”

من اختبر عمل الله لا يطيق السكوت، بل يشهد لله على عطاياه وأعماله العجيبة.وهكذا فعلت السامرية “هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت” (يو29:4). حَسَبْتُ = أظهرت (سبعينية) وفي (الإنجليزية) =أوضحت.

 

آية (14): “بِطَرِيقِ شَهَادَاتِكَ فَرِحْتُ كَمَا عَلَى كُلِّ الْغِنَى.”

هذه قامة روحية عالية أن يفرح الإنسان بكلام الله أكثر من كل غني. هنا أصبحت الوصية ليست ثقلًا بل مصدر فرح. من قال هذا قال “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (في7:3، 8 + مت44:13-47). الغنى قد يأتي ومعه آلام وكآبة، أما طريق الله فكله تعزيات وفرح يتغلب على آلام الطريق، فهو فرح يعطيه الرب “ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو16: 22).

 

الآيات (15، 16): “بِوَصَايَاكَ أَلْهَجُ، وَأُلاَحِظُ سُبُلَكَ. بِفَرَائِضِكَ أَتَلَذَّذُ. لاَ أَنْسَى كَلاَمَكَ.”

المرنم الذي اكتشف الفرح في كلام الله، نجده هنا دائم التأمل فيه وفي طرقه. والتأمل وترديد كلام الله باستمرار ينقي ويطهر [راجع (لا 11) فالحيوانات الطاهرة هي التي تجتر] ويقول الرب ” وأنتم الآن أنقياء لسبب الكلام إلى كلمتكم به” (يو15: 3). وَمَنْ يَتَطَهَّر وَيَتَنَقَّى تنفتح عيناه فيعاين الرب فيفرح.

قطعة (ج) الاشتياق لكلمة الله في غربتنا

 

الآيات (17، 18): “أَحْسِنْ إِلَى عَبْدِكَ، فَأَحْيَا وَأَحْفَظَ أَمْرَكَ. اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ.”

أَحْسِنْ إِلَى عَبْدِكَ = طالما أحسن الله إلى داود وأنقذه من أعدائه، بل أعطاه أن يملك. ولكنه يطلب هنا أن يعطيه الله مكافأة هي أن يحفظ وصايا الله. وأن يكشف عن عينيه فيبصر عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ. والكاهن القبطي في أثناء قراءة البولس والإبركسيس والكاثوليكون يصلي صلوات سرية في الهيكل ليفتح الله أذهان الشعب ويفهموا الكنوز المختبأة في أقوال الله. وعلينا قبل أن نقرأ في الكتاب المقدس أن نصلي حتى يعطينا الله فهمًا. ولذلك تصلي الكنيسة أيضًا أوشية الإنجيل قبل قراءة الإنجيل. المرنم هنا يطلب حياة تقضيها في السهر لدراسة الكتاب وفهمه وتنفيذ ما فيه والفرح بوصاياه. ومن اكتشف لذة الكتاب المقدس يعرف أنه في دراسته للكتاب المقدس يتقابل مع الله وجهًا لوجه، ويسمع صوته، وهكذا نقضي أيام غربتنا في هذه الحياة إلى أن نلتقي يومًا بالله ونراه بعيوننا وإلى الأبد. وحينما نقرأ الكتاب بروح الصلاة يزيل الله الغشاوة التي على عيوننا فنرى ونشبع ونتقوى، كما زالت الغشاوة من على عيني شاول الطرسوسي. فشاول كان دارسا للكتاب لكن دون فهم صحيح فلم يعرف المسيح.

 

آية (19): “غَرِيبٌ أَنَا فِي الأَرْضِ. لاَ تُخْفِ عَنِّي وَصَايَاكَ.”

نحن غرباء هنا، وطننا في السماء، ومهمتنا أن نعبر أرض غربتنا بأسرع ما يمكن، ونحرص أن لا نضل الطريق إلى وطننا. وما يسندنا في رحلة غربتنا كلمة الله، ووصيته تكشف لنا أسرار وطننا الذي نحن متغربين عنه ونشتهيه ولا نراه. بل وصايا الله هي التي تضمن لنا أنه حين تنقضي أيام غربتنا، نصل للسماء وطننا.

 

آية (20): “انْسَحَقَتْ نَفْسِي شَوْقًا إِلَى أَحْكَامِكَ فِي كُلِّ حِينٍ.”

هنا نرى الاشتياق الملتهب للتعرف أكثر فأكثر على الوصية وعلى فكر الله من خلال كلمته. هو اشتياق لمعرفة المسيح الذي نراه في مطالعتنا للكتاب المقدس. الإنسان جسد وروح. والجسد يتغذى بالطعام، أما الروح فتتغذى بمعرفة الله، ومعرفة الله تعطينا حياة “هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو3:17). ودراسة كلمة الله هنا تعطينا هذه المعرفة. لذلك قال الكتاب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت4:4). والاشتياق لكلمة الله هو علامة حياة. المبتدئ في الحياة الروحية ينفر من كلمة الله لأنها تكشف خبايا قلبه، وكلما نما الإنسان في معرفة الله ومحبته يزول هذا النفور بل يفرح بها. وهنا نرى المرنم ينسحق شوقًا= أي يطلب هذا بتذلل. داود قال قبلا في آية (16) أنه يتلذذ بالوصية، لذلك هو يبحث عنها باشتياق.

 

آية (21): “انْتَهَرْتَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمَلاَعِينَ الضَّالِّينَ عَنْ وَصَايَاكَ.”

اللعنة هي نصيب من يترك وصايا الله ويتبع وصايا الناس أو فلسفاتهم، فهناك من في كبرياء ينكر وجود الله (الوجودية وغيرها) وهناك من في كبرياءه يرفض بعناد أن يسلك بحسب وصايا الله وهؤلاء لن يروا بركة في حياتهم، وراجع (تث15:28- 68). وهؤلاء الْمُتَكَبِّرِونَ هم تلاميذ إبليس المتكبر (إش13:14، 14). انْتَهَرْتَ الْمُتَكَبِّرِينَ = أي الله انتهرهم، وداود كملك له أن ينتهر الأشرار.

 

آية (22): “دَحْرِجْ عَنِّي الْعَارَ وَالإِهَانَةَ، لأَنِّي حَفِظْتُ شَهَادَاتِكَ.”

هنا نرى كيف ينظر العالم لأولاد الله. فالعالم يكرههم ويضطهدهم ويثير الحروب ضدهم بل والشائعات المغرضة التي تسبب لهم العار. والمرتل يصرخ هنا لله حتى يزيح عنه هذا العار ويظهر الحق، وإن لم يكن هنا على الأرض فليكن في السماء. وهناك نظرة أخرى لهذه الآية، أنه بالخطية صرنا في عار وشمتت فينا الشياطين. والآن يا رب لقد حفظت وصاياك فابعد عني هذا العار. وهذا هو ما عمله المسيح بصليبه.

 

الآيات (23، 24): “جَلَسَ أَيْضًا رُؤَسَاءُ، تَقَاوَلُوا عَلَيَّ. أَمَّا عَبْدُكَ فَيُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ. أَيْضًا شَهَادَاتُكَ هِيَ لَذَّتِي، أَهْلُ مَشُورَتِي.”

أقوياء الأرض والرؤساء إضطهدوا المرتل وتقاولوا عليه وكان هذا سبب ألم له. فكيف يتعزى؟ هو يلجأ لكلمة الله يلهج فيها ويتلذذ بها. وقد يعني بالرؤساء الشياطين الشامتين فيه إذ أخطأ. لذلك يعود ويلهج بفرائض اللهأهل مشورتي = المرنم لا يلجأ لإنسان ليستشيره حينما يقع في ضيقة بل يلجأ لكتاب الله وشرائعه وكلامه ليستشير الله.

قطعة (د) الوصية حياة للنفس المتضعة

 

آية (25): “لَصِقَتْ بِالتُّرَابِ نَفْسِي، فَأَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ.”

هو سابقًا تكلم عن العار الذي يلحق بالخاطئ. وهنا رأى ماذا كانت نتيجة الخطية النهائية ووجد أنها الموت ووجد أن في تنفيذ الوصية حياة (تث46:32، 47 + تث12:10-20 + يو25:11). فمن يلتصق بالرب يحيا. ومن يخالف الوصية ينفصل عن الله فيموت “لك اسم أنك حي وأنت ميت” (رؤ1:3). ومن يقدم توبة يقال عنه “إبني هذا كان ميتًا فعاش”. ومن أحب الخطية تلتصق نفسه بتراب هذا العالم وشهواته الشريرة، وحتى يقترب من الله ثانية عليه أن ينسحق ويتواضع وتلتصق نفسه بالتراب كما فعل أهل نينوى فيقبله الله ويعود للحياة ثانية. (يساعد على هذا المطانيات metanoia في خشوع). وكل من يشعر بالخطية في داخله، يشعر أنها تقوده للموت فيصرخ إلى اللهأَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ” (رو24:7). وإذ يرى الرب إنسحاق هذا الإنسان يرفعه من المزبلة ويأخذ الرب هذا التراب وينفخ فيه نسمة حياة وتكون له هذه الحياة قيامة أولى. وكلام الله حي ويحيي النفس (عب12:4). ووعوده محيية لمن يستجيب لعمل الكلمة فيه فتكون له أيضًا قيامة ثانية (رؤ6:20). ولذلك نصلي هذه الآية في تجنيز الموتى، فالميت سيوضع في القبر ويلتصق بالتراب بل ويصير ترابًا فينطبق عليه “لَصِقَتْ بِالتُّرَابِ نَفْسِي “. والكنيسة تصلي برجاء أن يعطيه الله حياة. والمسيح أعطانا جسده لتكون لنا حياة. فلنتب وننسحق ونتناول فيكون لنا حياة.

أَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ = ارجع لي الحياة حسب ارادتك، ونجد إشتياق بروح النبوة لفداء المسيح كلمة الله الذي أعاد لنا الحياة.

 

آية (26): “قَدْ صَرَّحْتُ بِطُرُقِي فَاسْتَجَبْتَ لِي. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ.”

قَدْ صَرَّحْتُ بِطُرُقِي فَاسْتَجَبْتَ لِي = قد أخبرتك بطرقي (في ترجمات أخرى). هنا المرتل يعترف أمام الله بطرقه غير المستقيمة ويطلب الغفران. ويطلب أن الله يعرفه وصاياه فيسلك فيها. وهكذا كان داود دائما إذا أخطأ يعترف فورا ويقدم توبة ومن يفعل يقبل الله توبته.

 

آية (27): “طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي، فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ.”

طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي = الوصايا موجودة ولكنه يطلب من الله أن يفهمه كيفية تنفيذها.

فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ = من المهم جدًا بل وحيوي أن نردد كلام الله المقدس كل اليوم فيولد فينا حرارة روحية وكلمة الله تنقي.

 

آية (28): “قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ الْحُزْنِ. أَقِمْنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ.”

أحزان المرنم ناتجة عن تقصيره في تنفيذ الوصية. قطرت نفسي من الحزن= صار مثل شمعة مشتعلة تقطر قطرة تلو قطرة إلى أن تذوب. وهذه حقيقة فنحن في خلال فترة حياتنا على الأرض نذوب يومًا وراء يوم إلى أن نموت وهناك فرق كبير بين الحزن اليائس والحزن المملوء رجاءً. فالحزن اليائس هو عمل شيطاني، أما الحزن الذي يصاحبه رجاء في قبول الله للتائب يدفع النفس أن تبتهج بقبول الله لها كنفس تائبة فتسبح الله لذلك نجد المرنم يضيف أقمني حسب كلامك = أعطني قيامة من موت الخطية، فأسلك في كلامك ووصاياك. هنا المرنم يشعر أن الله لن يقبله فقط كتائب بل سيعينه في طريقه. وأيضًا بروح النبوة نجد في هذه الآية اشتياق لقيامته التي ستكون في المسيح. وهذا الحزن المصحوب بالرجاء يحوله المسيح إلى فرح (يو16: 22).

 

آية (29): “طَرِيقَ الْكَذِبِ أَبْعِدْ عَنِّي، وَبِشَرِيعَتِكَ ارْحَمْنِي.”

المرنم يشعر بأن الخطية ساكنة فيه، وأنه غير قادر أن يسلك في طريق وصايا الله من نفسه، وأنه يحتاج لمعونة إلهية. طَرِيقَ الْكَذِبِ = عادة الكذب هي عادة رديئة، هي ضد الله، فالله هو حق مطلق ولا يقبل أي كذب أو غش أو إعوجاج. “طريق الظلم” (سبعينية). وربما يكون المقصود بالكذب هو أي خطية، فكل خطية فيها نوع من الكذب وخداع النفس فهي تخدع النفس بأن في الخطية لذة وفرح وتخفى عن الإنسان آلام وذل وحزن ما بعد الخطية. ومن يسلك في هذا الطريق يظلم نفسه . وإن أخطأت يا رب بِشَرِيعَتِكَ ارْحَمْنِي= وإن كانت شريعتك تحكم على الخاطئ بالموت، لكن يا رب إن الأساس في شريعتك هو الرحمة فأنت لا تريد موت الإنسان وهلاكه.

 

آية (30): “اخْتَرْتُ طَرِيقَ الْحَقِّ. جَعَلْتُ أَحْكَامَكَ قُدَّامِي.”

الطريق المضاد لطريق الكذب هو طريق الحق= طريق الله. ولاحظ قوله اخترت، فالله لا يعين إلا من يختار طريقه بإرادته الحرة. هو سبق وطلب الرحمة حتى لا يموت، لكنه يعلم أنه لا رحمة إلا للتائب الذي يختار طريق الحق.

 

آية (31): “لَصِقْتُ بِشَهَادَاتِكَ. يَا رَبُّ، لاَ تُخْزِنِي.”

بدأ المرنم بقوله لصقت بالتراب نفسي. وهنا يقول لصقت بشهاداتك = فهو حينما اتضع وانسحق وعاد لله، عاد الله إليه واختبر لذة العشرة مع الله فاختار طريق الحق ولمس معونة الله وشركته فقرر أن يلتصق بشهاداته فيخلص من حياة الحزن.

 

آية (32): “فِي طَرِيقِ وَصَايَاكَ أَجْرِي، لأَنَّكَ تُرَحِّبُ قَلْبِي.”

من يحفظ الوصية يسكن عنده الله (يو23:14). ومن صار مسكنًا لله يصبح قلبه متسعًا يتحمل أخطاء الناس وضعفاتهم في شفقة ومحبة (2كو11:6-13). والله يعمل فينا بروحه القدوس عندما تنسكب محبة الله في قلوبنا فيصبح قلب الإنسان متسع بالمحبة للجميع. والعكس فمن يسلك في طريق الخطية يتحول قلبه لقلب أناني شهواني منغلق على ذاته، متذمرًا مهمومًا.

ولاحظ التقدم والنمو في طريق علاقته بالوصية طريق الكذب ابعد عني (29)…. اخترت طريق الحق (30)…. لصقت بشهاداتك (31)…. في طريق وصاياك أجري (32) هنا اندفع في طريق السماء.

قطعة (ه) ترتيب الحياة طبقًا للوصية

 

آية (33): “عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَ فَرَائِضِكَ، فَأَحْفَظَهَا إِلَى النِّهَايَةِ.”

حينما سار وجري في الطريق، خاف أن يرتد لضعفه وهنا يطلب من الله أن يثبته في الطريق للنهاية. والطريق الروحي يحتاج أن نتعلم فيه من الله، ونكون كتلاميذ أمام معلمهم حتى لا يحدث انحراف. “ولكن من المهم أيضًا أن يكون لنا مرشد وأب اعتراف”.

 

آية (34): “فَهِّمْنِي فَأُلاَحِظَ شَرِيعَتَكَ، وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي.”

المرنم يحب أن يفهم الناموس، ويصلي ليعطيه الله فهمًا. وحينما نفهم فائدة الوصية وأنها أعطيت ليكون في تنفيذها حياة. نحفظها من كل القلب، أي برغبة وحب وإصرار.

 

آية (35): “دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ، لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ.”

دربني= “أهدني” في السبعينية. فالإنسان متمرد بطبيعته ويحتاج إلى ترويض وهذا يعمله الله مع كل نفس تريده. وهذا الترويض قد يشمل بعض التجارب والآلام. لأني به سررت= هنا نرى الاختيار بحرية لطريق الله ونرى أنه غير قادر وحده أن يسلك فيه ويحتاج لتدريب وفهم من الله حتى لا ينحرف.

 

آية (36): “أَمِلْ قَلْبِي إِلَى شَهَادَاتِكَ، لاَ إِلَى الْمَكْسَبِ.”

نرى هنا طريق الانحراف الذي يغوى كل نفس تسير في طريق الله وهو أنها تميل إلى المكسب= “الظلم” (سبعينية) أي يظلم المساكين أو يغش ليزداد مكسبه. المكسب في حد ذاته ليس خطية. والخطية هي في ظلم الآخرين أو أن يصير المكسب في حد ذاته هدفًا للنفس وليس وسيلة يعيش بها الإنسان. والإنسان يجب أن يكون له هدف واحد وهنا يطلب المرنم أن يكون هدفه، أن يميل قلبه إلى شهادات الله= أي ينفذها بحب ومن يميل قلبه لشهادات الله يكره الظلم والطمع ومحبة العالم التي هي عداوة لله (يع4:4). والعكس فمن يحب الطمع ويملأ قلبه من الشهوات العالمية يختفي من قلبه محبة الله (مت24:6). داود هنا بعد أن سار في طريق الله يعلم أنه لا بُد من وجود عثرات ويطلب المعونة.

 

آية (37): “حَوِّلْ عَيْنَيَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْبَاطِلِ. فِي طَرِيقِكَ أَحْيِنِي.”

متفقة مع آية (36). فأباطيل العالم كثيرة وقد تغرى الإنسان أن ينساق وراءها تاركًا وصايا الله (غني/ جمال/ قوة/ سلطة/ شهوة/ رئاسة/ صيت/ مديح..) فالسعي وراء هذا هو باطل الأباطيل (جا2:1) والسبب أن كل هذا طريقه إلى زوال. ولذلك علينا أن نركز أنظارنا إلى السماء حيث المسيح جالس ينتظرنا أن نغلب.

 

آية (38): “أَقِمْ لِعَبْدِكَ قَوْلَكَ الَّذِي لِمُتَّقِيكَ.”

أي تمم يا رب وعودك الصادقة معي لأنني اتقيتك. هذه جسارة البنين مع أبيهم السماوي، أن يجعلهم آنية كرامة إذ اختاروه بحريتهم.

 

آية (39): “أَزِلْ عَارِي الَّذِي حَذِرْتُ مِنْهُ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ طَيِّبَةٌ.”

العار الذي نرفضه هو أن نسقط في خطية فيعيرنا إبليس بها ويذلنا بسببها. ومن يريد أن يخلص من عار كهذا فليسلك بوصايا الله فإنها حلوة= أحكامك طيبة= ولا يلحقه عار.

 

آية (40): “هأَنَذَا قَدِ اشْتَهَيْتُ وَصَايَاكَ. بِعَدْلِكَ أَحْيِنِي.”

حينما تذوق المرنم حلاوة الوصية اشتهاها. وعدل الله المحيي ظهر على الصليب.

 

لاحظ التسلسل الرائع فيما يطلبه المرنم:-

علمني:- هذه هي البداية لإنسان كان لا يعرف شيء عن طريق الله (موسى الأسود مثلًا).

فهمني:- هو سمع وصايا والآن يريد أن يفهم ما فائدة هذه الوصايا. (فترة المناقشات والجدال للمبتدئين).

دربني:- هنا بدأ الجسد يتمرد والمرنم يطلب ترويضه. هذه تشبه التداريب العملية بعد المحاضرات النظرية.

أمل قلبي إلى شهاداتك:- هو يمارس وينفذ الوصايا بالتغصب والآن يريد أن تنفتح عينيه ويكتشف لذتها فينفذها بحريته وليس بالتغصب.

حوِّل عيني عن النظر إلى الباطل:- هذه تشبه المثل الذي قاله الرب عمن وجد لؤلؤة كثيرة الثمن فمضى وباع ما عنده من لآلئ ليشتريها. كان العالم بملذاته يجذبه في الماضي والآن صار يجده نفاية.

وهذا التلذذ بالوصية واكتشاف بطلان الملذات العالمية عبَّر عنه المرنم في الآيات 103، 104 من المزمور نفسه.

 

قطعة (و) الشهادة لكلمة الله

الآيات (41، 42): “لِتَأْتِنِي رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ، خَلاَصُكَ حَسَبَ قَوْلِكَ، فَأُجَاوِبَ مُعَيِّرِي كَلِمَةً، لأَنِّي اتَّكَلْتُ عَلَى كَلاَمِكَ.”

هنا المرنم يطلب الرحمة والخلاص الأبدي وهذان كانا بالمسيح. فهو هنا يتمسك بوعود الله بهذا المخلص الذي وعد به الله، وهذا الوعد لا يخلو منه سفر في العهد القديم، ابتداء من (تك15:3 + تث15:18 + تك18:22، 10:49). والمُعَيِّرِين هنا هم من يشككون المرنم في قبول الله له إذا أخطأ وأنه لا فائدة من انتظاره للخلاص ويدفعونه لليأس. وكان هذا صوت إبليس دائمًا ولا يزال. فالمرنم يريد أن يعطيه الله براهين واضحة لخلاصه العجيب ليجيب الذين يعيرونه بأنه هالك ومرفوض. والرب يسوع نفسه لم يسلم من تعييرات الخطاة.

 

الآيات (43، 44): “وَلاَ تَنْزِعْ مِنْ فَمِي كَلاَمَ الْحَقِّ كُلَّ النَّزْعِ، لأَنِّي انْتَظَرْتُ أَحْكَامَكَ. فَأَحْفَظَ شَرِيعَتَكَ دَائِمًا، إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ،”

يطلب المرنم أن لا ينزع الله من فمه كلمة الحق فيشهد لله دائمًا وأمام الجميع. ونطلب أن لا ينزع الله من فمنا قول الإيمان حتى النفس الأخير، نقولها بشجاعة وفي كل حين (الشهداء أمثلة). في الضيق والرحب، في المرض وفي الصحة. في الغنى وفي الرحب وأيضًا في الفقر والعوز. لأَنِّي انْتَظَرْتُ أَحْكَامَكَ = جاءت في السبعينية “لأني توكلت على أحكامك” فداود يتكل على وعود الله الصادقة التي تحمى عبيده. فَأَحْفَظَ شَرِيعَتَكَ دَائِمًا = داود يطلب أن يستمر في شهادته لكلمة الحق للنهاية.

 

آية (45): “وَأَتَمَشَّى فِي رَحْبٍ، لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ.”

وَأَتَمَشَّى فِي رَحْبٍ = أي يشهد لله في حرية وجرأة. ومن يسلك في وصايا الله يخرج من الأنانية والإنغلاقية والخوف إلى الرحب والسعة ومن التعصب إلى سعة القلب، فيحوي الجميع حبًا وبذلًا. بل إذا اضطهد يفرح (أع41:5).

 

آية (46): “وَأَتَكَلَّمُ بِشَهَادَاتِكَ قُدَّامَ مُلُوكٍ وَلاَ أَخْزَى،”

الملك يستطيع وله السلطة أن يقتل، والمرنم بغير خوف يقول “شهدت لك يا رب أمام ملوك وكنت غير مهتم بمن يقتل الجسد وليس له سلطان على الروح” (مت28:10 + أع29:5 + دا 17:3، 18 + أع19:4، 20). لكن هذا يجب أن يسبقه إيمان قوي.

 

آية (47): “وَأَتَلَذَّذُ بِوَصَايَاكَ الَّتِي أَحْبَبْتُ.”

من يحب شيء يلهج فيه دائمًا، لقد صارت الوصية لذته.

 

آية (48): “وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى وَصَايَاكَ الَّتِي وَدِدْتُ، وَأُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ.”

يكرر آية (47) للتثبيت. رفعت يدي إلى وصاياك= رفع اليدين يشير إلى تمسكه الشديد بها وإشتهائه أن ينفذها، واليدين أداة التنفيذ، فكأنه يرفع يديه إلى الله ليعطيه القوة أن ينفذ كل الوصايا تمامًا.

قطعة (ز) كلام الله هو تعزيتنا في وسط الضيقة

 

آية (49): “اُذْكُرْ لِعَبْدِكَ الْقَوْلَ الَّذِي جَعَلْتَنِي أَنْتَظِرُهُ.”

أذكر= هذه لا تعني أن الله قد نسى وعوده ونحن نذكره بها. ولكن تعني أننا نؤمن بصدق وعوده، ونطالبه بأن ينفذها بدالة البنين. ودائمًا تستخدم الكنيسة هذه الكلمة في صلواتها. ووعود الله لداود مثل أنه يثبت مملكته (1أي7:17-13) وغيرها. ووعوده لكل مؤمن كثيرة (مت3:5-12 + مت7:7، 8 + لو10:11-13 + يو13:14، 14 + يو21:14، 23 + أش18:1 + مز15:50 + يو35:6 + أش15:49، 16 + زك6:2) وغيرها كثير. نحن نعتمد في صلواتنا على الوعود الإلهية ونطلب بإيمان، وننتظر الله بصبر.

 

آية (50): “هذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلَّتِي، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي.”

وسط ضيقاته كانت وعود الله تعطيه حياة وتعزية وهذا لأنه يثق في الله وبدون ثقته في وعود الله لكان قد هلك في يأسه (مز92:119) . لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي = كلام الله يعطي رجاء فيحيي النفوس المائتة باليأس أو بالخطية أو بالحزن. فكلام الله روح وحياة (يو63:6 + 3:15). فالطعام يشبع الجسد وكلام الله يشبع الروح. “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4:4).

 

آية (51): “الْمُتَكَبِّرُونَ اسْتَهْزَأُوا بِي إِلَى الْغَايَةِ. عَنْ شَرِيعَتِكَ لَمْ أَمِلْ.”

الْمُتَكَبِّرُونَ اسْتَهْزَأُوا بِي = ” تجاوزوا الناموس” (سبعينية). فهم استهزأوا به لأنه ينفذ ناموس الله، وهذا أسلوب إبليس. فمن يجده متمسكًا بالوصية يسمى هذا وسوسة وضيق أفق، ومن يتمسك بعقيدته يسمى هذا تعصب، ومن يحزن على خطيته يسمى هذا إكتئاب، ولو صلي وصام يسمى هذا رياء وحب ظهور، ولو سلم حياته لله قال هذا استسلام. ولكنه لم يَمِلْ عن شريعة الله وتمسك بها مثل كل الشهداء (2تي12:3-14).

 

آية (52): “تَذَكَّرْتُ أَحْكَامَكَ مُنْذُ الدَّهْرِ يَا رَبُّ، فَتَعَزَّيْتُ.”

الشهيد كان يذكر “كن أمينًا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة” (رؤ10:2) فيتشدد ويتعزى. ولنراجع مراحم الله عبر تاريخ الكتاب المقدس، وهذا ما يعطي تعزية.

 

آية (53): “الْحَمِيَّةُ أَخَذَتْنِي بِسَبَبِ الأَشْرَارِ تَارِكِي شَرِيعَتِكَ.”

الْحَمِيَّةُ أَخَذَتْنِي “الكآبة ملكتني” (سبعينية) = البار يحزن حين يرى إنسانًا يسلك في الشر فهو يعرف مصيره وأنه سوف يهلك (أع16:17-30 + 1كو25:12، 26 + 2كو29:11).

 

آية (54): “تَرْنِيمَاتٍ صَارَتْ لِي فَرَائِضُكَ فِي بَيْتِ غُرْبَتِي.”

كأن المرنم هنا يعتذر لله عن هؤلاء الأشرار الذين استهانوا بناموسه ويقول ولكن أنا أعلم حلاوة ناموسك وألهج فيه وصار ترنيمتي (الكتاب المقدس كله).

 

الآيات (55، 56): “ذَكَرْتُ فِي اللَّيْلِ اسْمَكَ يَا رَبُّ، وَحَفِظْتُ شَرِيعَتَكَ. هذَا صَارَ لِي، لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ.”

كان المرنم يستغل هدوء الليل في التأمل، ويفرح بهذه الخلوة مع الله. والليل يشير لهذا العالم، فنحن الآن ننتظر مجيء المسيح الثاني وهو شمس البر. أي أننا في فترة غربتنا ننتظر المسيح، علينا أن نذكر اسمه فنتعزى في ضيقتنا ونتشدد في ضعفنا. لقد صارت له هذه التعزية وسط الليل لأنه حفظ الوصايا= هذا صار لي.

قطعة (ح) النفس تسعى لكي يرضى الرب عليها ويكون هو نصيبها

 

آية (57): “نَصِيبِي الرَّبُّ، قُلْتُ لِحِفْظِ كَلاَمِكَ.”

يشوع وزع الأرض كأنصبة على كل الأسباط ما عدا اللاويين فقد كان الرب هو نصيبهم (عد20:18). وكل من ترك العالميات يكون الرب نصيبه، ويكون الرب هو كل شيء له. يعطيه بركة على الأرض ونصيبًا في الميراث السماوي. لِحِفْظِ كَلاَمِكَ = من هو الذي يكون نصيبه هو الرب؟ هو من يحفظ وصاياه، لذلك حفظها المرنم. وفي الآيات التالية يذكر المرنم ما كان يعمله ليضمن أن الرب هو نصيبه.

 

آية (58): “تَرَضَّيْتُ وَجْهَكَ بِكُلِّ قَلْبِي. ارْحَمْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ.”

هنا نرى الجهاد= ترضيت وجهك= فهو يحاول حفظ الوصايا ويسهر الليل ليتأمل شريعة الله وكلامه المقدس. ولكنه لا يعتمد على جهاده بل يقول ارحمني. فنحن لا نعتمد على جهادنا، بل علينا أن نجاهد ولكن خلاصنا هو بنعمة الله ورحمته. لذلك لا تكف كنيستنا عن ترديد صلاة “يا رب ارحم”. وكل من يشعر بخطيته فليصلي هكذا.

 

الآيات (59، 60): “تَفَكَّرْتُ فِي طُرُقِي، وَرَدَدْتُ قَدَمَيَّ إِلَى شَهَادَاتِكَ. أَسْرَعْتُ وَلَمْ أَتَوَانَ لِحِفْظِ وَصَايَاكَ.”

هناك طرق كثيرة أمام الإنسان، وعلينا أن نختبر كل طريق في ضوء وصايا الله. وعندما نكتشف أن طريقنا غير متفق مع وصاياه علينا أن نعود سريعًا للطريق الصحيح، فتكون خطواتنا بحسب وصايا اللهرددت قدمي إلى شهاداتك ويكون هذا بسرعة وبدون توانٍ.

 

آية (61): “حِبَالُ الأَشْرَارِ الْتَفَّتْ عَلَيَّ. أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا.”

حِبَالُ الأَشْرَارِ = قد تكون اضطهاداتهم والضيقات التي يثيرها الأشرار ضد الأبرار، وقد تكون حيل إبليس وغوايته للبار ليسقط في ملذات العالم تاركًا طريق الله وهذا هو الأوقع. فالحبال تستخدم في تقسيم الميراث، وكأن الشيطان يريد أن يغويه بملذات العالم كميراث له،ولكن داود يرفض فهو يطلب أن يكون الرب هو ميراثه . والمرنم هنا يقول أنه وسط هذه المضايقات لم ينس شريعة الله فكانت تعزيه وتشدده.

 

آية (62): “فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ أَقُومُ لأَحْمَدَكَ عَلَى أَحْكَامِ بِرِّكَ.”

الليل يشير لضيقات وآلام وتجارب هذا العالم. وعلينا في هذا الليل أن نصلي. فَلِمَنْ نذهب لغير الله؟!!

 

آية (63): “رَفِيقٌ أَنَا لِكُلِّ الَّذِينَ يَتَّقُونَكَ وَلِحَافِظِي وَصَايَاكَ.”

البار يحب صحبة الأبرار. فهو لا يجلس وسط المستهزئين حتى لا يعثرونه.

 

آية (64): “رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ قَدْ مَلأَتِ الأَرْضَ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ.”

رحمة الله وإحساناته تغمر العالم كله، الأبرار والأشرار يستمتعون بخيراته. والمرنم يقصد بهذه الآية الأخيرة أنني برغم كل جهادي الذي ذكرته من قبل، إلا أنني بدون مراحمك لن أحصل على شيء.

قطعة (ط) النفس الضالة يؤدبها الله كأب حنون ليعيدها

 

آية (65): “خَيْرًا صَنَعْتَ مَعَ عَبْدِكَ يَا رَبُّ حَسَبَ كَلاَمِكَ.”

“كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله (رو28:8). ونجد هنا المرنم يتأمل في معاملات الله معه طول حياته، فوجد أن الله أحسن إليه كثيرًا وغمره بمحبته ولكن حين تعوَّج أدبه ببعض الضيقات وأذَّله حتى لا ينتفخ ويتكبر فيهلك.

 

آية (66): “ذَوْقًا صَالِحًا وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي، لأَنِّي بِوَصَايَاكَ آمَنْتُ.”

ذَوْقًا صَالِحًا = “صلاحًا وأدبًا ومعرفة علمني” (سبعينية). وفي الإنجليزية “أحكاما صالحة ومعرفة”، هنا المرنم يستسلم تمامًا بين يدي الله، واثقًا أن كل ما يسمح به من ألم، إنما هو ليدربه ويعلمه ويرده إذا تعوج. ذَوْقًا صَالِحًا = هذه عن الأعمال الصالحة التي يطلب أن الله يعلمه ويدربه أن يسلك فيها وهذه كان الله يعينه ليعملها. مَعْرِفَةً = هذه عن الإقتناع الداخلي بفائدة التأديب.

 

آية (67): “قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا الآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ.”

الله يسمح لنا بأن نُذَّلْ بسبب خطية ضللنا فيها، ليؤدبنا فنرجع إليه. ونرى أن وسائل الله في تأديبنا وسائل ناجحة فنرى المرنم يقول إذ عاد لطريق الله بعد أن أدبه الله “ أَمَّا الآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ. والله سمح بأن يذهب شعبه إلى سبي بابل بسبب وثنيتهم، فلما عادوا وجدناهم تابوا عنها تمامًا.

 

الآيات (68، 69): “صَالِحٌ أَنْتَ وَمُحْسِنٌ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ لَفَّقُوا عَلَيَّ كَذِبًا، أَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ قَلْبِي أَحْفَظُ وَصَايَاكَ.”

لنفهم هذه الآية نذكر قصة أيوب، فإبليس المتكبر لفَّق كذبًا ضد أيوب، ولكن الله الصالح سمح لإبليس أن يجربه، لكي يؤدب أيوب على خطية لم يكن شاعرًا بها، وكان يمكن أن تهلكه، وبهذا علمه فرائضه. وأيوب كان بارًا باعتراف الكتاب المقدس وكان يحفظ وصايا الله. ولكن الله أراد لعبده البار أن يَكْمُل وبهذا أحسن إليه.

 

آية (70): “سَمِنَ مِثْلَ الشَّحْمِ قَلْبُهُمْ، أَمَّا أَنَا فَبِشَرِيعَتِكَ أَتَلَذَّذُ.”

النفس البارة وهي تتألَّم من مؤامرات الأشرار تنظر لهؤلاء الأشرار وإذا هم في تنعم سمن مثل الشحم قلبهم وبسبب هذا التنعم وشعورهم بقوتهم تقست قلوبهم وتصوروا أنهم في إمكانهم أن يذلوا أولاد الله، ولم يفهموا أن الله يستخدمهم كأداة ليصلح بها أولاده ويردهم إليه. ومن يفهم طرق الله يتلذذ بها= أما أنا فبشريعتك أتلذذ.

 

آية (71): “خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ.”

هنا توصَّل المرنم إلى أن آلامه كانت للخير. هل لو سألنا أيوب الآن في مجده ماذا كنت تفضل؟ هل يجيب أنه كان يود لو رفع الله عنه كأس آلامه!! قطعًا لا فآلامه كانت سببًا في مجده وفرحه أبديًا، ولكن ألامه هذه فكانت للحظة (رو17:8، 18).

 

آية (72): “شَرِيعَةُ فَمِكَ خَيْرٌ لِي مِنْ أُلُوفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.”

ناموس الله ووصايا المسيح تقود لحياة أبدية أما الذهب والفضة فزائلان.

قطعة (ى) استسلام كامل للنفس بين يدي الله صانعها

 

آية (73): “يَدَاكَ صَنَعَتَانِي وَأَنْشَأَتَانِي. فَهِّمْنِي فَأَتَعَلَّمَ وَصَايَاكَ.”

المرنم يطلب من الله أن يعلمه وصاياه فهو صنعة يديه. والله خلقنا على صورته وعندما خالفنا وصيته خسرنا صورة المجد التي كان عليها الإنسان. والمرنم يطلب أن يعطيه الله فهمًا للوصية لينفذها ويقترب من الصورة التي ترضي الله صانعه. والآن بعد حلول الروح القدس على المؤمنين، يعمل روح الله فينا ليتصور المسيح فينا (غل19:4) وهذا لكل من لا يقاوم عمل الروح القدس. وكل من يخضع بين يدي الله ولا يقاوم عمل الروح وينفذ الوصايا، يأخذ صورة المسيح = “يلبس المسيح” ويكون له صورة محبته ووداعته وتواضعه. وبعد في السماء نكون مثله أيضًا (1يو2:3). يَدَاكَ = اليد تشمل الذراع والأصابع. والذراع تشير للقوة أي يد الله وتشير للمسيح قوة الله، الذي كان فداؤه وعمله الخلاصي بقوة (إش12:45) منها تفهم أن يد الله هي التي صنعت كل الخليقة. + (يو3:1) منها نفهم أنه بدون الكلمة (المسيح) لم يكن شيء مما كان، فهو الذي خلق كل شيء + (إش 10:40، 11) نرى فيها صورة ذراع الرب (المسيح) تجمع الحملان فهو الراعي الصالح. وعن التجسد يقول إشعياء (إش 9:51). والأصابع تشير للروح القدس ونفهم هذا بمقارنة الآيتين (مت28:12 + لو20:11) فالمسيح صنع الخلاص بقوة. ولكن من يعيد تشكيل الإنسان وخلقته خلقة جديدة هو الروح، أصابع الله التي تشكل الإنسان، كأصابع الخزاف التي تشكل الإناء ونلاحظ أن اليد والأصابع تخرجان من جسد الإنسان. وهكذا الابن يولد من الآب والروح القدس ينبثق منه أيضًا.

 

صنعتاني

جبلتاني

– تشير لخلقة النفس بنفخة من الله. وهذا عمل الروح القدس.

– تشير لعمل الروح القدس في تثبيت المعمد في المسيح وتجديده ليصير صورة المسيح.

– تشير لخصوصية وضع الإنسان لدى الله. فالروح القدس يعطي حياة للإنسان ثم يثبته في المسيح بعد الفداء، ثم يظل يعمل فيه ليجدده.

– تشير لخلقة الجسد إذ جبل الله ترابًا من الأرض. وهذا عمل الابن (تك2 : 7).

– تشير إلى عمل المسيح في الفداء. فهو مات وقام وصعد وتمجد، ليأتي عمل الروح القدس بعد ذلك ليشركني في هذه البركات.

– تشير لخلقة الإنسان كأى خليقة أخرى.

 

ولأن الإنسان العاقل له وضع خاص لدى الله، فعليه أن يلتزم بوصاياه.والوضع المثالي أن علامة محبة الله لآدم أن يفيض عليه الله من عطايا محبته. وعلامة محبة آدم لله أن يطيع وصاياه. والمرنم هنا يصلي لكي يكمل الله ما نقص من فهمه، فيعقل ويفهم كيف يسلك في وصايا الله. وقد تشير جبلتاني للخلقة الأولى وتشير صنعتاني للخلقة الثانية (راجع تفسير أف2: 10).

 

آية (74): “مُتَّقُوكَ يَرَوْنَنِي فَيَفْرَحُونَ، لأَنِّي انْتَظَرْتُ كَلاَمَكَ.”

قارن مع “السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب” وكل من يحب الله يفرح بعودة التائب.

 

الآيات (75-77): “قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ، وَبِالْحَقِّ أَذْلَلْتَنِي. فَلْتَصِرْ رَحْمَتُكَ لِتَعْزِيَتِي، حَسَبَ قَوْلِكَ لِعَبْدِكَ. لِتَأْتِنِي مَرَاحِمُكَ فَأَحْيَا، لأَنَّ شَرِيعَتَكَ هِيَ لَذَّتِي.”

إعادة تشكيل الإنسان ليتجدد بحسب صورة خالقه، يستلزم في بعض الأحيان أن يؤدب الله النفس ببعض التجارب، ليذلها وينزع منها كبريائها، والمرنم المستسلم لعمل الله فيه، لا يقاوم هذا بل يطلب تعزيته وسط التجربة.

 

الآيات (78-80): “لِيَخْزَ الْمُتَكَبِّرُونَ لأَنَّهُمْ زُورًا افْتَرَوْا عَلَيَّ. أَمَّا أَنَا فَأُنَاجِي بِوَصَايَاكَ. لِيَرْجعْ إِلَيَّ مُتَّقُوكَ وَعَارِفُو شَهَادَاتِكَ. لِيَكُنْ قَلْبِي كَامِلًا فِي فَرَائِضِكَ لِكَيْلاَ أَخْزَى.”

الْمُتَكَبِّرُونَ = إبليس ومن يتبعه، هؤلاء يشتكون على البار إن أخطأ والمرنم يصلي حتى يكون قلبه كاملًا فلا تكون هناك فرصة للمتكبرين أن يخزوه ويشتكوا عليه. وقد يزوروا التهم وفي هذا يلجأ المرنم لله ويتمسك به= أُنَاجِي بِوَصَايَاكَ = وهذا نتعلمه من السيد المسيح الذي كان يرد على خداعات إبليس بوصايا الكتاب. ويفهم التزوير أيضًا بأنه يشير لخداعات إبليس للأبرار مثلما فعل مع آدم وحواء ليسقط الأبرار. ولكن من يتمسك بالوصية ينجو. ومن يتمسك بالوصية يُخزِي إبليس. والعكس فمن يقبل خداعات إبليس ويسقط، يَخْزَي ويذله إبليس. لِيَرْجعْ إِلَيَّ مُتَّقُوكَ = يعودوا إليَّ إذ يروا أن الله أظهر الحق وأظهر براءتي من اتهاماتهم الظالمة، ويفرحوا معي بعمل الله وخيراته للأبرار. أما لو كنت حقا أعمل شرورا فسأخزَى، لذلك يطلب المرنم لِيَكُنْ قَلْبِي كَامِلًا فِي فَرَائِضِكَ لِكَيْلاَ أَخْزَى.

قطعة (ك) النفس التي اختبرت الله تشتاق لخلاصه

 

الآيات (81، 82): “تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى خَلاَصِكَ. كَلاَمَكَ انْتَظَرْتُ. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى قَوْلِكَ، فَأَقُولُ: «مَتَى تُعَزِّينِي؟».”

هذه صرخة شعب العهد القديم الذي إنتظر مجيء المسيح المخلص. وهي صرخة المسيحي الذي ينتظر مجيء المسيح الثاني قائلًا مع القديس يوحنا “آمين تعال أيها الرب يسوع” (رؤ20:22). ومع بولس الذي يشتهي أن ينطلق ليكون مع المسيح ويُنْقَذْ من جسد هذا الموت (في23:1 + رو24:7). وإلى مجيء المسيح تنظر عيني كل مؤمن وتنتظر بثقة وإيمان، فطالما وعد الله بأنه سيأتي ليخلص، فهو سيأتي أكيدًا. كَلَّتْ عَيْنَايَ تفيد استمرار النظر، وعدم تحول النظر لأي شيء آخر. (1تس10:1). وهذه أيضًا صرخة كل مظلوم أو متألم ينتظر خلاص الرب بثقة.

 

آية (83): “لأَنِّي قَدْ صِرْتُ كَزِقّ فِي الدُّخَانِ، أَمَّا فَرَائِضُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا.”

صِرْتُ كَزِقّ فِي الدُّخَانِ = “زق في الجليد” (سبعينية). داود هنا يستدر عطف الله ومراحمه، فمن كثرة ألامه يُصوِّر نفسه كَزِقّ = (قربة من الجلد تستعمل لحفظ الخمر أو الماء) ولكنها أهملت فترة (سواء بوضعها في مكان بجانب حريق أو في جليد) فكلاهما سيتسبب في أن الجلد سيتشقق ويتغضن ولا يعود يصلح بعد لأن يضع فيه أحد خمر أو ماء. والماء يشير للروح القدس والخمر يشير للفرح. والإنسان بخطيته خسر الفرح والامتلاء من الروح، بل حتى جسده (جلده) تغضن إذ شاخ. هذه صورة للإنسان الذي ينتظر خلاص الرب فيعيد تجديد خليقته. والصورة هنا أن بعض الناس ليتعجلوا إختمار عصير العنب يضعوا الزق قرب النار، فيختمر بسرعة لكن الزق يفسد. ومع هذا فهو في انتظاره لخلاص الرب يتمسك بفرائضه وذلك لثقته في الخلاص الآتي.

صرت كزقٍ في الدخان= زق في الجليد (سبعينية). داود هنا يستدر عطف الله ومراحمه، ويُصوِّر نفسه كزق = (قربة من الجلد تستعمل لحفظ الخمر أو الماء) ولكنها أهملت فترة (سواء بوضعها في مكان بجانب حريق أو في جليد) فكلاهما سيتسبب في أن الجلد سيتشقق ويتغضن ولا يعود يصلح بعد لأن يضع فيه أحد خمر أو ماء. والماء يشير للروح القدس والخمر يشير للفرح. والإنسان بخطيته خسر الفرح والامتلاء من الروح، بل حتى جسده (جلده) تغضن إذ شاخ. هذه صورة للإنسان الذي ينتظر خلاص الرب فيعيد تجديد خليقته. والصورة هنا أن بعض الناس ليتعجلوا اختمار عصير العنب يضعوا الزق قرب النار، فيختمر بسرعة لكن الزق يفسد. ومع هذا فهو في انتظاره لخلاص الرب يتمسك بفرائضه وذلك لثقته في الخلاص الآتي.

 

آية (84): “كَمْ هِيَ أَيَّامُ عَبْدِكَ؟ مَتَى تُجْرِي حُكْمًا عَلَى مُضْطَهِدِيَّ؟”

إن أيامي قليلة، فخلصني يا رب من مضطهدي= الشياطين ومن يتبعونهم حتى لا أقضي بقية عمري في مرار وآلام. متى سيأتي اليوم الذي تمسح فيه كل دمعة من عيني.

 

آية (85): “الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ كَرَوْا لِي حَفَائِرَ. ذلِكَ لَيْسَ حَسَبَ شَرِيعَتِكَ.”

كَرَوْا لِي حَفَائِرَ = حفروا لي حفرة. وإبليس يخدعنا بشراكه المخادعة لنسقط. وفي السبعينية جاءت هكذا “تكلم معي مخالفو الناموس بكلام هذيان، لكن ليس كناموسك يا رب” فالمتكبرون هم من لا يهتموا بما يقوله الله في الناموس ويضعوا شراكا للأبرار يصورون فيها لذة الخطية، ولكن داود الذي إختبر حلاوة الوصية يقول “ليس كناموسك”

 

آية (86): “كُلُّ وَصَايَاكَ أَمَانَةٌ. زُورًا يَضْطَهِدُونَنِي. أَعِنِّي.”

زُورًا يَضْطَهِدُونَنِي = كراهية الشيطان، ومحاولاته لإسقاطنا بمخالفة الوصية وتصوير الوصية على أنها حرمان من الفرح والملذات وأن هذا حرمان لي من حقوقي. وداود يقول أبدا فكل هذا خداع أما أنت يا الله فكُلُّ وَصَايَاكَ أَمَانَةٌ = لأن الله من محبته أعطى الوصية لتكون فرحا لنا هنا على الأرض، وخلاصا أبديا . وإبليس لا يكف عن محاولات الخداع أبدًا.

 

آية (87): “لَوْلاَ قَلِيلٌ لأَفْنَوْنِي مِنَ الأَرْضِ. أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَتْرُكْ وَصَايَاكَ.”

لولا معونة الله لسقطت في شراكهم وانشغلت بالعالميات الزائلة فأهلك.

 

آية (88): “حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي، فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِ فَمِكَ.”

قطعة (ل) النفس التي اختبرت الله تثق في صدق وعوده

 

آية (89): “إِلَى الأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ.”

المرنم يضع هنا إختباره، إن كلمة الله ثابتة غير متغيرة الله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع17:1) ، وهكذا كل مشوراته وتدبيراته. ولذلك وصاياه لا ولم ولن تتغير، وهي لخيرنا دائما. وهذا ظاهر في خلقة السموات التي نراها ثابتة لا تتغير فأنت تحفظها بكلمتك. ومن هم في السماء أي الملائكة يحفظون كلمتك وهي ثابتة فيهم بالمقارنة معنا نحن يا من في الأرض، فالإنسان لم يستطع أن يحفظ وصايا الله. وأحكام الله بحكمة عالية لا نفهمها نحن وهي تعلو عنا وعن إدراكنا، كما تعلو السموات عن الأرض. ومهما كانت وعود الله بعيدة كبعد السماء، فهي ستتحقق في ملء الزمان. وكل من تثبت كلمة الله فيه يصير سماويًا. وتفهم الآية عن الابن كلمة الله الأزلي الذي خلق كل شيء.

 

الآيات (90، 91): “إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُكَ. أَسَّسْتَ الأَرْضَ فَثَبَتَتْ. عَلَى أَحْكَامِكَ ثَبَتَتِ الْيَوْمَ، لأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدُكَ.”

دليل آخر على ثبات كلمة الله هو ثبات الأرض التي نحيا عليها. والأرض ببحارها وتوالي فصولها هي هي كما تركتها كل الأجيال السابقة= إلى دور فدور أمانتك الله بأمانته حفظ الأرض لكل الأجيال. على أحكامك ثبتت اليوم= بأحكام الله ورعايته ثبتت السموات والأرض إلى هذا اليوم. العجيب أن كل الخليقة تأتمر بأمر الله وتثبت بكلمته. الكل عبيدك = الكل خاضع لأوامر مشيئتك كعبد أمام سيده، حتى الخليقة الجامدة كالأرض بما عليها من بحار وجبال….إلخ. والكواكب. ولا يوجد من يتمرد على كلمة الله سوى الإنسان.

وهذه الآية تفهم أن الله بأمانته، كان أمينًا مع جيل اليهود، ولما رفضه اليهود كان أمينًا مع الكنيسة وفي نهاية الأيام سيرجع اليهود وسيكون أمينًا معهم لأجل وعوده الثابتة مع آبائهم (رو9، 10، 11). وفي السبعينية يقول “أسست الأرض فهي ثابتة بأمرك والنهار أيضًا ثابت” ومن هذا نفهم أن الأرض هي الكنيسة التي على الأرض التي آمنت بالمسيح السماوي، شمس البر، فصار لها أن تعيش في نور نهاره هنا على الأرض وفي الأبدية.

 

الآيات (92، 93): “لَوْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُكَ لَذَّتِي، لَهَلَكْتُ حِينَئِذٍ فِي مَذَلَّتِي. إِلَى الدَّهْرِ لاَ أَنْسَى وَصَايَاكَ، لأَنَّكَ بِهَا أَحْيَيْتَنِي.”

الخطية تذل الإنسان، وحينما فقد الإنسان حساسية قلبه الذي كان مكتوبًا عليه وصية الله، أعطانا الله الناموس عونا. ومن اتبع الوصايا التي جاءت في الناموس تخلص من الذل. ومن اختبر هذا يردد = إلى الدهر لا انسي وصاياك

وأولاد الله يضطهدون من العالم، وما يعزيهم هو اللهج في كلام الله المحيي وتنفيذه = لانك بها احييتني. ولننظر الشهداء مساقين للموت وهم يسبحون بكلمة الله، لذلك لم ينكروا إيمانهم إذ عزاهم الله وثبتهم فكانت لهم حياة.

 

آية (94): “لَكَ أَنَا فَخَلِّصْنِي، لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ.”

لَكَ أَنَا = رائع أن يصل الإنسان أن يعطي نفسه بالكامل لله ويشعر أيضًا أن الله له “أنا لحبيبي وحبيبي لي” (نش16:2). ولكي نصل لهذا فلنرى الطريقة = لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ = اذًا حتى نكون لله نحفظ الوصية فنعرفه ونحبه ونثق فيه فنسلم له حياتنا.

 

آية (95): “إِيَّايَ انْتَظَرَ الأَشْرَارُ لِيُهْلِكُونِي. بِشَهَادَاتِكَ أَفْطُنُ.”

الأشرار بقيادة إبليس يضعون لي شراكًا لِيُهْلِكُونِي، ووصيتك تنير لي الطريق.

أَفْطُنُ = أدرك أين الشرك وأعرف كيفية التصرف الصحيح فلا أهلك.

 

آية (96): “لِكُلِّ كَمَال رَأَيْتُ حَدًّا، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا.”

وصيتك فواسعة جدًا= في الآية السابقة نجد المرنم قد اكتشف أن الوصية تكشف له خداعات الشياطين فينجو، لقد اكتشف في كلام الله كنزًا ثمينًا، فهو يعزيه ويشدده ويكشف له خداعات إبليس. وهذه طبيعة كلمة الله، فكل يوم نجد فيها غذاء جديد وشفاء جديد. ربما نفس الآية نقرأها على فترات وفي كل مرة نجد فيها معنى جديد مشبع ومعزي، ونجد أنها تكشف لنا معنى جديد لحب الله بل تكشف لنا عن المسيح نفسه ويكون هذا سر تعزيتنا وفرحنا الحقيقي أننا نعرفه. أما أي كمال آخر في العالم فمهما كان فهو محدود. وهذا ما علم به المسيح أن نبني بيتنا على الصخر وليس على الرمال (مت 7: 24-27).

قطعة (م) الوصية لذيذة وتعطي للإنسان حكمة

 

آية (97): “كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! الْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي.”

كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ = “محبوب هو اسمك يا رب” (سبعينية). بولس الرسول يعلمنا “صلوا بلا انقطاع” (1تي17:5) ويعلمنا الآباء أن نردد صلاة يسوع “يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ” طول النهار ، أو نلهج في آيات من الكتاب المقدس نتأمل فيها ونرددها كل اليوم. وهذا يلهب القلب بحب الله إذ أن كلام الله ينقي (يو15: 3) فنرى الله ونعاينه فنحبه. على أن اكتشاف لذة شريعة الله لا يأتي فقط من ترديدها، بل حينما ينفذها الإنسان فيكتشف قوتها وحلاوتها.

 

آية (98): “وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي، لأَنَّهَا إِلَى الدَّهْرِ هِيَ لِي.”

كل من يحفظ الوصية يصير حكيمًا. يعطيه الله حكمة في كل تصرفاته. وقوله أعدائي= أي أعداء الله الذين يرفضونه ويرفضون وصاياه ويعادون أولاده.

 

آية (99): “أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي.”

هنا يقارن المرنم بين من تعلَّم على يد معلم، ومن يتعلم على يد الله. فشاول الطرسوسي تعلَّم على يد غمالائيل وكان أصغر منه، ولكن حين ظهر الله له وتعلم من الله، صار بولس معلمًا لكل العالم.

 

آية (100): “أَكْثَرَ مِنَ الشُّيُوخِ فَطِنْتُ، لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ.”

من يتعلم من الله ووصاياه تصير له حكمة الشيوخ بل أكثر.  فوصايا الله تحوي في داخلها حكمة، يحتاج الشيخ عشرات السنين ليكتشفها، بل هو اكتشفها بعد عدة آلام مرت في حياته. فمن اختبر أن النار تحرق، هو سبق وتألَّم من عذابات هذه النار. ولكن من ينفذ الوصية سيسمع قول الله لا تقرب من النار (الخطية) حتى لا تحترق فلو نفذ لحصل على الحكمة التي وصل لها الشيوخ بعد آلام عديدة.

 

الآيات (101، 102): “مِنْ كُلِّ طَرِيقِ شَرّ مَنَعْتُ رِجْلَيَّ، لِكَيْ أَحْفَظَ كَلاَمَكَ. عَنْ أَحْكَامِكَ لَمْ أَمِلْ، لأَنَّكَ أَنْتَ عَلَّمْتَنِي.”

هنا نرى المرنم يختبر حلاوة الوصية بأنه ينفذها عمليًا، وهذا ما يسمى “الإنجيل المعاش”.

 

الآيات (103، 104): “مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي. مِنْ وَصَايَاكَ أَتَفَطَّنُ، لِذلِكَ أَبْغَضْتُ كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ.”

من تتحول الوصية عنده لحياة معاشة يختبر حلاوتها وهكذا قال كثيرين (رؤ9:10، 10 + حز3:3 + أر16:15). ومعنى الأكل، أن الوصية لا تكون للكلام والمناقشات والتعليم، بل للحياة بها كما يتحول الطعام لطاقة نحيا بها ونسير بها. من وصاياك أتفطن = بها ندرك مقاصد الله من نحونا ومحبته لنا، وأنه حين يمنع خطية ما عنا قائلًا لا تفعل هذا أو ذاك، فإن هذا يكون لفائدتنا، وحينما انفتحت عينا المرنم وعرف مقاصد الله قال = لذلك أبغضت كل طريق كذب.

أتفطن = الحكمة هي أفكار يقتنع بها الشخص، أما الفطنة فهي التصرف العملي الناشئ عن الحكمة الموجودة في باطن الإنسان. مِنْ وَصَايَاكَ أَتَفَطَّنُ = هذا يعني أن داود بعد أن تذوق لذة وصايا الله لم يكتفي بها كفكرة نظرية بل صارت مرشدًا له يسلك في نورها. الوصية أنارت له الطريق الذي يسلك فيه. وهذا ما قاله في الآية التالية.

قطعة (ن) النفس التي تلذذت بالوصية تتعهد بحفظها

 

آية (105): “سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي.”

المسيح هو نور العالم، وهو كلمة الله الأزلي. والمسيح نكتشفه ونراه ونعرفه من خلال كلمة الله المكتوبة في الكتاب المقدس، الذي صارت كلماته لنا نور لسبيلنا. وكلمة الله تكشف لنا كل ما هو خطأ في حياتنا، بل كل حفرة وشرك يضعه العدو لنا. فالعالم ظلمة ورئيس هذا العالم يسمى سلطان الظلمة، وبدون المسيح سنتعثر في هذا الظلام (يو9:1). المسيح هو نور لنا بتعاليمه وبحياته ومحبته وتواضعه . والكتاب كله موحى به من الروح القدس، وهو الزيت الذي يملأ السراج. فالوصية هي السراج الذي يظل مشتعلًا بزيت الروح القدس.

 

آية (106): “حَلَفْتُ فَأَبِرُّهُ، أَنْ أَحْفَظَ أَحْكَامَ بِرِّكَ.”

حَلَفْتُ فَأَبِرُّهُ = حلفت “فأقمت” (سبعينية) أو حلفت وعقدت عزمي على حفظ أحكام برك. وكان الله قد طلب من الشعب أن يحلفوا باسمه في العهد القديم علامة التصاقهم به لا بالأوثان (تث20:10). وحتى لا يتشبهوا بالأمم الوثنية ويحلفوا بآلهتهم. والمعنى أنني قد عقدت عزمي يا رب أن أظل ملتصقًا بك وأحفظ وصاياك لأنني اكتشفت حلاوة تنفيذها.

 

آية (107): “تَذَلَّلْتُ إِلَى الْغَايَةِ. يَا رَبُّ، أَحْيِنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ.”

تذللت= تشير للآلام المحيطة بالأبرار في هذا العالم، وربما تشير لأنه لم يستطع أن يحفظ الوصية بالكامل إذ هو بعد في الجسد، وربما تشير لأنه يتواضع وينسحق أمام الله في توبة حقيقية.  وعمومًا فالله يسمح لنا ببعض الآلام حتى نتضع ونطلبه بانسحاق ونقدم توبة عن خطايانا. ومن يفعل هذا، أي من يتوب يحييه الله.

 

آية (108): “ارْتَضِ بِمَنْدُوبَاتِ فَمِي يَا رَبُّ، وَأَحْكَامَكَ عَلِّمْنِي.”

ارْتَضِ بِمَنْدُوبَاتِ فَمِي “تعهدات فمي باركها يا رب” (سبعينية). والمعنى أن المرنم تعهد أمام الله أن يسلك بحسب الوصية ويصلي ليبارك الله هذا الوعد ويعينه. مَنْدُوبَاتِ = هي الشيء الذي أتبرع به عن طيب خاطر. علمني أحكامك = علمني وفهمني أعماق وصاياك وأدرك لذتها فأتعهد بتنفيذ ما فهمته. وإذا تعهدت بشيء ثم ضعفت لا تتركني يا رب بل علمني أحكامك فأرجع لطريقك.

 

آية (109): “نَفْسِي دَائِمًا فِي كَفِّي، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا.”

كانت المخاطر التي تعرض لها داود كافية لأن يموت عدة مرات، وبالرغم من هذا فهو لم يترك وصية الله، إذ فهم أن الله هو الذي كان يحميه. نَفْسِي دَائِمًا فِي كَفِّي = أي أنني لأجل محبتك يا رب وضعت حياتي في كفي، أي أنا مستعد أن أموت في كل وقت، وهذا نفس ما قاله بولس الرسول (أع24:20 + أع13:21 + رو35:8، 36). لذلك حسنًا ترجمتها السبعينية “نفسي في يديك كل حين”.

 

آية (110): “الأَشْرَارُ وَضَعُوا لِي فَخًّا، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَضِلَّ عَنْهَا.”

كل مَنْ كان كلام الله سراجًا له يهدي خطوات رجله لن يعثر في شراك إبليس.

 

الآيات (111، 112): “وَرِثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى الدَّهْرِ، لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي. عَطَفْتُ قَلْبِي لأَصْنَعَ فَرَائِضَكَ إِلَى الدَّهْرِ إِلَى النِّهَايَةِ.”

الإسرائيلي الحقيقي يرث أرض آبائه كثروة تنتقل من الأب لابنه وبحسب الشريعة لا يفرط فيها ولا يبيعها. وهنا داود يعتبر أن الشريعة هي ميراثه العظيم والكنز الحقيقي الذي تركه آبائه. وكما كانت الأرض لا يحق بيعها إذ هي الأرض التي أعطاهم الله إياها، هكذا الوصية هي من الله لذلك لا ينبغي أن نفرط فيها. وهكذا الإيمان والعقيدة التي تسلمناها من الآباء واستشهد الملايين في سبيلها (يه 3). عطفت قلبي= أي أملت قلبي، بنعمتك يا رب مال قلبي وتضيف السبعينية “من أجل المكافأة” أي كنت أقنع نفسي أنني لو أطعت سيكون لي مكافأة وكانت نعمتك تقنعني لأميل قلبي لحفظ وصاياك.

قطعة (س) النفس التي تكره الخطية

 

آية (113): “الْمُتَقَلِّبِينَ أَبْغَضْتُ، وَشَرِيعَتَكَ أَحْبَبْتُ.”

الْمُتَقَلِّبِينَ أَبْغَضْتُ = “لمتجاوزي الناموس أبغضت” (سبعينية) فهو لم يبغض أعداؤه كشاول وغيره، ولكن أبغض من هو ضد الله، ويسبب عثرات للأبرياء. المتقلبين = هؤلاء تجدهم يوما مع الله ويوما آخر مع المخالفين للناموس . ويمكن فهم كلمة أَبْغَضْتُ بمعنى رفضت طرقهم. والسيد المسيح طلب أن نبغض أقرباؤنا بالجسد لكي نحب الله، ومفهوم ذلك أن لا يعطلوننا عن محبتنا لله، وأن نحب الله أكثر منهم لذلك يقول المرنم وَشَرِيعَتَكَ أَحْبَبْتُ. أما الترجمة الإنجليزية فأوردت الآية “أبغضت الأفكار الباطلة” أي كل فكر وكل شهوة تعطلني عن حب الله فأنا أبغضها. ونلاحظ أن الأفكار الباطلة هي أول خطوة في طرق الخطية والانفصال عن الله، لذلك هو يبغضها فالخطية ستسبب فقدانه لحالة الفرح وتفصله عن الله. يجب علينا أن نطلب السند الإلهي حقًا، ولكن علينا أن لا نضع أنفسنا مع الأشرار والذين تأتي منهم العثرات.

 

آية (114): “سِتْرِي وَمِجَنِّي أَنْتَ. كَلاَمَكَ انْتَظَرْتُ.”

كما احتمى داود بالله من شاول وإبشالوم، هو يحتمي به من أفكاره وشهواته.

كلامك إنتظرت = “وعلى كلامك توكلت” (سبعينية). في وسط الضيقة وقبل أن يتدخل الله وينقذه منها، تعلم داود أن ينظر لوعود الرب بالحماية فيهدأ. ونحن لنا وعود بالحماية عبر الكتاب المقدس فلنضعها أمام أعيننا وسط الضيقة فلا نفشل ولا نيأس.

 

الآيات (115-117): “انْصَرِفُوا عَنِّي أَيُّهَا الأَشْرَارُ، فَأَحْفَظَ وَصَايَا إِلهِي. اعْضُدْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ فَأَحْيَا، وَلاَ تُخْزِنِي مِنْ رَجَائِي. أَسْنِدْنِي فَأَخْلُصَ، وَأُرَاعِيَ فَرَائِضَكَ دَائِمًا.”

طلب السند الإلهي في جهاده الروحي ضد خطاياه وشهواته فرجاؤه هو الله. وقارن مع الآية السابقة فنجد أن من ضمن هؤلاء الأشرار هم من يدفعونه لليأس من مراحم الله، كما قال عن هؤلاء في المزمور الثالث “يا رب لماذا كثر الذين يحزنونني… يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه”.

 

الآيات (118، 119): “احْتَقَرْتَ كُلَّ الضَّالِّينَ عَنْ فَرَائِضِكَ، لأَنَّ مَكْرَهُمْ بَاطِلٌ. كَزَغَل عَزَلْتَ كُلَّ أَشْرَارِ الأَرْضِ، لِذلِكَ أَحْبَبْتُ شَهَادَاتِكَ.”

المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الحسنة، فالمرنم يرفض صحبة الأشرار حتى لا يتأثر بأفكارهم الباطلة، وعوضًا عن الصحبة الرديئة التصق بشهادات اللهوحسب الأشرار كزغل= هو الناشئ عن صهر المعادن، والزغل هو الصدأ والخبث والشوائب التي ترمى كشيء لا قيمة له، بعد أن يتم تصفية المعدن نفسه. ولأنه ابتعد عن الأشرار وانفصل عنهم اكتشف لذة الوصية = لذلك احببت شهاداتك .

 

آية (120): “قَدِ اقْشَعَرَّ لَحْمِي مِنْ رُعْبِكَ، وَمِنْ أَحْكَامِكَ جَزِعْتُ.”

في السبعينية ” سمر خوفك في لحمي” فما يساعد على حفظ الوصايا أن نذكر يوم الدينونة وعقاب الأشرار.

إذًا لكي نستمر في طريق الله علينا 1) نصلي ونطلب السند الإلهي، 2) نتحاشى طرق الأشرار، 3) نذكر دائما يوم الدينونة.

قطعة (ع) صلاة للثبات في طريق الله وحفظ الوصية

 

آية (121): “أَجْرَيْتُ حُكْمًا وَعَدْلًا. لاَ تُسْلِمْنِي إِلَى ظَالِمِيَّ.”

أجريت حكمًا وعدلًا= داود هنا كملك يقول أنه قد حكم بالعدل ولم يظلم أحد ويصلي أن ينظر الله لجهاده فلا يسلمه لظالميه. وبينما نصلي بهذا فلنذكر تعدياتنا وأخطائنا فنطلب مراحم الله إذا لم نكن أمناء.

 

آية (122): “كُنْ ضَامِنَ عَبْدِكَ لِلْخَيْرِ، لِكَيْلاَ يَظْلِمَنِي الْمُسْتَكْبِرُونَ.”

كن ضامن (كفيل) = والمسيح هو الذي يضمننا عند الآب، وهو الذي دفع الفدية ليحررنا، وهو الذي يحمينا حتى لا نسقط ثانية في أيدي الظالمين، الشياطين وأتباعهم. والمرنم هنا يعلن أنه لا يستطيع أن يحمي نفسه فيلجأ لله ليحميه من العالم ويضمنه. والمرنم إذ لم يعلم ماذا يطلب، لم يصف لله كيف يضمنه فقال للخير فالله صانع خيرات.

هذا المنظر صوره القديس بولس الرسول في (رو8: 33 ، 34) “من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضًا يشفع فينا”.

المستكبرون هنا هم الشيطان وأعوانه الذين سيشتكون علينا أمام الله. ولكن شكرا للرب يسوع المسيح الذي كان ضامنا لنا يشفع فينا.

 

الآيات (123-125): “كَلَّتْ عَيْنَايَ اشْتِيَاقًا إِلَى خَلاَصِكَ وَإِلَى كَلِمَةِ بِرِّكَ. اصْنَعْ مَعَ عَبْدِكَ حَسَبَ رَحْمَتِكَ، وَفَرَائِضَكَ عَلِّمْنِي. عَبْدُكَ أَنَا. فَهِّمْنِي فَأَعْرِفَ شَهَادَاتِكَ.”

هو ينتظر خلاص الله بثقة ولهفة. وأليست هي شهوة أنبياء العهد القديم “ليتك تشق السموات وتنزل” (إش64: 1).

 

آية (126): “إِنَّهُ وَقْتُ عَمَلٍ لِلرَّبِّ. قَدْ نَقَضُوا شَرِيعَتَكَ.”

لقد انتشر الشر في العالم وأهمل الناس شريعتك واحتقروها. وهذا هو الوقت الذي ينبغي أن نشهد لك يا رب بحفظنا وصاياك أمام الناس. لقد انتشرت الخطية، وهذا هو الوقت الذي نبحث فيه عن أولادك الذين ضلوا. في الأوقات الشريرة يجب أن نشهد أننا للرب، نعبده ونلتزم بما أوصى به، وأليس هذا تعليم المسيحأنتم نور العالم“.

 

الآيات (127، 128): “لأَجْلِ ذلِكَ أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ أَكْثَرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ. لأَجْلِ ذلِكَ حَسِبْتُ كُلَّ وَصَايَاكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَقِيمَةً. كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ أَبْغَضْتُ.”

المرنم يعبر عن حبه لوصايا الله فهي مستقيمة وأغلى من الذهب والإبريز. والأخلاق الفاسدة أضاعت ثروات كثيرة.

قطعة (ف) مفاعيل كلمة الله في النفس

 

آية (129): “عَجِيبَةٌ هِيَ شَهَادَاتُكَ، لِذلِكَ حَفِظَتْهَا نَفْسِي.”

كلمة الله الواسعة جدًا تكشف لنا كل يوم عن محبة الله وأعماله العجيبة. ففي كل مرة نتأمل فيها نكتشف شيئًا جديدًا عن المسيح كلمة الله. ونكتشف أن كلمة الله تتوافق وتتكامل عبر الكتاب المقدس بعهديه في تناغم عجيب.

 

آية (130): “فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ، يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ.”

فَتْحُ كَلاَمِكَ = ” إعلان أقوالك (سبعينية).. يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ = “الأطفال الصغار” (سبعينية). وفي الإنجليزية المدخل لكلماتك يعطي نورًا ويعطي فهمًا للبسطاء. وهذه تعني أننا حين نبدأ في دراسة الكتاب، فمجرد البداية تعطينا استنارة وعقلًا راجحًا. فكم وكم إذا تعمقنا. ولكن من يفهم ويستنير هو البسيط أي من له هدف واحد فقط ألا وهو أن يبحث عن إرادة الله. وهناك من فسَّر الآية بأن فتح كلام الله هو العهد الجديد الذي فيه إنكشفت أسرار العهد القديم واستنارت عيوننا به.

 

آية (131): “فَغَرْتُ فَمِي وَلَهَثْتُ، لأَنِّي إِلَى وَصَايَاكَ اشْتَقْتُ.”

فغرت فمي ولهثت= كطفل يفتح فمه مشتاقًا إلى اللبن. واللهث هو وسيلة الحصول على الأكسجين للتنفس والحياة. فالمرنم هنا يُصوِّر اشتياقه لكلمة الله كاشتياق الطفل لطعامه واشتياق الإنسان للتنفس، وليس تنفسًا طبيعيًا بل لهث كمن يجري ويلهث، فهو يجاهد ليحصل على هذه المعرفة. وفي السبعينية “فتحت فمي واجتذبت لي روحًا” بمعنى أن الهواء الذي استنشقه أعطاه حياة. وهكذا المعرفة التي يعطينا إياها الله لنعرفه وتكون لنا حياة (يو3:17). ولكن في هذا إشارة لأن الفهم والمعرفة يكونان بعمل الروح القدس فينا الذي يعلمنا كل شيء.

 

الآيات (132، 133): “الْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي، كَحَقِّ مُحِبِّي اسْمِكَ. ثَبِّتْ خُطُوَاتِي فِي كَلِمَتِكَ، وَلاَ يَتَسَلَّطْ عَلَيَّ إِثْمٌ.”

صلاة ليرحمه الله ويثبته في طريقه ولا يتسلط عليه إثم فتضيع معرفته. كَحَقِّ مُحِبِّي اسْمِكَ “كرحمتك للذين يحبون إسمك” (سبعينية).

 

آية (134): “افْدِنِي مِنْ ظُلْمِ الإِنْسَانِ، فَأَحْفَظَ وَصَايَاكَ.”

إفدنى من ظلم الإنسان = ” إنقذني من ظلم أعدائي” (سبعينية)= والأعداء الحقيقيين هم إبليس والبشر الذين يحركهم إبليس. ومن يسقط في خطية يستعبده إبليس، أما المسيح فإشترانا بدمه. وكأن المرنم يشتاق لفداء المسيح فيتحرر، وحينئذ لا يكون لإبليس سلطان عليه فَأَحْفَظَ وَصَايَاكَ.

ظلم الإنسان = هنا ليس الإضطهاد الجسدي فالمسيحية نمت وإزدهرت في أيام الاضطهاد الروماني. ولكن المقصود هؤلاء الذين يقودهم إبليس ويغوونني على الخطأ، ولذلك أضاف فَأَحْفَظَ وَصَايَاكَ.

 

آية (135): “أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ، وَعَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ.”

قال القديس أثناسيوس أن المسيح هو وجه الآب الذي ظهر في العالم ليعلمنا العدل والحق. وتفهم الآية أنه في وسط الضيقات وضباب هذا العالم اظهر يا رب نورك، أي رضاك عليَّ، وأعطني أن أشعر بوجودك وحنانك ورحمتك. وإذا حجب الله وجهه عنا فلم نعد نشعر بسلام أو فرح أو تعزية فهذا راجع لأننا أهملنا وصاياه.

 

آية (136): “جَدَاوِلُ مِيَاهٍ جَرَتْ مِنْ عَيْنَيَّ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا شَرِيعَتَكَ.”

ليس معنى الفرح والتعزية أننا نفرح كما يقول البعض بطريقة مفتعلة لأننا قد خلصنا. ولكن نضع أمام عيوننا هذه الآية، إننا لا بُد أن نبكي على إخوتنا الذين مازالوا يتخبطون في خطاياهم، بل الأولى أيضًا أن نبكي على خطايانا، ومن يفعل يعطيه الله تعزية حقيقية وفرح حقيقي (يو16: 22).

قطعة (ص) غيرة حسنة على كلمة الله

 

الآيات (137، 138): “بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ. عَدْلًا أَمَرْتَ بِشَهَادَاتِكَ، وَحَقًّا إِلَى الْغَايَةِ.”

بَارٌّ أَنْتَ = “عادل أنت (سبعينية). الأشرار دائمًا يعترضون على أحكام الله قائلين لماذا سمح بهذا أو ذاك. ولكن المرنم الذي أحب الله اكتشف أن كل أحكامه هي بعدل وأنه بار. عَدْلًا أَمَرْتَ بِشَهَادَاتِكَ، وَحَقًّا إِلَى الْغَايَةِ = (في السبعينية) تترجم “أوصيت كثيرًا بالعدل والحق اللذين هما شهاداتك”. فهناك من يرفض الوصية بحجة أنها صعبة وغير عملية. والمرنم الغيور يشهد هنا أنها عدل وحق.

ملحوظة :- كلمتي عدل وبر هما كلمة واحدة في العبرانية.

 

آية (139): “أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي، لأَنَّ أَعْدَائِي نَسُوا كَلاَمَكَ.”

أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي = “غيرة بيتك أكلتني” (سبعينية) وهكذا إقتبس العهد الجديد النص من السبعينية (يو17:2). هذه غيرة مقدسة لكلام الله الذي يحتقره الأشرار.

 

آية (140): “كَلِمَتُكَ مُمَحَّصَةٌ جِدًّا، وَعَبْدُكَ أَحَبَّهَا.”

في مقابل احتقار الأشرار لكلمة الله ووصيته نجد المرنم هنا يشهد لكمالها وأنها نقية من كل شائبة. مُمَحَّصَةٌ جِدًّا = كما تصفى الفضة عدة مرات لتنقي من الشوائب.

 ممحص= نقي من كل خداع أو تملق، فالله لا يتملق الإنسان فيعطيه ما يتلذذ به فيموت (هذا ما يفعله إبليس). أما وصايا الله فحتى وإن كانت ضد رغبة الجسد إلا أننا لو التزمنا بها يكون لنا حياة.

 

آية (141): “صَغِيرٌ أَنَا وَحَقِيرٌ، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَنْسَهَا.”

كان داود هو الأصغر في إخوته، وكان إخوته يعاملونه معاملة غير لائقة. وشعور من يُعامل هكذا أو شعور المتألم والمضطهد من الأقوياء، يدفعه غالبا لأن يخطئ متصورا أنه إنما يعوض نفسه عن الظلم الواقع عليه. أما الأتقياء فلا يفعلون هكذا، وكان هذا موقف يوسف مع امرأة فوطيفار. وداود هنا يردد نفس المعنى . والله نظر لقلبه الحافظ للوصية وباركه. وهكذا كل من ينسحق ويتذلل أمام الله ويلتزم بحفظ وصاياه يفرح به الله ويسكن عنده فيتعزَّى بالرغم من ألامه النفسية (إش15:57).

 

الآيات (142-144): “عَدْلُكَ عَدْلٌ إِلَى الدَّهْرِ، وَشَرِيعَتُكَ حَقٌّ. ضِيْقٌ وَشِدَّةٌ أَصَابَانِي، أَمَّا وَصَايَاكَ فَهِيَ لَذَّاتِي. عَادِلَةٌ شَهَادَاتُكَ إِلَى الدَّهْرِ. فَهِّمْنِي فَأَحْيَا.”

شهادات الله صادقة، ومحبته مؤكدة، بالرغم من الشدة والآلام التي يجتاز فيها الأبرار. والبار بالرغم من شدته يحفظ الوصية ولا يترك شريعة الله.

قطعة (ق) صراخ إلى الله

 

الآيات (145، 146): “صَرَخْتُ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. اسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ. فَرَائِضَكَ أَحْفَظُ. دَعَوْتُكَ. خَلِّصْنِي، فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِكَ.”

النفس التي عرفت الله لا تكف عن أن تصرخ إليه من أجل الخلاص . والصراخ لا يعني الصوت المرتفع ولكن من عمق القلب يلجأ الإنسان لله وربما دون أن يتكلم (خر15:14 فموسى لم يتكلم والله يقول له لماذا تصرخ) ودم هابيل صرخ. وواضح أن المرنم يصرخ طالبا المعونة ليستمر في حفظ الوصايا وبالتالي تستمر البركات والتعزيات.

 

الآيات (147-149): “تَقَدَّمْتُ فِي الصُّبْحِ وَصَرَخْتُ. كَلاَمَكَ انْتَظَرْتُ. تَقَدَّمَتْ عَيْنَايَ الْهُزُعَ، لِكَيْ أَلْهَجَ بِأَقْوَالِكَ. صَوْتِيَ اسْتَمِعْ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. يَا رَبُّ، حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي.”

في السبعينية  تقدمت قبل الصبح وصرخت.. سبقت عيناي وقت السحر.. فهو لا يكف عن الصراخ إلى الله في كل وقت حتى في منتصف الليالي، ويسبق طلوع الصبح ليبدأ النهار وهو يصلي ويصرخ لله. كلامك إنتظرت = ثقة في وعود الله.

الْهُزُع = جمع هزيع وهي أقسام الليل. ورمزيًا فالليل يشير لوقت الآلام أما الصبح فيشير لوقت الفرج. وعلى كل الأحوال هو يصرخ لله ولا يسكت.

وفي الترجمة الإنجليزية الحديثة (NKJV) جاءت الآية هكذا “إستيقظت قبل الفجر وصرخت لتعينني. واضعًا رجائي في كلمتك. ظلت عيناي مستيقظة خلال هزع الليل لأتأمل كلامك”. وبوضع كل الترجمات معا نفهم أن المرتل يقصد أنه لا يكف عن الصراخ لله ليلا ونهارا بلا انقطاع وله رجاء في وعود الله. ويشبه هذا قول النشيد “أنا نائمة وقلبي مستيقظ” (5: 2).

 

الآيات (150، 151): “اقْتَرَبَ التَّابِعُونَ الرَّذِيلَةَ. عَنْ شَرِيعَتِكَ بَعُدُوا. قَرِيبٌ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَكُلُّ وَصَايَاكَ حَقٌّ.”

لاحظ أن الأشرار يقتربون إلى الرذيلة، ولكن بقدر ما يقتربوا منها بقدر ما يبتعدوا عن ناموس الله وبالتالي فهم يبتعدون عن الله. أما الأبرار فالله يكون قريب منهم وهم قريبون من الله، والله يعرفهم ويحميهم من مضايقات الأشرار. وكل وصاياك حق = كل من نفذ وصايا الله إختبر أمانة الله الذي يبارك ويحفظ من يحفظ الوصية.

 

آية (152): “مُنْذُ زَمَانٍ عَرَفْتُ مِنْ شَهَادَاتِكَ أَنَّكَ إِلَى الدَّهْرِ أَسَّسْتَهَا.”

السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول” هذا بنفس المعنى تمامًا. فكلام الله لا يتغير ومقاصده لا تتغير، أما الناس فمن طبيعتهم أنهم يتغيرون دائمًا.

قطعة (ر) رثاء على الأشرار فهم لن يخلصوا وبركات للأبرار

 

آية (153): “اُنْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَأَنْقِذْنِي، لأَنِّي لَمْ أَنْسَ شَرِيعَتَكَ.”

الطريق الوحيد لنحصل على مراحم الله هو الانسحاق والتذلل والمسكنة.

 

آية (154): “أَحْسِنْ دَعْوَايَ وَفُكَّنِي. حَسَبَ كَلِمَتِكَ أَحْيِنِي.”

أَحْسِنْ دَعْوَايَ وَفُكَّنِي =  أحكم لي في دعواي ونجني” (سبعينية). هي صلاة للخلاص.

أحسن دعواي = دافع أنت يا رب عني في قضيتي وأفدني. وهذا ما عمله المسيح تمامًا.

 

آية (155): “الْخَلاَصُ بَعِيدٌ عَنِ الأَشْرَارِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَمِسُوا فَرَائِضَكَ.”

الأشرار سوف يسمعون القول المرعب “لست أعرفكم، امضوا عني يا….” (مت23:7).

 

الآيات (156، 157): “كَثِيرَةٌ هِيَ مَرَاحِمُكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي. كَثِيرُونَ مُضْطَهِدِيَّ وَمُضَايِقِيَّ. أَمَّا شَهَادَاتُكَ فَلَمْ أَمِلْ عَنْهَا.”

المرنم قد اختبر مراحم الرب بالرغم من اضطهاد الأشرار له. وكان في شدة ضيقته لا يترك وصايا الله فهو يجد فيها تعزيته وسلامه ويجد فيها قوة تعينه.

 

الآيات (158-160): “رَأَيْتُ الْغَادِرِينَ وَمَقَتُّ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا كَلِمَتَكَ. انْظُرْ أَنِّي أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ. يَا رَبُّ، حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي. رَأْسُ كَلاَمِكَ حَقٌّ، وَإِلَى الدَّهْرِ كُلُّ أَحْكَامِ عَدْلِكَ.”

لقد رأى الأشرار يخطئون فلم يشتهي أن يصنع مثلهم بل هو كره طرقهم فهو يعرف أن الحياة الأبدية وبركة الحياة الزمنية هي في حفظ وصايا الرب. والمرنم يثق في وعود الله لمن يحفظ وصاياه.  رأس كلامك حق“بدء كلامك حق” (سبعينية) أو أن كلامك منذ الأزل هو حق، فأنت يا رب هو أنت لا تتغير أو أن من البدء تعني، منذ أعلنت ذاتك وشرائعك للآباء فهي لم تتغير. “يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8).

قطعة (ش) سلام القلب في حفظ الوصية

 

آية (161): “رُؤَسَاءُ اضْطَهَدُونِي بِلاَ سَبَبٍ، وَمِنْ كَلاَمِكَ جَزِعَ قَلْبِي.”

رؤساء= هناك رؤساء اضطهدوا داود مثل شاول مثلًا. ونحن نواجه باضطهاد إبليس ومن يتبعه. ولكن المرنم لم يجزع من اضطهاد هؤلاء بل من كلام الله. وهكذا نجد الشهداء لم يرهبوا اضطهاد الملوك لأن قلبهم جزع من أن يخالفوا كلام الله.

 

آية (162): “أَبْتَهِجُ أَنَا بِكَلاَمِكَ كَمَنْ وَجَدَ غَنِيمَةً وَافِرَةً.”

هنا نفهم أن المرنم لم يجزع من كلام الله بمعنى الخوف من ضربات الله بل نجده يفرح ويبتهج بكلام الله وأنه يعتبره مثل كنز. وكونه يترك وصايا الله خوفًا من اضطهاد الرؤساء سيجد نفسه وقد خسر هذا الكنز وفقد سلامه وابتهاجه.

 

آية (163): “أَبْغَضْتُ الْكَذِبَ وَكَرِهْتُهُ، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَأَحْبَبْتُهَا.”

نرى هنا أنه يحب شريعة الله لأنه إختبرها ونفذها ، ويبغض أكاذيب إبليس وخداعاته.

 

آية (164): “سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي النَّهَارِ سَبَّحْتُكَ عَلَى أَحْكَامِ عَدْلِكَ.”

سبع مرات= 7 رقم كامل بمعنى أن كلام الله وتسبحته لا تفارق فمه كل النهار وتصير هذه الآية مثل “صلوا بلا انقطاع” (1تي17:5). ولكن الكنيسة رتبت على أساس هذه الآية 7 صلوات فعلًا كل يوم هي صلوات الأجبية.

 

آية (165): “سَلاَمَةٌ جَزِيلَةٌ لِمُحِبِّي شَرِيعَتِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَعْثَرَةٌ.”

المرنم اختبر أن في حفظه وصايا الله وفي تأمله في كلام الله يكون له سلام يملأ قلبه. وَلَيْسَ لَهُمْ مَعْثَرَةٌ =” ليس لهم شك” (سبعينية). فالشك في وعود الله هو معثرة. فمن يشك في وعود الله وبركات الطاعة، فيعاند ولا يطيع لن يجد بركة في حياته . ولكن من يطيع في إيمان يزداد سلامه.

 

الآيات (166-168): “رَجَوْتُ خَلاَصَكَ يَا رَبُّ، وَوَصَايَاكَ عَمِلْتُ. حَفِظَتْ نَفْسِي شَهَادَاتِكَ، وَأُحِبُّهَا جِدًّا. حَفِظْتُ وَصَايَاكَ وَشَهَادَاتِكَ، لأَنَّ كُلَّ طُرُقِي أَمَامَكَ.”

حينما اختبر المرنم أن حفظ الوصية يعطيه سلامًا لذيذًا في قلبه وأن طريق العثرات والخطايا يبعد عنه سلامه، قرر أن لا يحيد عن وصايا الله. بل هو ينتظر خلاصه النهائي، أي أن يترك كل عثرة فيكون سلامه وفرحه بلا حدود، وهذا لن يحدث إلا في السماء بعد أن نحصل على الجسد الممجد.

قطعة (ت) التوسل لنوال الخلاص

 

الآيات (169، 170): “لِيَبْلُغْ صُرَاخِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ كَلاَمِكَ فَهِّمْنِي. لِتَدْخُلْ طِلْبَتِي إِلَى حَضْرَتِكَ. كَكَلِمَتِكَ نَجِّنِي.”

هناك قصة تشرح المقصود، وهي لامرأة أصيبت بمرض خطير جدًا فالتجأت إلى الله في صلوات طويلة. وذات يوم قالت لأب اعترافها “يا أبي سوف أموت يوم كذا.. فقال لها كيف علمت بهذا فأجابت السماء أخبرتني أنني سوف أرتاح في هذا اليوم. فقال لها ربما يعني هذا شفاءكِ.. أجابت أنا لست خائفة من الموت، فإن كنت هنا أفرح بهذا المقدار فكم وكم سيكون الفرح في الأبدية، معنى الراحة يا أبي أنني سأذهب للسماء، لذلك لست في خوف من الموت، بل أنا أشتهيه. وهذا لسان حال بولس الرسول (رو24:7 + في23:1). وهذا ما يعبر عنه المرنم هنا، أنه يشتاق لهذا الخلاص النهائي في السماء حيث لا يعود الجسد يتعبه بشهواته وعثراته، فيكون سلامه بلا حدود. وهو يصرخ لينال هذا.

 

الآيات (171، 172): “تُنَبِّعُ شَفَتَايَ تَسْبِيحًا إِذَا عَلَّمْتَنِي فَرَائِضَكَ. يُغَنِّي لِسَانِي بِأَقْوَالِكَ، لأَنَّ كُلَّ وَصَايَاكَ عَدْلٌ.”

تنبع= تفيض. هنا نرى أنه كلما التزم الإنسان بوصايا الله كلما امتلأ القلب سلام، وعلامة هذا أن تفيض الشفاه بالتسبحة علامة الفرح والشكر. لذلك يصلي المرنم لله حتى يعلمه الوصايا فيفرح ويسبح، وهكذا ينبغي أن نقضي حياتنا بالجسد الآن، نصرخ لله ليعيننا على حفظ الوصية، وعلى أن نسبحه كل اليوم وكل العمر في انتظار يوم الخلاص الأبدي.

 

الآيات (173، 174): “لِتَكُنْ يَدُكَ لِمَعُونَتِي، لأَنَّنِي اخْتَرْتُ وَصَايَاكَ. اشْتَقْتُ إِلَى خَلاَصِكَ يَا رَبُّ، وَشَرِيعَتُكَ هِيَ لَذَّتِي.”

طلب المعونة الإلهية، وهكذا ينبغي أن لا نكف عن الطلب حتى آخر لحظة من عمرنا ليعيننا الله على أن نحفظ الوصايا. ونرى شهوة المرنم للخلاص الأبدي.

 

الآيات (175، 176): “لِتَحْيَ نَفْسِي وَتُسَبِّحَكَ، وَأَحْكَامُكَ لِتُعِنِّي. ضَلَلْتُ، كَشَاةٍ ضَالَّةٍ. اطْلُبْ عَبْدَكَ، لأَنِّي لَمْ أَنْسَ وَصَايَاكَ.”

كل منا هو الخروف الضال، والمسيح هو الراعي الصالح الذي أتى ليفتش على الخروف الضال ويعينه حتى يعود للحظيرة ثانية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى