تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا اصحاح 10 للقديس كيرلس الكبير

عظة (60) المسيح يرسل السبعين لو10: 1-3

(لو 10: 1-3) ” وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضا، وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعا أن يأتي. فقال لهم: إن الحصاد كثير، ولكـن الفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده “.

لقد أمر الروح القدس بفم الأنبياء القديسين، خدام كلمة الإنجيل المخلصة قائلا: “انفخوا بالبوق في رأس الشهر عند الهلال ليوم عيدنا المجيد” (مز 8: 3 س). ويمكن أن نقارن الهلال بزمن مجيء مخلصنا، لأنه قد برز لنا عالم جديـد قد صار فيه كل الأشياء جديدة، كما يؤكد لنا بولس الحكيم جدا، فـي كتابتـه. لأنه يقول “الأشياء القديمة قد مضت، هوذا كل الأشياء قد صـارت جديـدة” (2کو 5: 17). لذلك نحن نفهم أن الهلال والعيد المجيد يشيران إلى زمن تجـسـد الابن الوحيد، حينما بوق البوق بصوت عال وبوضوح مناديا برسالة الإنجيـل الخلاصية. أم ليس هذا هو وقت يدعونا أن نحتفل بالعيد، وهو الوقت الذي فيه تبررنا بالإيمان واغتسلنا من أدناس الخطية وأبيد الموت الذي تسلط علينـا وطرح الشيطان من سيادته علينا جميعا، وهو الوقت الذي فيـه قـد اتحـدنا بالمسيح مخلصنا جميعا بواسطة التقديس والتبرير، واغتنينـا برجـاء الحيـاة والمجد اللذين هما نهاية لهما. هذه هي أصوات البوق العالية، وهي لا تسري في اليهودية فقط مثل ذلك الناموس القديم، بل في كل الأرض.

وهذا ما تصوره لكم كتابات موسى لأن إله الكل نزل في شبه نـار علـى جبل سيناء، وكان هناك سحاب وظلال وقتام وصوت بوق شديد جدا، حـسـب الكتاب. (انظر خر 19: 16 ، 19). وكان دوي البوق في البداية ضعيفا ثم أخذ يزداد علوا باستمرار. إذن ما الذي يشير إليه ظل الناموس بهذه الأمور؟ ألا يعنـي هذا أنه لم يكن يوجد أولاً سوى عدد قليل يقومون بنشر أخبار الإنجيل، ثم بعد ذلك صاروا كثيرين؟ فالمسيح عندما بدأ يعمل اختار اثنا عشر رسولاً ثم عين بعد ذلك سبعين آخرين. وليس سبب هذا أن الاثنا عشر الـذين اختارهم أولاً لكرامة الرسولية كان فيهم أي عيب أو إهمال أو أي شيء لا يليق؟ كلا، ولكن بسبب أن جمعا غفيرا كان سيؤمن به، وليس إسرائيل فقط هو الذي أمسك في الشبكة بل وجموع الأمم أيضا. أما عن أن رسالة الخلاص سوف تصل إلـى كل العالم، فقد أشار إلى ذلك أحد الأنبياء القديسين بقولـه: “ينبـت القـضاء كالعلقم في أتلام الحقل” (هو 10: 4 س). فكما أن النجيل ينبت في الخطوط التـي تترك بدون زراعة ويحل فيها ثم ينتشر متقدما باستمرار، هكذا بالتمام البـر، أي النعمة التي تبرر العالم، كما أعلن في أخبار الإنجيل المخلصة، تسود على كل مدينة ومكان.

لذلك، فبالإضافة إلى الاثنا عشر، يوجد أيـضـا سـبعون آخـرون عيـنهم المسيح، وتوجد إشارة لهذا الحدث في كلمات موسى (عد 11: 16)، فبـأمر الله اختار موسى سبعين، وأنزل الله الروح على هؤلاء المختارين. ومرة ثانية نجد الاثنا عشر رسولاً والسبعين أيضا، يشار إليهم بواسطة ظلال الناموس، لأنـه كتب في سفر الخروج عن بني إسرائيل: فأتوا إلى مارة، ولم يقدر النـاس أن يشربوا من مياه مارة، لأنها كانت مرة، فصرخ موسى إلى الرب، فـأراه الله شجرة، فرماها في الماء فصارت المياه حلوة (خر 15: 23). إن معنــى عبـارة مارة حينما تترجم هو مرارة ونحن نعتبرها ترمز إلى الناموس، لأن الناموس كان مرا، إذ أنه كان يعاقب بالموت، وعن هذا يشهد بولس: من خالف ناموس موسی فعلی شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة” (عب 10: 28)، فهو مر إذن وغير محتمل للقدماء (أع 25: 1) وغير مقبول لهذا السبب، كمـا كـانـت المياه المرة تماما، ولكنها صارت حلوة بالصليب الكريم، الذي كانت تلك الخشبة التي أراها الله للمبارك موسى ، مثالاً له. فالآن إذ قد تغيـر الظـل إلـى التأمـل الروحي، فنحن نرى بعيون العقل سر المسيح الذي كـان مخفيـا فـي رمـوز الناموس. لذلك فرغم أن الناموس كان مرا، فقد بطل أن يصير هكذا فيما بعد. وبعد مارة أتوا إلى “إيليم” ومعناها “زيادة أو صعود” وماذا كان أيضا فـي إيليم؟ ” اثنتا عشر عين ماء وسبعون نخلة” (خر 25: 7)، لأنه كلما صعدنا إلى معرفة أكمل، وكلما أسرعنا إلى النمو الروحي، فإننا نجد اثنتي عشر عـين ماء، أي الرسل القديسين، وسبعين نخلة أي هؤلاء الذي عينهم المسيح. فحسن جدا أن يشبه التلاميذ بالينابيع، والسبعين الذين أقامهم بعد ذلك بشجر النخل. فكما أننا نحصل من تلاميذ المسيح على معرفة كل صلاح كمـا مـن ينابيع مقدّسة “فإننا نكرم السبعون أيضا وندعوهم بالنخيل، لأن هذه الشجرة قوية، وذات جذر ثابت، ومثمرة جدا وهي تنمو دائما بجوار المياه، ونحـن هنا نؤكد أنه هكذا ينبغي أن يكون القديسون ذوي ذهـن نـقـي، ثـابتين، مثمرين، ويبهجون أنفسهم باستمرار بمياه المعرفة.

ولنرجع الآن إلى ما كنا نقوله أولا أن الرب، “عين سبعين آخرين”. ولكـن ربما يظن البعض أن الأولين قد رفضوا وجردوا من كرامة الرسـولية، وأن الآخرين رفعوا بدلاً منهم لأنهم أقدر منهم على التعليم، فلنبعد هذه الأفكار عن عقولنا.

فإن الذي يعرف القلوب، والعارف بالأمور الآتية يقول: ” إن الحصاد كثير، اطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده”. فكما أن الأرض الممتلئة بمحصول وافر، وهي واسعة وممتدة، تحتاج إلى عـدد كبيـر مـن الفعلـة القادرين، فكم بالحري كل الأرض، بل وجماعة من سيؤمنون بالمسيح كم هي عظيمة وغير محصاة، وتحتاج ليس إلى عدد قليل من الفعلة بل إلى عدد كبير يكفي للعمل. لهذا اختار المسيح أولئك الآخرين ليكونوا كحلفـاء ومساعدين للاثنا عشر، هؤلاء ذهبوا في إرساليتهم إذ أرسلوا اثنين اثنين إلى كل مدينـة وقرية وهم يصرخون بكلمات يوحنا “أعدوا طريق الرب” (مت 3: 3).

ولاحظوا أنه بينما يقول المسيح “اطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلـة إلى حصاده”، فهو يفعل هذا بنفسه، ورغم أن الذي معنا الآن هو رب الحصاد، أي رب سكان الأرض، إلا أنه هو نفسه بالطبيعة وبالحق، “الله”، لأنـه كمـا يقول الكتاب “له الأرض وملؤها ” (مز٢٤: ١)، وهو خالق الكـل ومـصورهم، ولكن إن كان من اختصاص الله العلي وحده أن يرسل فعلة ” فكيف حـدث أنّ المسيح هو الذي عينهم ؟ أفليس هو إذن رب الحصاد، والله الآب، معه، هـو رب كل شيء. كل شيء إذن له، ولا يوجد شيء مما يسمى، يخص الآب إلا ويخص الابن أيضا. فهو نفسه قال للآب: “أولئك الذين أعطيتني من العـالم، كانوا لك وأعطيتهم لي” (يو17: 6) فكما قلت، إن كل ما يخص الآب واضح أنه يخص الابن، وهو يشع بأمجاد أبيه، فمجد الألوهية يخصه، لا كشيء موهوب له من آخر، ولكن قائم في كرامة تخصه بالطبيعة، تماما مثل الذي هو ابنـه والحكيم يوحنا يؤكد أيضا أننا جميعنا له، فيقول عنه: “أنا أعمدكم بماء. ولكن يأتي بعدي من هو أقوى مني، هو سيعمدكم بالروح القدس والنار، الذي رفشه في يده، وسينقی بیدره، وسيجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ ” (مت 3: 11).

ليت نصيبنا إذن كقمح عقلي، أن نحمل إلى المخـزن أي إلـى المـنـازل العلوية: لكي ننعم هناك في صحبة القديسين بالبركات التي يمنحها الله فـي المسيح، الذي به ومعه الله الآب المجد والسلطان مع الروح القدس إلـى دهـر الدهور آمین.

عظة (61) ” لأجل تذكارات الرسل ” لو10: 3

(لو 10: 3) “اذهبوا! ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب “.

الذين يمدحون الكلمة الإلهية والمقدسة بصواب وبدون خطأ، هـم بالتأكيـد حلفاء تعاليم الحق وهم. أفضل معلميه، ويعرفون جيدا كيف يقودون باستقامة كل من يرغب في النمو في المسيح، إلى كل عمل صالح وإلى الحيـاة غيـر الفاسدة، وإلى الاشتراك في البركات الموهوبة لنا. وعن هؤلاء يعلن الحكيم جدا بولس أنهم “أنوار في العالم متمسكين بكلمة الحياة” (في 2: 15).

والتلاميذ الإلهيون هم أول هؤلاء الرجال البارزين والمشهورين، ويعتبرون | المتقدمين في الترتيب، كان لهم معلما هذا الذي هو المعطي لكل فهم، والـذي يسكب نوره على أولئك الذين يحبونه، فهو النور الحقيقي الذي ينير السماء بل والقوات التي فوق، وهو الذي يخلص من الجهالة والظلمة أولئك الذين علـى الأرض أيضا. لاحظ كيف أنه جعل المعلمين المعينين (للكرازة) لكـل الـذين تحت الشمس، فعلة مستعدين، ذوي غيرة شديدة، وقادرين أن يفـوزوا بمجـد الانتصارات الرسولية، غير مفضلين أي أمر من شئون العالم علـى واجـب الكرازة بالرسالة المقدسة، وهكذا أعدوا ذهنهم بكل شجاعة أن يرتفعوا فـوق كل المخاوف، لا يرتعبون ولا قيد أنملة في الشدائد، ولا ينزعجون من الموت ذاته عندما يأتي عليهم لأجل المسيح. لأنه يقول لهم: “اذهبـوا”. وفـي هـذه الكلمة “اذهبوا” يشجعهم ليصيروا أشداء، ويجعلهم يرغبـون باشتياق فـي الانتصارات المقدسة، وهكذا يؤسسهم ثابتين راسخين أمام كـل تجربـة، ولا ! يدعهم ينكمشون أمام عنف الاضطهادات. وعندما تبـدأ المعـارك، ويفرغ الأعداء سهامهم، فإن القادة الأبطال يشجعون من تحت إمرتهم أن يقـاوموا هجمات العدو، ويحتملوا بشجاعة، فيقولون لهم مثل هذه العبارات: ” يا رفاقنا الجنود، لا تنزعج أفكاركم من كل هذه الأشياء التـي ترونهـا، فـنـحـن لـسـنا ضعفاء، ولسنا غير محنكين في القتال، ولكن اعرفوا جيدا طرق القتال، فنحن نملك دروعا مصفحة قوية الصنع، ونملك أسلحة وسيوفا وأيضا أقوامـا ورماحا، وبالجهاد سننال النصرة، وشجاعة القلب ستحرز لنـا بحـق شـهرة مجيدة. هكذا إذا جاز لنا القول فإن مخلصنا أرسل تلاميذه إلى جمـوع غيـر المؤمنين قائلاً: ” ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب”.

ماذا تقول أيها الرب، كيف يستطيع الحمل أن يتحدث مع الذئاب؟ متى كان الحيوان المفترس في سلام مع الحمل ؟ فبالكاد يستطيع الرعـاة أن يحمـوا قطعانهم بجمعهم في الحظائر وأن يغلقوا عليها داخل السياجات، وبتخويـف الوحوش التي تريد أن تفترس الحملان بواسطة نباح الكـلاب، بـل وأيضا يحاربون بأنفسهم ليدافعوا عنها، ويخاطرون لأجل حماية الأعضاء الضعيفة في قطيعهم. كيف إذن يأمر الرب الرسل القديسين الذين بلا لوم ـ كحملان – أن يصاحبوا الذئاب ويذهبوا إليهم بأنفسهم؟ أليس الخطر ظاهر ًا؟ أما يصبحون فريسة جاهزة لهجماتها؟ كيف يستطيع الحمل أن ينتصر على الـذئب؟ كيـف يمكن للمسالم جدا أن يقهر توحش الحيوانات المفترسة؟ نعم، إنه يقـول: أنـا الراعي لهم جميعا، للصغير وللكبير، لعامـة النـاس وللأمـراء، للمعلمـين والمتعلمين، سأكون معكم وأساعدكم وأخلصكم من كل شر. . سأذلل الحيوانـات المتوحشة، سأغير الذئاب إلى حمـلان، وسأجعل المضطهدين مساعدين للمضطهدين وسأجعل من يسيئون إلى خرافي شركاء في خططهم المقدسة، أنا أصنع كل الأشياء، وأنا أحلها، ولا يوجد شيء يستطيع أن يقاوم إرادتي.

هذه هي النتيجة الفعلية التي حدثت والتي نراها في أمثلـة تـمـت بالفعـل، فبولس الإلهي كان مجدفا ومضطهدا، كان أكثر إيذاء وقسوة من أي ذئب على أولئك الذين آمنوا بالمسيح، فهل استمر في هذا السلوك؟ هل ظل ذئبـا إلـى النهاية؟ كلاً بالمرة، لأنه دعي من المسيح واختبر تغييرا غير متوقـع، وهـذا 

الذي كان في القديم ذئبا أصبح أكثر وداعة من الحمل، وكرز بالإيمان الـذي كان يوما يضطهده، وكان مثل هذا التغيير غير المنتظر دهشة لجميع النـاس، والمسيح تمجد، لأنه غيره من وحش مفترس إلى حمل. وهذا ما أنبأ به يعقوب الإلهي في بركته بشأنه إذ قال: “بنيامين ذئب مفترس، في الصباح يأكل لحما، وفي المساء يقسم غنيمته” (تك 49: 27 س). لأن الحكيم بولس كـان مـن سـبـط بنيامين، وكان في الأول كذئب مفترس يقاوم الذين آمنوا بالمسيح، ولكن بعـد وقت قصير أي فترة، كما من الصباح إلى المساء، قسم غنيمته، لأنه علم عن يسوع وكرز به، والأطفال في المعرفة سقاهم لبنا، أما البالغين فقدم لهم طعاما قويا. ففي الصباح يأكل لحما وفي المساء يقسم ذبيحته، وهذا شيء مختصر فيما يخص المبارك بولس.

ولكن هيا بنا نناقش نقطة مشابهة، ألا وهي دعوة الأمم، دعنا نرى مـا إذا كانوا ـ في وقت ما ـ هم أيضا وحوشا كاسرة، وأكثر توحشا من الذئاب ضد خدام رسالة إنجيل الخلاص، وكيف أنهم تحولوا إلى الوداعة وعـدم الغـش بمعونة المسيح، فهم أيضا اضطهدوا الرسل القديسين، ليس كأناس يحاربون الذئاب، بل كالوحوش المفترسة يهيجون بوحشية ضد الحملان، ورغم أنهم لم يسيئوا إليهم بل دعـوهم إلـى الخـلاص، إلا أنهـم رجمـوهم وسجنوهم واضطهدوهم من مدينة إلى مدينة، إلا أن هؤلاء الذين تصرفوا هكـذا أولاً أصبحوا فيما بعد ودعاء وبلا غش، وصاروا كالحملان التـي كـانوا قـد اضطهدوها!

من سوى يسوع المسيح ربنا يعمل كل هذه الأمور؟

لأنه هو أيضا الذي ” نقض حائط السياج المتوسط مبطلا ناموس الوصـايا في فرائض، والذي خلق الشعبين في نفسه إنسانا واحدا جديدا صانعا سـلاما مصالحا الاثنين في جسد واحد مع الأب” (أف 2: 14). ها قـد صـار انضمام للإيمان باتفاق واتحاد الفكر والإرادة ـ للمتوحشين مع الودعـاء، للنجـسين والملوثين بالخطية مع القديسين، أي هؤلاء الذين من قطعان الأمم مع أولئـك الذين آمنوا من إسرائيل، وعن هذا يتكلم إشعياء النبي بالروح ويقول: “فيرعى الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي، وترعى البقرة والدب معا، ويأكل الأسد والثور التبن معا، ويربض أولادهما معا ” (إش 11: 6 س).

اعلم أيها الحبيب وافهم، أن أولئك الذين تقدسوا بالإيمان لم يشاكلوا الأمـم في عاداتهم، بل بالعكس، فإن المدعوين من الأمم هم الذين شـاكلوهم، فـإن الذئب والأسد والنمر والدب هي حيوانات آكلة لحـوم، أمـا الحيوانات ذات الطبيعة الهادئة كالجداء والحملان والثيران تغتذي بالعشب. ولكن الحيوانـات المفترسة، يقول النبي، سوف ترعى مع الحيوانات الأليفة وتغتذي بطعامها. إذن فليست الحيوانات الأليفة هي التي شاكلت عادات المتوحشة، لقـد حـدث العكس كما قلت، إذ تمثلت الحيوانات المتوحشة بالحيوانات الأليفة، إذ تخلـوا عن الاتجاهات الشرسة وتحولوا إلى الوداعة التي تليق بالقديسين، وتغيـروا بالمسيح حتى صارت الذئاب حملانا، لأنه هو الذي صيرهم ودعـاء، ووحـد الشعبين كما قلت، إلى ذهن مملوء بمحبة الله. هذا ما أعلنه موسى النبي فـي القديم صارخا: “تهللوا أيها الأمم مع شعبه، أعطوا عـزة لله” (تث 32: 43 س). فلنعظمه ونكرمه بالتماجيد، بسبب المخلص رب الكل الذي به وله مـع الآب التمجيد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

عظة (٦٢) ” لأجل تذكارات الرسل ” -۲

(لو 10: 4-7): “لا تحملوا كيسا ولا مزودا ولا أحذية، ولا تسلموا على أحد في الطريق. واي بيت دخلتموه فقولوا أولا: سلام لهذا البيت. فإن كان هناك ابن السلام يحل سلامكم عليه، وإلا فيرجع إليكم. وأقيموا في ذلك البيت اكلين وشاربين مما عندهم، لأن الفاعـل مستحق أخوته. لا تنتقلوا من بيت إلى بيت “.

النحلة الحكيمة الماهرة تزور الزهور في الحقول والمروج، وتجمع الأكـل من عليها ومنه تصنع العسل الحلو، والحكيم سليمان يدعونا لنحاكيهـا فـي سلوكها فيقول: ” اقترب من النحلة وتعلم من كدها، وكم هو رائع نتاجها، لذلك فهو ممدوح ومحبوب من كل الناس، ومن (نتاجها) يستخدم الملوك والعظمـاء لأجل صحتهم” (أم 6: 8 س). تعال الآن إذن ودعنا نتجول في المـروج العقليـة لنجمع الندى المتساقط من الروح القدس على رسالة الإنجيل الإلهية، حتى إذا ما امتلأت عقولنا بالغني نحصل على العسل الروحاني، أي الكلمـة المفيـدة والنافعة لكل العطاش لوصول التعاليم الإلهية، إن كانوا نـبلاء مشهورين أو خاملي الذكر أو بسطاء في دعة من الحياة، لأنه مكتوب ” الكلمـات الطيبـة كقرص الشهد وحلاوتها شفاء للنفس” (أم 16: 24).

والآن ماذا تكون هذه الكلمات الطيبة الرقيقة إلا ما يقوله لنا المسيح، جاعلاً هؤلاء الذين يحبونه حاذقين بسبب تكرار تعليمهم في السعي المقـدس؟ وخـذ دليلاً على كلامي هذه العبارات التي تليت على مسامعنا الآن: “لا تحملـوا كيسا ولا مزودا ولا أحذية”. أتوسل إليك، تفهم طبيعة طريق القداسة الرسولي _ المرسوم لهم، لأنه يجب على هؤلاء الذين سيصيرون أنوارا ومعلمـين لكـل الذين تحت السماء ألا يتعلموا من آخر سوى الذي هو الكلمة الذي نـزل مـن فوق، من السماء، نبع الحكمة والنور العقلي، الذي منه يأتي كل فهم ومعرفـة وكل صلاح. ما يريده منهم إذن هو أنهم عندما يعلمون الناس في كل مكـان بالكلمة التي قالها لهم، وفي دعوتهم لسكان الأرض كلها للخلاص، يجب عليهم أن يسافروا بلا كيس ولا مزود ولا لحنية، وأن يمضوا بسرعة من مدينة إلى مدينة ومن مكان إلى مكان. ولكن يجب ألا يقول أحد بأي حال أن الهدف من تعليمه هذا هو أن يجعل الرسل يرفضون استخدام الأدوات الطبيعية، لأنه ماذا ينفعهم أو ماذا يضرهم إذا كان لهم حذاء في أرجلهم أو يمضوا بدونه، ولكـن للذي يرغب أن يعلموه من هذه الوصية وأن يجتهدوا أن يمارسوه هـو هـذا بالتأكيد: ينبغي أن يلقوا بكل تفكير في احتياجهم وقوتهم عليـه، وأن يـذكروا القديس الذي قال: “ألق على الرب همك فهو يعولك” (مز 54: 23) لأنه يعطـي القديسين ما يلزمهم للحياة، وهو لا يتكلم عبثا حيث يقول: “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون، لأن أباكم السملوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولا ملكوت الله ويره وهذه كلها تزاد لكم” (مت 6: 25).

لأنه كان حقا لائقا جدا بهؤلاء المتحلين بالكرامات الرسولية أن يكون لهـم ذهن خال من الشهوة، وكارها تماما لتقبل الهدايا، بل وبالعكس قانعا بما يمنحه الله، لأنه كما يقول الكتاب: “لأن محبة المال أصل لكل الشرور” (1تـي 6: 10)، لذلك كان يجب ـ ومن كل جهة ـ أن يكونوا أحرارا ويكونوا معفين مما هو أصل ومغذي كل الشرور، ويوجهوا كل غيرتهم إلى واجباتهم الضرورية، فلا يتعرضوا هكذا لهجوم الشيطان إذ أنهم لا يأخذون معهم أي ثروة عالمية، لكن يحتقرون أمور الجسد راغبين فقط في ما يريده الله.

وكما أن الجنود الشجعان عندما يمضون إلى المعارك لا يحملون معهم شيئا سوى ما يخص الحرب فقط، هكذا كان لائقا أن أولئك الذين أرسلهم المسيح ليعينوا العالم وليشنوا حربا ضد ” ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر” (أف 6: 12)، نعم بل وضد الشيطان نفسه، لحساب الذين كانوا في خطر، يجب أن يكونوا أحرارا من جميع مجاذبات هذا العالم ومن كل اهتمام عالمي، حتـى يكونـوا متمنطقين بإحكام، ولابسين السلاح الروحي، فإنهم يجاهدون باقتدار ضد أولئك الذين قاوموا مجد المسيح، وقد جعلوا كل الذين تحت السماء غنيمة لهم، لأنهم جعلوا سكانها يعبدون المخلوق بدلاً من الخالق، وأن يقدموا خدمـة دينيـة لعناصر الكون، فيجب أن هؤلاء التلاميذ يتسلحون بترس الإيمان ودرع الحق وسيف الروح الذي هو كلمة الله، حتى يبرهنوا أنهم بحق مقاومين للأعـداء لا يقهرون، فلا يجرون خلفهم حملاً ثقيلاً من الأشياء التـي تـستوجب اللـوم والإدانة: كمحبة الغني، والمدخرات من الأرباح الخسيسة، والتلهف نحوهمـا، لأن هذه الأشياء تحيد بذهن الإنسان عن السلوك الذي يرضي الله، ولا تسمح له بالصعود نحوه، بل بالحري تحدره إلى مشاعر متعلقة بالتراب والأمـور الأرضية.

فبتوجيه الرب للتلاميذ ألا يحملوا كيسا ولا مزودا… وبالأكثر ألا يشغلوا أنفسهم بالحذاء، فهو إنما يعلمهم بوضوح أن وصاياه تلزمهم أن يتخلوا عن كل غنى جسداني وأن يتحرروا من كل عائق عند دخولهم إلى العمل الذي دعـوا خصيصا له: عمل الكرازة، أي تعليم سر المسيح للناس، في كل مكـان، وأن يربحوا إلى الخلاص الذين كانوا متورطين في شباك الهلاك.

ثم يضيف على هذا أنهم: “لا يسلموا على أحد في الطريـق”، ولكـن أي ضرر يسبب السلام للرسل القديسين؟ تعالوا إذن، تعالوا لنرى لمـاذا وجـب عليهم ألا يسلموا على أحد من الذين يقابلونهم، بلا شك سوف تقول إنـه قـد يحدث أن يقابلوا غير مؤمنين، فلا يصح إذن لهؤلاء الذين لا يعرفـون هـذا الذي هو الله بالطبيعة وبالحق، لا يصح أن يتقبلوا البركة من التلاميذ.

ماذا نقول ردا على هذا التفكير؟ ألا يظهر أنه افتراض غيـر مقبـول أن يكون هذا هو السبب الذي لأجله أوصاهم الرب ألا يسلموا علـى أحـد فـي الطريق؟ لأنه أرسلهم لا ليدعوا أبرارا بل خطاة إلى التوبة (مت 9: 13)، فكيـف لا يكون مناسبا لهؤلاء الذين أرسلوا ليغيروا الذين في الظلمة، وليأتوا بهم إلى معرفة الحق، أن يستخدموا الرقة واللطف بدلاً من أن يبتعدوا عنهم بخـشونة ويرفضون مصاحبتهم، بل وحتى يرفضون السؤال عن صحتهم؟ فبالتأكيد إنه بالإضافة إلى الصفات الأخرى الجيدة، فإن رقة الحديث مع صـفات حـسنة أخرى هي أمور تليق بالقديسين، وهكذا التحيات ما دامـت تـؤذى بطريقـة مناسبة. وقد يحدث أن يكون من يتقابلون معهم، ليسوا من غير المؤمنين بـل من نفس معتقدهم، أو من الذين سبق أن استنيروا، الذين يجب تقديم المحبة لهم عن طريق تحية رقيقة.

هو فماذا يقصد المسيح إذن من تعليمه هذا؟ إنه لا يوصيهم أن يكونوا شرسين ولا يأمرهم أن لا يهتموا بعدم التحية، هو بالحري يعلمهم أن يتحاشوا مثل هذا التصرف. ولكن السبب أنه قد يحدث أنه بينما يسافر التلاميذ بـيـن المـدن والقرى ليعلموا الناس الوصايا المقدسة، فإنهم قد يرغبون في أداء هذه المهمة، ليس بسرعة بل بتلكؤ وإذ يحيدون عن الطريق ليروا صديقا أو آخر، وهكـذا فإنهم سيصرفون الوقت المناسب للتعليم بإضاعته في أشياء غير هامة، لـذلك فهو يقول لهم: كونوا متحمسين وفي اجتهاد شديد لتوصيل رسالتكم المقدسـة، وألا يبطئوا بلا سبب من أجل صداقة ما، ولكن ليكن مـا يرضي الله هـو المفضل لديكم عن كل الأشياء الأخرى، وهكذا إذ تمارسون اجتهادا لا يقـاوم ولا يعرقل، فإنكم تمسكون تماما باهتماماتكم الرسولية.

وإلى جانب ذلك هو يوصيهم أيضا قائلا: “لا تعطوا القـدس للكـلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير” (مـت 7: 6)، وذلك بأن يمنحوا لغيـر المـؤمنين الشركة بالإقامة عندهم، بدلاً من أن يمنحوها متفضلين بها لمن يستحقون، بأن يكونوا وا أبناء سلام ومطيعين لرسالتهم، لأنه أمر مكروه لهم أن يقتربوا مع من لا يزال يقاوم مجد المسيح، ويخطئ بعدم الإيمان، لأنه ” أي نصيب للمـؤمن مع غير المؤمن؟” (2كو 11: 15)، لأنه كيف يمكن للذين لم ينصتوا بعد لكلمـات الرسل، وللذين يجعلون من تعاليمهم الجديرة بالاعتنـاق، فرصـة أحيانـا للسخرية، كيف يمكن لهؤلاء أن يقبلوا الرسل كمستحقين لإعجابهم؟ وهذا مـا حدث في أثينا أيضا، فالبعض هزءوا ببولس الإلهي لمـا علمـهـم ” أن الله لا يسكن في هياكل مصنوعات بالأيادي” (أع 17: 24)، فهو غير مادي ولا نهايـة له، وهو الذي يملأ الكل ولا يحويه شيء، ثم بين لهم أنه يعلمهم عن ” الـذي مع أنهم لا يعرفونه يتصورون أنهم يعبدونه بالحق” ولكنهم إذ سلموا أنفسهم للعجرفة وهم يعظمون أنفسهم بسبب طلاقة ألسنتهم قالوا في غبـائهم: ” مـاذا يريد هذا المهزار أن يقول؟ لأنه يظهر مناديا بآلهة غريبة”. أما كلمة مهـزار Seed Picker فهي اسم لطائر لا قيمة له، والذي من عادته أن يلتقط البـذار من الطريق، وهم إذ يشبهون بولس الإلهي به، فإن هؤلاء الأغبيـاء يـهـزأون بكلمة الخلاص التي قدمت لهم.

لذلك أوصاهم المسيح أن يسكنوا مع أبناء السلام، وأن يأكلوا على نفقتهم، مبينا أن هذا قانون عادل “لأن الفاعل مستحق أجرته” ؟ لذلك يجب على كـل من يقبل الحق ألا يهمل بل يعتني بواجب إكرام القديسين لأنهـم يباركوننـا: حينما يزرعون لنا الروحيات، فإنهم يحصدون منا الجسديات، ” هكــذا أمـر الرب أيضا أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون” (1کو 9: 11 ، 14) حيث إنه أيضا بحسب ناموس موسى فإن ” الذين يقدمون الذبائح يشاركون المذبح”.

فيجب على الذين لا يعتنون بإكرام القديسين ويمسكون أيديهم بشح عنهم، أن يتأكدوا أنهم إنما يحرمون أنفسهم من بركتهم، وليكن نصيبنا في أن نكـون شركاء البركات التي أعدها الله لهم، بأن نقدم لهم كثمر أي شيء نملكه، ونفعل هذا بشعور المسرة، لأن المعطي المسرور يحبه المسيح (2کو 9: 7) الـذي بـه ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

عظة (63) كرامة الرسل وألوهية المسيح لو10: 16

(لو 10: 16) “الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يزذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني”.

عندما يريد الذين يتسلطون على الممالك الأرضية والـذين لهـم الـسلطة العالمية أن يبجلوا الناس المشهورين بكرامات هذا العالم فإنهم يرسلون إليهم الرسائل المحتوية على المراسيم التي تأمر بتعيينهم، وتحوى هـذه الرسـائل تزكيات لهم وإشادة بأفضالهم. هذا ما نرى المسيح يفعلـه الآن. مـا أعظـم السلطان الذي خوله المسيح للرسل القديسين وجعلهم جديرين بالمديح وزيـنـهم بأعظم الكرامات. دعونا نبحث في الكتاب المقدس أي كنز كلمـات الإنجيـل المكتوبة، فنرى هناك عظمة السلطان المعطى لهم، فنجد: ” الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني” يا له من شرف عظيم! إنها كرامة لا تقارن بأي شيء! ما أعظم هذه العطية التي تليـق بالله! فمع أنهم بشر، وأولاد التراب، فالرب يسربلهم بمجد إلهي، ويأتمنهم على كلامه، حتى يدينوا المقاومين والذين يجرؤون على رفضهم، وهو يؤكـد أنـه بشخصه هو الذي يتألم من رفض المقاومين لهم، وأن ما يصنع ضده يمتد إلى الله الآب، فانظروا إذن وافهموا بعيون ذهنكم لتروا إلى أي ارتفاع يرفع خطية القوم الذين يرفضون القديسين، يا له من سور يحيطهم بـه، وأي طمأنينـة عظيمة يوجدها لهم، ويجعلهم مهوبين بكل الطرق ويحفظهم من الأذى. وتوجد وسيلة أخرى يمكنكم بها فهم معاني حديث المسيح وهـو يـقـول:” الذي يسمع منكم يسمع مني”. إنه يعطي هؤلاء الذين يبغون التعلم الضمان بأن كل ما يقوله الرسل الأطهار أو الإنجيليين عنه يجب أن يقبل بدون شـك، وأن يكرم بكلمات الحق، لأن من يسمع منهم يسمع من المسيح، كمـا يقـول المغبوط بولس أيضا: “أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فـي” (2کو 13: 3)، والمسيح نفسه يقول للرسل القديسين في مكان آخر: “لستم أنتم المتكلمين ولكن روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (متر10: 20)، فالمسيح يتكلم فيهم بـالروح القـدس الواحد معه في الجوهر. وإذا كان هذا صحيحا وواضح أنه صحيح، أنهـم يتكلمون بالمسيح، فكيف يمكن للإنسان أن يخطئ ضد ما هو أكيد: أي أن من لا يسمع لهم لا يسمع للمسيح، ومن يرذلهم يرذل المسيح ومعه الآب.

فالعقاب المقرر للهراطقة الأشرار محتم، لأنهم يرفضون كلمـات الرسـل القديسين والبشيرين ويقلبون معاني هذه الكلمات التي بدون فحصها جيدا تبدو لهم صحيحة. إنهم يحيدون عن الطريق المستقيم، ويضلون عن تعاليم التقوى: مضلين ومضلين” (2تی 3: 13)، لأنهم إذا تحولوا عن الكتـب المقدسـة فـإنهم يتكلمون من قلوبهم وليس من فم الله (إر 23: 16 س) كما يقول الكتاب.

فبينما يكتب المغبوط يوحنا البشير: ” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” (يو 1: 1)، نراهم يقلبون كلاً من العقيدة الخاصـة بالمـسيح والاقتباس الدال عليها إلى العكس تماما قائلين إن الكلمة، الابن الوحيد من الله، لم يكن في البدء، وليس الله نفسه، بل وأيضا لم يكن مع الله، أي في اتحاد معه بالطبيعة، لأن غير المادي كيف يمكن تصور وجوده في أي مكـان؟ هـؤلاء المتوقحون يقولون إنه مخلوق، ويقيسون مجده بأن يرفعوه فـوق المخلوقـات بقدر ما تحمل اللغة من ثناء، وإذ يخترعون هذه العظمة المجـردة والعاريـة يظنون أنهم يضعون شيئا بحكمة أو حتى بتقوى، ولا يدرون أنه لو اعتبـر لأي سبب أنه مجرد كائن مخلوق، فإنه يصبح من العبث إثبات أنه الله حقـا، وإن كان من أي وجهة هو مخلوق، وطبيعته مشابهة للأشياء المخلوقة، فينتج من ذلك أنه كما يؤكدون لم يكن موجودا في البدء، لأنه لا يمكن للمخلـوق أن يكون بلا بداية. فكيف يقول الحكيم بولس إذن: “الآب بـه عمـل العـالمين” (عب 1: 2). فإن كان مخلوقا، فلابد أن يكون له بداءة وجود، ولابد أنه قد كـان هناك زمان سابق على وجوده، وكان لابد أيضا من وجود زمان لم يكن فيـه الآب أبا كما يدل اسمه، بل لم يكن على الإطلاق أبا بالطبيعة، ولذلك تكـون الكلمة التي أتت إلينا بشأنه غير صحيحة. وهكذا يصير أيضا بالنسبة للابـن، ويكون كلا الاثنان قد دعيا هكذا كذبا.

كيف إذن يمكن أن نصدق قول الابن “أنا هو الحق” (يو14: 6)، كيف يكون هو الحق ذاك الذي لا يكون بحسب ما يدل عليه اسمه، وكيف لا يكون بولس مخطئا في كلماته عندما يكتب: “لأن ابن الله يسوع المسيح الذي كرز به بينكم بواسطتنا أنا وسلوانس وتيموثاوس لم يكن نعم ولا” (2کو 1: 19). كيف ” لم يكن نعم ولا” أن قيل إنه الله، ولم يكن هو الله بالطبيعة؟ وأن يدعى ابنا “وهو ليس ابن الآب؟” إذ قالت الكتب الإلهية الموحى بها إن العالمين خلقت به، بينما كان هناك وقت قبل وجوده؟ إذا كانت كل الأشياء قد وجدت به بينما هو نفسه واحد من هذه الموجودات، إذا اعتبرناه مخلوقا؟ إذا فهل هو دعي بالابن الوحيد وهو ليس هكذا بالحق؟ لأن الأشياء التي أوجدت من العدم بـالخلق، توجـد بـين بعضها البعض قرابة. ولكننا نحن لا نتبع كلمات هؤلاء القوم الباطلة، ونهمـل كتابات الرسل والمبشرين القديسين. أي نحن لا نرذلهم لكي لا نرذل المسيح وبه ومعه نرذل الآب. نحن نؤمن بأن الابن الوحيد كلمة الله هو الله، وهو ابن الله بالطبيعة، وأنه غير مخلوق ولا مصنوع بل هو خالق كل الأشياء، ولـيس سموه هكذا فقط بل هو بالحري جوهريا مع الآب عال فوق الكـل. وعنـدما تسمع أيضا البشير يوحنا يقول: “والكلمة صـار جـسـدا”، فنحن لا نزيف التعبير، ولا نستعمل العنف ضد هذه الإعلانات الواضحة، ولا نقلـب سـر المسيح إلى ما هو ليس صحيحا. نحن نؤمن أن الكلمة، مع أنه هـو الله، فقـد صار جسدا، أي إنسانا وليس أنه اصطحب معه إنسانا في كرامة متساوية، كما يتجاسر البعض ويفكرون ويقولون بأن كلمة الله الذي من الآب نعتبـره ابنـا على حدة، أما الذي خرج من العذراء القديسة فهو آخر إلى جـواره منفصلاً عنه وعلى حدة. هذه هي الاختراعات الدنسة لهؤلاء الناس. أما نحن فنوافـق المبارك بولس إذ يقول: “رب واحد، ایمان واحد، معمودية واحـدة” (أف 4: 5). فنحن لا نقسم غير المنقسم. ولكن نعترف بمسيح واحد، الكلمة الذي مـن الله الآب، الذي تجسد وصار إنسانا، الذي تعبده الملائكة وتكرمه، ونحـن أيـضا نسبحه معهم ونكلله بالمجد الإلهي، ليس كإنسان أصبح إلها بل كإلـه صـار إنسانا. وإذ نتمسك بهذا الرأي عنه، فإننا بواسطة (شخصه) سـنـدخل ملكـوت السموات، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمین.

عظة (64) المسيح يخضع الشياطين للتلاميذ لو10: 17-20

(لو10: 17-20) “فرجع السبعون بفرح قائلين: يارب، حتـى الـشياطين تخضع لنـا باسمك!. فقال لهم: رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا: أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات “.

قال أحد الأنبياء القديسين: ” هل يعمل الله شيئا دون أن يعلنـه لخدامـه الأنبياء” (عا 3: 7)، لان إله الكل قد كشف للأنبياء القديسين هذه الأمـور التـي ستحدث فيما بعد، لذي يعلنوها مسبقا حتى أنه حينما يتحقـق مـا قد سبق وأخبروا به فلا يمكن لأحد أن لا يصدقهم. ومن يريد يمكنه أن يرى أن ما قد أكدناه الآن هو صحيح حتى من الدروس التي أمامنا. يقول الكتـاب: “فرجـع السبعون بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسـمك” لأن الـرب عين أولاً اثنا عشر تلميذا قديسين ومختارين وجديرين بكل إعجـاب. ولكـن، وبحسب ما قد أوضح المسيح أن ” الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون” (لو 10: 2)، فإنه عين بالإضافة لهم سبعين آخرين أرسلهم إلى كل قرية ومدينة في اليهودية أمام وجهه، حتى يكونوا سابقين له، وليبشروا بالأمور المختصة به.

وعندما أرسلهم، فإنه شرفهم بنعمة الروح القـدس، وأيـدهم بقـوة عمـل المعجزات حتى يصبح مستحيلاً أن لا يصدقهم الناس، ولا أن يظنوا أنهم دعوا أنفسهم بأنفسهم إلى الرسولية، كما تنبأ البعض في القديم، كما يقول الكتـاب: “لم يتكلموا بما أوحى به فم الرب” (إر 23: 16)، فيتقيأون كذبا من قلوبهم. كمـا تكلم الرب بفم إرميا في موضع آخر قائلاً: ” إني لم أرسل هؤلاء الأنبياء ومع ذلك انطلقوا راكضين ولم أوح لهم ومع ذلك يتنبأون” (إر 23: 21) وأيـضـا فـي موضع آخر: ” إن الأنبياء يتنبأون زورا باسمي وأنا لم أرسلهم ولم أمرهم ولم أكلمهم” (إر 14: 14). وحتى لا يشك الناس في الـذين أرسـلهم المسيح، فإنـه أعطاهم السلطان على الأرواح النجسة والقدرة على عمل الآيات، لأنه إذا مـا تبعت المعجزة الإلهية الكلمة، فلن يمكن لا للمشتكي أو لليهـودي الكاذب أن يجد فرصة ضدهم، لأنهم سيوبخون بسبب اتهامهم لهم بلا سبب، بل بـالحري لأنهم قصدوا أن يحاربوا الله. إن عمل المعجزات لـيـس فـي اسـتطاعة أي إنسان، إلا إذا أعطاه الله القوة والسلطان لهذا الغرض. إن نعمة الروح شهدت لهؤلاء الذين أرسلهم المسيح أنهم لم يكونوا أشخاصا ركضوا من أنفسهم، أو دعوا أنفسهم للكلام عن المسيح، بل على العكس، إنما هم قد أقيمـوا ليكونـوا خداما لرسالته.

إن السلطان الذي حمله التلاميذ لينتهروا الأرواح الشريرة، والقوة لـسحق الشيطان، لم تعط لهم لكي ينظر الناس إليهم بإعجاب، بل لكي يتمجد المسيح بواسطتهم، ولكي يؤمن أولئك الذين يعلمونهم أنه هو بالطبيعة الله وابـن الله، ولكي يكرم بالمجد العظيم والعلو والقوة لكونه استطاع أن يمنح الرسل القـوة ليطأوا الشيطان تحت أقدامهم.

أما التلاميذ، الذين حسبوا مستحقين لهذه النعمة العظيمة، فالكتـاب يقـول إنهم: “رجعوا بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك”. إنهـم اعترفوا بسلطان المسيح الذي شرفهم به، وتعجبوا من قوته الفائقة والعظيمـة. ويبدو أنهم فرحوا، ليس كثيرا بسبب أنهم خدام للرسالة، ولا لأنهم حسبوا أهلاً للكرامات الرسولية، بقدر فرحهم لأنهم صنعوا معجزات. ولكـن كـان مـن الأفضل لهم أن يعرفوا أنه أعطاهم القوة لصنع المعجـزات لا لينظـر إلـيـهم الناس بإعجاب لهذا السبب، ولكن لكي تقبل بـشارتهم وتعـاليمهم، إذ يـشـهد الروح القدس لهم بالآيات الإلهية. كان الأجدر بهم أن يفرحوا بالذين ربحـوا للمسيح ويجعلوا هذا سببا للتهليل. كما افتخر الحكيم جدا بولس بالـذين دعـوا بواسطته قائلاً: “يا سروري وإكليلي” (في 4: 1). أما التلاميذ فلم يقولوا شيئا من هذا النوع، ولكنهم فرحوا فقط بسبب أنهم استطاعوا أن يسحقوا الشيطان. وماذا كانت إجابة المسيح؟: “رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء” أي، أنا أعلم هذا تماما، لأنكم بما أنكم ذهبتم في هذه الرحلة بتفويض مني، فقد قهرتم الشيطان. “رأيته نازلا كالبرق من السماء”، أي سقط من العـلاء إلـى الخزي، من القوة العظيمة إلى منتهي الضعف. وهذا القول حق، فقبل مجـيء المخلص تملك الشيطان على العالم، وكان الكل خاضعا له، ولم يكـن إنـسـان يقدر أن يفلت من شباك قوته الساحقة، الكل كانوا يعبدونه، وفي كـل مكـان كانت تشيد له هياكل ومذابح لتقديم ضحايا، وكان له جمهور لا يحصى مـن العابدين. ولكن لأن الابن الوحيد كلمة الله قد جاء من السماء، فإنه سقط مثـل البرق، وهذا الذي كان قديما وقحا ومتشامخا، الذي كان يتنافس علـى مـجـد الألوهية، والذي كان يعبده كل الذين في الإثم، وضع الآن تحت أقـدام الـذين كانوا يسجدون له. أليس حقا إذن سقط من السماء إلى الأرض، بمعاناته لمثـل هذا السقوط الفظيع والمرعب؟

من هو إذن، الذي حطم قوته وأذله إلى هذا الحضيض؟ واضح أنـه هـو المسيح، وهذا أعلنه لنا الرب في كلماته: ” ها أنا أعطيكم سـلطانا لتدوسـوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء”. ولكن قد أحـد ويقول: ” إننا يا سيد نفرح بالمجد والنعمة اللتين منحتهما لنا، لأننا نعترف أنه حتى الشياطين تخضع لنا باسمك، وكيف إذن سنخبر أولئك الذين يعرفون هذا وقد اعترفوا به صراحة”؟ ” ها أنا قد أعطيتكم سـلطانا أن تدوسـوا الحيـات والعقارب”. يقول، نعم ـ إنني أدعوكم أن تتذكروا هذه الأشياء التي تعرفونها، حتى لا تنساقوا ا بجهالة اليهود، الذين إذ لا يعرفون سر تجسدي، فإنهم يقتربون يجيـب مني كمجرد إنسان، ويضطهدوني قائلين: “لماذا وأنت إنسان تجعـل نفـسـك إلها؟” (يو 10: 33). وهو يقول إنه كان واجبا عليهم أن يعرفوا أننـي، لـست بكوني إنسانا ـ بحسب كلماتهم – أقول عن نفسي إنني الله، ولكن بالحري إذ أنا بالطبيعة الله، قد لبست شكل العبد وظهرت على الأرض كإنسان مـثلكم. ولكن ما هو برهان هذه الأمور؟ انظروا: ” ها أنا أعطيكم سلطانا أن تدوسـوا الحيات والعقارب”. هذا ليس مجرد عمل إنسان، وليس لأحد مثلنـا أن يمـنـح آخرين مثل هذا السلطان المجيد والعجيب لكي يكون لهم القـدرة أن يدوسـوا على كل قوة العدو، هذا بالحري عمل خاص بالله فقط، الذي هو العالي فـوق الكل والمكلل بالكرامات الفائقة.

والموضوع يمكن أن يشرح أيضا بطريقة أخرى، فهو بهذا لا يدع للتلاميذ أي عذر للاستسلام للجبن، ولكنه يطلب منهم بالحري أن يكونوا أقوياء القلـب وشجعانا. لأنه هكذا ينبغي أن يكون خدام الكلمة الإلهية، غير جبناء، وغيـر مقهورين بالكسل، ولكن ” يكرزون بقوة عظيمة” كما يقول الكتـاب (أع 9: 23)، وجسورين في متابعة أولئك الذين ينظمون أنفسهم ضدهم، ويحاربون بشجاعة ضد العدو، فالمسيح الذي يساعدهم، وهو الذي سيخضع قوات الـشـر الدنـسة تحت أقدامهم، بل وحتى الشيطان نفسه.

” من هو الإنسان الذي هو أقوى من رؤساء عـالم الظلمـة” (أف 6: 12) أو أقوى من تلك الحية الخبيثة ورئيس الشر؟ لذلك فالذي يكسر رؤوس التنـانين (مز 73: 13 س) كيف يكون عاجزا عن أن يخلصهم من هجمات أي واحـد مـن سكان هذا العالم؟ إذن ليس بدون نفع، يعلن المسيح لتلاميذه: ” ها أنا أعطـيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو”.

ولكنه يزيدهم منفعة إذ يضيف في الحـال: “لكـن لا تفرحـوا بهـذا أنّ الشياطين تخضع لكم، ولكن افرحوا بالحري أن أسمائكم كتبت في السموات” ألا تسمح يا رب للذين كرمتهم أن يفرحوا بما كرمتهم به ؟ ومكتوب عن الذين عينوا للرسولية: “يا رب بنور وجهك يسلكون، باسمك بيتهجون اليوم كلـه وبعدلك يرتفعون، لأنك أنت فخر قوتهم وبرضاك ينتصب قرننا “(مز 88: 15 س)، کیف یا رب توصيهم إذن ألا يفرحوا بالمجد والكرامة التي منحتها أنت نفسك لهم؟ ماذا نقول عن هذا؟ إنني أجيب بأن المسيح يرفعهم إلى شـيء أعظـم، ويوصيهم أن يحسبوا أن مجدهم هو أن أسماءهم كتبت في السموات، لأنه يقال لله عن القديسين ” وفي سفرك كتبوا جميعهم” (مز 138: 16 س). وإلى جوار ذلك فإن فرحهم بقدرتهم على عمل المعجزات، وبأنهم يسحقون أجناد الشياطين، من المحتمل أن يولد فيهم أيضا رغبة المجد الباطل ـ وقريب هـذه الـشهوة والملازم لها دائما هو الكبرياء.

لذلك، فمن المفيد جدا أن يوبخ مخلص الكل الافتخار من بدايتـه، ويقطـع جذوره بسرعة، وهو الذي ينمو من حب المجد الوضيع، وهو بذلك يتمثـل بالزراع الذين متى رأوا شوكا في حقلهم أو حديقتهم، فإنهم يقطعونه بأسـنان الفأس قبل أن يضرب بجذوره في العمق.

لذلك، فإذا ما نلنا هبة ما من المسيح، جديرة بالإعجاب، فلا يجب أن نفتكر فيها بتعالي، ولكن بالحري أن نجعل الرجاء الموضوع أمامنا هو سبب الفرح، وبأن أسمائنا كتبت في صحبة جماعات القديسين، بهبة المسيح مخلصنا كلنـا الذي بسبب محبته للإنسان يمنح إضافة إلى كل ما لنا، هذه الهبة أيضا، هـذا الذي يليق به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القـدس إلـى دهـر الدهور آمین.

عظة (65) الآب يعلن أسراره للأطفال لو10: 21

(لو 10: 21) ” وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب، رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيهـا الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك”

قال أحد الأنبياء القديسين: ” هلموا إلى المياه أيها العطاش جميعا” (إش 55: 10) وهو بهذا يوجهنا إلى كتابات البشيرين القديسين كما إلى ينابيع مياه، فكما أن المياه مبهجة للنفس الظامئة كما يقول الكتاب (أم 25: 25)، هكذا تكون معرفة أسرار المخلص التـي تعطي الحياة للعقل الذي يحب التهذيب. دعونا نقترب من الينابيع المقدسة، من الميـاه الحية والمعطية الحياة، تلك المياه التي هي عقلية وروحية. هيا لنمتلئ منها ولا نكـل من الشرب. فإن ما يزيد عن الكفاية في هذه الأمور، لا يزال لأجل بنياننا”، والـشره هنا ممدوح جدا، إذن، ما هو الذي قاله المخلص ـ هذا الينبوع النازل من السماء، نهر الفرح ـ فذلك نتعلمه مما قد تلي علينا الآن: ” في تلك الساعة تهلل يسوع بالروح القدس وقال”. إذن يجب على كل من يحب التعليم أن يقترب من كلمات الله بكل عناية وليس بلا حماس، بل بالعكس، بكل غيرة، لأنه مكتوب: “كل من يتعب ويجتهد لـه خير وفير” (ام 24: 23)، فلنفحص الكلمات وخاصة ما هو المقصود بالتعبير أنه “تهلـل بالروح القدس”.

الروح القدس ينبثق من الله الآب كما من الينبوع، ولكنه ليس غريبا عن الابن، لأن كل ما للآب فهو للكلمة الذي هو بالطبيعة وبالحقيقة مولود منه. لقد رأى المسيح أنّ كثيرين قد ربحوا بفعل الروح الذي منحه هو للذين يستحقونه، وللذين أوصاهم ليكونوا خداما للرسالة الإلهية. لقد رأى أن آيات عجيبة تجرى على أيديهم، وأن خلاص العالم بواسطته ـ أعنى بالإيمان ـ قد بدأ الآن، لـذلك فقـد تهــل بـالروح القـدس، أي بالأعمال والمعجزات التي تمت بواسطة الروح القدس. لقد عين الرب الاثنـا عـشـر الذين دعاهم أيضا رسلا، وبعد ذلك عين سبعين آخرين الذين أرسلهم كسابقين أمامه إلى كل قرية، ومدينة في اليهودية، ليبشروا به وبالأمور المختصة به، وقد أرسـلهم مزينين حسنا بالكرامات الرسولية، ومميزين بفعل نعمة الروح القدس، لأنه أعطـاهم قوة على الأرواح النجسة ليخرجوها، لذلك فبعد أن عملوا معجزات كثيرة، رجعوا إليه قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” وكما قلت لكم سابقا، إذ أن الـرب يعلم جيدا أن الذين أرسلهم قد صنعوا خيرا لكثيرين بل وهم أنفسهم قد عرفوا مجـده بالاختبار، فإنه امتلأ بالفرح بل بالتهليل، ولأنه صالح ومحب البشر ويريـد خـلاص الجميع، فقد وجد لنفسه سببا للتهليل، ألا وهو تحول أولئك الذين كانوا في الضلال، واستنارة الذين كانوا في الظلمة، واستعلان مجده لأولئك الذين بلا معرفة أو تعليم.

فماذا يقول إذن؟ “أحمدك أيها الآب رب السموات والأرض”… وهذه الكلمـات: “أعترف لك” يقولها مثل البشر بدلاً من “أقبل إحسانك” أي ” أشـكرك”، لأن الكتـب الإلهية الموحى بها اعتادت أن تستعمل كلمة ” أعترف” بمثل هـذه الطريقـة، لأنـه مكتوب: “سيعترفون لاسمك العظيم المرهوب، يا رب، لأنه مرهوب وقدوس” (مز 98: 3 س)، وأيضا “أعترف لك يا رب بكل قلبي وأخبر بجميع عجائبك” (مز 85: 2 س). ولكني ألاحظ أيضا أن أذهان الناس الفاسدين لا ترعوى عن فجورها، وبعضا منهم يعترض علينا قائلاً “ها الابن يقدم اعتراف الحمد للآب، فكيف لا يكـون أقـل مـن الآب؟” ولكن كل من هو ماهر في الدفاع عن تعاليم الحق، يجيب عـن هـذا قـائلا: “وماذا يمنع أيها السادة الكرام، أن الابن مع كونه مساويا في الجوهر، يحمد ويـشكر أباه، لأنه يخلص كل الذين تحت السماء بواسطته؟ ولكن إن ظننت أنه شكره هو أقل من الآب، فلاحظ أيضا ما يلي: أنه يدعو الآب “رب السماء والأرض”. ولكـن بالتأكيد فإن ابن الله الضابط الكل بالتساوي معه هو رب الكل، وفوق الكل وليس هـو أقل منه، أو مختلف عنه في الجوهر، ولكنه إله من إله، مكلّل بنفس الكرامات، ويملك بحق جوهره، المساواة معه في كل شيء”، وهذا كاف للإجابة عليهم.

لكن دعونا الآن نتأمل الكلمات التي خاطب بها أباه بخصوصنا ونيابة عنا إذ يقول: ” لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الآب لأن هكـذا صارت المسرة أمامك”، لأن الآب قد كشف لنا السر الذي كان مكتوما ومحفوظا فـي صمت عنده، من قبل إنشاء العالم الذي هو تجسد الابن الوحيد، الذي كـان معروفا سابقا حقا، قبل إنشاء العالم، ولكن أعلن لسكانه في أواخر الدهر. فالمبـارك بـولس يكتب: “لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر به بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى، وأنير الجميع في ما هو تدبير السر “المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع” (أف 3: 8). إن هذا السر العظيم المسجود له الذي لمخلصنا كان مـن قبل تأسيس العالم، مخفيا في معرفة الآب، وبالمثل نحن قد سبق أن عرفنا، وسبق أن عيننا لتبني البنين. وهذا ما يعلمنا إياه أيضا المبارك بولس بقوله: ” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنـا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه إذ سبق فعيننا في المحبة للتبن بيسوع المسيح لنفسه” (أف 1: 3 -5). فلنا إذن ـ كما للأطفال ـ كشف الآب السر الذي كان مخفيا ومحفوظا في صمت طوال الدهور.

لقد سبقنا في هذا العالم حشد كبير كانوا على مستوى الكلمات، لهم لـسان طلـق متميز، لهم سمعة كبيرة في الحكمة، وفي فخامة التعبير، والأسلوب الجميل، ولكن كما قال عنهم بولس: ” حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمـون أنـهـم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات… لذلك أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض” (رو 1: 21 -25)، وجعل الله حكمة هذا العالم جهالة” (1كو 1: 20)، كما أنه لم يعلن لهم السر. أما لنا نحن فقد كتب: ” إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلاً لكي يصير حكيما، لأن حكمة هذا العالم هي . جهالة عند الله” (1کو 3: 18). لذلك، فيمكن المرء أن يؤكد أن من له مجرد حكمة العالم فقط، هو جاهل وبلا فهم أمام الله، ولكن من يظهر أنه جاهل في نظر حكماء هذا العالم، ولكن له في قلبه وفكره نور رؤية الله الحقيقيـة فهو حكيم أمام الله. وبولس يؤكد هذا أيضا بقوله: “لأن المسيح أرسلني لا لأعمد بل لأبشر، لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب المسيح، فإن كلمة الصليب عنـد الـهـالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله، لأنه مكتوب سأبيد حكمـة الحكمـاء وأرفض فهم الفهماء” (1کو 1: 17 -19) (إش 29: 14)، وقد أرسل بولس أيضا قائلاً: “فانظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقويـاء، لـيس كثيرون شرفاء، بل اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء” (1کو 1: 26) والذين يظهـرون كأنهم جهلاء، بمعنى أنهم ذوو ذهن نقى وعديم المكر، وهم بسطاء كأطفال فـي الـشر، لهؤلاء أعلن الآب ابنه، إذ هم أنفسهم أيضا قد سبق فعرفهم وسبق فعينهم لتبني البنين.

ومن المناسب في ظني أن نضيف أيضا ما يأتي، أن الكتبة والفريسين الذين بلغوا شأنا عظيما عند اليهود بسبب علمهم الناموسي كانوا يعتبرون أنفسهم حكماء، ولكـن حكم عليهم بنفس النتيجة أنهم ليسوا هكذا في الواقع، فإرميا النبي يخاطبهم في موضع ما قائلاً: “كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا بينما حولها قلم الكتبة الكاذب إلى الكذب. خزي الحكماء ارتاعوا وأخذوا، ها قد رفضوا كلمة الرب فأية حكمة لهم؟ (إر 8: 8 و9)، لأنهم رفضوا كلمة المخلص أي رسالة الإنجيل الخلاصية، أو بعبـارة أخرى، كلمة الله الآب الذي من أجلنا صار إنسانا، لذلك فهم أنفسهم قد رفضوا، وعنهم قال أيضا إرميا النبي: ” وهم يدعون فضة مرفوضة، لأن الرب قد رفضهم” (إر 6: 30). وقد أخفى عنهم سر المسيح أيضا، لأنه قال عنهم في موضع ما لتلاميذه ” لأنه قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأما لأولئك فلـم يـعـط” (مـت 13: 11) “أعطي لكم”، أي لمن؟ هو بوضوح للذين آمنوا، لهؤلاء الذين تعرفوا على ظهـوره، للذين يفهمون الناموس روحيا، الذين يدركون أنه معنى الإعلان القديم الذي للأنبيـاء، الذين يعترفون أنه الله وابن الله، لهؤلاء سر الآب أن يعلن ابنه الذي به، ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

عظة (66) معرفة الآب والابن لو10: 22

(لو 10: 22) ” والتفت إلى تلاميذه وقال: كل شيء قد دفع إلى من أبي. وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له “.

يكشف لنا ربنا يسوع المسيح مرة ثانية مجـده وكرامـة جـلال ألوهيتـه وطريقته الحكيمة في تدبير التجسد، كما يبين لنا بوضوح عظم الفائـدة التـ حصل عليها سكان الأرض من جراء ذلك. ليتنا نسأله الحكمة ونطلب الفهم، كي يمكننا أن ندرك معنى كلماته بالضبط. فهو الذي “يكشف الأغـوار فـي الظلام، ويخرج الأمور الخفية إلى النور” (أى 12: 22)، ويعطى الحكمة للعميان، ويجعل نور الحق يضيء على أولئك الذين يحبونه، ومن بينهم نحن. فها أنـتم قد أقبلتم ثانية كعطاش، والكنيسة ممتلئة من الراغبين في الاستماع وجمـيعهم عابدون حقيقيون باحثون عن تعاليم التقوى. تعالوا إذن ولنقترب من كلمـات المخلص بذهن مفتوح، وكلماته هي: “كل شيء قد دفع إلي من أبي”.

لقد كان المخلص، ولم يزل هو رب السماء والأرض، وهو الجـالس مـع الآب في عرشه المشارك له بالمساواة في حكمه على الكل، ولكنه إذ وضـع نفسه نزل إلى أرضنا وصار إنسانا، فإنه يتكلم بطريقة مناسـبة للتدبير فـي الجسد، كما لا يرفض أن يستخدم العبارات التي تناسب وضعه بعد أن أخلـى نفسه حتى يمكن الإيمان به، كمن قد صار مثلنا ولبس فقرنا. لذلك فالذي هـو رب السماء والأرض وكل الأشياء، يقول: “كل شيء قد دفع إلي من أبي”. لقد صار الحاكم المهيمن على كل ما هو تحت السماء. وإن كـان فـي القـديم، إسرائيل بحسب الجسد فقط هو الذي أحنى رقبته لـشرائعه، و لكـن الله الآب أراد أن يجعل كل شيء جديدا فيه، وبواسطته يصالح العالم لنفسه، لأنه “صار وسيطا بين الله والناس” (1تی 2: 5)، وصار “سلامنا ” (أف 2: 14)، إذ وحدنا مـع الله الآب بواسطة نفسه، إذ هو الباب والطريق الذي به يتم هـذا، لأنـه قـال بوضوح: “ليس أحد يأتي إلى الأب إلا بي” (يو 14: 6) إذن، فالـذي خلـص إسرائيل في القديم من طغيان المصريين بيد موسى، وعين لهم الناموس ليكون مؤدبهم، قد دعا الآن كل العالم، ولأجل ذلك مد شبكة رسالة الإنجيل بحـسب مشيئة الله الآب الصالحة. وهذا هو إذن سبب قوله “كل شيء قد دفع إلى من الآب”.

ومع أننا نؤكد أن هذه الأمور قد فهمناها فهما مستقيما، ونـشرحها لكـم بالصواب، فإن الهرطوقي، لا يخضع لشروط التدبير، ولكنه يعمد إلـى قلـة حيائه المعتاد، ويجعل ما يقال طعاما لخبث عقله، ويقول “إن الآب يمنح كـل شيء للابن، وإن الابن لم يكن في احتياج إلى أخذ شيء لو كان من الجائز له أن يحصل عليه من نفسه. فكيف يكون إذن مساويا للأب كما تقولـون حينمـا ينال منه سلطانا على ما لم يكن يملكه من قبل؟” دعنا الآن نرى إن كان هـو في أي شيء أدنى من الآب في المجد والعلو كما تقول في غبائك.

توجد عدة مجالات يمكن استخدامها للدفاع عن تعاليم الحـق، ولكـن فـي مناسبتنا الحاضرة هذه، سنبحث عن الحقيقة من الدروس الموضـوعة أمامنـا الآن، ومن نفس كلمات الابن، لأنه بعد أن قال: “كل شيء قد دفع إلـى مـن أبي”، مكرما بذلك سر تجسده، ومستخدما عبارات مناسبة لإنسانيته، فإنه يرتفع في الحال كما قلت، إلى مجده وعلوه الخاص، ويبين أنه ليس أدنى مـن أبيـه بأي حال، لأنه ماذا كانت الكلمات التي قالها بعد ذلك ” لا أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له”. دعنـا نـسـأل الآن الذين قاوموا مجده ولا زالوا يقاومونه، هل المسيح يتكلم بالكـذب أم بـالحق؟ لأنه إن كان يتكلم كذبا، وأنتم تؤكدون أن هذا هو الحال فأنتم خالون من كـل فهم، وقد فقدتم عقولكم وشربتم من الخمر ” خمر سدوم” (تث 32: 32)، وعثـرتم كالسكارى في مسالك غير مستقيمة. أما إن كنتم تؤمنون أنه يتكلم بالحق لأنه “هو الحق” (يو 14: 6) فكيف تجرؤون أن تفكروا وتقولوا إنه أدنى من الآب وهو الذي يقول: “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب” فقط، كأنكم تعرفون بالضبط من هو؟ ومع ذلك فكيف أن ذلك الذي يعرفه الآب فقط، لا يتعالى كثيرا جدا على قدرات الكلام، تماما مثل الآب نفسه أيضا، الذي هو معروف من ابنه فقـط؟ لأن الثالوث الواحد في الجوهر هو وحده الذي يعرف نفسه، إذ هو فائق جـدا على كل كلام وفهم. فكيف تقول أنت إذن إنه أدنى من الآب بينما ترى أنه لا أحد يعرف من هو إلا الآب الذي ولده فقط ؟

وسأضيف هنا شيئا آخر: هل تقول إنه ” إله الحق” ولكنه أدنى مـن ذلـك الذي هو ” الإله الحق والآب” أو أنه مصنوع ومخلوق؟ إن كان مخلوقا، فلـن يمكنك المقارنة بينهما على الإطلاق، لأن المسافة بين الخـالق والمخلـوق لا نهاية لها، كما بين السيد والعبد، وبين الذي هو بالطبيعة الله وبين الـذي قـد أحضر إلى الوجود، لأن الشيء المخلوق ليس هو فقط أدنى بالنسبة لله، ولكن هو مختلف تماما أيضا في الطبيعة وفي المجد وفي كل صفة تتعلق بـالجوهر الإلهي. فإن كان مخلوقا كما تؤكدون، فكيف ” لا يعرف أحد من هو؟”، إذن لن يكون فوق كل فهم حتى إن عجز عقل الإنسان عن معرفة طبيعـة مـا هـو مخلوق، ولكن إن كنت من الجهة الأخرى تؤكد أنه الله الحقيقي، وأنه هو هكذا بالطبيعة، ومع ذلك تقول إنه أدنى من الآب، فأنا لا أفهم كيف يمكن أن يكون هذا؟ أرجوك أخبرني من ماذا يتكون هذا التدني وأعطني مثلاً. هؤلاء الـذين هم من نفس الطبيعة والجوهر، هم طبعا متساوون في كـل الـصفات التـي تختص بهم فيما يتعلق بجوهرهم، فالإنسان مثلاً ليس أدنى من إنسان آخر من جهة البشرية التي هي مشتركة بينهما، وهكذا الملاك بالنسبة لمـلاك آخـر، فكيف إذن يكون إله حق أدنى من إله حق؟

تعالوا إذ شئتم ودعونا نرفع أنفسنا إلى فحص امتيازات الآب وتلك الصفات التي تختص به كإله، فالله الآب بالطبيعة هو الحياة والنور والحكمـة، ولكـن الابن أيضا بالمثل هو كذلك كما تشهد الكتب الإلهية الموحى بها في مواضـع كثيرة، فهو النور والحياة والحكمة، ولكن إن كان هو أدنى من الآب، يكـون مديونا له بهذه الصفات، وذلك ليس في صفة واحدة، بل في كل الخصائص التي تختص بجوهره، ولن يكون هو الحياة كاملة ولا النور كاملاً ولا الحكمة كاملة. وإن كان هذا صحيحا إذن يكون فيه شيء من الفساد وشيء أيضا مـن الظلام وأيضا شيء من الجهالة؟ ولكن من الذي سيوافقكم في تفكيركم هـذا؟ لأنه إن كان هو مخلوقا، إذن، فكما قلت، فلا يجب أن تقارنوه بالخـالق ورب الكل. أنتم تخفضون رتبته إلى مستوى الخليقة، بينما ترفعون إلـى سـمو لا يقارن تلك الطبيعة التي خلقت الكل والتي فوق الكل. ولكن إن كان حقا هو الله الحق صادر من الله الحق والآب، فكيف تؤكدون أن الآب له ابن هو غيـر مساو له في الطبيعة، وأن طبيعته هذه وحدها هي التي عانت من هذا التمييـز السيئ، بينما من المؤكد أنه بين كل الخلائق لا يوجد من يلاقي مثل هذا الحظ السيئ! فالإنسان يولد من الإنسان، وكل الأوصاف التي في جوهر أبيه توجـد كلها في المولود، وهكذا بالمثل بالنسبة لبـاقي الحيوانـات، تنظمهـا قـوانين طبيعتها الخاصة. فكيف يكون إذن لطبيعة الله الفائقة للكل أن تعـانـي مـا لا نعانيه حتى نحن، ولا أي من الخلائق الأخرى.

لذلك دع أولئك الذين يفكرون بازدراء عن عظمة مجد الابن أن يسمعوا، دع أولئك المخمورين أن يستفيقوا من خمرهم، ليعبدوا معنا هذا الذي هو مساو في الجوهر مع أبيه، والمكلل بتسابيح مساوية، وتفوق مماثل بـدون اخـتـلاف “لأن له تجثو كل ركبة ممن في السموات ومن علـى الأرض ومـن تحـت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح رب لمجـد الله الآب” (في 2: 10 و11) آمین.

 

عظة (67) تطويب التلاميذ 10: 23 -24

(لو 10: 23 ، 24) ” والتفت إلى تلاميذه على انفراد وقال: طوبى للعيون التي تنظـر مـا تنظرونه! لأني أقول لكم: إن أنبياء كثيرين وملوكا أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولـم ينظروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا “.

إن المظاهر التي يقدمها العالم (ممثلة في المسارح والمباريات) تؤدى بالناس غالبا إلى رؤية أشياء غير نافعة أو بالحري تسبب لهم ضررا كبيرا. والمترددين على هذه الأمكنة إما يسلمون أنفسهم للإعجاب بالراقصين، وإذ يستسلمون لما يتبع ذلـك مـن استرخاء كسول فإنهم يذوبون في عواطف مخنثة، أو أنهم يمجدون الخطبـاء ذوى المشاعر الفاترة، أو يلذذون أنفسهم بأصوات واهتزازات المزمار والقيثار. ولكن كـل هذه الأشياء باطلة وغير نافعة، وتستطيع أن تذهب بعقل الإنسان بعيـدا عـن كـل صلاح. أما نحن الذين نسلك طريق الحياة الفاضلة والغيورون في الأعمال المستقيمة، فإن المسيح يجمعنا في كنائسه المقدسة، لكي إذ نبهج أنفسنا بالتسبيح له، فإننا نـصير سعداء بكلماته المقدسة وتعاليمه التي تقودنا إلى الحياة الأبدية.

دعنا لذلك نرى هنا أيضا أية عطايا تفضل وأنعم بها علينا نحن الذين قد دعينـا بالإيمان به إلى معرفة مجده. يقول الإنجيل “والتفت إلى تلاميذه وهم علـى انـفـراد وقال لهم، طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه”. والآن فرب معترض يقول: ” لماذا لم يخاطب كل المجتمعين هناك بكلماته التي تصف هذه البركات؟ وما الذي جعلـه يلتفت إلى تلاميذه وهم على انفراد ويقول لهم طـوبى للعيـون التـي تنظـر مـا تنظرونه؟”. ماذا إذن تكون إجابتنا؟ إنه ليس من اللائق أن نوصل الأمور التي لها طبيعة سرية لكل من يصادفنا، ولكن للأصدقاء الحميمين فقط، فأولئك أصـدقاؤه الذين حسبهم مستحقين للتلمذة له، الذين استنارت عيون قلـوبهم، وصـارت آذانهـم مستعدة للطاعة. فإنه قال في إحدى المرات للرسل القديسين: “لا أعود أسميكم عبيدا بل أحباء، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، ولكني دعوتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو 15: 15). بلا شك كان هناك كثيرون مجتمعون وواقفون في حضرته إلى جوار أتباعه المختارين، ولكنهم لم يكونوا جميعهم مؤمنين، فكيف يمكنه أن يتكلم بالحق للجميع وبلا تمييز قائلاً: ” طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه، وطوبى للذين يسمعون ما تسمعونه؟” لذلك فهناك سبب مناسب أن يلتفت إلى تلاميذه، أي أنه حـول وجهه عن هؤلاء الذين لن ينظروا ولن يسمعوا، بل هم غير مطيعين، وعقلهم مظلم، لذلك أعطى نفسه كلية لمن أحبوه، ونظر إليهم وقال: “طوبي للعيون التي تنظر مـا تنظرونه”، أي بالحري التي تتفرس في الأشياء التي يجب رؤيتها أولا قبل كل الأشياء الأخرى.

أما عن التعبير المستخدم هنا، فهو مستمد من عادات الناس الشائعة، وفي مثل هذه العبارات لا تشير الرؤية إلى عمل عيوننا الجسدية، ولكن بالحري إلى التمتع بالأمور التي يمنحها المسيح لخائفي الله. كما يقول أحدهم مثلاً: ” هؤلاء وأولئك رأوا أوقاتـا سعيدة” بدلاً من أن يقول ” استمتعوا بأوقات سعيدة”. وبنفس الطريقة يمكنك أن تفهـم المكتوب في المزمور الموجه إلى الذين يثبتون أفكارهم فـي الأشياء التـي فـوق: وتبصر خيرات أورشليم” (مز 128: 5) بدلاً من ” وتشترك في سـعادة أورشليم”، أي الأشياء التي فوق في السماء، التي يدعوها الحكيم بولس “أم جميع القديسين” (غـل 4: 26). وأي شك يمكن أن يكون في أن “أولئك الذين نظروا المعجـزات الإلهيـة التـي صنعها المسيح، والأعمال العجيبة التي فعلها لم يكونوا مغبوطين في كـل الأحـوال، فجميع اليهود رأوا المسيح يعمل بجلال إلهي، ومع ذلك فليس من الصواب أن نحسبهم جميعا مغبوطين، لأنهم لم يؤمنوا ولا رأوا مجده بعيون العقل. إنهم بـالحق مـذنبين بالأكثر ولا يليق أن يعتبروا مطوبين، لأنهم رغم رؤيتهم ليسوع وهو مملوء بالمجـد بواسطة الأعمال الفائقة الوصف التي عملها، إلا أنهم لم يؤمنوا به.

ولكن تعالوا نسأل، ماذا رأت أعيننا؟ ولماذا نالت التطويب؟ ولأي سبب وصلت إلى هذه البركة؟ إنها رأت أن الله الكلمة، الذي كان في صورة الله الآب قد صار جـسـداً لأجلنا، إنها أبصرت ذلك الذي هو شريك عرش الآب، ساكنا فيما بيننا، وفي شـكلنا، لكي بالتبرير والتقديس يشكلنا على شبهه، ويطبع علينا جمال ألوهيته بطريقة عقليـة وروحية. وعن هذا يشهد بولس ويكتب: “وكما لبسنا صورة الترابـي هكـذا نلـبس صورة السمائي” (1كو 15: 49)، والرسول يقصد بصورة الترابي آدم الذي خلـق أولاً، ويقصد بالسماوي الكلمة الذي هو من فوق، الذي أشرق من جوهر الله الآب، ولكنـه صار ـ كما قلت ـ مثلنا. فالذي هو بالطبيعة ابن، أخذ شكل العبد، ولكنه لـم يأخـذ حالتنا لكي يستمر في وضع العبودية، بل لكي يعتقنا نحن الذين ربطنا بنير العبودية؛ لأن كل ما هو مخلوق هو بالطبيعة عبد ولكي يغنينا بما له. لأننا به ومعه قد نلنا اسم البنين، إذ قد صرنا مكرمين بسخائه ونعمته. وهو الذي كان غنيا شاركنا فقرنا ليرفع طبيعة الإنسان إلى غناه، وذاق الموت على خشبة الصليب ليرفع من الوسط الإثم الذي ارتكب بسبب شجرة (المعرفة)، وليمحو الذنب الذي نتج عن ذلك، ولينزع من الموت طغيانه علينا. لقد رأينا الشيطان يسقط، رأينا ذلك القاسي ينكسر، ذلك المتكبر يوضع، رأينا ذلك الذي جعل العالم يخضع لنير ملكه، يجرد من تسلطه علينا، وجعل المزدرى والمحتقر والذي كان يعبد يوما يصير هو مزدرى ومحتقرا، والذي جعل نفـسـه إلهـا تطأه أقدام القديسين، والذي تمرد على مجد المسيح صار مدوسا بواسطة الذين يحبون المسيح: “لأنهم أخذوا سلطانا لينتهروا الأرواح الشريرة ويخرجوها”. وهذه القوة هي كرامة عظيمة وعالية جدا بالنسبة للطبيعة البشرية، لكنها لائقة فقط بالإله العلي.

والكلمة الذي ظهر في شكل بشري كان هو أول من وضع لنا المثال، لأنـه هـو أيضا انتهر الأرواح الشريرة. أما اليهود الأشقياء، فإنهم تقيأوا ضد افتراءات حسدهم قائلين: ” هذا الإنسان لا يخرج الشيطان إلا ببعلزبول رئيس الشياطين” (مـت ١٢: ٢٤). ولكن الرب فند هذه الكلمات الشريرة بقوله: ” إن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون؟ ولكن إن كنت بروح الله أخرج الشياطين فقـد أقبـل علـيكم ملكوت الله”. فإن كنت ـ يقول الرب ـ ” وأنا إنسان مثلكم أمارس القوة الإلهية، فقـد أقبلت عليكم البركة العظيمة لأن الطبيعة البشرية قـد تمـجـدت فـي لأنـي وطـات الشيطان”. إذن فقد أقبل علينا ملكوت الله، بواسطة الكلمة الذي صـار مثلنـا والـذي مارس في الجسد الأعمال اللائقة بالله.

وأعطى الرسل القديسين أيضا قوة وسلطانا على إقامة الأموات وتطهير البـرص وشفاء المرضى، وكذلك أن يستدعوا الروح القدس من السماء علـى مـن يـريـدون بوضع الأيدي. كما أعطاهم سلطانا أن يحلوا ويربطوا خطايا الناس، كما قال: “لأني أقول لكم ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطا في السماء ومـا حللتمـوه علـى الأرض يكون محلولا في السماء” (مت 18: 18). هذه هي الأشياء التي نرى أنفسنا الآن نملكها، فطوبى لأعيننا وأعين جميع من يحبونه. إننا سمعنا تعليمه الذي لا ينطق به، فأعطانا معرفة الآب، وأرانا إياه في طبيعته الخاصة، والأشياء التي كانت بواسـطة موسى لم تكن سوى مثالاً ورمزا، أما المسيح فقد أعلن لنا الحق… وعلمنا أنه لـيـس بالدم والدخان، بل بالذبائح الروحية، يجب أن نكرم ذلك الذي هو غير جسدي وغيـر مادي وهو فوق كل إدراك. إن أنبياء قديسين كثيرين اشتهوا أن يروا هـذه الأشياء، وملوكا كثيرين أيضا. اسمعهم مرة يقولون: “أرني يا رب رحمتك وأعطني خلاصك ” (مز 85: 7)، لأنهم يدعون الابن “رحمة وخلاصا”. وفي وقت آخر أيضا: “اذكرنـي برضا شعبك وتعهدني بخلاصك، لنرى سعادة مختاريك، ونفرح بفرح شعبك ” (مز 105: 4 س). من هو الشعب المختار في المسيح بواسطة الله الآب ؟ يقول لنا بطرس الحكيم، وهو يتكلم إلى الذين تشرفوا بالإيمان: “أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيـب (1بط 2: 1). ونحن إنما قد دعينا إلى هذا بواسطة المسيح، الذي بـه ومـعـه الله الآب التسبيح و السلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (68) مثل السامري الصالح 10: 25-37

(لو 10: 25-37): ” وإذا ناموسي قام يجربه قائلا: يا معلم، ماذا أعمـل لأرث الحيـاة الأبدية؟ فقال له: ما هو مكتوب في الناموس. كيف تقرأ؟ فأجاب وقال: تحب الرب إلهـك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك. فقال له: بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا. وأما هو فإذ أراد أن يبرر نفسه، قــال ليسوع: ومن هو قريبي؟ فأجاب يسوع وقال: إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا، فوقـع بـين لصوص، فعروه وجرحوه، ومضوا وتركوه بين حي وميت. فعرض أن كاهنا نزل فـي تلـك الطريق، فرآه وجاز مقابلة. وكذلك لاوي أيضا، إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابلة. ولكن سامريا مسافرا جاء إليه، ولما رآه تحنن، فتقدم وضمد جراحاته، وصب عليهـا زيتاً وخمراً، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به. وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: اعتن به، ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك. فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟ فقال: الذي صنع معه الرحمة. فقـال له يسوع: اذهب أنت أيضا واصنع هكذا “.

يا أحبائي، إن النفاق والرياء في أعمالنا وسلوكنا هو وباء دنيء جدا، فيتظاهر الإنسان بحلاوة الكلام، وبلسان دهن، وبمعسول الخداع، بينما القلب مملوء بمرارة شنيعة. عن مثل هذا نقول بكلمات أحد الأنبياء القديسين: “لسانهم كسهم قاتل يتفوه بالكذب، وبفمه يخاطب جاره بسلام، وفي قلبه عداوة لـه” (إر9: ۸ س)، وأيضا: “كلماته ألين من الزيت وهي سهام” (مز٥٤: ٢١ س)، ومعنى هذا أن لها قوة السهام التي تطلق بعنف وتصوب من الأقواس.

وبرهان كلامي هذا، في متناول اليد. فدعونا نفحـص كلمـات الناموسـي وننزع عنه شكله المستعار ونعرى خططه، ونرى كلماته التـي تبـدو حلـوة ولكنها تنبع من خداع، وما تخفيه من مكر. وإذ يقول: ” وإذا ناموسـي قـام يجربه قائلاً: يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟” إن الإنجيلـي المبـارك يقصد بهذا الناموسي ـ حسب عادة اليهود ـ أنه عارف بالناموس، أو علـى الأقل له شهرة أنه يعرفه، مع أنه في الحقيقة هو لا يعرفه. إنه تصور أنه قادر على اصطياد المسيح، وسأخبركم كيف أن بعض الذين اعتـادوا أن يتكلمـوا بطريقة عشوائية، كانوا يتجولون في كل مكان، في اليهودية وأورشليم نفسها وهم يتهمون المسيح قائلين إنه يعلم بأن وصية موسى هي غير نافعـة، وأنـه رفض أن يراعي الناموس الذي أعطى منذ القديم للآباء، كما أنه يدخل تعـاليم جديدة، ويكلم كل الذين يتقون الله بأمور من فكره الخـاص، ولا تتفـق مـع الناموس الذي أعطى منذ القديم. ولكن حتى في ذلك الوقت كان هناك مؤمنون يقاومون كلام أولئك الناس ويتقبلون أخبار الإنجيل الخلاصية. أما الناموسي إذ كان يرغب ويتوقع أنه يستطيع أن يصطاد المسيح بكلمة، بأن يجعله يقول شيئا مخالفا لموسى، أو أن تعليمه أفضل كثيرا من وصايا موسى، لذلك اقترب من المسيح ليجربه قائلاً: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟.

إن من يعي جيدا سر التجسد سيقول لهذا الناموسي: حسنا، إذا كنت حاذقـا في الناموس وفي معرفة معنى تعليمه الخفي، لما جهلت من هو هـذا الـذي تجرؤ أن تجربه، إنك تظن أنه مجرد إنسان فقط وليس إلها ظهر فـي شـكل إنسان، وهو الذي يعرف الخفايا، ويمكنه أن يرى ما في قلوب الذين يقتربـون منه. إن عمانوئيل قد رسم لك بطرق مختلفة من خلال الظلال الموسوية. لقـد رأيته هناك كحمل يذبح ولكنه يقهر المهلك يبيد الموت بدمه. إنك رأيته أثنـاء إعداد التابوت الذي أودعت فيه الشريعة المقدسة، لأن التابوت يشير إلى جسده المقدس، إذ هو كلمة الآب الابن المولود منه بالطبيعة. لقـد رأيتـه كـرسـي الرحمة في الخيمة المقدسة والذي حوله وقف الشاروبيم، لأنـه هـو كـرسـي رحمة لغفران خطايانا، بل وحتى كإنسان فإن السيرافيم الـذيـن هـم القـوات العقلية والمقدسة تمجده، لأنهم قائمون حول عرشه الإلهي. إنك رأيته كالمنارة ذات السرج السبعة في قدس الأقداس، لأنه المخلص يفيض نوره بوفرة لمـن يسرعون إلى المسكن الداخلي. إنك رأيته كالخبز الموضوع على المائدة، لأنه هو الخبز الحي الذي نزل من السماء المعطى حياة للعالم (يو 6: 52). إنك رأيته كالحية النحاسية التي رفعت عالية كعلامة، ومن ينظر إليها كان يشفى مـن لدغات الحيات. إنه كان مثلنا في الهيئة التي تبدو كما لو كانت خاطئة إذ أخذ شبهنا، إلا أنه بالطبيعة صالح وسيبقى على ما كان عليه. فالحية هـي مثـال الشر، ولكنه برفعه واحتماله الصليب لأجلنا، فإنه أبطل لدغات الحيات العقلية، التي هي ليست إلا الشيطان والقوات الشريرة التي تحت إمرته.

ورغم أن الناموسي كان متشحا بسمعة كونه عالم في الناموس ولكنه جاهل تماما بذلك الذي تشير إليه ظلال الناموس رغم أنه قد أعلن منذ القديم بكلمات الأنبياء القديسين. فلو أنه لم يغرق في أعماق الجهل التام، فكيف يقترب إلـى المسيح كمجرد إنسان؟ وكيف تجرأ على أن يجرب الله الذي يفحص القلـوب والكلى والذي ليس شيء مما فينا خفي عليه؟ إذ قال للمخلص ” يا معلم” مـاذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. هل تدعوه “معلم” وأنت لم تخضع للتعليم؟ أنتظاهر بتكريم من تريد أن تصطاده، وتضع حلاوة الكلام كطعم في شصك.

ماذا تريد أن تتعلم ؟ إنه يسأل: ” ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟” لاحظوا ثانية ـ أتوسل إليكم – الخبث الذي في كلمات الناموسي. فقد كان يمكنـه أن يقول: ” ماذا أعمل كي أخلص، أو كيف أرضي الله وأنال ثوابه؟” لكنه تـرك هذه العبارات ويستخدم نفس تعبيرات المخلص ليرمي بالسخرية علـى رأس (المسيح)، الذي اعتاد أن يتكلم باستمرار عن الحياة الأبدية لكل الـذين كـانوا يقتربون منه. أما الناموسي المتكبر، فانه استخدم نفس التعبيرات ليسخر منـه كما قلت لكم. لو كنت حقا ترغب في التعليم، لكنت سمعت منه الكلمات التي تؤدى إلـى الحياة الأبدية، ولكن لأنك تجربه بخبث، فلن تسمع منه غير الوصـايا التـي أعطيت منذ القديم بموسى، [ والتي هي بالتأكيد ليست أجرا للحياة الأبدية بـل للحياة الحاضرة ] ” إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف” (إش 1: 19 -20) لأنه يقول له: ” ما هو مكتوب في النـاموس؟ كيف تقرأ؟”. وبعدما كرر الناموسي ما هو مشرع في الناموس، فإن المسيح العالم بكل شيء ـ ليعاقبه على شره وليوبخه على قصده الخبيث ـ قال لـه: ” بالصواب أجبت، افعل هذا فتحيا”. لقد فقد الناموسي فريسته، وأخطأ الهدف، وخبثه لم يحالفه التوفيق، ولدغة حسده توقفت وتمزقت شبكة خداعه، وبذاره لم تأت بثمر، وتعبه لم يأت بفائدة، وكمثل سفينة غرقت لسوء طالعها فإنه قاسـى من خراب مر. لنصرخ في وجهه بكلمات إرميا: “قد وجدت وأمسكت لأنـك قد خاصمت الرب” (إر 50: 24).

ولكن ـ كما قلت ـ إذ فقد فريسته، فإنه سقط بسرعة في الغرور، مسرعا من حفرة إلى أخرى، ومن فخ إلى فخ، ومن خديعة إلى كبرياء، وكل رذيلـة تسلمه إلى أخرى، وتقذف به في كل جانب، وما أن تمسك به رذيلة حتى تدفع به إلى أخرى، وتحمله إلى حيثما تصادف، وتطوف به بسهولة، من دمار إلى دمار. فالناموسي لم يسأل الرب ليتعلم، ولكن كما يقول البشير : ” إذ أراد أن يبرر نفسه”، لاحظ كيف بسبب إعجابه بنفسه وكبريائه سأل بدون أي خجل: ” ومن هو قريبي؟” [ من هو هذا القريب حتى أحبه مثل نفسي؟ أنا أعلا مـن الكل، أنا ناموسي، أنا أدين الكل ولا أدان من أحد، أحكم على الكل ولا يحكـم علي من أحد، أنا غير الكل وأفضل من الكل، أمر الكل ولا يأمرني أحد، الكل يحتاجون إلي وأما أنا فلا أحتاج إلى أحد. ألا يوجد أحد أيها الناموسي مثلك؟ هل ترفع نفسك فوق كل إنسان؟ اخفض تشامخك، واذكر ما يقولـه سفر الأمثال: “أولئك الذين يعرفون أنفسهم هم حكماء” (أم 13: 10 س).

[ حقيقة إن قوة الحياة هي أن نحب الله والقريب، دون أن نغير شيئا فـي هاتين الوصيتين، بل نكملهما فوق المقاييس اليهودية وفوق حرف الناموس، لأنه بمحبة الله من كل القلب والنفس والعقل نتخطى محبة المال ولـة المجـد الباطل ونخرج من دائرة الاهتمامات العالمية ونتحرر ونتحد بالمسيح. هـذه المحبة من شأنها أن تقود كل من هو يهودي إلى المسيحية، كذلك المحبة نحو القريب هي مرتبطة بمحبة الله، عندما لا تمارس فقط بين أبناء الجنس الواحد لكن بين كل الناس. هذه المحبة نحو القريب عندئذ تتبع المحبة نحو الله، عندما نفتدى بالمسيح الذي لم يحب مثل نفسه فقط لكن وأكثر من نفسه، حتى وضـع نفسه لأجل أحبائه. إن موقف الناموسي هذا يتشابه مع موقف ذلـك الفريسي الذي في صلاته قال “أنا لست مثل باقي الناس” (لو 18: 11) دون أن يعرف أنّ الغرور من شأنه أن يفسد بر الإنسان. هكذا يتضح لنا أن هذا الناموسي كـان فقيرا في محبته الداخلية والخارجية أي في كل ما يتعلق بمحبته نحو الله وفي كل ما يتعلق بمحبته نحو القريب “لأن من لا يحب أخاه الذي يبصره كيـف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره” (1يو 4: 20)].

إن الناموسي يرفع نفسه ويتنفس الكبرياء وينفخ نفسه بتصورات باطلـة. ولكنه تعلم عن المسيح أنه ما دام فقيرا في محبة القريب، فإن مجـرد كـون وظيفته ناموسي فهذا لا ينفعه شيئا لأن الله ينظر فوق الكـل بـالحري إلـى الكلمة، ولا يعطي المدح على مجرد مهن صورية.

[من ثم نلاحظ كيف أن المخلص في تعريفه لمعنى القريب لا يحصره فـي جنس معين ولا يربطه بمستوى الفضائل ولكنه يطلقه على الطبيعة الإنسانية]، وبمهارة شديدة نسج مخلص الكل المثل، عن الذي سقط بين لصوص موضحا أن عمل الخير يجب أن يكون لكل إنسان فيما تحتاجه الطبيعة الإنسانية. فـي هذا المثل يظهر السيد كيف أن القريب ليس هو المحب لذاته ولكـن هـو ذاك الذي يتجاوز محبة ذاته، فبينما هذان (الكاهن واللاوي) عبرا بالمـصـاب دون أن يشعرا نحوه بأي عاطفة إنسانية، وبدون أن ينقطا زيت المحبة، لأن نفوسهم كانت خالية من الشفقة والعطف، نرى السامري الغريب الجنس يتمم نـاموس المحبة. من ناحية أخرى فإنه حسب المكتوب “إنسان في كرامـة ولا يفهـم يشبه البهائم التي تباد” (مز 49: 20)، والمسيح إلهنا صار بداية لجنسنا، فهذا الذي لم يعرف الخطية هو أول من أظهر لنا كيـف يمكننا أن نتخطى شهواتنا الحيوانية إذ اخذ ضعفاتنا وتحمل أمراضنا، وبإصعاده على دابتـه ذاك الـذي كان في حاجة إلى الشفاء جعلنا أعضاء لنفسه ولجسده، وقاده إلى الفنـدق أي الكنيسة. فالكنيسة تدعى الفندق الذي يقبل الكل ويتسع للكل بعكس المفهـوم الضيق للناموس اليهودي والعبادة الشكلية، فبدلا من أن نسمع القـول “ولا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الـرب” (تث 23: 3)، نسمع “اذهبـوا وتلمذوا جميع الأمم” (مت 28: 19) وأيضا في ” في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده” (أع 10: 35)].

[وجه المسيح اهتمامه نحو الأمم الذين كانوا أمواتا في عبـادة الأوثـان واهبا عطاياه الروحية لصاحب الفندق إذ أنه عند صعوده إلـى السموات أعطى لصاحب الفندق ـ الذي يشير إلى الرسل ولمن بعـدهـم مـن رعـاة ومعلمين ـ دينارين لكي يرعى المريض باهتمام وأخبره كيف أنه إذا أنفـق أكثر من ذلك فهو بنفسه سوف يوفيه عند رجوعه. الديناران هما العهـدان: العهد الذي أعطى بناموس موسى وبالأنبياء، والعهد الذي أعطى بالأناجيـل وبتعاليم الرسل. والعهدان هما لإله واحد ويحملان صـورة واحـدة للملـك السماوي الواحد مثل الدينارين، حيث أن الروح الذي تكلم في العهدين واحد. لذا فإن الكلمات المقدسة التي للعهدين تختم على قلوبنا نفس صورة الملـك وتطبعها. وهذا عكس ما نادى به ماني وماركيون اللذان قالا إن إله العهـد  القديم غير إله العهد الجديد، فواحد هو الملـك المطبوعـة صـورتـه علـى الدينارين. ومثلما أعطى صاحب الفندق الدينارين، هكـذا أعطـى المـسيح العهدين لرعاة الكنائس المقدسة، وهم أضـافوا عليهمـا الكثيـر بأتعابهم وجهدهم لنشر التعليم. هذه هي النقود التي تنفق دون أن تنقص بـل علـى العكس تزيد، مما يبين أنها في الحقيقة كلمة التعليم الإلهي ].

[ أعود من حديثي إلى السيد الذي سوف يكرم في اليوم الأخير العبد الـذي سوف يقول له يا سيد وزنتين سلمتني هوذا وزنتان أخريان ربحتهما فوقهمـا بقوله له “نعما أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينا في القليل أقيمـك علـى الكثير، ادخل إلى فرح سيدك” (مت 25: 22-24)]. لذلك سأل المسيح الناموسـي بحق قائلا: “فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟” فأجاب الناموسي ” الذي صنع معه الرحمة”، فلا الكاهن ولا الـلاوي صـارا قريبين للمصاب، لكن هذا الذي رحمه. عند هذا قال له المسيح اذهـب أنـت أيضا واصنع هكذا. ها قد رأيت أيها الناموسي وتبرهن بهذا المثل أنه لا فائدة لاتخاذ الأسماء الفارغة والألقاب السخيفة التي بلا معنى ما دامت لا تصاحبها أعمال سامية، لأن درجة الكهنوت لا تفيد أصحابها، وكـذلك تعـب مـعلـم الناموس لا يفيد أولئك الذين يشتهرون به إن لم يتفوقوا بالأعمال أيضا ولـيـس بالألقاب فقط.

ها قد ضفر إكليل المحبة لذلك الذي يحب قريبه، وقد تبرهن أن الـسامري هو الذي كسب الإكليل، ولم يرفض لكونه سامريا. وكما يكتب المتقـدم بــين التلاميذ بطرس المبارك قائلا ” بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه، بل فـي كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده” (أع 10: 34-36) لأن المسيح الـذي يحب الفضيلة يقبل كل الذين يجتهدون في المساعي الصالحة، الذي به ومعـه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (69) النصيب الصالح ـ إضافة الغرباء 10: 38-42

(لو 10: 38-42): ” وفيما هم سائرون دخل قرية، فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها. وكانت لهذه أخت تدعى مريم، التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه. وأمـا مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة. فوقفت وقالت: يارب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني! فأجاب يسوع وقال لها: مرثـا، مرثـا أنـت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها “.

يا من تعشقون الفضائل التي تزين التقوى، وتمارسون بحرص، كل الفنون التي للقديسين، تعالوا أيضا واصغوا إلى التعليم المقدس ولا تـدعوا خـصلة إضافة الغرباء غريبة عنكم، فهي خصلة عظيمة وحميدة كما يشهد الحكــم بولس بقوله: “لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناس ملائكة وهـم لا يدرون” (عب 13: 2). ليتنا نتعلم من المسيح مخلص الجميع هذه الفضيلة، بـل وأيضا جميع الفضائل. إنه مما يخزينا أنه بينما كل الـذين يطلبـون الحكمـة العالمية، والذين يجمعون المعرفة المكتوبة، يختارون أفضل المعلمين لتعليمهم، فإننا نحن الذين لنا المسيح ، معلما ومرشدا، والذي هو معطي كل حكمة، والذي يحثنا أن نصغي باجتهاد للتعاليم الفائقة القدر، لا نتمثل بهذه المرأة ـ مريم ـ في محبتها للتعاليم، والتي جلست عند قدمي المخلص، وملأت قلبها بالتعـاليم التي علم بها، وهي تشعر كأنها لن تشبع مما ينفعها نفعا عظيما.

 دخل المخلص إلى منزل المرأتين القديستين، ويقول الكتاب: وكانت مـريم تسمع كلامه، أما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة، فطلبت إليه أن يجعـل أختها تشاركها اهتماماتها، ولكن الرب لم يقبل وقال لها: “مرثا مرثـا أنـت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة”، وبالأكثر مدح مريم لأنها “اختـارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منه”، لأن اقتناء البركات الروحية لا يمكن أن يضيع.

أول ما يجب أن نفحصه هنا، هو الطريقة التي أراد بها المخلص أن يفيـد تلاميذه، إذ يجعل نفسه مثالاً، حتى يعرفوا كيف وبأي طريقة يتصرفون فـي بيوت الذين يقبلونهم، لأنهم لا ينبغي أن ينغمسوا في التسلية عنـد دخـولهم البيوت، أو يظنوا أن هذا هو السبب الذي يزورون الناس لأجله، بل بـالحري يملأوا مضيفهم بكل بركة، وبالتعاليم الإلهية المقدسة. لذلك فبولس الطوبـاوي يرسل رسالة لأناس معينين يقول فيها: ” إني من تناق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم” (رو 1: 11). لاحظوا إذن أن رنا يسوع المسيح عنـدما دخـل لزيارة هاتين المرأتين المقدستين لم يهمل تعليمهما، بل ومنحهما ـ بدون قيـد ـ تعاليم الخلاص الرصينة. كانت إحـدى الأختـيـن راسخة فـي محبتهـا للاستماع، أما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة، فهل يلومها أحد إذن بسبب انشغالها وعنايتها بالخدمة؟ طبعا لا. فالرب نفسه لم يعنفها لأنها ارتأت لنفسها أن تقوم بأعباء هذا الواجب، ولكنه لامها لأنها كانت تتعب عبئًا لسبب رغبتها أن تدبر أكثر مما كان ضروريا، وهذا فعله الرب لأجل منفعتنا حتـى يـضع حدودا مناسبة لإضافة الغرباء، إذ أن النصيب الآخر وهو الرغبة في استماع التعليم الإلهي هو أفضل جدا.

فنحن لا نقصد بكلامنا هذا أن الرغبة في إضافة الغرباء حينما لا تتجـاوز الحدود المقبولة ينبغي أن تحتقر أو أنها ليست خدمـة، فالقديسون أنفسهم يصممون على القناعة بالقليل، وعندما يجلسون على المائدة ويأكلون، وهـم يفعلون ذلك ليشبعوا حاجة الجسد حسب قوانين الطبيعة، ولكن ليس بقـصد الاهتمام باللذة والاسترخاء. لذلك يجب علينا عندما يستضيفنا الإخوة، لنحصد منهم الجسديات، يلزم أولاً أن نزرع لهم الروحيـات، وإذ نتمثـل فـي ذلـك بالمزارعين المهرة فإننا نكشف قلوبهم لئلا ينبت فيها أصل مرارة ويـؤذيهم، ولئلا تهاجمهم دودة الابتداع البشرى وتصيبهم بفساد خفي. وإن حـدث هـذا، فعلينا أن نلقي في عقولهم كلمة التعليم الخلاصية، وكما بأسنان فأس نستأصل جذور عدم التقوى، ونقتلع زوان الضلال من جذوره، ونزرع فـيـهم معرفـة الحق، وهكذا يمكننا أن نحصد الجسديات من أولئك الذين يملكـون الـوفرة، وننالها منهم كأنها دين عليهم، لأنه يقول: ” الفاعل مستحق أجرته”.

ويشير ناموس موسى إلى نفس الحقيقة بقوله في موضع ما: “لا تكم ثورا دارسا”. ولكن كما يقول بولس: ” هل الله تهمه الثيران أم يقـول مطلقا من أجلنا ؟” (1كو 9: 9). أنت ستعطي إذن أشياء أفضل وأقيم مما ستأخذه من النـاس. ستعطيهم عطايا أبدية عوضا عن الأمور الزمنيـة، الـسمائية عوضـا عـن الأرضية، والعقلية عوضا عن الحسية، والباقيات عوضا عن الفانيات.

ولكن دع الذين يفتحون بيتهم لهم، يلاقونهم ببشاشة وسرور، وكشركاء لهم، وليس بشعور من يعطي ولكن بشعور من يأخذ، أي كمن يربح ولـيـس كـمـن ينفق. إنهم بهذا ينالون فائدة مزدوجة؛ أولاً هم يستفيدون من تعليم أولئك الذين يستضيفونهم بانفتاح؛ وثانيا يربحون أيضا مكافأة إضافة الغرباء، ولذلك فهـم ينتفعون من كل جهة. ومع ذلك فحينما يستقبلون الإخوة في بيوتهم فلا ينبغـي أن يرتبكوا في خدمة كثيرة ولا ينهمكوا بما يفوق مواردهم أو ما يزيـد عـن الكفاية، فإن الإسراف مؤذي في كل مكان وفي كل شيء، لأنه كثيرا ما يسبب ترددًا عند أولئك الذين لولاه لكانوا يرغبون في استضافة الغربـاء بفـرح، وتكون النتيجة أنه لن توجد إلا بيوت قليلة مناسبة لهذا الغرض، بينمـا هـو يسبب ازعاجا للضيوف. لأن الأغنياء في هذا العالم يبتهجون بالموائد المسرفة بالمأكولات المتعددة المجهزة بالتوابل والروائح، وإن كانت الوليمة فيها مجرد الكفاف فهي تحتقر تماما، فالإفراط هو الذي يمدح عندهم، ويصير مـا فـوق الشبع هو مثار الإعجاب والإطراء، والمشروبات والعربـدة تكـون عنـدهم بإفراط وكذلك الأقداح الممتلئة وكثرة النبيذ التي تؤدى إلى السكر والنهم. ولكن عندما يجتمع القديسون في بيت إنسان يخاف الله، المائـدة بسيطة ومعتدلـة والأطعمة بسيطة وبدون إفراط، قليل من الطعام للأكل ببساطة وكذلك كميـة محدودة من الشراب. إن مؤونة صغيرة من هذه الضروريات سـوف تشبع شهية الجسد بطعام بسيط. هكذا ينبغي أن تكون إضافة الغرباء، وهكذا أيـضا استضاف إبراهيم الثلاثة رجال عند بلوطة ممرا، فنال مكافأة اهتمامـه وهـو الوعد بابنه الحبيب إسحق، ولوط لما كرم الملائكة في سدوم لم يهلك بالنار مع الباقين ولم يصير مأكلاً للنار التي لا تطفأ.

عظيمة إذن هي فضيلة إضافة الغرباء خصوصا القديسين مـنهم، فليتنـا نمارسها أيضا، وهكذا يجد المعلم السماوي راحته ويسكن في قلوبنـا، أعنـي المسيح، الذي به ومعه الله الآب الكرامة والسلطان مع الروح القدس إلى أبـد الآبدين آمين.

 

زر الذهاب إلى الأعلى