سمو الإنسان عن خلقته

كثيراً ما يدعونا آباء الكنيسة الأولون أن نقف معهم في دهشة أمام حقيقة الإنسان ككائنٍ هو أعجوبة الأعَاجيب إن صح القول. نقف بفرحٍ وتهليلٍ، مع الاعتزاز لا بما نقتنيه فحسب، وإنما ما وهبنا الله بكوننا بشر، ويبقى يهبنا حتى يدخل بنا إلى الأمجاد السماوية. فأحد العوامل الرئيسية لتمتع المؤمن الحقيقي بشخصية سوية، إدراكه مدى سموه عند خلقته وبعد استرداد ما فقده.

1 – ماذا قدم الله لآدم عند خلقته؟

أ. قال الثالوث القدوس: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك1: 26)، ليتذوق الشركة معه.

ب. أقامة ملكاً له سلطان على سمك البحر وطير السماء وعلى كل الأرض (تك1: 26).

ت. جبل الله آدم من تراب الأرض (تك2: 7)، لكي يعيش متواضعاً مع اعتزازه بكونه إنساناً.

ث. غرس الرب الإله لآدم جنّة في عدن شرقاً (2: 8)، فيشعر أنه في قصرٍ ملوكىٍ.

ج. قدم له وصية سهلة للغاية لكي يتجاوب مع محبة الله بالطاعة له.

ح. خلق له حواء معينة نظيره، تشاركه التمتع بالحضور الإلهي (تك2: 22).

خ. بارك الرب اليوم السابع وقدّسه حتى يقدِّس الإنسان يوماً للعبادة (تك2: 3) فتتبارك كل أيام حياته.

د. الإنسان خليقة الله المحبوبة لديه جداً.

ه. أوجد له شجرة الحياة فى جنة عدن. يرى مار أفرآم القديسين في هذه الحياة يمثلون الحياة في الفردوس. إذ يقول: [مجمع القديسين يحمل شبهاً للفردوس، فيه يقطفون من ثمرة ذاك الواهب الحياة للجميع (أى السيد المسيح) [164].] كما يقول: [ليس بين القديسين من هو عارٍ، لأنهم يرتدون المجد، وليسوا متغطين بأوراق الشجر، ولا هم واقفون في عارٍ، إذ يجدون الثوب الذي كان لآدم وحواء، خلال ربنا[165].] يؤكد القديس أفرآم كما أن آدم كان كاملاً في كل شيءٍ وهو في جنة عدن قبل السقوط هكذا الفردوس الآخروي لا يمكن أن يدخله إلاَّ من تمتع بنفسٍ طاهرة وجسد مُقام من الأموات[166].

2 – هل كان الفردوس الذي قدمه الله لأدم مادياً أم روحياً؟

كان الفردوس بالنسبة للجسد ماديّاً ومسكناً منظوراً ومباركاً، أما بالنسبة للنفس فكان تمتعاً بنعمة الله وتأملاً روحياً فى المخلوقات[167].

3 – ما هي شجرة الحياة التي كان يليق بآدم في الفردوس أن يأكل من ثمرها؟

كانت شجرة، إذ يتمتع بها آدم يشبع جسده ويتبارك خلال الطاعة لله، فلا يُصاب بأمراض ولا يتسلط عليه الموت. يرى القديس مار أفرآم السرياني أنه كان في جنة عدن شجرتان في وضعين مختلفين في جنة عدن، واحدة تمثل قدس الأقداس والثانية تمثل القدس. شجرة معرفة الخير والشر هي البوابة التي تقود إلى شجرة الحياة[168] (تك2: 17؛ 3: 22).

4 – لماذا خلق الله حواء لآدم؟

أولاً: لكي تشعر أنها ليست غريبة عنه، بل هي من عظامه.

ثانياً: يشعر كل من آدم وحواء أن كل طرف محتاج للطرف الآخر.

ثالثاً: كي يختبر كل منهما المحبة للطرف الآخر.

5 – لماذا خلق الله حواء من ضلع آدم؟

أولاً: لكي يتعرفا على الله خالقهما والمحب لهما.

ثانياً: “كي يشعر كل منهما أنه مدعو للشركة مع السمائيين، لأن النفس هي روح لا جسد، كما يشعران أن الأرض ليست غريبة عنهما لأن جسديهما من تراب الأرض.

ثالثاً: ليمجدا الله فتتهلل نفسيهما.

6 – ما هي صورة الرب التي وُهبت لآدم؟

يقول القديس باسيليوس الكبير: [انتبهوا لأنفسكم، ليس لما هو لكم ولا لما يحيط بكم، وإنما لأنفسكم بالذات، لأنه يوجد فارق بين هذه الأمور. فالنفس هي ذاتنا، هي نحن وهي صورة الله فينا. وما لنا فهو جسدنا وحواسنا المتعلقة بالنفس، وأما ما يحيطنا فهو الغنى ومختلف طيِّبات الحياة[169].] ويقول القديس إكليمنضس السكندري: [بالحقيقة الإنسان عزيز في عينيّ الله، لأنه صنعة يديه؛ فقد أوجد الله الأعمال الأخرى في الخلق بكلمة أمر (أمرَ فكانت)، أما الإنسان فخلقه بنفسه، بيديه، ونفخ فيه من عنده. ما قد شكَّله الله وأوجده على مثاله، خلقه بنفسه لاشتياقه إليه[170].] يقول الرسول بولس: “تلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرّ وقداسة الحق” (أف4: 24).

يعاني الإنسان من الفراغٍ مادام يحمل هذه الصورة التي لا تعرف الاستكانة، بل تتحرك دوماً في تقدمٍ لا ينقطع، لكي تنال من فيض الأصل، فتزداد الصورة بهاءً وجمالاً. يؤكد الكتاب: “هذا كتاب مواليد آدم، يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله، ذكراً وأنثى خلقه وباركه” (تك5: 1 – 2). ربما يشير هنا إلى نوع من التبني، وقد أوضح لوقا البشير ذلك في عرضه لنسب السيد المسيح، قائلاً: “ابن آدم، ابن الله” (لو3: 38).

ويقول العلامة أوريجينوس: [لاحظ كيف يوجد في خلق الإنسان أمر سامي جداً لا نجده في خلق آخر، فخلق الله الإنسان على صورته ومثاله، الأمر الذي لا نجده في خلق السماء أو الأرض أو الشمس أو القمر.] وأيضاً [الذي صُنع على صورة الله هو إنساننا الداخلي غير المنظور، غير الجسدي، غير المائت ولا الفاني. بهذه السمات الحقيقية تتصف صورة الله وبها تُعرف[171].].

ويقول القديس اسحق السرياني: [الإنسان الذي يتأهل لرؤية نفسه أعظم ممن يُظن أنه أهل لرؤية الملائكة… ومن يُحسب أهلاً لرؤية خطيته، أعظم ممن يقيم الأموات بصلواته[172].].

كثيراً ما يستخدم القديس مار يعقوب السروجي تعبير “إن آدم صورة الله النبيلة”، ليعبر بها عن الطبيعة البشرية قبل السقوط. يقول[173] إن الله أعطى النفس جمالاً لتكون أسمى من المخلوقات. وهبها الحرية والعقل والحكمة والفكر والحواس المملوءة تمييزاً. فمن كلماته:

[لقد صوَّر جميع الكائنات في أشكالها، ولم يرسم له صورة إلاَّ على آدم. الأرض واسعة، والسماء عالية، والشمس بهية، والقمر جميل، ومسيرة العساكر مجيدة. عندما صنع كل هذا الجمال، لم يُسمع أن الرب صنع شيئاً على صورته، ما عدا آدم، صورة (الابن) الوحيد، ولأجله سُميَ صورة الله[174].].

[ترك الله رؤساء الملائكة ليرسم صورته وشبهه في النفس البشرية. لقد زينها بجمالٍ فاقت به جميع المخلوقات[175].] [صورته جعلتهم يقتنون الدالة، لكي يتضرعوا إليه بلا خجل بواسطة (صورته) الخاصة[176].] [يا ابن الله أنظر إلى النفس، فتمتلئ من جمالك. لا تبتعد يارب، لأنك إن ابتعدت عنها هلكت[177].].

[لا الفردوس ولا لثماره الروحية صار صورة للكائن العظيم يوم خلقه.

لم يصور صورته على مركبة السمائيين، ولا على الأجنحة، ولا على العجلات الناطقة.

شبهه ليس مصوراً على الكاروبيم ولا على السيرافيم ولا في الجموع ولا في صفوف اللهيب.

لم يشأ أن يُصَور على لهيب آل جبرائيل، ولا على روح آل ميخائيل المملوء عجباً.

ترك في الأعالي كل الأركان العالية، وجعل له نفس الإنسان شبهاً وصوّر عليها صورته[178].].

7 – ما هو دور النفس في حياة الإنسان؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [اعرف أن لك نفس سيدة ذاتها، هي أسمى أعمال الله، خُلقت على صورة خالقها. خالدة، إذ وهبها الله الخلود. إنها كائن حيّ عاقل غير فاسدٍ، إذ وهبها الله هذه النعم. لها سلطان أن تفعل في حرية ما تشاء[179]، فأنت لا تخطئ حسب (تاريخ) ميلادك، أو ترتكب الزنا بمحض الصدفة، ولا تُجبَر على ارتكاب الفجور حسب سير النجوم[180] كما ينطق البعض بكلمات فارغة[181].].

8 – لماذا وهب الله الإنسان حرية إرادة النفس؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [تتمتع النفس بحرية الإرادة. ومع أن الشيطان يقدر أن يقترح عليها، لكن ليس له سلطان يلزمها بشيء بغير إرادتها. إنه يصور لك فكر الزنا، فإن أردت قبلته، وإن لم ترد تحتقره. لأنك لو كنت زانياً قهراً لما أعد الله جهنم؟! وإن كنت صانع برّ بالطبيعة وليس بإرادتك لما أعد الله أكاليل مجد لا يُنطق بها؟! فالغنم وديع، لكنه لا يكلل على وداعته، لأنها ليست باختياره بل بحكم الطبيعة[182].].

9 – كيف نسترد صورة الله فينا؟

يليق بنا أن نتطلع إلى عطية الله لنا، أي صورته، كوزنة ثمينة يلزمنا ألا نستهين بها. أما وقد أفسدنا هذه العطية، لم يتركنا الذي أحبنا في فقداننا لها، فنزل إلينا وحقق الخلاص بتقديم ذاته ذبيحة عنا، ورد لنا الصورة. يليق بنا ألا نتهاون بعد بهذه الصورة الثمينة. هذا ما أكده السيد المسيح بقوله: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله” (مت22: 21؛ مر12: 17؛ لو20: 25). يقدّم لنا العلاّمة أوريجينوس تفسيراً رمزياً لكلمات السيِدَ هذه، إذ يقول: [يحمل الإنسان صورتين؛ الأولى استلمها من الله عند الخلقة… والأخرى صورة الإنسان الترابي (1كو15: 49) التي أخذها بسبب عصيانه وخطيَّته عند طرده من الفردوس وقد أغراه “رئيس هذا العالم” (يو12: 31). كما أن العُملة أوالفلس بها صورة لسلطان هذا العالم، هكذا من يتمّم أعمال رئيس الظلمة (أف6: 12) يحمل صورته. لذلك يأمر يسوع بإرجاع هذه الصورة ونزعها عنّا حتى نتقبّل الأصل الذي عليه خُلقنا مشابهيَن لله. بهذا نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله… بنفس المعنى يقول بولس: “كما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضاً صورة السماوي” (1كو15: 49). فالقول “أعطوا ما لقيصر لقيصر” إنما يعني: اتركوا صورة الترابي، القوا عنكم الصورة الأرضيّة لتنعموا بصورة الإنسان السماوي، عندئذ تعطون ما لله لله[183].].

يقول مار يعقوب السروجي: [كل واحدٍ منا نفسه هي وزنته، تحمل فيها صورة اللاهوت العظمى.

لا تطمرها في أهواء الشهوات السمجة، فتفسد الصورة العظمى الموجودة على النفس.

ذاك الديان يطالب بصورته منك، فأخرج وأعطه، لئلا تُشوه صورته من قبلك.

لو لم تكسب ربحاً مثل الوكيل (لو16: 2)، فأعِد إليه الشيء الذي أعطاك ولا توسخه.

كما أن صورة الملك مطبوعة جيداً على الدينار، النفس مطبوعة بصورة اللاهوت العظمى.

ولو فسدت الصورة البهية الموجودة على النفس، ستُرذل من قبل الله ولن تُقبل.

الرب الذي صوّر فينا صورته العظمى، ليدافع حنانه العظيم عنا في اليوم الأخير، وينجِّنا[184].].

10 – كيف تتقدس عطية العقل والتمييز؟

إذ نحمل صورة الله ندرك أن الله وهبنا العقل البشري، وقدم له عطية التمييز، لنطلب معرفة الله، حتى في عبادتنا له. كما يقول العلامة أوريجينوس: [كما أن العين بطبيعتها تطلب النور والبصر، والجسد برغباته الطبيعية يطلب الطعام والشراب، هكذا العقل له رغبته الطبيعية أن يعرف حق الله، ويبحث في علل الأشياء؛ هذه الرغبة التي هي من عند الله[185].] ويقول مار يعقوب السروجي: [من يأتي إلى الكنيسة، لا يأتي بدون تمييز مثل الحيوانات التي لا فهم لها. لا يزور أحد عيادة الطبيب كنوعٍ من العادة، ما لم يجبره المرض لزيارته طلباً للشفاء[186].].

في إبداع يحدثنا القديس مار يعقوب السروجي عن سمو العقل في حياة الإنسان، فيشبهه وهو في رأس الإنسان أي في العلو بالله الساكن في الأعالي، أي في السماوات. إذ يقول: [أتقن (الله) المخ بيتاً للعقل، ليجلس هناك في الطابق العلوي مثل الله[187].] كما يحذرنا من التهاون في تقديسه، والانحراف نحو اتباع الشهوات الجسدية التي تظلم العقل، وتنحط بالنفس لتصير في عبودية للجسد، حتى تبدو كأنها جسدية. [يظلم العقل بالشهوات لئلاَّ يفهم… فمن أكثر من طعامه، أنزل نفسه لتصير جسداً[188].].

11 – ماذا يطلب الأصل من الصورة؟

يطلب حق الحوار بين الصورة والأصل، والحديث مع الله بدالةٍ والدخول معه في عهدٍ. يقول مار يعقوب السروجي: [رسم (الله) عليه صورته، وجعل عليه شبهه، وربط محبته بصورته، وقوَّى جبلته برحمته، وأقام عهداً مع شبهه، وجعل هذا سيداً للخليقة. ومدَّ له طريقاً إليه منذ ذلك الحين، وجعله أليفاً بحيث كلما تكلم معه، يتكلم مع صورته، وكلما ظهر له يكون قد ظهر على شبهه، ولأجل هذا السبب يتكلم مع جنسنا بلغتنا[189].].

12 – من يقدر أن يصف ثمن النفس الحاملة صورة الخالق؟

خالق الإنسان الذي وهبنا أن نحمل صورته، هو وحده يستطيع أن يُقيِّم النفس. لذلك عندما سقطت النفس في الفساد قدَّم خالقها حياته مبذولة ليهبها عدم الفساد. إنه يدعونا أن نتخلى عن كل شيءٍ من أجلها. يؤكد السيد المسيح لنا تقديره لها بقوله: “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟” (مر8: 36) أراد منا أن نهتم بأنفسنا لا بما لنا. يقول القديس ماريعقوب السروجي: [وضع الخالق كل العالم في كفّ واحد، والنفس في كفٍ واحدٍ، فكف النفس أرجح من كف المخلوقات.

هو يعرف كيف أن اللؤلؤة هي أفضل، ولا أحد يقدر أن يصف أثمانها سواه (مت13: 46).

وضعها إزاء كل العالم، ووضع لها الأثمان، لأنها أفضل من كل العالم ولا يشبهها…

العالم سيسقط والنفس لن تنحل معه، العالم عشب والنفس هي صورة اللاهوت.

كل العالم يزول كظل المغيب، والنفس لا تزول لأنها صورة الكائن العظيم.

إن اقتنى الإنسان العالم كله وخسر نفسه، ماذا يملك لو صارت نفسه ليست ملكه؟ [190].].

[أعطاها ابن الله صورته عندما خلقها، ولبس صورتها من البطن عندما خلصها.

يقول لنا: ما هو ثمنها، وكم هي حسنة، لا يعرف أحد ما هي النفس سواه.

كان يقول عندما كان يُعلم في الجماعات: كيف أن نفس الإنسان أفضل من المقتنيات (مت13: 46)! [191].].

13 – هل صورة الله قابلة للنمو أو التقلص؟

لم يخلق الله الإنسان كائناً جامداً إستاتيكياً لا حركة فيه، وإنما أقامه يحمل حركة ديناميكية دائمة، ليغرف من انعكاسات بهاء الله عليه. فحينما قالت القديسة مريم: “تُعظم نفسي الرب” (لو1: 46)، لا تعني أنها تضيف إلى الله عظمة جديدة، إنما تأخذ من عظمة الله، فتسمو نفسها، وتنطلق من مجدٍ إلى مجدٍ، ففي تعظيمها لله، تتمتع هي بالسمو. هذا ما نسأله من الله كلم صلينا الصلاة الربانية فعندما نقول: “ليتقدس اسمك”، فإن اسم الله القدوس لا يحتاج إلى تقديس، إنما يتمتع المُصلي بقداسة اسم الله، فتتجلَّى قداسته في حياة المتعبِّد لله. يعلق العلامة أوريجينوس على كلمات القديسة مريم، قائلاً إن الله غير متغير، لكن صورته فينا تتعاظم أو تتناقص. [كما أن صورة الله تتعظم وتتألق بأعمالي وأفكاري وكلماتي، وبهذا يتمجد الله، هكذا عندما نخطئ تصغر صورته فينا وتبهت.].

14 – ما هو القصر الملكي الذي أعده الله لآدم وحواء؟

يرى القديس غريغوريوس النيسي أن الله خلق العالم بكل إبداعه كقصرٍ عظيمٍ أعده لآدم وحواء كملكٍ وملكةٍ. وأنه قدم للإنسان كل إمكانية السعادة والسلطة على الخليقة التي أوجدها من أجله.

في مقاله “مقارنة بين الملك والراهب[192] Comparatio regis et monachi” يكشف القديس يوحنا الذهبي الفم عن منهجه المسيحي ألا وهو إدراك المؤمن، راهباً كان أو كاهناً أو من الشعب أنه يتطلع إلى نعمة الله العاملة فيه، فتجعله ملكاً صاحب سلطان أعظم وأقوى من ملوك كثيرين.

يحكم الملك شعوباً وجيوشاً. أما الراهب (أو المؤمن الحقيقي)، فيسيطر على الغضب والحسد والطمع والشهوات الدنيئة وكل جمهرة الأهواء. من يحكم البشر بينما يحكمه الغضب والطمع والشهوات الدنيئة، نادراً ما يستطيع أن يكون حاكماً صالحاً.

يحارب الراهب (أو المؤمن) الشياطين ويغلبهم بالعون الإلهي، ويتوَّج بواسطة المسيح. بينما يحارب الملك البرابرة فقط، ليكسب أراضٍ وكنوزٍ أو لإشباع مطامعه أو عطشه نحو السلطة.

عندما يأتي وقت الوفاة، فالموت مخيف للملك، أما الراهب (أو المؤمن) فلا يقلق منه نهائياً. إن عانى أحدهما موتاً عنيفاً، يموت الراهب كشهيدٍ ويذهب إلى السماء، وأما الملك فبالحقيقة يستسلم لسيف منافسه. بعد الموت يدخل الراهب الصالح إلى مجد الرب وبهائه، أما الملك، إن كان صالحاً ينال كرامة أقل درجة وبركة.

15 – ملكان أم عروسان في جنة عدن؟

جاءت قصة خلق حواء تحمل رمزاً لقيام الكنيسة عروس المسيح كلمة الله المتجسد، التي من اجلها أخلى ذاته ليلتصق بها، وينطلق بها إلى سماواته. يعلق القديس أغسطينوس على قول الرسول: “هذا السرّ عظيم، ولكنني أقول من نحو المسيح والكنيسة” (أف6: 32). [نحن معه في السماء بالرجاء، وهو معنا على الأرض بالحب[193].].

كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ أقام المسيح معنا عقداً عيْن لي مهراً، لا من المال بل بالدم، هذا المهر هو عربون الأمور الصالحة: “ما لم ترّ عين، ولم تسمع إذن، ولم يخطر على بال إنسان” (1كو2: 19). عين لي الأمور التالية مهراً: الخلود، وتسبيح الملائكة، والخلاص من الموت، والتحرر من الخطية، وميراث الملكوت العظيم، والبرّ، والتقديس، والخلاص من الشرور الحاضرة واكتشاف البركات المقبلة. عظيم هو مهري… جاء وأخذني، وعين لي المهر، قائلاً لي: أعطيك غناي. هل فقدت الفردوس؟ أرده لك… مع ذلك فهو لم يعطني المهر كله هنا، لماذا؟ يقول: لكي أعطيه لك عندما تدخل الموضع الملوكي. هل أنت أتيت إليَّ؟ لا، بل أنا الذي جئت إليك… لا لكي تمكث في موضعك، إنما آخذك معي، وأرجع بك. فلا تطلب مني المهر وأنت هنا ف هذه الحياة، بل كن مملوءاً رجاءً وإيماناً[194].].

16 – كيف كان حال آدم وحواء في الفردوس؟

يا لبهجة الخليقة الأرضية، بل والعالم كله حين خُلِقَ آدم ثم حواء، وكأن الاثنين قد صارا فى جنة عدن يرتديان ثياب العرس التى تحمل بهاءً نورانياً فائقاً!

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [وقف العروسان بحلة النور التى كانا يرتديانها، وكان العالم بأسره مبتهجاً بهما بهداياه. ضحك النهار إزاء العريس، وأهداه كل ضوئه لينعم به… فتح الفردوس أبوابه العالية ليدخل العروسان ويفرحا هناك فى خدر التطويبات الذى كان مُعدا[195].].

17 – هل استخف أدم وحواء بجسديهما؟

يقول القديس جيروم: [قيثارتنا إنما هى جسدنا ونفسنا وروحنا يعملون معاً فى توافق، لتقدم أوتارها جميعاً النغم! [196]].

18 – ماذا رأى آدم فى أعضاء جسمه وحواسه وعواطفه؟

يقدم لنا القديس مار يعقوب السروجى صورة رائعة للجسد، نقتطف من كلماته الآتى:

[وضع صائغة عينى النور على قمة التاج، ليتطلع إلى المخلوقات المحيطة به كما من العلو.

وأتقن له فى الأسفل رجلين للركض كالمركبة، وبواسطتهما يمشى حيثما شاء أن يسير.

وأتقن فى جانبيه يدّين وفيهما الأصابع العشر. وبها يستولى على البحر واليابسة وكل العالم.

وأتقن المخ بيت العقل ليكون هناك، ويسكن فى الطابق العلوى مثل الإله.

وصنع له حَنكاً ليفحص الأطعمة، ووضع فيه طعماً ليميز الحلو عن المر.

وفتح له الشم ليكون سبيلاً للروائح، وبه يدرك (مميزاً) الرائحة النتنة عن اللذيذة.

ونقب السمع، وأحاطه بنمط الحلزون، لتدور فيها الأصوات وتدخل بلذة.

فى صدره القلب المجتمعة فيه كل الأفكار، ليوزع كل الكنوز كما فى خزينةٍ عظمى.

فى فمه الكلمة، وفى شفتيه تمييز الأصوات، والجبين للرمز، وزين البؤبؤين بالجفنين.

وضع فى عضو السمّ والغضب كالنار ليلتهب بها ضد الإثم عندما يُقترف.

وضع فى (عضو) آخر أن يكون قابلاً للحزن ويندم على الشرور عندما تُصنع.

أعطى للآخر أن يستعمل البشاشة ليفرح ويبتهج وجهه عندما يفعل الصلاح.

حكيم العوالم ركّب وصفّ وظيفة مختلفة فى كل عضو فى صورة الجمال عندما اتقنها[197].].

[عندما خلق الخالق الفم، وضع فيه الصوت والكلمة ليتحرك للتسبيح.

هكذا يجب على كل من شعر بوجود الخالق أن يسبّح الرب الذى خلقه.

ليس فم الإنسان مسلطاً ليستخدم الأخبار التافهة والكلمات غير اللائقة.

عندما خلق الخالق الفم أتقنه لتسبيحه، وليس ليلفظ أموراً باطلةٍ[198].].

[جسدك منتصب لئلا يكون منحنياً كالحيوانات التى تسجد أمامك.

لقد مدَّك وجعلك مستقيماً، ورفع أنظارك إلى العلو، لترى كيف أن مكانك جميل، فتتأمل فيه.

أدر وجهك نحو مكانك الأول، لأن هذا المكان الساكن فيه ليس لك.

ها إن مظهر جسدك يصرخ أنك لست أرضياً.

إنك غريب ومستوطن فى هذا المكان، فلا تفكر بما ليس هو ملكك…

لماذا تشبه البهيمة بأعمالك؟ إنها لا تفكر إلا بما هو للبطن.

لا تتشبه (بالحيوانات) المنحنية والساجدة لك، لئلا تصير كالبهيمة وتشبهها[199].].

19 – هل النفس البشرية سيدة الجسد؟

يقول مار يعقوب السروجى: [طبيعة النفس عظيمة وجميلة بخلقتها… عندما تُعتبر سيدة الجسد ولا يأمرها. وتديره بالقداسة دون أن يعصى أوامرها، وعندما تتنقى من كل النزوات الجسدية، تنظر وترى روحياً الأسرار الخفية. فإن اجتاز أمامها ملاك لا يُخفى عليها. ترى الملائكة والأبالسة وجهاً لوجه[200].].

20 – هل الجسد شريك للنفس فى كل شئ؟

الجسد شريك للنفس فى أخطائها كما فى توبتها. إن فسدت الإرادة يصير الجسد ثقلاً على النفس ليحطمها، وإن تقدَّست الإرادة يسند الجسد النفس حيث يمارس بجسده القراءات والأصوام والمطانيات والبذل. فيحققِ الجسد شهوات الروح المقدّسة، ويعتز بهذه الشركة التى تبلغ به إلى شركة المجد الأبدى مع النفس. يقول القديس غريغوريوس النيسى: [ليس الجسد هو مصدر الشر، إنما حرية الاختيار (الإرادة الحرة) [201].] كما يقول: [الجسد هذا أداة الروح… العامل فى صحبة النفس[202].].

21 – هل الإنسان خليقة مائتة وخالدة معاً؟ [203]

يميز القديس يعقوب السروجى بين ثلاث فئات من المخلوقات: مخلوقات بطبعها مائتة، كالحيوانات، لا حرية لها، وأعمالها لا تؤثر على طبيعتها، سواء كانت صالحة أو شريرة. هذه المخلوقات نهايتها الموت. ومخلوقات بطبيعتها الخلود، وهى الملائكة والشياطين، هم أحرار كالبشر. وخليقة مائتة وخالدة معاً، وهى آدم، إذ كان له أن يختار حسب إرادته أن يحيا أبدياً أو يموت. إنه مائت ولا مائت.

يرى القديس يعقوب السروجى أن الجسد لا يستطيع أن يعيش وحده، كذلك لا تستطيع النفس أن تعيش فى العالم وحدها. هذا الرأى سبقه فيه العلامة أثيناغوراس مدير مدرسة الإسكندرية فى القرن الثانى.

يرفض أثيناغوراس المعتقد الأرسطاطولى الذى يقول بأن النفس ملازمة للجسد، ولا يمكن أن تنفصل عنه، وهنا يقترب أثيناغوراس فى آرائه من آراء أفلاطون. إلاَّ أن أثيناغوراس يختلف عن أفلاطون، فهو يرى أن الحقائق المتواجدة فى الإنسان لا يمكن أن تكتمل بدون مساندة كلا من الجسد والنفس معاً، فالاثنان يشتركان فى تكوين كائنٍ واحدٍ، وهذا الكائن الواحد تُسند إليه كل الأفعال[204]. أما أفلاطون، فيرى الإنسان كروحٍ يستخدم الجسد. هكذا اختلف أثيناغوراس عن أفلاطون، فالأول يرى الإنسان نفسّاً وجسداً وحدة واحدة، ما يصدر عنه يشترك فيه النفس والجسد معاً، أما الثانى فيرى الإنسان مجرّد نفس تستخدم الجسد[205]…

يرى أثيناغوراس فى أعضاء الجسد آلات خلالها تتم لأفعال، وبها تظهر الأفكار والأقوال؛ لكنها تشترك مع النفس فى المسئوليّة. لهذا لا تقوم العبادة الكاملة بغير شركة الجسد مع النفس، ولا تكون الدينونة عادلّة إن لم تقع على الاثنين[206].

22 – هل خُلق الإنسان قابلاً للموت أم خالداً؟

انقسم الآباء السريان إلى ثلاثة مواقف بالنسبة للإجابة على هذا السؤال.

الموقف الأول: لثيؤدور أسقف المصيصة ونرساى وآباء المدرسة النسطورية، هؤلاء يرون أن الله خلق الإنسان قابلاً للفساد. جاءت الوصية ليمارس الإنسان حريته، ويعرف أنه قابل للموت.

الموقف الثانى: موقف أصحاب الطبيعة الواحدة مثل القديسين سويروس الأنطاكى وفيلوكسينوس أسقف منبج، يعتقدون أن الله خلق آدم خالداً بطبعه، وحُكم عليه بالموت بعد الخطية، فورثت البشرية الموت من آدم، وصرنا بالطبيعة مائتين كميراثٍ من أبينا آدم. يرى بعض الدارسين إن القديس يعقوب السروجى أخذ ذات الرأى. فهو يرى فى الإنسان الذى اِنصب فيه كل الجمالات يحمل الخلود. وإن السيد المسيح حين تجسد نزل إلى حالة آدم الأولى قبل السقوط فى الخطيئة. جاء فى سفر الحكمة: “لم يصنع الله الموت، ولا يُسر بهلاك الأحياء” (حك1: 3). ويقول الرسول: “بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيَّة الموت” (رو5: 12).

الموقف الثالث: موقف القديس مار أفرآم السريانى وديؤدور الطرسوسى وثيؤفيلس الأنطاكى. يقول أصحاب هذا الموقف إن الإنسان بطبعه ليس مائتاً ولا خالداً. لو كان خالداً من بدء خلقته لكان هو الله نفسه، ولو كان مائتاً بخلقته لحسبنا أن الله هو سبب موته. بهذا فإن الإنسان بكامل حريته يختار الخلود أو الموت. يرى بعض الدارسين أن القديس يعقوب السروجى أخذ أيضاً بهذا الرأى. فإذ كانت طبيعة آدم جميلة وكاملة، فلأنها خالدة وقابلة للموت معاً، مؤلَّفة من نفس كالملائكة، ومن جسد كالحيوانات. ومتمتعة بالحرية، لها أن تميل بها إلى حيث تشاء. وهذا من إبداع الخالق أنه خلق كائناً لا يموت، إن أراد[207]. يقول: [جبل آدم وأعطاه أن يحيا فوق الموت، أما قبوله مشورة الشرير، فهذا بمحض إرادته[208].].

23 – من يغرس فردوس نفسي؟

إن كان الله قد هيأ الأرض كقصرٍ للإنسان الملك، وأعد جنة عدن ليعيش مع حواء كعروسيْن متهللين، فإنه يريد ان يحمل الإنسان جنة أجمل وأكثر ثمراً فى أعماقه، فأقام نفسه فردوساً مثمراً بغنى نعمته الفائقة. يقول القديس يعقوب السروجى:

[النفس هى أرض ذلك الفردوس المباركة، لا تقبل فيها زرعاً مسروقاً ليس خاصاً بها…

لا تقبل فيها الكبرياء ولا الحسد، الشتلة الشريرة، لئلا تصير غريبة عن الله.

لا يسكن فيها الحقد والضغينة والغضب، لئلا تفسد أرض النفس المملوءة جمالاً…

لا تكن فيها الخطايا السمجة التى تدنسها، لئلا تحترق كأرض السادوميين.

لا تنبت فيها هذه الزروع، وقود النار، لئلا تحترق مع الزارع الذى زرعها.

لتكن نفسك كفردوس عدن العظيم، فتُنبت وتُخرج شتلة صالحة تحمل الثمرات[209].].

يذكر المرتل آلتين موسيقيتين هما القيثارة والكينارة ذات العشرة أوتار، ليعلن أن يليق بالإنسان كموسيقارٍ فريد أن يسبح الله ويعزف التسابيح بكل كيانه بجسده كما بنفسه؛ بلسانه كما بقلبه، جهاراً كما سراً. يسبح الصديقون الرب بأجسادهم التى يقدمونها ذبيحة حية مقبولة (رو12: 1). يقول القديس أغسطينوس: [ليته لا يفكر أحد فى الآلات الموسيقية التى للمسارح، فالأمر هنا يشير إلى أمورٍ داخلية، كما قيل فى موضع آخر: “فىَ يا الله أرد لك التسبيح”.].

تشير القيثارة إلى الجسد المقدس الذى يمجد الله، يشكره ويسبحه لا باللسان فحسب، بل وبكل كيان الإنسان: الجسد بحواسه الخمس والنفس بحواسها أو قدراتها الداخلية الخمس. وكأن رقم 10 فى الكينارة ذات عشرة أوتار يشير إلى الجسد والنفس والعقل والعواطف والأحاسيس الخ. الكل يسبح الله بتناغمٍ وانسجامٍ بقيادة الروح القدس، خلال الطاقات والقدرات المنظورة وغير المنظورة. يقول القديس جيروم: [أجسادنا ونفوسنا هى قيثاراتنا تعمل فى تناغم معاً بكل أوتارها فى لحن! [210]].

فسّر القدّيس إكليمنضس السكندرى المزمور 150 الذى تسبحه الكنيسة أثناء التناول بطريقة رمزية جميلة، فيها قّدم الكنيسة المقامة من الأموات خلال عريسها القائم من الأموات كأداة موسيقيّة، حيّة يلعب عليها الروح ليخرج تسبحة حب صادق لله.

[فى الخدمة الإلهيّة يترنم الروح… “سبّحوه بصوت البوق”، لأنه بصوت البوق يقيم الأموات. “سبّحوه بالمزمار”، فإن اللسان هو مزمار الرب. “سبّحوه بالقيثارة”، هنا يقصد الفم الذى يحرّكه الروح كالوتر. “سبّحوه بطبول ورقص”، مشيراً إلى الكنيسة التى تتأمّل القيامة من الأموات خلال وقع الضرب على الجلود (إشارة إلى الأموات، حيث تّصنع الطبول من جلد الحيوانات الميتة). “سبّحوه بالأوتار والأرغن”، يدعو جسدنا أرغناً، واعصابه هى الأوتار التى يضرب عليها الروح، فتعطى أصوات بشريّة منسجمة. “سبّحوه بصنوج حسنة الصوت”: يدعو اللسان صنجاً، إذ يعطى الصوت خلال الشفتين. لذلك يصرخ إلى البشريّة، قائلاً: “كل نسمة فلنسبح اسم الرب”، لأنه يعتنى بكل مخلوق يتنفّس. حقاً إن الإنسان هو آلة السلام[211].] حسبَ مار يعقوب السروجى نفسه قيثارة، تبقى أوتارها صامتة بلا نفع، ما لم يُحرك الرب أصابعه عليه كقيثارته الخاصة، لينشد تمجيداً لائقاً به. إنه ليس فى حاجة إلى تسابيحنا، إنما بتسبيحنا له نتمجد نحن! [212].

24 – هل يتحيّر السمائيون فى الإنسان؟

فى تصويرٍ عجيبٍ يرى القديس مار يعقوب السروجى الطغمات السمائية وهى تُمجِّد الله خالقها تدهش لعمل الخلقة. لقد أّعدت الورود لعمل تاجيْن للعروسين، وكل الخليقة استعدت لتقديم هدايا لهما، حتى الشمس تشرق وتغرب وهى تترقب مجئ العروسيْن المجهوليْن لهما، وأيضاً القمر والأيام والليالى تعْبُر والعروسان لم يحضرا بعد. الأشجار بكل ثمارها والكروم بعناقيدها تنتظر من يقطفها، حتى الأسماك تلعب فى المياه تترقب من يصطادها… كل الخليقة تتساءل: متى يأتى العروسان! [كانت العساكر السماوية منذهلة بذلك الإتقان، لأنها لم تكن تعلم لمن هو…].

هوذا المخلوقات تحمل المهر والهدايا لتقدمها للعريس والعروس اللذين لم يكونا مصنوعَين… الشمس تشرق وتأتى وتروح لأجله، والقمر مسرع ليغيّر الأزمنة لأجله.

كانت الأيام والليالى تتعاقب، وتفتش على آدم، وآدم ليس بين الأشجار.

الدار مشيدة، ولا ساكن ليسكنها، وكثر المُقتنى ولا مالك ليتسلط عليه.

النور حسن، ولا ناظر ليتفرس فيه، والبقعة جميلة، ولا ساكن ليشتهيها.

تتناثر الأثمار من الأشجار ولا (يوجد) من يأكلها، والجفنات جميلة بعناقيدها، ولا (يوجد) قاطف. تلعب الأسماك فى الأنهار، ولا (يوجد) صياد، وتنتظر البرية لترى الوارث وليس موجوداً ليرثها. الجنة مفتوحة وتنتظر أن يدخل البستانى، وتنتظره الأثمار الشهية ليقطفها[213].].

25 – الإنسان لا يقدر أن يرى نفسه فكيف يدعوه الله لرؤيته؟!

يا للعجب الإنسان مدعو لرؤية الله غير المنظور. “طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله” (مت5: 8). الله روح، فلا يقدر الجسد على معاينته، لهذا تجسد ابن الله ليهبنا الميلاد الجديد الروحى، فنرى ذاك الذى لا يُرى (عب11: 27)، ونحيا به. هو وحده يفتح الختوم (رؤ5: 9) لنتعرف على أسرار الله الآب[214]. يقول ماريعقوب السروجى: [نفس الإنسان مثل المرآة الجميلة، فإذا نُظفت تنظر وترى بها حتى الخفايا. أما إذا حملت الغبار والوسخ، أى الاهتمام، فلن ترى حتى ذاتها كيف إنها سمجة[215].].

26 – هل يتمتع الإنسان بالشركة في صلاح الله؟

يقول القديس غريغوريوس النيسى: [مادام الإنسان هو عمل الله، الذى جاء به إلى الوجود بصلاحه فلا يُعقل أن نتصور الله يخلقه محاطاً بالشر، الصلاح هو علة وجوده… خلق الله الإنسان ليشاركه فى صلاحه الفريد، ويعضده بقدرة طبيعية على كل نوعٍ من الكمال، حتى إذ يكون متمثلاً بالله، ينجذب إلى مثيله[216].] ويقول القديس ماريعقوب السروجى: [نجنى من الشرير، لأن قوتك عظيمة. لا تسلمنى إلى العدو ليحاربنى بدون عونك، لكنك تنتصر عليه بي أنا الضعيف! لا يبتعد عنى عونك الخفى، أى قوتك التى لا تجربنى، لأننى تيقنت إنى ضعيف. ليكن الصراع كله صراعك، وأنت تنتصر، وكل انتصارات المنتصرين هى انتصاراتك. فانتصر أنت، لأن النصر يليق بك. أما أنا فلا تُدخلنى فى التجربة. نجنى من العدو الذى يخاصمنى، ولا أقدر أن انتصر عليه بدون عونك… استلم المعركة، وخذ النصر اللائق بك. نجنى منه!… بالمراحم نجنى من الشيطان الذى يحاربنى، لأنه بك تليق الانتصارات، وإليك تنسب[217].].

27 – من هو أسعد كائن على وجه الأرض؟

هذا ما يشعر به بحق من يتلامس مع الله مصدر الفرح الحقيقى.

يقول القدِّيس أغسطينوس: [من يقتنى الله فهو سعيد[218].] كما يقول: [تبعية الله هى الرغبة فى السعادة، وبلوغ الله هو السعادة عينها[219].] ويقول القديس مار يعقوب السروجى: [تغتنى النفس بالله متى أحبته، فتأكل وتشرب منه عندما تتبعه… ولأن موسى أطال التطلع إليه استنار جداً، فشرب منه إلى أن أضاء مثل النهار. تأكل النفس من الله وتشبع منه، حتى أن الجسد ذاته يعيش بدون همٍّ (مت6: 26 – 34). عاش موسى أربعين يوماً منقطعاً عن الطعام والشراب دون أن يجوع[220].] [أكل الخبز ثقل وكسل؛ أما كلمة الحياة، فتربِّى أجنحة للنفس لتطير بها[221].] [عندما يؤكل الخبز يثقل على آكليه، أما العلم فيجهِّز النفس بالأجنحة لتطير[222].].

28 – هل الإنسان كائن دائم النمو هنا وفى الدهر الآتي؟

يقول القديس أغسطينوس: [هب لى أن اكون دائم النمو فى تذكرك، وفى إدراكك، وفى حبى لك، حتى تبلغ بى إلى الكمال[223].] ويقول القديس باسيليوس الكبير: [افحص تصرفاتك كل يوم، وقارنها بأحداث اليوم السابق وجاهد نحو التقدم. تقدم فى الفضيلة لتصير فى صحبة الملائكة. اقضِ وقتك فى خلوة، لا لأيام وشهور، بل لعدة سنوات، تسبح ربك بالأغانى، ليلاً ونهاراً، مقتدياً بالشاروبيم. إن بدأت هكذا، وانتهيت هكذا مسافراً فى الطريق المستقيم إلى وقت قصير لامتحانك، فإنك بنعمة الله تدخل الفردوس بسراج نفسك المنير ببهاءٍ، لتفرح مع المسيح إلى أبد الأبد. آمين[224].] ويقول القديس مار يعقوب السروجى: [لا يستطيع من يسعى فى إثر الكمال ويتمسك بالصعود إلى السماء، ويتطلع إلى درب العلو، أن يتوقف فى علوٍ واحدٍ، ظاناً أنه اكتمل فى عمله، ولم يعد فى حاجةٍ إلى الصعود إلى درجة أخرى، لكنه يسرع يوميا ليرتفع إلى أعلى، إلى أن يفتح له الموت الباب ليبلغ إلى ميناء القديسين[225].].

29 – أية ذبائح يقدمها الإنسان؟

يرى القديس ماريعقوب السروجى أن الله أقام آدم كاهناً، يقدم له ذبائح الشكر والتسبيح بيدين نقيتين ونفسٍ طاهرةٍ. لكن إذ تلوثت طبيعته، فقدت سمة الكهنوت، لعله يقصد الكهنوت العام الذى صار للمؤمن ليقدم ذبائح الشكر والتسبيح والصدقة وكل ممارسات العبادة الشخصية والأسرية. [منذ البداية عندما خلق الرب آدم، جعله كاهناً ليقوم على خدمته[226].].

فاصل

من كتاب كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ2 – العقائد المسيحية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى