المعمودية في كتابات القديس يوحنا

 من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية 
للأب متى المسكين

الفصل الثاني
الجزء التقليدي

أ المعمودية من واقع الإنجيل وسفر الأعمال والرسائل 
2  المعمودية في كتابات القديس يوحنا

 

(يو 3:35):

حديث المسيح مع نيقوديموس:

+ » أجاب يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله. قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ. ألعلَّه يقدر أن يدخل بطن أُمه ثانية ويولد. أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله «

حديث المسيح مع نيقوديموس هو تشديد الحاجة إلى الميلاد الروحي! كضرورة حتمية لدخول ملكوت الله. ولكن قد سبق أن عبَّر القديس يوحنا عن الميلاد الروحي في بدء إنجيله إذ قال:

1 – » وأمَّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. «(يو 12:1)

2 – » الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسدٍ ولا من مشيئة رجل، بل من الله. «(يو 13:1)

وتأتي في اليونانية: ™k qeoà ™genn»qhsan . هنا استخدام الحرف ™k يقابل استخدام نفس هذا الحرف في الحديث مع نيقوديموس: » المولود من الجسد جسد هو والمولود من™k  الروح هو روح « فالروح محسوب عند ق. يوحنا أنه هو الذي يلد المؤمنين([1]). فإذا أُضيفت المياه تحقَّق للمعمودية عمق لاهوتي في الطقس المسيحي “بالماء والروح”، كما حدَّده المسيح لنيقوديموس ليكونا الواسطة للميلاد من فوق. هنا يمتاز طقس العماد في إنجيل ق. يوحنا باستعلان الميلاد الجديد، الخليقة الجديدة من الماء والروح القدس.

فطقس معمودية الماء عند ق. يوحنا متحداً مع فعالية الروح يُعتبر الواسطة التي بها يولد المسيحي “من فوق” كنص المسيح الرب.

هذا التعليم فيما يخص الخليقة الجديدة الممثَّلة في إنجيل ق. يوحنا أنها “ميلاد من فوق”، قد
وضعه الإنجيل على قاعدة موت المسيح، إذ أكمل المسيح تعليمه لنيقوديموس بقوله:

+ » وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. «(يو 3: 14و15)

  • هكذا جعل المسيح موته على الصليب أساس الميلاد من الماء والروح، والإيمان بالمسيح المرفوع على خشبة كشرط أساسي لعبور الهلاك (عقوبة الموت). وهكذا تصوَّرت المعمودية منذ البدء.
  • والقديس يوحنا أعطى “للإيمان بالمسيح” موضعه في أساس المعمودية منذ بدء إنجيله بقوله:

+ » وأمَّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين وُلِدُوا … من الله. «(يو 1: 12و13)

  • وهكذا تأسَّس الميلاد من فوق “بالماء والروح” كعمل الروح القدس في المعمودية، وأصبح الحصول على الحياة الأبدية كأولاد الله هو النتيجة النهائية لرفع الابن على الصليب، وصارت المعمودية عند ق. يوحنا مثيلة للمعمودية عند القديس بولس.

(1يو 5: 58):

+ » مَنْ هو الذي يغلِبُ العالم، إلاَّ الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله؟ هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم، والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق. فإن الذين يشهدون في السماءِ هم ثلاثةٌ: الآبُ، والكلمةُ، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحدٌ. والذين يشهدون في الأرضِ هم ثلاثةٌ: الروح والماءُ والدمُ. والثلاثة هم في الواحد «

هنا يدافع ق. يوحنا عن أن المعمودية ليست ماءً فقط (كقول كيرنثوس الهرطوقي) بل روح وماء ودم، والثلاثة على مستوى المسيح (هم في الواحد). ولكن واضح أن المقاومين ينكرون صليب ربنا يسوع المسيح كعنصر أساسي في الخلاص، كما يكشفها إيرينيئوس بعد ذلك عن كيرنثوس قائلاً إنه يَفْصِل يسوع عن المسيح ويدَّعي أن المسيح فارق يسوع عند الصليب([2]). لذلك اهتم ق. يوحنا بذكر يسوع أنه هو المسيح، وهو الذي صُلب وأتى بماء ودم، وليس بماء فقط كقول كيرنثوس. وق. يوحنا يؤكِّد أن الماء والدم والروح هم في الواحد أي في يسوع المسيح. هنا ق. يوحنا يلجأ إلى الرموز، علماً بأن ق. يوحنا شَهِدَ خروج الدم والماء من جنب المسيح على الصليب
من ضربة حربة وكان قد مات (يو 34:19).

يفسِّر الآباء والعلماء أن هذا النص يفيد المعمودية وأصولها الأُولى وكذلك الإفخارستيا([3])، ولكن كثيرين يؤكِّدون أن هذا النص يختص فقط بالمعمودية، حيث الدم يفيد ويرمز إلى موت الرب على الصليب، بحسب التقليد الذي كان سارياً في الكنيسة الأُولى. وقد أشار إليه ق. بولس في (رو 3:6): » أم تجهلون أننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته « وتأخذ أصولها الأُولى من قول الرب نفسه: » لي صبغة b£ptisma أصطبغها وكيف أنحصر حتى تُكمل «(لو 50:12)

ويقول الشُّرَّاح وهم على حق أن ق. يوحنا يقصد معمودية المسيح إنه اعتمد بالماء على الأُردن واعتمد بدمه على الصليب، وهذا منتهى الحق – ونحن نلنا هذا كأساس لمعموديتنا.

  • وهكذا فإن ربط المعمودية بموت الرب لم يكتشفه ق. بولس ولكنه تقليد الكنيسة الأُولى المأخوذ من المسيح. وإدخال “الروح” كعنصر أساسي هو من صُنع الرب نفسه في حديثه مع نيقوديموس.
  • إن حقيقة المعمودية وقيامها أساساً على فعل موت ابن الله على الصليب وصبغة الدم وفعالية الروح القدس هي التقليد الثابت الدائم والأبدي للكنيسة، كذلك قيام المعمودية المسيحية على أساس مقولة ق. يوحنا: » وأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله «(يو 12:1)، على أساس معمودية المسيح في الأُردن ونزول صوت الآب عليه قائلاً: » هذا هو ابني الحبيب. «(مت 17:3)
  • ذلك لأن قول ق. يوحنا: » يصيروا أولاد الله «هو نابع من الإيمان بالمعمودية. فإذا كانت المعمودية المسيحية في الكنيسة قامت أصلاً على معمودية المسيح في الأُردن وصبغة الصليب بالدم، فحتماً كلمة “يصيروا أولاد الله” أو أبناء الله هي امتداد لصوت الآب من السماء على المسيح » هذا هو ابني الحبيب. «(مت 17:3)
  • وإن كان دخول الملكوت كما يقول الرب لنيقوديموس يقوم على الميلاد الثاني من الماء والروح أي من فوق، فالنتيجة المرصودة في حديث نيقوديموس هي الدخول إلى الملكوت الذي افتتحه الرب بموته وقيامته.
  • وكان من المحتَّم بحسب قول المسيح: » خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي «
    (يو 7:16) أن يدخل المسيح أولاً إلى ملكوته منتصراً قائماً من الأموات. فدخوله ملكوت الله الذي أعدَّه للمؤمنين باسمه هو الذي أفاض الروح القدس من عند الآب ليعدّنا لدخول الملكوت أيضاً عبر المعمودية، التي تعطينا شركة مع المسيح المقام والجالس في السماء عن يمين الآب.
  • قد لاحظ العلماء أنه ولو أننا نجد في كتابات ق. يوحنا القدر الكثير من تعاليم الأسرار في العهد الجديد، غير أنها تأتي عادة بصورة مغطَّاة veiled، وليست مباشرة. ولكن يقول العالِم هوارد إن العلَّة في ذلك بسبب ظروف الجيل الذي يكتبه له ق. يوحنا([4]). فهو قد مهَّد على مدى نصف جيل لظهور التعليم الواضح المقنَّن عن الأسرار كما نجده مثلاً في خطابات القديس إغناطيوس. فمثلاً في تعاليم ق. إغناطيوس عن الإفخارستيا يقول عن خبز الإفخارستيا (الجسد) إنه “دواء عدم الموت = f£rmakon ¢qanas…aj”([5]). وكان القديس يوحنا هو المُلهِم للقديس إغناطيوس بهذا الاصطلاح بقوله المتكرِّر في إنجيله: » لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت «(يو 50:6)، » مَنْ يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد. «(يو 6: 58و51)
  • تعاليم ق. يوحنا تربط بين المعمودية والميلاد الجديد Regeneration, ¢nagšnnhsij ولو أن هذه الكلمة لم ترد في كتاباته، ولكنه أورد الفعل genn£w في المبني للمجهول: » إن كان أحد لا يولد من فوق « وهذا يشرح عبارة: » أولاد الله tškna qeoà «(يو 12:1) الواردة في بدء إنجيله والمعبّر عنها في نفس المكان بعبارة: » الذين وُلِدُوا من الله ™k qeoà ™genn»qhsan « كذلك في (1يو 29:2): » كل مَنْ يصنع البر مولود منه ™x aÙtoà gegšnnhtai «وأيضاً في (1يو 9:3): » كل مَنْ هو مولودٌ من الله Ð gegennhmšnoj ™k toà qeoà «
  • ويُعتقد أن ق. يوحنا استلهم “الميلاد الجديد” كاصطلاح، واصطلاح » أولاد الله «(يو 12:1) من قول المسيح نفسه: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات.» (مت 3:18)
  • كما أن صلة اصطلاح “الميلاد من فوق” (يو 3:3) و“المولودين من الله (يو 13:1) في إنجيل ق. يوحنا شديدة القربى باصطلاح “التبني” عند القديس بولس، الذي نناله بالمعمودية (غل 3: 26-27). فهي اصطلاحات متوازية لحقيقة واحدة. وقد بدأها المسيح بنفسه في
    المعمودية التي نال فيها نداء الآب بالبنوَّة. وهذه البنوَّة انعكست على المعمودية المسيحية للمؤمنين، فالمولودون من الماء والروح هم المولودون من فوق، هم المولودون من الله، هم “أبناء الله”، سواء عند القديس يوحنا أو عند القديس بولس.
  • كما لا يمكن أن نغفل حادثة القيامة، فظهور المسيح في العلية الذي سجَّله القديس يوحنا: » فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم، كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. ولمَّا قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، مَنْ غفرتم خطاياه تغفر له، ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت «(يو 20: 21-23). ألا نرى في هذا إشارة واضحة إلى التعميد وإعطاء هذا السطان الروحي من قِبل الرب كقوة للتعميد؟ لأن التلاميذ كانوا يعمِّدون بالماء كتعليم يوحنا المعمدان. هنا أضاف المسيح الروح القدس على معمودية الماء كقوة وسلطان إلهي لمغفرة الخطايا بواسطة التعميد. لأن مغفرة الخطايا والتعميد هما عمل واحد في العهد الجديد والأناجيل.

 

 

([1]) “(The Spirit is) the Begetter of believers”, cf. J. H. Bernard, St. Johm, ICC, 1928, cited by W. F. Flemington, op. cit., p. 87.

([2]) Irenaeus, A.H., I, XXVI, 1.

([3]) W.F. Howard, Christianity According to st. John, 1943, p. 147.

وقد جمعنا أقوال الآباء الخاصة بذلك في كتابنا: “شرح إنجيل القديس يوحنا” الجزء الثاني صفحة 1227-1229.

([4]) H.F. Howard, Ibid, p. 145, p. 129,130.

([5]) Ignatius, Ad Eph., XX.

فاصل

التعليم عن المعمودية في سفر الأعمال كتب الأب متى المسكين المعمودية في رسالة بطرس الرسول الأُولى
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية
المكتبة المسيحية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى