الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد
تفسير سفر الرؤيا اصحاح 7 – كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة
الأصحاح السابع
ختم المؤمنين
مقدمة الأصحاح السابع:
جاء هذا الأصحاح إعتراضيًا بين الأصحاح السادس الذي فتحت فيه الأختام الستة والأصحاح الثامن الذي يتكلم عن فتح الختم السابع والأخير، ولما كان آخر ما جاء بالختم السادس مخيفًا وما سوف يعلن أيضًا في الأصحاح الثامن مهيبًا جاء الأصحاح السابع بينهما ليطمئن أولاد الله ويحدثهم عن علامة يختصوا بها وكذلك صورة من صور ميراثهم السمائي.
(1) ختم أولاد الله (ع1-8)
(2) كنيسة السماء (ع9-12)
(2) تفسير الشيخ (أحد القسوس) (ع13-17)
(1) ختم أولاد الله (ع1-8):
1 وَبَعْدَ هَذَا، رَأَيْتُ أَرْبَعَةَ مَلاَئِكَةٍ وَاقِفِينَ عَلَى أَرْبَعِ زَوَايَا الأَرْضِ، مُمْسِكِينَ أَرْبَعَ رِيَاحِ الأَرْضِ، لِكَيْ لاَ تَهُبَّ رِيحٌ عَلَى الأَرْضِ، وَلاَ عَلَى الْبَحْرِ، وَلاَ عَلَى شَجَرَةٍ مَا. 2 وَرَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ طَالِعًا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، مَعَهُ خَتْمُ اللهِ الْحَىِّ، فَنَادَى بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ الأَرْبَعَةِ، الَّذِينَ أُعْطُوا أَنْ يَضُرُّوا الأَرْضَ وَالْبَحْرَ، 3 قَائِلًا: «لاَ تَضُرُّوا الأَرْضَ وَلاَ الْبَحْرَ وَلاَ الأَشْجَارَ، حَتَّى نَخْتِمَ عَبِيدَ إِلَهِنَا عَلَى جِبَاهِهِمْ.» 4 وَسَمِعْتُ عَدَدَ الْمَخْتُومِينَ مِئَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، مَخْتُومِينَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ. 5 مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ رَأُوبِينَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ جَادَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. 6 مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ نَفْتَالِى اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ مَنَسَّى اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. 7 مِنْ سِبْطِ شَمْعُونَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ لاَوِى اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ يَسَّاكَرَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. 8 مِنْ سِبْطِ زَبُولُونَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ. مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ.
ع1: سمح الله للقديس يوحنا أن يرى منظرًا آخر قبل فتح الختم السابع .. فنظر وشاهد أربعة ملائكة على زوايا الأرض الأربعة وكأن الأرض قد صارت أمامه مسطحًا مربعًا.
ممسكين أربع رياح الأرض: لا نعلم كيف يمسك الملاك رياحًا … ولكن يوحنا شاهد وعرف بالروح وكتب ما شاهده؛ والمعنى هنا أن كل شيء خاضع لسلطان وأمر الله الذي أوكل ملائكته لتنفيذ مشيئته في الحفاظ على الأرض من الرياح العاتية والتي قد تأتي من أي اتجاه وهي إن أطلقها تقتلع كل الأشجار وتفيض بسببها البحار وتشتد الأعاصير العاتية التي تنهى الحياة على الأرض.
ريح: ترمز لعدل الله في معاقبة الأشرار.
ع2، 3: ملاكًا آخر طالعًا من مشرق الشمس: أقر معظم الآباء أن هذا الملاك هو منظر جديد للمسيح في رؤيا يوحنا وذلك للآتى:
- خروجه من مشرق الشمس فهو “نور من نور” وهو “نور العالم”.
- معه ختم الله، فوجود ختم الملك في يده معناه أنه له نفس سلطان الملك.
- هو من نادَى وأمر الملائكة بألا يضروا الأرض وهذا من سلطانه وبمشيئته.
وهناك رأي آخر يقول أنه أحد الملائكة ولكن من الرتب الرئاسية والعليا لها.
خرج المسيح في منظر بهىّ من مشرق الشمس حاملًا سلطان الله أبيه وختم الحي (الروح القدس)، وأعطى أمرًا إلى الملائكة الأربعة الماسكين أربع رياح الأرض بأن يظلوا كما هم ممسكين بالرياح فلا يحدث ضررًا على الأرض أو أذى لأحد حتى يتم ختم كل عبيد الله بالختم الحي وهو مسحة الروح القدس الممنوحة لنا في زيت الميرون المقدس بالرشم على جباهنا وأجسادنا.
أعطوا أن يضروا: ليس معنى هذا أن لهم سلطانًا أن يفعلوا هذا بمشيئتهم، فالمشيئة هنا لله وحده وأمره المطلق، أما كلمة أعطوا فمعناها أن الله خلقهم بقدرة خاصة على الإتيان بذلك عند أمره لهم.
ونستخلص من هذين العددين أن الضربات الأخيرة لن تأتي قبل أن يميز الله أولاده عن الأشرار حتى لا يضرهم شيء [راجع مثل الزوان والحنطة في (مت13: 30)].
† أخي الحبيب .. ما أعظم المسحة التي مسحنا بها في سر الميرون المقدس وسكن بها الروح القدس في داخلنا فصرنا مختومين لله نحمل اسمه كأبنائه ونتحرك كهياكل حية مقدسة، وبعضنا لا يدرك عظم هذه الهبة والمسئولية، فليتنا نسارع جميعًا بالاستماع إلى القديس بولس حينما يحذرنا ألا نطفئ الروح (1 تس5: 19) أو نحزنه (أف4: 30)، فاسرع دائمًا بالتوبة يا صديقى حتى تتمتع بعمل الروح الإلهي بداخلك.
ع4: سمعت: أي أن القديس يوحنا لم يرى المؤمنين أثناء ختمهم ولكنه علم بالسمع من أحد الملائكة.
مئة وأربعة وأربعين ألفًا: المعنى والأرقام هنا ذات معاني روحية رمزية، فهذا الرقم هو حاصل ضرب 12 سبطًا من كنيسة العهد القديم × 12 تلميذًا آباء كنيسة العهد الجديد × ألف، ورقم الألف هنا يشير إلى الكمال السمائى… والرقم في مجمله يعني أن كل من انتظر بالرجاء فداء الابن من شعب الله قديمًا وكل من قبل فدائه ببشارة الإنجيل والرسل في كنيسة العهد الجديد صار من المختومين أمام عرش الله والمستمتعين به.
كل سبط .. بنى إسرائيل: بالطبع كلمة إسرائيل هنا تأتي بمعناها الروحي، فليس معقولًا أن اليهود الذين رفضوا ولم يقبلوا الإيمان به هم “المختومين” وهم نفسهم الذين أذاقوا الكنيسة الوليدة أهوالًًا من العذاب والاضطهاد … ومما يؤكد أن الكلام هنا روحي أنه ذكر كلمة أسباط ونحن نعلم أنه لا توجد حاليًا أية أسباط بإسرائيل، فلم يعودوا يحفظون أنسابهم أو أسباطهم.
ع5-8: يبدأ القديس يوحنا في هذه الأعداد الأربعة تفسير وتفصيل ما أجمله في العدد السابق. فيوضح أن عدد المئة وأربعة وأربعين ألفًا هم إثنا عشر ألف مختوم من عدد أسباط بنى إسرائيل الإثنى عشر .. ويهمنا هنا أن نشير إلى الآتي …
- لم يراعى في ترتيب الأسباط هنا الترتيب الزمني كما فعل يعقوب عندما ذكر أسماء أبنائه بالترتيب الزمني لولادتهم (تك 49) فبدأ ببكره رأوبين.
- لم يذكر سبط “دان” لأنه عبد الأوثان في الأرض التي امتلكها (قض18: 29-31)، وهكذا يكون كل من بعد عن عبادة الله بعبادة غريبة، يمحى اسمه من سفر الحياة (تث29: 18-25)، وكذلك أيضًا جاء في تقليد يهودي قديم أن ضد المسيح سوف يأتي من سبط دان. (ايريانوس ضد الهرطقات 5: 30).
- ذكر يوسف كسبط بدلًا من سبط أفرايم ابنه، لأن سبط أفرايم سقط في عبادة الأوثان وتحالف مع الأعداء ضد يهوذا (إش7: 17) ورفضهم الرب من أمامه (أر7: 15).
- يوسف لم يكن له سبط إذ عِوض أمانته قديمًا أخذ ضعفا عن إخوته في نصيبين كاملين لأولاده فصار ابنه “منسى” سبطًا، وابنه “أفرايم” سبطًا … وها هو الآن يأخذ أمام الله نصيبًا كاملًا، وفي هذا معنى وتعليم روحي يذكرنا بما قاله السيد “من له سيعطى ويزاد” (مت13: 12)، “كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير” (لو19: 17).
- يلاحظ أيضًا أن سبط لاوي الذي لم يذكر بعد الشريعة كسبط مستقل ولم يرث نصيبًا في الأرض لأنه سبط الخدمة…، يمثل الآن أمام الله نظير خدمته وهي خدمة الكهنوت الجليلة أمام الله.
† ليتنا إذًا نتعلم أن نجتهد بقدر طاقتنا فنحصل على ما حصل عليه يوسف أي ضعفين ولا نتهاون فنصير مثل “دان” أو “إفرايم” اللذين خسرا كل شيء.
(2) كنيسة السماء (ع9-12):
9 بَعْدَ هَذَا، نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَفِى أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ 10 وَهُمْ يَصْرُخُونَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «الْخَلاَصُ لإِلَهِنَا الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ.» 11 وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ كَانُوا وَاقِفِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَالشُّيُوخِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ، وَخَرُّوا أَمَامَ الْعَرْشِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَسَجَدُوا لِلَّهِ 12 قَائِلِينَ: «آمِينَ، الْبَرَكَةُ وَالْمَجْدُ وَالْحِكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ لإِلَهِنَا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، آمِينَ»
ع9: بعد هذا: ننتقل إلى رؤية جديدة فالمنظر الأول كان يتطلع فيه القديس يوحنا على الأرض .. أما هنا فإنه يستكمل رؤياه في السماء وإن كان الموضوع واحدًا فالأول كان الكنيسة المختومة وهنا الكنيسة المنتصرة.
جمع كثير: منظر مبهج هذا الذي رآه القديس يوحنا فالعدد هنا غير محصور .. وهو أمر يدفع في قلب الكنيسة المجاهدة على الأرض كل الرجاء … فبالرغم من كثرة الحروب الروحية وعنف الشيطان وكثرة الإغراءات … هناك عمل نعمة الله المخلصة، ورغم أنف الأعداء الذين يضطهدون الكنيسة بغرض إفناء إيمانها نجد أن الذين يدخلون السماء لا حصر لهم، فالله هو الحافظ لها والمظلل عليها.
كل الأمم … الألسنة: تدبير خلاص الله ليس مقصورًا على شعب دون آخر، فالله أتى وتجسد من أجل فداء كل البشر فكل من يقبل فداءه ويتمسك بالإيمان المستقيم سوف يرث ويقف أمام الجالس على العرش والخروف المذبوح، فلا تمييز في السماء بين لون أو جنس أو لغة، أليس هو من “يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1 تى2: 4)؟
ثياب بيض: ترمز للطهارة والقداسة، فالسماء لا يدخلها غير الطاهرين أما القداسة فيكتسبها الإنسان بقربه من الله.
سعف النخل: لا توجد أمور مادية في السماء، ولهذا فسعف النخل هنا هو منظر روحانى ينم على النصرة والغلبة، إذ اعتاد الناس استقبال مواكب المنتصرين من القادة بعد الحروب بسعف النخل، راجع أيضًا (يو12: 13).
رأى القديس يوحنا جمع كبير لم يستطع حصره من شعوب الأرض المختلفة في طهارة وفرح ونصرة.
† تشجع أيها الحبيب … لأن لك مكانًا في السماء حيث المجد، فإحرص كل الحرص ألا يسرق أحد منك إكليلك.
ع10: وهم يصرخون: الصراخ بصوت عظيم هنا هو صراخ الفرح والتهليل والتسبيح، فهم في حالة من الفرح الغير قابل للتخيل، وكيف لا يكون هذا وهم غالبون مستمتعون برؤية فاديهم ومخلصهم !؟!
الخلاص لإلهنا: وهو نشيد التسبيح والنصرة فهم يعلنون في نشوة فرحهم الدائم سر هذه السعادة .. وهذه التسبحة لها معنيان:
الأول: بمعنى النصرة لإلهنا، الكلى القدرة، الغالب والذي خرج ليغلب (رؤ6: 2) فقد غلب الشيطان وقيده وسلبه سلطانه (لو10: 18)، وغلب الموت وداسه (1 كو15: 55) وأفرج عن كل من قبض عليهم في الجحيم وأخرجهم إلى الفردوس (أف4: 9).
والمعنى الثاني: أن إلهنا هو سر خلاصنا فما كنا نخلص بدونه، بمعنى أن الله أعطاهم الخلاص وهم يردون الفضل لصاحبه، فيشكرونه إذ أتمَّ نصرتهم.
الجالس إلى العرش والخروف: أي أن التسبحة تقدم للآب والابن بنفس المقدار وهذا دليل على المساواة بين الأقنومين.
ع11، 12: اشتركت كل الخليقة السمائية بكل طغماتها (درجاتها) في التسبيح والسجود المنسحق المبهج أمام الله وقدمت له في تسبيحه صفات العظمة والإكرام السبعة والدالة على كمال صفاته… وقد ذكر شرح كل ذلك بالتفصيل في (رؤ 4: 10-11؛ 5: 12-14).
(2) تفسير الشيخ (أحد القسوس) (ع13-17):
13 وَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الشُّيُوخِ قَائِلًا لِى: «هَؤُلاَءِ الْمُتَسَرْبِلُونَ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، مَنْ هُمْ وَمِنْ أَيْنَ أَتَوْا؟» 14 فَقُلْتُ لَهُ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَعْلَمُ.» فَقَالَ لِى: «هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ، وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ. 15 مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحُِلُّ فَوْقَهُمْ. 16 لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَىْءٌ مِنَ الْحَرِّ، 17 لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ.»
ع13: أراد الله للقديس يوحنا ولنا أيضًا ألا يكتفى بمشاهدة المنظر الرائع بل أن يعرف أيضًا بعض أسراره، ولهذا تقدم إليه أحد الأربعة والعشرين قسيسًا بسؤال الغرض منه حث القديس يوحنا للمعرفة فكان سؤاله بمعنى هل تعلم من هم هؤلاء المتسربلين بثياب بيض وما سرهم ولماذا هم وقوف ههنا ؟!، ولأن القديس يوحنا لا يعرف كل الأسرار أجابه بأدب واحترام “يا سيد أنت تعلم” (ع14). وهو اتضاع يعلمنا أن نرجع بالسؤال لقسوس الكنيسة وآبائها فيما يعسر علينا فهمه أو تطبيقه.
ع14: أجاب هذا القسيس السمائى على القديس يوحنا بالآتي:
أتوا من الضيقة العظيمة: الضيقة هنا قد تكون الضيقة التي يتعرض لها كل إنسان مسيحي على مستوى حياته الخاصة في اضطهاد أو تجربة يحتملها بشكر، أو اضطهاد يمر على الكنيسة كلها ويصل إلى حد الإستشهاد من أجل الإيمان، وقد تكون الضيقة العظمى هنا إشارة إلى فترة وجود ضد المسيح على الأرض والحروب والضيقات التي ستصاحب وجوده. والمعنى الروحي هو ما سبق وأعلنه السيد المسيح مرارًا، من وجوب وجود الضيق في العالم (مت24: 9)، (يو16: 3)، وما أكده القديس بولس أيضًا أن الألم والضيق هما ثمن المجد المستعلن فينا أمام الله (رو8: 17).
غسلوا ثيابهم، بيضوا ثيابهم: غسلوا وبيضوا فعلان متلازمان، فالغسل يقود للبياض والمعنى هو أن هؤلاء المنتصرين على الضيقة العظمى كان سر طهارتهم وقداستهم ونصرتهم هو دم الخروف، فلا قوة لإنسان مسيحي بعيدًا عن دم المسيح فالخلاص والثبات والطهارة أساسه “دمه الكريم“.
والغسل والتبييض يذكرنا بسرين متلازمين من أسرار الكنيسة، فالأول هو الإغتسال من الخطية في سر الاعتراف، إذ يقرأ الكاهن الحِلّ، فيطرح وسخ الخطية من على المعترف التائب، ويتم التبييض بالفعل في دم الابن الوحيد فيخرج الإنسان بعد التناول طاهرًا نقيًا، إذ صار متحدًا بجسد المسيح ودمه الأقدسين.
† علينا جميعًا ألا تخور عزائمنا أمام الضيق والألم … فمهما اشتدت علينا الآلام فلننظر للسماء ونثق أن لنا إكليلًا فما رآه إسطفانوس وقت استشهاده من جمال للسماء جعله يستهين بالألم الوقتى المحدد أمام المجد الغير محدود (أع7).
ع15: من أجل هذا: أي من أجل أنهم إجتازوا الضيقة العظيمة ولم يخوروا، وكذلك تطهروا بدم الخروف الذي يطهر من كل خطية (1 يو1: 7).
هم أمام عرش الله: وهي أغلى وأعظم مكافأة أن يقف الإنسان في حضرة الله يقدم التسبحة مع السمائيين بلا انقطاع، فلقد صار جزءًا من السماء والخليقة السمائية نفسها، وكلمة في هيكله هي للدلالة على الإقتراب المطلق من الذات الإلهية الغير محدودة بالرغم من كثرة الأعداد الغير محصورة (ع9)، فكل واحد سيكون قريبًا من الله مستمتعًا به داخل هيكله.
ملاحظة: كلمة هيكل هنا لا تشير إلى مكان محدود، فالله لا يحده مكان وكذلك تعبير الجالس على العرش .. فالمعنى هنا روحي والمنظر يُقدّم لنا بقدر ما يستطيع العقل البشرى استيعابه.
يحل فوقهم: في اللغة اليونانية “يظللهم” وهو تعبير أقوى من معنى الوجود الدائم أمام الله، إذ يعني الإحتواء الإلهي والإحاطة والحفظ لكل نفس أكملت جهادها وصار لها مكانًا أمام العرش وداخل الهيكل.
† أخي الحبيب إن وقوفنا في الكنيسة ورؤيتنا لهيكلها ومذبحها يذكرنا بهذا المشهد السمائى الرائع، بل أن الكنيسة أثناء القداس هي السماء بعينها وأنت مدعو للتمتع بالسماء هنا في الكنيسة لتقف أمام الحضرة الإلهية التي سوف نستكملها بنعمة المسيح في ملكوته الأبدي. فلا تدع الكسل أو أي معوق آخر يبعدك عمَّا أنت مدعو إليه.
ع16: لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا: يستمر القديس يوحنا في وصف حال السعادة التي يشعر بها الغالبون، وكلمة لن يجوعوا أو يعطشوا معناها الأول شبعهم بالمسيح والذات الإلهية وهم في حالة من الإرتواء الروحي الدائم، فلا تعود أحاسيس الجسد “تشغلنا أو تضايقنا فلا يوجد شيء يقلل من بهاء التمتع بالله.
وكلمة “بعد” تقودنا لمعنى آخر وهو أن هؤلاء قد تعرضوا للتعذيب بالجوع والعطش من أجل الإيمان وحب الله، أو كانوا جياع وعطاش للبر في المسيح (مت5: 6)، والآن جاء زمن تعويضهم عن كل معاناة، فالله في عدله لا ينسى تعب أحد، بل يرد له مئة ضعف، ومما لا شك فيه أن تعويض السماء لا يقارن بأى تعويض على الأرض.
لا تقع عليهم شمس ولا شيء من الحر: أي لن يكون عليهم اى ثقل جديد من التجارب، فسليمان يصف التجارب بالشمس الحارقة (نش1: 6)، وكذلك لا تكون هناك مضايقات جديدة “حر“؛ وكيف يكون هذا والله بنفسه يظللهم ويسترهم ويرعاهم (ع15).
ع17: إنتهى الأصحاح السابق بحديثه عن “يوم غضب الخروف” وانتقامه من الأشرار (رؤ 6: 17)، وهنا تختلف الصورة تمامًا مع أبنائه القديسين، فهو يرعاهم بنفسه ويقدم ذاته لهم وفي صورة جميلة وبلاغية وبأسلوب يسهل على البشر تخيله، ويقدم لنا بعضًا من هذه الصور.
يقتادهم إلى ينابيع ماء حية: ترتبط هذه الآية بما جاء في (ع16) “لن يعطشوا” … فالسر في عدم عطشهم هو ارتوائهم بينابيع روحية لا تنضب ولا تجف إذ صار المسيح وحده مصدرها، وهذا يكشف لنا سرًا جديدًا من أسرار الأبدية… فهناك ننهل ونأخذ وننمو .. فالأبدية ليست مشهدًا ساكنًا، بل هي انفعال روحي دائم ينقلنا من كمال إلى كمال.
ويمسح الله كل دمعة من عيونهم: وهذا يعود بنا إلى عدل الله وتعويضه عن كل تعب وكل ألم احتمله أبناؤه في أثناء حياتهم على الأرض، … فتشجع أيها الحبيب واحتمل بشكر كل ما تمر به، فما أجمل هذه الصورة الروحية الرائعة إذ يمد المسيح يده الحانية ليربت علينا ويمسح دموع أعيننا … ومن المعروف بالطبع أنه لا توجد دموع حقيقية في الأبدية، فالأجساد روحية نورانية ولكن المعنى هو معنى جميل يعبِّر عن حنان الله وعطفه وتعويضه لأولاده عن كل الآلام.
تفسير رؤيا 6 | تفسير سفر الرؤيا | موسوعة تفسير العهد الجديد | تفسير رؤيا 8 |
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة | |||
تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |