كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
التقليد الرسولي حسب الفكر الإسكندري
من المواطن الأولى التي احتضنت المسيحية أو بالحري التي احتضنتها المسيحية هي مصر، التي تقبلت المسيحية منذ فجر العصر الرسولي ببشارة مرقس الرسول ، وفي سفر الأعمال ذكر لأبللوس المسيحي الإسكندري المنافس لبولس الرسول سنة 52 م. و يوسابيوس القيصري يذكر في تاريخه الكنسي النساك المسيحيين الأوائل أيام مرقس الرسول الذين عاشوا غرب الإسكندرية حول بحيرة مريوط ، وإن كان يحاول بعض المؤرخين أن يرجع هذه الجماعة إلى الثيرابيوتا اليهودية إلا أنه مما لا شك فيه أن جماعة الثيرابيوتا كانت من أوائل الذين تقبلوا المسيحية عند انبثاقها فكانوا نقطة الوصل بين الطقوس اليهودية والعبادة المسيحية وهذا يفسر تأصل الطقوس الهيكلية في مصر منذ القرن الأول.
ومن الأمور المحققة تاريخياً أن كتاب قوانين الرسل المعتبر من أقدم الوثائق المسيحية المعروفة قد صنفه هؤلاء المسيحيون النساك ـ الذين انحدروا من أصل يهودي ـــ على أساس التقليد الرسولي الذي تُسلّم لهم بواسطة من بشرهم بالمسيحية.
وعلى وجه العموم فالمسيحية التي انبثقت في وادي النيل كانت ذات صبغة روحية نسكية عالية، فاكليمندس الإسكندري (150-215م . ) الذي يمثل فجر اللاهوت الإسكندري والمعتبر أول تلميذ لبنتينوس مؤسس مدرسة الإسكندرية والذي خلف أستاذه سنة 190 م كان ذا إتجاه نسكي واضح في تفكيره وسلوكه ولاهوته. والكتابان الثالث والسابع من مؤلفه المشهور «متفرقات Miscellanius » يعتبران وثائق ذات أهمية كبيرة في التعرف على الصبغة النسكية للاهوت التقليدي الإسكندري منذ فجر نشأته ، وفيها ينادي بضرورة التبتل للإكليروس عامة ، وهذا الإتجاه النسكي انتشر في الكنيسة بعد ذلك وصار إحدى مميزات القرن الرابع وتبناه بابا روما سيريسيوس 384 -399 م وتحمس له أمبروسيوس في ميلان.
ولكن الإتجاه النسكي في اللاهوت الإسكندري كما مارسه اكليمندس لم يقتصر على الإكليروس بل تعداه إلى الشعب والعامة ليس في أمور التبتل فقط بل وفي الأكل والشرب والتحرر من الألم والخوف من الموت. ومن الوثائق الناطقة بهذه الحقيقة وثيقة جالينوس الطبيب المصري المشهور المعتبرة أنها صادقة وغير متحيزة بسبب صدورها من شخص غير مسيحي.
يقول جالينوس : [ إن احتقارهم للموت يسجل أمامنا كل يوم و بالمثل كبحهم لشهوة التعايش المزدوج ( الزواج ) ليس بالنسبة للرجال فقط بل وللنساء أيضاً، فإنهم هم الذين يفرضون على أنفسهم عدم المعيشة المزدوجة كل أيام حياتهم، وهم يعتبرون أن الأشخاص الذين يضبطون أنفسهم ويهذبون طبائعهم في أمور الأكل والشرب وتدقيقهم في اتباع البر إنهم قد نالوا درجة ليست أقل من أعظم الفلاسفة]، كل هذا في القرن الثاني للمسيحية في مصر.
والكتاب السابع في المنوعات لاكليمندس يضع المنهج التأملي النسكي في اللاهوت على أساس الإنتقال من الإيمان إلى المعرفة عن طريق النسك وقمع الشهوات وأعمال المحبة التي تنتهي بالإتحاد بالله.
وقد خلف اكليمندس في مدرسة الإسكندرية وبالتالي في كافة التعليم الكنسي والميدان اللاهوتى النسكي، أوريجانس ومعروف أن أوريجانس أثر بنسكياته وحياته وتصوفه في المنهج الرهباني عن طريق أوغريس والإخوة الطوال. وهكذا تسحب الإتجاه النسكي التأملي على الجو الرهباني ثم على الكنيسة كلها. ومن مصر عبر غرباً إلى فرنسا وإيطاليا على يدي كاسيان ثم دير الليرين و بندكت. وعبر شرقاً على يدي يوسابيوس القيصري ثم باسيليوس الكبير.
ولكن ما يهمنا من هذا الإتجاه المبكر في فهم الإيمان المسيحي على أساس نسكي هو الصبغة الفكرية التي انصبغ بها اللاهوت الإسكندري في شرحه وتفسيره لقانون الإيمان وبالأخص في النزاع الأريوسي ثم النزاع النسطوري . فالتقليد الرسولي وجد في البيئة الإسكندرية موطناً خصباً لفهم الإيمان على أساس عملي وليس على أساس فكري مجرد أو أساس تأملي نظري … هذا هو تسليم الرسل: «أما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء . » (1تی 1: 5)
فاللاهوت في الفكر الإسكندري الذي ورثه أثناسيوس الرسولي وكيرلس الكبير وبقية اللاهوتيين كان نابعاً من صميم الحياة المسيحية، وإدراكهم للمسيح لم يكن عن طريق محاجاة الفكر أو الجدل العقلي الفلسفي بل من العشرة الصادقة معه والإتحاد القلبي بالإيمان .
وغـيـرة أثناسيوس الملتهبة من نحو الأرثوذكسية التي أورثته لقبه المشهور «أبو الأرثوذكسية» لم تكن غيرة عقلية جدلية للظهور والمجد الباطل بل غيرة من أجل حقيقة الخلاص الذي أكمله المسيح بالدم الإلهي ومن أجل الفداء العام الذي كان على وشك أن تنطمس معالمه بسبب زعزعة الإيمان بالتجسد الإلهي، ولولا أن أثناسيوس كان يعيش هذا الخلاص و يعيش هذا الفداء و يعيش هذا التجسد في أوج حقيقته ونوره ما استطاع أن يقف مواقفه التاريخية المشهورة ضد أساقفة العالم كله حتى أخضع عتو وتعظم العقل الشرقي والغربي معاً لفكر المسيح !… كما وقف إيليا في القديم وحده ضد كل أنبياء البعل !!
فالألفاظ التي كان يتلاعب بها الأساقفة الأريوسيون والأبولينار يون والنسطوريون والأوطاخيون من جوهر «أوسيا» وطبيعة «فيزيس» وأقنوم «هـيـبـوسـتـاسـس» ووجه (مظهر) «بروسوبون» ليصيغوا بها تعبيراً يوافق إيمانهم العقلي بالمسيح وتصورهم العاجز للتجسد، كانت هذه الألفاظ والإصطلاحات عينها عند أثناسيوس وكيرلس مستمدة من شخص المسيح نفسه الذي يحبونه ويحسونه و يعيشون معه ومستمدة من حقيقة الخلاص الذي قبلوه بالتجسد والفداء الذي نالوه بالدم . فكانوا يصيغون من هذه الإصطلاحات عبارات حية وإيماناً نارياً ملتهباً[1]. فجاء إيمانهم استجابة حية للحقيقة الإلهية !! إن ألوهية المسيح ومساواته لله الآب في الجوهر « الأموسيوس» كانت عند أثناسيوس هي مركز الخلاص والفداء والتجسد والإيمان المسيحي كله . لذلك استمات في الدفاع عنها لأنها كانت تساوي حياته وموته.
إن الإتحاد المطلق بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية الحصول التجسد كانت عند كيرلس تحوي سر اللاهوت وسر التدبير الإلهي لأن بالإتحاد تم التجسد بصورة فائقة عبر عنها كيرلس الكبير نفس التعبير التقليدي الذي تسلمه من أثناسيوس الرسولي : «طبيعة واحدة الله الكلمة المتجسد» ، واستمات في التمسك بهذا القول لأنه أبسط تعبير يعبر عن بساطة المسيح ووحدته المتكاملة والمنسجمة في معاملاته معنا، لأن فيه ليس معنى الإتحاد فقط بل سر التدبير الإلهي الفائق للعقل الذي يحوي كل قوة المسيح في جعل الإثنين واحداً ، وهذا التعبير هو المطابق اللاهوتى لقول يوحنا الرسول : « والكلمة صار جسداً » ( يو 1: 13)، فبإتحاد الطبيعتين تم سر التجسد، لذلك من بعد التجسد لا يقال طبيعتان وإلا تخلخل السر بل «طبيعة واحدة الله الكلمة المتجسد». فالتجسد نتيجة للإتحاد. وبالتجسد استعلن سر الثالوث ! !
أما أن يقال عنا – نحن الذين تمسكنا بتقليد أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس أيضاً الذي تمسك بهذا التقليد نفسه بكل إصرار وعزم في مجمع خلقيدونية ـ أننا أصحاب الطبيعة الواحدة فهذا افتراء لأن كيرلس الكبير لم يقل أن المسيح طبيعة واحدة وسكت بل قال: «طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد»، و«طبيعة واحدة من طبيعتين »، و«كان الإتحاد من طبيعتين»، «على أن الإتحاد لا يلغي اختلاف الطبائع.»
وفي خطابه ذي الإثني عشر فصلاً المشهور بالخطاب الثاني لنسطور يوضح كيرلس الكبير الصلة العملية الواقعة بين مناداته بالإتحاد الكامل الذي تم بين الطبيعتين في سر التجسد و بين إيمانه بالإفخارستيا : [ الذبيحة غير الدموية التي تتم في الإفخارستيا التي بها نتقرب إلى المواهب السرائرية التي للنعمة فنتقدس ونصير شركاء في الجسد المقدس والدم الكريم للمسيح. مخلصنا جميعاً، ليس أننا نتقبله على أنه مجرد جسد عادي لإنسان ارتبط بالكلمة» فتقدس بوحدة الكرامة أو لإنسان تقبل سكنى اللاهوت فيه وإنما جسد حقيقي محيي لله الكلمة الذي لما صار واحداً بجسده جعل جسده محيياً.]
- أثناء احتدام النزاع بين كيرلس ونسطور أسقف القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الذي فيه قلب كيرلس على نسطور الرأي العام حتى في القسطنطينية نفسها، كان الإمبراطور ثاؤذوسيوس الثاني في كل هذا غاضاً الطرف ، لأنه كان مشايعاً لنسطور، فأرسل كيرلس الكبير خطاباً مطولاً للإمبراطور تسبب في هياج القصر الإمبراطوري كله وانقلاب الرأي داخل القصر على الإمبراطور نفسه، فكتب الإمبراطور خطاباً شديد اللهجة لكيرلس الكبير يقول له فيه: « ألا يكفيك أنك قلبت الكنيسة كلها على نسطور حتى تقلب علي القصر !!! » وقد تراجع الإمبراطور بعد ذلك عن تشايعه لنسطور مرغماً. 221 .Mansi IV p. 1109 cited by R.V. Sellers; Two. Anc, Christol. p.
الدخول في عمق التقليد الرسولي | كتب القمص متى المسكين | ||
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |