وتذكرونني إلى أن آجئ

الآن… وقد صعد السيد المسيح إلى السماء.. إلى المجد الأسنى لينطلق عهد جديد بين الإنسان وخالقه، فأصبحت الأشياء السمائية، التي اختطف بولس الرسول حتى يتمكن من رؤيتها ووصفها بأنها لا توصف، أصبحت في متناول يد إنسان القداسة والنقاء والحب.. إنسان يؤمن إيماناً حياً فعالاً بما في السماء وينتظر الحياة الآتية مجتازا كل ما يُرى ساعيا إلى ما لا يُرى مضحيا بالزمني ليفوز بالأبدي.

+ وبعد الصعود … هل مازلنا نذكره طريقاً كرسه لنا بالحجاب” (أي بجسده) محدداً لنا فيه علامات لا تمحى وإرشادات روحية فوق مستوى السمو تؤدي بنا إلى حضن الآب مباشرة.. ؟

هل نذكره حباً مبذولاً وطيباً مسكوباً يوقظ النفس والضمير والوجدان والفكر عن طريق كل ما في هذا الحب من قدرات إلهية خلاقة عاملة بقوة الروح القدس الحال فينا والذي يعين ضعفاتنا ويحولها إلى مسيرة من خبرات جميلة مفرحة تزيدنا فخرا بنفس الضعفات لأننا بها نرى أن قوة الله تكمل فيها قوتي في الضعف تكمل”.

في الذكرى تجديد الحياة والذكرى مرتبطة بالتاريخ وكما يقولون إن من يعرف التاريخ يضيف عمراً على عمره. وإلهنا الحبيب هو أمس واليوم وإلى الأبد أي هو التاريخ كله، بماضيه وحاضره ومستقبله.

إلا أن الأمس الخاص بالهنا لا ينتهي، وذكراه هي أساس حياتنا الحاضرة ورجائنا للمستقبل. وصفحات تاريخ إلهنا تزين وتنير ذاكرتنا لأنها صفحات سطرتها يد الحب الإلهي وكلماتها “حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين” وتخترق أعماقنا لتضع فيها الدعائم الصخرية الصلبة التي يقوم عليها بنياننا الذي يجعلنا راسخين في الإيمان والأعمال، في الحب وفي التسامح والتصالح مع الكل، بل مع الكون.

إن إلهنا يعلم ما بنا من ذكريات أخرى كثيرة تتزاحم مع ذكراه، وهي الأعلى والأقدس والأسمى. إنه يُقدِّر تماماً إلى أي حد يؤثر علينا هذا العالم الآن بعد أن شوهته الخطية وأفقدته الكثير جدا من مجده الذي خلق عليه.

إننا نعيش عالمنا الخارجي والداخلي الذي يؤلمنا وكثيراً ما يحبطنا ويدفع بالكثيرين ممن أهملوا النظر في جنبات ذلك التاريخ المقدس ليزج بهم إلى أنماط بشعة من الهاوية التي لـــم تخطر على بالنا من قبل. لقد أصبح وراء الكثيرين أنواعا شتى من التاريخ المظلم الذي أنجب لهم خبرات سيئة عن أنفسهم وعن الآخرين وتلوثت الذكرى واظلمت الذكريات.

ولكن … لا .. فإن الهنا يعرفنا حق المعرفة وصورته فينا تنادينا على مائدته المقدسة يطلب منا طلبا إلهيا :
“تذكرونني إلى أن أجي” .. حذار أن تنسوا حذار تموت ذكرياتي في قلوبكم أو في عقولكم، إنني أذكركم عند أبي وأنا قائم على يمين العظمة، بل وأنا قد أعددت لكم أماكن حتى إذا أتيت ووجدتكم تذكرونني سأخذكم حيث أكون أنا.

 كيف .. كيف نذكر والحال هكذا.. هموم وأمراض وأوبئة وكوارث ومجاعات وجرائم تفوق التصورات وتتفوق على غرائز الحيوانات.

هل نستطيع.. هل في إمكانياتنا أن نذكره إلى أن يجئ ؟ نعم بكل تأكيد..

لقد وضع لنا الطريق الذي يساعدنا على الاحتفاظ بالذكرى الروحية حية وتعطي الحياة… لقد وضع لنا سراً وأوصانا : “اصنعوا هذا لذكري”.

لقد عرفنا أن عمانوئيل : الله معنا إلى الأبد … بين أيدينا…. نتناوله داخلنا من خلال سر الأسرار … الإفخارستيا (سر التناول) الذي فيه نرنم له أجمل الألحان. وعندما يقول لنا وتذكرونني إلى أن أجى نسبح له قائلين : آمين آمين آمين بموتك يارب نبشر و … و ….. فيا من تؤلمك ذكريات لا تعرف كيف تتخلص منها أسرع إلى كنيستك… تناول جسد الرب ودمه، وجدد العهد معه في قدس الأقداس وفي ألحانه وتسابيحه وتماجيده وقربانه وأجراسه عندئذ لن تقوى عليك أبواب الجحيم بل تصبح ممثلنا من ذكريات وراء ذكريات جميلة بيضاء أكثر من الثلج.

هكذا تصبح الكنيسة هي المدينة التي لا تقهر ، وستظل منارة للأقداس نجدد فيها ذكرياتنا ونحيا بها تاريخنا وتاريخ أجدادنا وشهدائنا.

ملحوظة هامة جداً : [الذكرى الخاصة بالإفخارستيا تعني باللغة اليونانية “أنا منيس” ومعناها ليس مجرد التذكر لأمر نتطلع إليه غائباً عنا بل تحمل إعادة دعوته في معنى فعال](تفسير إنجيل لوقا لأبونا تادرس يعقوب

كلمة “الذكرى” في عبارة “اصنعوا هذا لذكري ” :

لا تعني أن الخبز والخمر مجرد رمز أو تذكار بل إنهما يتحولان بالفعل إلى جسد الرب ودمه. ويؤكد ذلك ما يلي : 
+ لا يعقل أن يتكلم الرب – في آخر فترات حياته على الأرض – مع تلاميذه بالمجاز أو الرمز وخاصة أنه وعدهم بأن يعرفوا أسرار ملكوت الله (مت 12: 11).
+ قال الرب : “جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق” (يو 6: 55)
+ بولس الرسول يؤكد أن الرب قال له عنهما عندما سلمهما إليه ” هذا هو جسدي المكسور لأجلكم . اصنعوا هذا لذكري” (1كو 11: 24) قال : اصنعوا هذا أي هذا نفسه ولم يقل اصنعوا مثل أو شبه هذا.
+ شرح بولس الرسول الذكرى قائلاً : “فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هـذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجئ” ( 1كو 11: 26) أي من يتناول جسد الرب ودمه يذكر الرب
بمعنى أنه يعترف بموته وبالفداء الذي صنعه.
+ وكما حول الرب نار الأتون المحرقة إلى شئ آخر لم يؤثر على الفتية الثلاثة، وكما حول الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل يستطيع أن يحول الخبز والخمر إلى جسده ودمه الأقدسين.
+ والحواس العادية لا تستطيع أن تدرك هذا السر ولذا فنحن نصدقه بالإيمان. فبالإيمان نصدق سر تجسد السيد المسيح في بطن العذراء وهو يملأ الكون… والطبيعة أيضاً تحــــوي أسراراً تفوق عقولنا البشرية ولا نحسها بحواسنا المادية ومع ذلك نسلّم بها مثل : ولو لم يكن كلام الرب بصفة حقيقية :

+ لأفصح لتلاميذه عندما استصعبوا كلامه ورجعوا إلى الوراء.
+ لما اعتبر أن الذي لا يتناوله ميتا (يو 6: 52)
+ لما رتب عقوبات لمن يتناولهما بغير استحقاق يكون مجرماً في جسد الرب ودمه ويأكل ويشرب دينونة لنفسه” (1کو 11: 27، 29]

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى