تفسير رسالة رومية أصحاح 3 للاب متى المسكين
الأصحاح الثالث
۱ – رو۱:۳-۸ : امتيازات اليهود لم تغفهم من العقاب لأنهم لم يكونوا أمناء .
۲ – رو۹:۳-۲۰ : اليهود متساوون مع الأمم في الوقوع تحت الدينونة .
۳ – رو٢۱:۳-٢٤ : ظهور بر الله بالمسيح، ومنحه بالإيمان للجميع ، كنعمة بالفداء .
٤ ـ رو ٢٥:٣و٢٦ : «عصب اللاهوت المسيحي» هو: عمل الكفارة الذي أكمله
المسيح ، ثم الإيمان بالدم للصفح عن الخطايا ، لإظهار بر الله .
ه ـ رو ۲۷:۳-۳۱ : تـوقـف الـعـمـل بـالناموس، وبدء العمل بالإيمان للتبرير بدون أعمال الناموس، والله لليهود والأمم بالإيمان الواحد !
[ ۸-۱:۳ ] امتيازات اليهود لم تعفهم من العقاب لأنهم لم يكونوا أمناء
وما هي قيمة اليهودي إذاً؟
۱:۳- «إذا مـا هـو فـضـل اليهودي أو ما هو نفع الختان. كثير على كل وجه. أما أولاً فـلأنـهـم أسـتـؤمـنـوا على أقوال الله . فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء. أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله . حاشا . بل ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً، كما هو مكتوب لكي تتبرر في كلامك وتغلب متى حوكمت .
ولـكـن إن كان إثمنا يبين بر الله فماذا نقول؟ ألعل الله الذي يجلب الغضب ظالم؟ أتكلم بحسب الإنسان، حاشا . فكيف يدين الله العالم إذ ذاك. فإنه إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده، فلماذا أدان أنا بعد كخاطيء. أما كما يفترى علينا وكما يزعم قوم أننا نقول لنفعل السيئات لكي تأتي الخيرات . الذين دينونتهم عادلة».
وكأن رد الفعل على كل ما قاله ق. بولس يجيء بصيغة السؤال هكذا : إن كان اليهودي هو يهودي فقط في الخفاء، وإن كانت الختانة الحقة هي ختانة القلب لا اللحم وهذا حق؛ فلماذا اخـتـار الله الأمة اليهودية وهي أمة كل أعمالها في الظاهر والعلن، ولماذا الختانة التي نص على أن تكون في اللحم وفي اليوم الثامن حسب أمر الرب ؟
الاتهام هنا ليس موجها لليهود ؛ ، فلا بد أن يتبرر الله، وليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذبا.
أما الأمة اليهودية فهي في ضوء اختيار الله لها فهي ذات فضل، فقد استأمنهم الله لمدى ألفي سنة (أي من موسى إلى المسيح) على أقواله أي أسفاره المقدسة، وأما الحتانة في اللحم فبحسب تدبير الله السابق فهي ختم هذا الاختيار. وقد أغدق الله عليهم من مراحمه وحبه وعطاياه، ولكنه جاء يطلب الثمر فلم يجد إلا العقوق . فما ذنب أسفار الله المقدسة إن كان قوم من هؤلاء لم يكونوا أمناء لهذه الأسـفـار أو لاخـتـيـاره ولخـتـم اخـتـياره ؟ هل عدم أمانتهم تصيب أمانة الله في أقواله وأسفاره ؟ أو تبطلها ؟ حاشا !! فالله وكل ما قاله الله في كل أسفاره سيظل صادقاً أبدأ والإنسان هو وحده المسئول عن أعمال كذبه دائماً !! وإذا دخل الله وكلامه ووعوده دائرة حكمنا ، فحتماً هو وحده المزكى والبار في كل ما قال وما يقول ويعمل .
فالآن هل يترك الله هؤلاء القوم يبررون الله بالفم في الظاهر ويخفون الإثم في القلب ويهينون اسمه الذي يفتخرون به : « هذا الشعب يكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً» (مر6:7)؟ فماذا نقول وماذا تقول الأمم، هل إثم اليهود يخدم بر الله ؟ أو هل الخطية تبين بره ؟ فلماذا يدين الله بـقـيـة الـعـالـم؟ من قال هذا ؟ وإذا جلب الله الغضب على الأمم بسبب خطاياهم ـ وشعبه المختار يعيث فساداً ـ ألا يكون ظالماً؟ وهل ممكن أن صدق الله وبره يزدادان في أعين الناس بـيـنـما شعبه يمارس خدمته له ويمجده بالكذب والتدليس ؟[1] إن دينونة الله بل وعدله أيضاً حتماً يفقدان محتواهما إن كانت الخطية تنشىء برا !! –
هنا يورد ق. بولس موضوعاً كان قد أثار شجون نفسه إذ طلع عليه ناقدوه وكانوا كثيرين، بأن ق. بولس يعلم : « لنفعل السيئات لكي تأتي الخيرات». وفي الحقيقة، إن هذا القذف في حق ق . بولس يرجع إلى عدم فهم هؤلاء الناقدين لعدة مواقف تكلم فيها ق. بولس بما قد يفيد مثل هذا الاتهام الجاهل، فقد علم هكذا: «حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً» (رو5 : 20) ( أنظر شرحها في موضعها)، كذلك : « وأما الناموس فقد دخل لكي تكثر الخطية» (رو5: 2) (أنظر شرحها في موضعها )؛ كذلك: «أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية » (رو7: 25) ( أنـظـر شـرحها في موضعها ). من هذا فهم الجهلاء أن ق. بولس يكرم الخطية، ويا للشناعة !
[ ۲۰-۹:۳ ] اليهود متساوون مع الأمم في الوقوع تحت الدينونة
۹:۳ «فماذا إذا أنـحـن أفضل. كلا البتة. لأننا قد شكونا أن اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية » .
هنا يعطي ق. بولس معلومة تكاد تكون مقطوعة عن ما سبق من هذا الحوار إذ يقول : «فماذا إذا أنـحـن أفـضـل ؟ ويرد : كلا البتة لأننا شكونا أن اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية . والآن من هم هؤلاء الـ «نحن » ؟ هل اليهود ، هل الأمم، هل المسيحيون ؟
وللرد على ذلك يلزم أن يكون الرد منحصراً في معنى كلمة «نحن»، أنها هي في وضع أفضل مـن الـيـهـود . ولـكـن ق. بولس لا يتكلم إلا بفم اليهود ، إذا فهو يهودي في وضع أفضل من اليهود ولكن ليس أفضل من اليهود !! فما هو؟ الجواب إنه يهودي قد أفرزه الله ليحمله الأمانة التي أخفق فيها “قوم لم يكونوا أمناء، وهم اليهود الذين خالفوا أوامر الله وتعدوا على الناموس. والآن نعيد السؤال بفم ق. بولس : «فماذا إذا أنحن أفضل ؟ » . وهنا يتضح أن ق. بولس يتكلم عن اليهود الذين دخلوا الإيمان، والسؤال ينص على وضع عام كان فيه الذين آمنوا بالمسيح من اليهود والذين لـم يـؤمـنـوا سـواء بـسـواء تحت الخطية. ولكن لما استعين بر الله ، آمن الذين آمنوا من اليهود، ليس لأنهم كانوا أفضل ولكن لأنهم آمنوا فصاروا في الوضع الأفضل دون فضل منهم، وحالة ق. بولس قبل أن يظهر له المسيح تشهد بذلك جداً! وهنا يصل ق. بولس إلى مفتاح الإيمان ببر المسيح المجاني الذي ليس لأحد من البشر فضل أو استحقاق في قبوله .
والآن ينبغي أن يلتفت القارىء إلى أنه بهذا يكون ق . بولس قد وصل إلى تحقيق القول الذي قاله في مستهل الأصحاح : «إذا ما هو فضل اليهودي أو ما هو نفع الختان ؟ كثير على كل وجه». كيف؟ لأن من هؤلاء الـيـهـود ومـن واقع علاقة الله بهم واستثمانهم على أقواله ومن تشديدهم على أوامره التي منها الختان ، يكونون بذلك قد حفظوا العهد وحفظوا الميراث والتراث إلى أن جاء منهم المسيح: «الخلاص هو من اليهود » (يو4 : 31)، وهذا القول هو من فم المسيح ، ولـكـن ق. بولس يقول إن هذه المرة جاء بر الله ــ بواسطة المسيح ـ بدون الناموس ولكن مشهوداً له من الناموس. وإلى هنا تراجع اليهود ـ الذين لم يؤمنوا بالمسيح – إلى الخلف، على أنهم بقوا أصحاب فـضـل بالنسبة لنا وفقدوه بالنسبة لهم، وسيظلون أصحاب فضل بالنسبة لنا، وفاقدين له بالنسبة لأنفسهم إلى أن يرد الله لهم فضلهم بأن يقبلهم إليه مرة أخرى فيؤمنون به . و بصورة أكثر وضـوحـاً نـقـول إن الـيـهـود سلمونا المسيح ، فكانوا بذلك أصحاب فضل علينا ولا يزالون إلى الأبد ، ولـكـنـهـم هـم لـم يؤمنوا به ، ففقدوا قيمة فضلهم علينا ولكن إلى زمان حينما يقبلهم الله ويرد لهم فضلهم وجميلهم علينا بأن يظهر لهم ذاته فيؤمنوا به .
10:3 « كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد». مقتبسة من جا۰۲۰:۷
11:3 «ليس من يفهم ليس من يطلب الله». مقتبسة من مز2:14، مر2:53
12:3 «الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد». مز3:14 و3:53.
13:3 «حنجرتهم قبر مفتوح بألسنتهم قد مكروا » . مز5: 9 سبعينية .
«سم الأصلال تحت شفاههم » . مز3:140.
3: 14« وفمهم مملوء لعنة ومرارة » . مز10: 7
3:15 «أرجلهم سريعة إلى سفك الدم». إش7:59 و أم 1: 16.
16:3 «في طرقهم اغتصاب وسحق » . إش7:59
17:3 « وطريق السلام لم يعرفوه » . إش8:59
18:3 «ليس خوف الله قدام عيونهم». مز1:36 سبعينية.
من الذاكرة اقتبس ق. بولس هذه الآيات التي عثرنا عليها في مواضعها التقريبية. والقديس بولس يستشهد بها ليبرهن على ما سبق وقال : «لأننا قد شكونا أن اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية». وهـو يـعـود أيضاً ويؤكد هذا القصد بتعقيبه على هذا السجل الحافل بالملامة على اليهود
بقوله :
19:3 «ونحن نعلم أن كـل مـا يـقـوله الناموس (التوراة والمزامير والأنبياء) فهو يكلم به الذين في الناموس (اليهود) لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله».
وبهذا ينتهي ق. بولس إلى أن الجميع قد أغلق عليهم في العصيان «لكي يستد كل فم».
هذا من جهة اليهود لأن هذا هو حكم الله عليهم في الناموس، وبالتالي الأمم : « ويصير كل العالم تحت قصاص من الله » .
وهكذا ينتهي ق. بولس إلى ما ما كان يخطط له منذ أول الرسالة أن العالم صار في أشد الحاجة إلى استعلان بر الله. لأن الناموس أخفق في علاج الخطية بسبب طبيعة الإنسان الضعيفة الواقعة تحت اللعنة وتحت عبودية الخطية. ونلاحظ في مستهل هذا السجل الحافل بالدينونة على اليهود أنه يلمح : « ليس باز ولا واحد »، وهو بذلك يمهد لمجيء البار الذي سيبرر الكثيرين.
20:3 «لأنه بأعمال الـنـامـوس كل ذي جسد لا يـتـبـرر أمامه، لأن بالناموس معرفة الخطية» .
هـنـا يـنـتـقـل ق. بولس نقلة كبيرة وخطيرة من إلقاء اللوم بفم الله في التوراة على اليهود الذين أفسدوا عـلاقـتـهـم بالله أشد إفساد، فلا فهم، ولا طلب الله ، ولا عمل صلاح، بل حناجر تقذف الـنـتــن مـن الألفاظ، وألسنة ماكرة، وشفاه تلفظ السموم، وفم يلعن بمرارة، وأرجل تجري للقتل، وتحـايـل للاغتصاب والنقمة، يقولون طول النهار «شالوم شالوم» ولا يعرفون طريق الشالوم ! لأن خوف الله منزوع من وجههم !!
ق. بولس ينتقل من ملامة الناموس لليهود، إلى كشف حقيقة عجز الناموس لأنه لم يقدر أن يـبـرر أحـداً لـيـقـف أمام الله بلا لوم. لأنه (أي الناموس) وضع ليحكم على الخطايا فقط ويدين الخطاة، وذلك لمحاصرة الخطية والخطاة، وتمهيداً لمعالجة الاثنين بظهور بر الله الذي له وحده القوة لمحو الخطية كما تُمحى سحابة صيف تحت وهج الشمس، وبتبرير الخاطىء بأن يولد من جديد ، ليوقفه أمام الله بلا لوم !!
[ ۲۱:۳-٢٤ ] ظهور بر الله بالإيمان بيسوع المسيح
ابـتـدأ ق. بولس رسـالـتـه إلى أهل رومية بذكر انتشار الخطية وتغلغلها في العالم الوثني، ثم بانتشارها وتغلغلها في العالم اليهودي .
أمـا نـصـف الـعـالـم الأول، أي الوثني، فلم تسعفه المعرفة الطبيعية بالله ـ كما ينبغي ـ من الداخل بالوعي والضمير، ومن الخارج بآيات الكون ؛ وأما نصف العالم الثاني، أي اليهودي، فلم تسعفه معرفته بالناموس ـ كما ينبغي ـ ولا العمل بمقتضاه . وهكذا انتهى ق. بولس بخلاصة أن فائدة الناموس هي « لمعرفة الخطية » وحسب . . وهكذا تمهد الأساس الذي من أجله تدخل بر الله ! وهنا يكون ق. بولس قد انتهى في رسالته من التمهيد اللازم لاستعلان ربنا يسوع المسيح وضرورته ودقة الميعاد الذي اختاره، إذ انتهت معرفة الإنسان بالله سواء الطبيعية أو الناموسية إلى مزيد من الـتـورط في الخطـيـة حتى صار الجميع تحت سلطان الخطية : «ليس بار ولا واحد»، ليس صالح ، ليس فاهم الله ، الكل فسدوا وزاغوا معاً، ودخل العالم في ليله الذي طال جدا.
وهـنـا يبتدىء ق. بولس بالإعلان عن فجر البشرية الجديد « ولكن الآن …» . هذا «الآن» هو الذي يبشر ق. بولس به، ومن أجله يكتب رسالته . فالذي حدث «الآن» هو نقطة التحول العظمى في تاريخ عالم الإنسان بشقيه اليهودي والأممي على السواء، وهذا التحول ليس من جهة عالمه الذي يعيش فيه ولا من جهة ما يخصه في ذاته بل من جهة علاقته بالله ومستقبل حياته الذي كان يلفه الليل البهيم .
أما الحدث الذي حدث فقد انطلق من السماء، فالله ظهر في الجسد بعد أن احتجب عن الإنسان كل الأزمنة السالفة : «حقاً أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلص» ( إش 15:45). شق سماءه فجأة ونزل، وأنهى سنين عزلته : « ليتك تشق السموات وتنزل … ها أنت سخطت إذ أخـطـأنـا … وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدة كل أعمال برنا وقد ذبلنا كورقة، وآثامنا كريح تحملنا، وليس من يدعو باسمك أو ينتبه ليتمسك بك، لأنك حجبت وجهك عنا وأذبتنا بسبب آثامنا …» ( إش 64 : 1 و5 و6 و7). لقد دخل الله عالم الإنسان بكل ثقله ؛ بل بكل بره، بل بكل حبه، بل و بـروحـه أيضاً. الله صار في مواجهة الإنسان وجها لوجه (برشوبون)، فلم يعد للناموس مكان ولا مـكـانة . لقد انزوى الحرف لما هل الروح ، وسقط الموت ومعه الخطية لما أشرقت الحياة ومعها بر الله الذي يغفر ويحيي ويقيم من الموت . كان هم الناموس أن يعتش (*) وراء خطايا الإنسان ليحسبها عليه ويطبق حكم الموت بلا رحمة، فصار هم الله أن يسترضي قلب الإنسان بيره الخاص غير حاسب له خطاياه، يصالحه ويغسله بيديه ويقدسه ويقربه جداً إلى نفسه . وكل ما عمله الله في «الآن» التي يذكرها ق. بولس ، وكيف ظهر بره هكذا علانية، كان كله معلوماً سابقاً لدى الأنبياء، وقد ذكروه مراراً وشهدوا له تكراراً والناموس أيضاً اعترف به ومهد له .
21:3 «وأما الآن فقد ظهر بر الله ـ بدون الـنـامـوس ـ مـشـهـوداً له من الناموس والأنبياء » .
فكما كان أن «غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم » (رو1: 18)، لا يفرق بين أممي ويهودي، لأن ميزان قضاء الله لا يأخذ بالوجوه، ولا فرق بين الذين يفعلون الخطية بدون الـنـامـوس أو في الناموس ؛ هكذا فجأة، يستعلن ظاهراً من السماء «بر الله » بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون بالمسيح ، لا فرق بين من يؤمنون وهم في الناموس وبين الذين يؤمنون ولم يكن لهم ناموس، فكما لا فرق في الغضب كذلك لا فرق في البر.
«أما الآن»:
” الآن ” ظرف زمـان محـتـوم بالزمان، ولكن إذ يضع ق. بولس أمامه حرف « أما » للتفريق ، أصبح «الآن» ظرف زمـان يـقـسم الزمان بما يحمله . فإن كان الزمان السالف مربوطاً بالناموس ربطاً لا . رجوع عنه ، صار منذ الآن لا ناموس بالمرة بل فكاك وقطع ربط .
فإن كان الغضب قد اقـتـرن بـالـنـامـوس بسبب التعدي ، فالبر جاء بدون الناموس ليشفي الـتـعـدي . ولـكـن حذار أن نفهم عن الناموس أنه كان غريباً عن بر الله ، فالناموس مقدس وعادل وصالح وروحي (رو7: 12و14)، ولكن الإنسان اليهودي هو الذي أخفق أن ينال البر الذي في الـنـامـوس، لأنه حاول أن يستحوذ عليه لنفسه ليصير بارا في عين نفسه ، كأبيه آدم الذي أراد أن يكون كالله عارفا الخير والشر فكسر الوصية التي كانت لحياته فجعلها لمماته ، هكذا اليهودي : « ولـكـن إسرائيل وهو يسعى في أثر ناموس البر، لم يدرك ناموس البر، لماذا ؟ لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان بل كأنه بأعمال الناموس، … لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله (بظهور المسيح ) لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن . » (رو9: 31و32، 3:10و4)
فالقديس بولس في الحقيقة يهدف إلى وضع مقارنة دقيقة بين «بر الله بالناموس» الذي أخفق اليهود في الانضواء تحته، وبين «بر الله بدون الناموس» الذي كان يمكن لليهود أن يبلغوه لو كانوا قد خضعوا لبر الله الذي في الناموس : «لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ـ ( الذي كان في الناموس) ــويـطـلـبون أن يثبتوا بر أنفسهم : لم يخضعوا لبر الله (في المسيح الذي انتهى الناموس إليه ) . » (رو3:10)
والـدلـيـل المفيد الذي يصحح لنا نظرتنا دائماً نحو الناموس ـ فلا يزل فكرنا عندما ينقد ق .بولس أعـمـالـه ـ هـو قـولـه الـواضـح : «لأن غـايـة الـنـامـوس هي المسيح للبر لكل من يؤمن » (رو10: 4). أي أن الـنـامـوس وضع ليمهد للمسيح ويعمل لحسابه، بمعنى أن الناموس لم يوضع ليبقى أو لـيـدوم، بل ليعمل لحساب المسيح ، حتى إذا جاء المسيح يكون الناموس قد بلغ غايته ونهايته ، فإلى هنا تنتهي أعمال الناموس .
من هنا نفهم بوضوح قول ق. بولس في هذه الآية أعلاه: «أما الآن فقد ظهر بر الله ـ بالإيمان بـيـسـوع المسيح ـ بدون الناموس » . هنا تأتي حقيقة «بدون الناموس » ضرورة مطلقة، وحتمية زمنية ومنطقية وواقعية بآن واحد. فمستحيل أن يجتمع صليب المسيح مع الناموس !! ولا الناموس مع صليب المسيح !! لذلك فإن قول المعمدان: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يو30:3) ينصب في الحقيقة ليس على شخص المعمدان بقدر ما ينطبق على حال زمان المعمدان وما قبل المعمدان من ناموس وأنبياء جميعاً، بل وحتى أن يلقى المعمدان في السجن وتؤخذ رأسه بحد سيف هـيـرودس لم تكن هذه جريمة بقدر ما كانت نبوة رمزية فائقة الدقة، تعبر عن توقف العهد القديم برمته ودخول عهد النبوة وما يتعلق بها من أحداث وناموس وتقاليد وعادات في سجن الزمان وتحت سيف التاريخ الذي لا يرحم : « وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال . » (عب8: 13)
وهل كان الحكـم بـصلب المسيح على خشبة العار جريمة بقدر ما كانت نقطة تحول في تاريخ الإنسان والعالم والخليقة كلها بإنهاء عصر الناموس ؟ فكلمة «بدون الناموس » هنا إشارة إلى بلوغ الناموس غايته العظمى بظهور المسيح .
وهنا يصدق قول المسيح : «لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس، حتى يكون الكل . » (مت5: 17و18)
تقول لي مـعـتـرضـاً: فكيف يقال «بدون الناموس»، و« الناموس عتق وشاخ وهو قريب من الاضمحلال» وهو ترتيب الله وكلماته ؟ الرد واضح لأن المسيح «أكمل الناموس»، ولأنه حقق كل وعد الله الذي في الناموس بحروفه ، فقد حقق المسيح شرطه الذي اشترطه : «لا يزول حتى يـكـون الـكـل» وقد « كـان الـكـل» في المسيح بالفعل حينما قالها المسيح على الصليب : «قد أكمل»، فتحتم زواله .
من هذا نفهم أن العهد الجديد ليس ضد القديم بل تكميل له، فلم تعد تطالب بشرائعه بل نتمتع بكمالها وجمالها وكأننا أكملناها جميعاً في المسيح . والبر بالإيمان بالمسيح ليس ضد أعمال الـنـامـوس بـل تـكـمـيـلاً لها، فلم تعد تطالب بنصوصها بل نتمتع بكمالها وجمالها وكأننا أكملناها جميعاً. « ولكن قبلما جاء ” الإيمان ” كنا محروسين تحت الناموس مغلقاً علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن . » (غل3: 23)
وق. بولس يريد أن يزيد قوله هذا تأكيداً، أي أنه لا يتكلم ضد الناموس بل يكرمه بقوله عن مجيء بر الله بدون الناموس أنه مشهود له من الناموس ومن الأنبياء أيضاً، فإن كان الناموس يشهد لـظـهـور بر الله بالإيمان بيسوع المسيح ، فالتبرير بإيمان يسوع المسيح هو تكميل الناموس حتماً. وقول ق. بولس : « الناموس والأنبياء» هنا ، فهو يعني به جميع الأسفار المقدسة بكل ما حوت واحتوت .
هنا يصر ق . بولس على وحدة الأسفار المقدسة في القديم والجديد، أي وحدة العهدين وكل وعود الله. ولـكـن ق. بولس بالرغم من هذه الاستمرارية الموحدة بين العهدين، إلا أنه بقوله ” أما الآن، و ” ظـهـور بـر الله “ العلني مشهوداً له من الجميع : ناموس وأنبياء، لا يزال يرفع بر الله بالإيمان بـيـسـوع المسيح فوق الجميع، لأنه يحوي كل قوة الماضي وكل مواعيده وخيراته وإنعاماته . وبهذا التعبير ـ أي شهادة الناموس والأنبياء ـ يتسجل «بر الله » بالإيمان بيسوع المسيح شرعاً كـقـانـون إلهـي لـه صـفة العمومية والفعل. لذلك سنسمع حالاً كيف يجعل ق . بولس عمله شاملاً «إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون» ، أي بلا تمييز بين يهودي وأممي.
كذلك، حذار أن نفهم من قول ق. بولس أن بر الله ظهر بدون الناموس، يعني أن بر الله لا يـطـالـب بـالأعمال جملة ! ولكن أعمال الناموس هي التي سقطت من أعبائنا بظهور بر الله بدون الـنـامـوس، ولـكـن بـر الله شرفنا بوضع نير أعمال البر على أرواحنا وفي قلوبنا وما أسعده نيراً، نير الحب والبذل والفرح في العطاء والسخاء في التوزيع، نير الصلاة والتسبيح والتمجيد والفرح الذي لا ينطق به ومجيد، نير أعـمـال الـتـواضـع والمودة الأخوية الصادقة واحتمال أخطاء الآخرين بصبر المسيح !! والنير يوضع على كتفين كتفنا وكتف المسيح إن صح التعبير!! لأن نير المسيح يضعه الروح القدس على أعناقنا ویسنده سرا من ورائنا .
22:3 «بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون، لأنه لا فرق» .
ليس الإيمان بالله هو المختص بإعطاء «برا الله » !! بل الإيمان بيسوع المسيح ! لأنه بعد قليل سوف يظهر لنا أن الصليب والموت هما محور فعالية استعلان بر الله . إذا فبر الله مستعلن في شخص يسوع المسيح من جهة كل الدور الفدائي الذي قام به. وإعطاء المسيح اسمه الكامل : « يسوع المسيح» هو عند ق. بولس جمع شمل خصائص المسيح ما قبل التجسد و بعده، ما استعلن في الـقـديـم بمعنى المسيا وما تم في ملء الزمان مولوداً من امرأة، وما أكمل على الصليب وما تعين بـالـقـيـامـة من الأموات : أنه هو ابن الله !! هذا كله هو بعينه « موضوع » الإيمان الذي له نصيب بر الله ، الذي يشمل المسيح كمخلص وفاي ومصالح ورب لمجد الله الآب .
« إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق » :
أولا وقبل كل شيء ليت يثبت في ذهن القارىء وفي قلبه أن الإيمان بالمسيح يعني أول ما يعني أنك لا تستطيع أن تعمل شيئاً تخلص به نفسك. هذا قد أثبته الله لنا عملياً باستعراضه لنا تاريخ إسرائيل مع الناموس !! إسرائيل جرت وراء الناموس وحاولت باستماتة أن تبرر نفسها بأعمال الناموس، فانتهت إلى التجديف على الله وقتل ابنه الوحيد . الإيمان بالمسيح هو الإيمان ببرا الله الكامل بعد جحد الإنسان بالكامل !! إذا فليس أمام الإنسان للخلاص إلا رحمة الله وسخاء بره .
هوبر ق. بولس يعطي بر الله بالإيمان بيسوع المسيح صفة التشريع السماوي الذي له قوة النفاذ العام والشامل دون أي امتياز أو تفريق بين مؤمن ومؤمن ، ويقصد بذلك أن في المسيح لا شعوبية خاصة ، ولا أمة ممتـازة على أمة، ولا إنسان يتميز على إنسان إلا بإيمانه، والإيمان واحد لأن البر واحد. فبر الله الإيمان!! والإيمان عند ق. بولس يعطيه صفة الشخصية مثل الناموس ، فهو يقول : « ولـكـن قـبـلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس مغلقاً علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن . » (غل23:3)
فـ « الإيمان» هو «فعالية نعمة»، و «البر» نتيجة النعمة، وليس عند نعمة الله تمايز في العطاء لأنها مجانية، فالنعمة واصلة واصلة لكل من يؤمن : «إلى كل من يؤمن»، ومنسكية منسكبة: «على كل من يؤمن» ، وهذا يعني أن بر الله بالإيمان بيسوع المسيح صار حقاً لكل من يؤمن. وهذا له عند الله سبب . غاية في العطف والرحمة والحنو، وهو أنه كما أن الخطية استعبدت وأذلت الجميع بلا تفريق والكل استقى من سمها مجاناً بل ظلماً، فبالمثل جعل الله بره المجاني من حق كل مـن يـطـلـبه، أي يؤمن به، حيث جعل الله فعل الإيمان بالمسيح هو المقابل المداوي لفعل الخطية المميت .
23:3 «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله » .
نعم فمنذ آدم، منذ أن عرف الإنسان الخير والشر وطلب أن يكون كالله، فقد ما الله ، فقد جمال الـصـورة ومجدها. فإن كان موسى قد لمع وجهه لما سمع من فم الرب كلمات الناموس الزائل، فماذا كان وجه آدم وهو يتقبل كل يوم من فم الله علم معرفته في ذاته وفي الخلائق من حوله التي خـلـق والـتـي سـلـمـت إلـيـه ليعطيها أسماءها ويتعايش معها ؟ لقد فقد آدم لمعان وجهه وروحه ، وفـقـدنـاها نحن من بعده، فقد أخذنا طبيعتنا منه فاقدة لنعمة الله وليس مجده وحسب !! بل وفقدنا رؤية الله جملة وتفصيلاً: «لأن الإنسان لا يراني ويعيش» (خر20:33). وليس مجد الصورة الذي أعـوزنـا وحسب، بل ومجد الله والتطلع إليه : «حقاً أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلص» ( إش 15:45). هذا أنين إشعياء الذي « رأى مجد الرب وتكلم عنه» (يو12: 41) برؤيا خاطفة سرعان ما أنسته ما رأى كمن يرى وجهه في مرآة وسرعان ما ينسى ما رأى ! ونحن نعلم أن الرب يسوع أعاد لنا رؤية مجد الله بالروح :
+ « الله لم يره أحد قط . الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر. » (يو1: 18)
+ « وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني . » (يو17: 22)
+ « ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب . » (يو1: 14)
+ «قد كنا معاينين عظمته لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً . » ( 2بط1: 16 و17)
+ «لأن الله الذي قال أن يـشـرق نـور مـن ظـلـمـة هـو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح . » ( 2كو4: 6)
إذا فـ « مجد الله» الذي أعـوز الجميع لما أخطأ الجميع له وجهان : وجه عند الإنسان، إذ لما شوهت صورة الإنسان أصبحت فاقدة قدرة التطلع في أصلها ، أي نور ومجد وجه الله أو التعرف على مـاهـيـتـه وصـفـاتـه؛ والوجه الآخر عند الله ، إذ حجب الله وجهه عن الإنسان لئلا يضعق الإنسان ويموت : «لأن الإنسان لا يراني ويعيش » ( خر20:33)!! فالشمس تعمي البصر المريض .
وكأنما ذكر الله رحمته لآدم وحئت أحشاؤه على صورته التي خلق، فجعل بره الذي استودعه في شخص يسوع المسيح ابنه لا ينحصر فقط في رفع الخطية ـ عن الإنسان ـ التي دمرت علاقته مع الله ، بل ويمتـد بـره في المسيح ليعيد مجد الله لصورته، ويعيد لصورته نعمة التطلع في مجد الله مرة أخرى : « وأظهر له ذاتي . » (يو14: 21)
ويا لهذا المنطق الصحيح العجيب ، فكما أن الخطية أفقدت الإنسان مجد الله ورؤيته، هكذا جاء بر الله ليرفع الخطية فيعيد للإنسان، بالتالي وحتماً ، مجد الله ورؤيته !!
لقد أعطانا الإيمان بير الله الذي في المسيح يسوع، بموته وقيامته ، حق الشركة في المسيح وفي أعـمـال بره، وبالتالي صرنا في المسيح ، فارتاحت الصورة على أصلها وشع شعاع مجد الابن في قلوب منقيه ومحبيه. ولما صرنا شركاء ألمه وموته ، صرنا شركاء مجده بالضرورة : «إن كنا نتألم معه لكي نـتـمـجـد أيضاً معه» (رو17:8). وهكذا بجرأة المفدي يهتف ق . بطرس : «أنا الشيخ رفيقهم والشاهد لآلام المسيح وشريك المجد العتيد أن يعلن.» (1بط1:5)
ألـم يـنـتـه تبرير الله في المسيح يسوع إلى خليقة جديدة فينا وكأنما هي عودة إلى الفردوس، إنما بالروح ، للوجود مع الله في الذكصا العظمى، حيث نرى مجد الله ونشترك فيه ؟!!
«أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني (بالإيمان ) يكونون معي حيث أكون أنا ، لينظروا مجدي الذي أعـطـيـتـنـي، لأنك أحـبـبـتني قبل إنشاء العالم» (يو17: 24)، « متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضاً معه في المجد» (كو3: 4). وهكذا أعاد بر الله للإنسان كل ما فقده الخطية حتى مجد الله !!
24:3 «متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح » .
هنا استعراض حالة تبرير حاصلة إنما بصورة مجانية، أي غير مدفوع لها ثمن من جهة الإنسان .
وفي الحقيقة إن كلمة «متبررين» وحدها تفيد المجانية الكاملة، فلماذا إضافة «مجاناً» هنا ؟ الـسـبـب هـو إعطاء المقابل المساوي (عند الله ) لما سبق في الآية التي قبلها : «إذ الجميع أخطأوا وأعـوزهـم مجد الله»، فكان الرد المقابل عند الله ومن واقع أحشاء رحمته : «متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح » !!
إحساس ق. بولس هنا بـالحرمان الفادح من برا الله الذي عم البشرية جميعاً بسبب الخطية و بدون استثناء وحرمانهم بالتالي من مجد الله هو الذي جعله يصف التبرير «إلى كل وعلى كل من يؤمن ». إنه بلا مقابل من جهة الإنسان، بلا عمل يطلب منه ، إنما هو من سخاء نعمة الله المقابل لسخرة الإنسان المرة تحت الخطية .
فـالـتـبـرير وإن كان في طبيعته هو موهوب كنعمة من قبل الله للإنسان في المسيح يسوع، ولكن ق. بولس يضيف عليه المجانية بمعنى عدم مطالبة الإنسان الميت الواقع تحت الذنوب والخطايا بأية حركة من جهته إلا حركة قلب يقول نعم آمين : « ونحن أموات بالخطايا ، أحيانا مع المسيح ، بالنعمة أنتم مخلصون (مجاناً)» (أف2: 5). هذا هو بر الله الذي وصل إلى الميت في ذنوبه وانـسـكـب على الخاطيء المنكفىء على خطيته فأحياهما . كنداء المسيح على لعازر الميت الذي بلغه وهو في الهاوية فقام !
« متبررین » :
الله بار وهو الوحيد في بره. ولا يوجد بار غير الله . أنظر الآية 10:3 وشرحها في موضعها . أنظر أيـضـا شـرح الآية: « لـيـكـون بـاراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع » (26:3). وحينما يقول ق . بولس: «الله يبرر»، أي يعطي الفعل من البر، فهو يعني أن الله يعطي بره للإنسان بمعنى يعطي تزكيته القضائية مسنودة باستيفاء حق العدالة، وهذا الأمر مستحيل على الإنسان الحصول عليه إلا ببر الله بعمل النعمة الكامل، لأنه لا توجد أية قاعدة عند الإنسان يبرأ على أساسها . وهنا تقترب الكلمة من التبريىء، ولكن الفارق بين التبريىء والتبرير، هو أن الذي يبرأ يصير فقط بلا اتهام ولكن المبرر هو المزكى من الله وله في الله نصيب ، إذ قد حصل على غفران كامل لخطاياه فحاز على الله . وهنا يتعالى جدا البر عن البراءة، فالبراءة تجيء عن عدل فقط أما التبرير فيجيء عن رحمة وعدل معاً، والإنسان يستحيل أن يتبرأ أمام العدل أبدأ ولكن بدخول عنصر الرحمة ينال الإنسان التبرير، أي البراءة + التزكية .
ولـكـن الـتـبـريـر ينتهي عند احتساب الخاطىء مبرراً، أي حائزاً على البر من الله، فهو مزكى فقط ؛ ولكن لا يحتسب أنه فاضل أو صاحب فضيلة، لأن هذا يأتي من أعمال البر. فـالـتـبـريـر لا يقف بالإنسان عن العمل والسعي والجهد في وصايا الله ، بل يزكيه لها ويدفعه إلى الاشتغال بها عن شغف وحب وحرارة وكفاءة. فالبار بالإيمان يحيا وبالبر يعمل أعمال البر ليصير فاضلاً. لأن الـتـبـريـر هـو عمل الله الذي يعمله «الآن» ولكن لحساب الدهر الآتي حينما يتبرر الإنسان أمـام كـرسـي الـديـان . فالتبرير الذي يتم الآن بالإيمان يحتاج إلى إثبات حالة لا تتم إلا بالأعمال البارة التي بمقتضاها يتم التبرير يوم الدينونة حيث يجازي الله كل واحد حسب أعماله. فكيف يجازي البار إن لم تكن له أعمال في البر؟
وأعمـال الـبـر غير أعـمـال الـنـامـوس، فالبر حياة في المسيح والله ، وعثق من الموت والخطية ، فـأعـمـالـه أعمال حياة مع الله والمسيح، أما أعمال الناموس فالذي كان يعملها يحيا بها والذي لا يعمل يموت بلا رحمة، ولم يعملها أحد . لأن الناموس بأعماله كان فقط يمهد للمسيح والمسيح كان غايته .
بنعمته:
لقد جاء بر الله عوض الناموس، لأنه إن كان الناموس يكشف الخطية وبدين ويحكم كقضاء عدل بالموت، فإن بر الله يعفو ويزكي ويغفر كل خطية كقضاء رحمة لإعطاء حياة من موت . كذلك إن كانت أعمال الناموس نيراً على أكتاف الذين تحت الناموس لم يستطيعوا حمله ، لا الآباء ولا الأنبياء من بعدهم باعتراف ق . بطرس (أع15: 10)، فالنعمة، نعمة الله ، جاءت بالبر لتهب مـواهـب وعـطـايـا الـبـر لخدمة الله الحي بواسطتها : « ولكن من أنا ومن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب هكذا لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك . » ( 1أي29: 14)
وكون ق. بولس يقرن كلمة «مجاناً» بكلمة «بنعمته » ليصف عملية التبرير، فهو يجعل هذا التبرير كعمل من جهة الله لا يقوم إطلاقاً على أي استحقاق من جهة الإنسان كمقابل مباشر للآية (۲۰): «لأنـه بـأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه لأن بالناموس معرفة الخطية » . فإن كان الـعـجـز مـحـتـماً بالناموس من جهة الإنسان لنوال عفو أو رحمة من جهة خطايا الإنسان أو حكم الموت ، إذا فقد تحتم بالمقابل أن «يظهر بر الله مجاناً بنعمته»، وذلك هو المقابل من عند ا بحسب غنى رحمته . ولكن ليس كأن عدل الله قد سقط !!
«بالفداء الذي بيسوع المسيح » :
«الفداء»:
الـفـداء معروف من الفدية التي تدفع لفك رقبة (من في العبودية ) أو فك أسر من بين يدي عدو غاصب . والـكـلـمـة تشمل المعنيين : الدفع والفك معاً، فهي فداء مدفوع الثمن . وللقديس بولس توضيح شديد لهذا المعنى : « الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا » (أف7:1). فهنا الأسر هو أسر أو عبودية تحت الخطية، والفداء الذي تم به فك ربط الخطية دفع ثمنه بدم المسيح ، فتم غفران الخطايا من قبل الله . ولكن فك ربط الخطية يشمل، في معنى الفداء بالدم، إلغاء الخطية نفسها كسيد مستبد. قدم المسيح ألغى الخـطـيـة (عب9: 26) وبالتالي ألغى كل متعلقاتها على الإنسان.
هذا هو استيفاء عدل الله من نحو الإنسان، هذا هو الثمن المدفوع من قبل الله لرفع كل تغريم واقع على الإنسان. وهكذا فالثمن المدفوع من يد الله جعل الإنسان يحصل على بر الله مجاناً بنعمته . أي أن مجانية نعمة البر قد استوفت ثمنها إزاء العدل، حتى يمكن تبرير الإنسان وهو خاطىء بل وهـو مائت في ذنوبه وخطاياه، ودون أن يطلب منه أن يأتي ولا حركة واحدة، لقد مرر الله بره إلى الإنسان وعلى الإنسان بعد أن استوفى عدله على الصليب وشفك دم ابنه الوحيد. فوصل إلى الإنسان وعليه ، مجاناً بنعمته، دم المسيح وصليبه ! وهكذا تم تبرير الإنسان مجاناً بنعمته بالفداء الذي دفعه الله في المسيح يسوع .
+ « أم لـسـتـم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد أشتريتم بثمن، فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله . » (1 كو6: 19و20)
+ «قد أشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيداً للناس.» (1کو7: 23)
+ «المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة.» (غل13:3)
+ « ولـكـن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني . » (غل4: 4و5)
وهـكـذا يـرى ق. بولس أن الله في المسيح أعطانا بره، ولكن بعد تكميل الفداء والتقديس بالدم. «بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرأ وقداسة وفداء . » (1کو1: 30)
[ 3: 25و26] عصب اللاهوت المسيحي
هو عمل الكفارة الذي أكمله المسيح
ثم الإيمان بالدم للصفح عن الخطايا ، لإظهار بر الله
25:3 «الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله » .
كفارة : « كبوراه» بالعبرية.
الـكـلـمـة أصـلا مأخوذة من غطاء التابوت الذهبي في قدس الأقداس الذي يتراءى فوقه الله ، ليقبل من رئيس الكهنة تقدمة دم ذبيحة الكفارة التي يكفر بها عن خطايا رئيس الكهنة والشعب . فأصبح غطاء التابوت يفيد معنيين : الأول أنه كرسي أو عرش الرحمة الذي من فوقه حينما يرى الله الدم يمارس عـمـل مغفرة خطايا الشعب ، فيتغاضى عنها أو يغطيها برحمته، فلا تعود تنظر من الله . والمعنى الثاني مكان نضح الدم. وهكذا يصبح الإيلاستيريون أو «الكبوراه» أو الشاكيناه بمعنى «الـسـكـن» والتي تحورت في اللغة العربية وصارت «كفارة»، وهي تقابل رحمة الله مع الخطية بتوسط دم الذبيحة لغفران الخطايا ، أو سترها أو تغطيتها :
+ «الذي يقال له قدس الأقداس ، فيه مبخرة من ذهب وتابوت العهد …، وفوقه كروبا المجد مظللين الغطاء (إيلاستيريون ) … فرئيس الكهنة فقط (يدخل) مرة في السنة ليس بلا دم يقدمه عن نفسه وعن جهالات الشعب . » ( عب9: 3-7)
+ « وقال الرب لموسى كلم هارون أخاك أن لا يدخل كل وقت إلى القدس داخل الحجاب أمام الغطاء ( إيلاستيريون ) الذي على التابوت لئلا يموت لأني في السحاب أتراءى على الغطاء. » (لا16: 2)
+ «فلما دخل موسى إلى خيمة الاجتماع ليتكلم معه ( الله ) كان يسمع الصوت يكلمه من على الغطاء (إيلاسـتـيـريـون) الذي على تـابـوت الـشـهـادة من بين الـكـروبين ، فكلمه . » (عد7: 89)
أما كون الغطاء (إيلاستيريون) يسمى «كرسي أو عرش الرحمة» فواضح في المزمور: «يا راعي إسرائيل اصغ، يا قائد يوسف كالضأن، يا جالساً على الكروبيم أشرق . » (مز1:80)
ومعروف أن الكاروبيم كان فوق الغطاء يغطي الغطاء .
وقد عبر عنه أحد المترجمين اللاتين بأنه المكان حيث «السعي للحصول على الرحمة » .
ومعروف أن أول مـن تـرجم غطاء التابوت بكرسي الرحمة هو أوريجانس الإسكندري في شرحه لرسالة ق. بولس إلى أهل رومية (3). ومن هذا الشرح امتد المفهوم أن المسيح نفسه هو بمثابة كرسي الرحمة. وقد عبر عن ذلك القديس يوحنا : « والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو1: 14)، لأنه حيث يرى مجد الرب ملموساً على الأرض فهو الإيلاستيريون. أما الإيلاستيريون الحقيقي فهو عرش الله في السماء حيث دخل الرب يسوع إلى الله الآب في الأقداس العليا وقدم دمه « فوجد فداء أبدياً . » ( عب8: 12)
ولـكـن تحـلـيـل هذه المعاني وإن كانت مدركة تماماً ومشروحة عند الإسكندرانيين منذ فيلو اليهودي وأوريجانس، فهي على أغلب الأحوال لم تكن مفهومة على هذا المستوى عند أهل روما.
والمهم في هذا كله هو حقيقة ذبيحة الكفارة التي أتمها المسيح على الصليب وقدم دمها إلى الله الآب فأكمل بها الفداء في مفهومه العملي كثمن فادح مدفوع لتحرير الإنسان .
وق. بولس وإن كان أكثر الرسل في تركيزه على الفداء «بالدم» كذبيحة كفارة، إلا أن « الفداء» هو ميراث رسولي عام للكنيسة .
فبحسب بولس الرسول :
+ « الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته ( الله الآب ) . » (أف7:1)
+ « الذي بذل نفسه لأجلنـا لكي يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة . » (تي2: 14)
+ «الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا. » (كو1: 14)
وبحسب بطرس الرسول :
+ «عالمين أنكم افتديتم، لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب ، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بـل بـدم كـريـم كـمـا مـن حمـل بـلا عـيـب ولا دنس دم المسيح ، معروفاً سابقاً قبل تأسيس الـعـالـم ولـكـن قـد أظهر في الأزمنة الأخـيـرة مـن أجـلـكـم . » (1بط 1: 18-20)
بحسب لوقا الإنجيلي:
« مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه . » (لو1: 68 و69)
«فهي (حنة النبـية) في تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم . » ( لو2: 38)
« ونحن (تلميذي عمواس ) كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل . » ( لو21:24)
وبحسب متى ومرقس الإنجيليين :
+ وذلك على لسان المسيح رأساً :
«كما أن ابن الإنسان لـم يـأت لـيـخـدم بـل لـيـخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين . » ( مت20: 24، مر10: 45).
علماً أيها القارىء العزيز أن الفداء الذي أكمله الرب يسوع بدمه كفارة لكل من يؤمن به ، لم يكن حدثاً تاريخياً أتى بثماره وانتهى، ولكنه حدث قائم دائم كان منذ الأزل في تدبير الله وتم في ملء الزمن ، ولا يزال فعالاً في المسيح وبالمسيح ، وبعد أن أكمله ظل مكملاً له وسيبقى كذلك، فهو المسيح الفادي ، لأن الفداء عمل أخروي ستُستعلن قوته وعظمته وشموله في يوم الفداء القادم .
« المسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرأ وقداسة وفداء» (1کو1: 30) كعمل دائم في شخصه .
« إذ آمـنـتـم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا، لفداء المقتنى لمدح مجده » (أف1: 13 و14). لاحظ هنا «عربون … الفداء » .
« ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء . » (أف4: 30)
والـفـداء هو الذي جعل بر الله ممكناً وجعلنا مؤهلين للتبرير، فلولا دم المسيح ما كان بر ولا كان تبرير.
«الذي قدمه الله »:
وتترجم صحيحاً هكذا : «قدمه أمامه » .
المعنى هنـا خـصـب وعميق. فالفعل «قدمه » لا يرتاح على الزمن بل على الحالة والمكان أو الأصح المكانة، فالله قدم يـسـوع المسيح (كفارة) ليكون أمامه ـ على الدوام ـ بوضع كـيـانـي دائـم هـو وضع الكفارة، حتى يمكن أن يعلن أو يظهر بره الخاص ويمنحه للإنسان حتى يتم الصفح عن خطايا الإنسان السالفة. كيف؟ المعنى هنا خطير، فالله بدون ذبيحة كفارة المسيح تقف رحمته ، بمعنى تتوقف عن العمل بسبب العقوبة التي وقع تحتها الإنسان بانـتـظـار حـكـم العدل الذي يستحقه الإنسان، ولكن بعد أن أكمل المسيح مطالب العدل الإلهي بأن أخذ العقوبة كاملة في جسده ـ أي جسد الإنسان المستحق العقوبة ـ أصبح بر الله بلا عائق يعمل بمنتهى رحمته، فتم الصفح عن كل خطايا الإنسان السالفة المحفوظة بطول أناة الله إلى هذا اليوم، يوم الكفارة العظيم .
أي أن عبارة «قدمه الله» لا بد أن تترجم عربياً ترجمة صحيحة مؤداها حسب المفهوم اليوناني : «الذي قدمه الله أمامه كفارة » ولتكمل حسب قصده أو غرضه .
وكلمة «غرض» يؤكد عليها العالم اللغوي الكبير الأسقف لايتفوت، فهذا الاصطلاح جاء بمعنى «قصد» أو « غرض» للقديس بولس أيضاً : «حسب مسرته التي قصدها … الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً معينين سابقاً . قصد“ الذي يعمل حسب كل شيء حسب رأي مشيئته . » (أف1: 9و11)
كذلك فإن اصطلاح « الذي قدمه الله» يشمل حسب العلماء معنى العلنية، أي أن الله قدم يسوع المسيح أمامه كفارة غرضاً له، ولكن علنا أمام العالم ليجري بره على الناس !!
« بالإيمان بدمه » :
واضح أن تبرير الله للإنسان أصبح ممكناً بتقديم يسوع المسيح أمامه كفارة، لأن بهذا الدم يتم الصفح عن الخطايا السالفة . وماذا عن الإنسان؟ أما الإنسان فأصبح عليه أن يقدم الإيمان بالمسيح حتى ينال منه عمل الكفارة، أي الصفح عن الخطايا . وهنا يعمل بر الله مباشرة تجاه الإنسان للتبرير، إذ لم يبق عائق يعوق عمل البر.
« لإظهار بره »:
تؤجل شرحها للآية القادمة تحت جملة : «إظهار بره » المتكررة .
«من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله » :
هنا تخصيص إظهار بر الله من أجل الذين آمنوا بالله وكان إيمانهم عظيماً ومشهوداً لهم حتى من جهة أعـمـالهـم الصالحة والبطولية أيضاً الذين قيل عنهم : « وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى فإنه في هذا شهد للقدماء …» (عب11: 1و2). وظل ق. بولس في رسالة الـعـبـرانـين يـذكـر مـن أول هـابـيـل إلى أخنوخ إلى نوح «البار» إلى إبراهيم إلى سارة إلى إسحق ويعقوب ، ثـم مـوسى وجـدعـون و باراق وشمشمون ويفتاح وداود وصموئيل وجميع الأنبياء، الذين بالإيمان قهروا ممالك صنعوا برا نالوا مواعيد سدوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار نجوا من حد السيف تقووا من ضعف صاروا أشداء في الحرب هزموا جيوش غرباء، عذبوا ولم يقبلوا النجاة لأنهم كانوا يـطـلـبـون قـيـامـة أفـضـل، جربوا في هزء وجلد ثم قيود وحبس، رجموا، نشروا ، جربوا ، ماتوا قتلاً بالسيف ، طـافـوا في جلود غنم وجلود معزی ، معتازين مكروبين مذلين تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض، «فهؤلاء كلهم مشهوداً لهم بالإيمان . » ( عب ۱۱)
نعم هذا قليل جدا من كثير جداً الذين شملهم بر الله ـ بأثر رجعي ـ عندما أظهر بره بتقديم يسوع المسيح كفارة عن الخطايا السالفة لهؤلاء القديسين الأماجد حينما احتمل الله بطول أناة كثيرة حرمانهم من بر الله العتيد أن يعلن في الزمان الحاضر!!
26:3 «لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون بارا ويبرر من هو من الإيمان بيسوع » .
مرة أخرى و بـصـورة واضحة ومستقلة يربط ق. بولس بين إمكانية ظهور بر الله وبين تقديم المسيح كفارة أمامه علناً أمام العالم، فلماذا هذا التكرار؟
«لاظهار»:
الـكـلـمـة الـيـونـانية تشمل من المعنى أكثر من «إظهار»، فهي يظهر ويحقق. وهنا يكرر ق . بولس وضع الـكـلـمـة مرة أخرى لشدة أهمية معناها . فقد قال سابقاً: «الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله». وهنا إعادة لنفس المعنى باستخدام نفس الوضع أنه قدم يسوع المسيح أمامه كفارة حتى يستطيع إظهار وتحقيق بره ، ولكن هنا ليس من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله كما جاءت في الآية (٢٥) والتي يقصد بها تبرير الذين آمنوا وماتوا على الرجاء : «في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لـم يـنـالـوا المـواعـيـد (مـواعـيد إبراهيم) بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها … لذلك لا يستحي بهم الله أن يدعى إلههم لأنه أعد لهم مدينة» (عب11: 13 و16). بل هنا يزيد : «لإظهار بره في الزمان الحاضر». ويقصد من موسى حتى اليوم وإلى الدهر! كل من يوجد في إيمان يسوع المسيح !!
واضح هنا أن بـر الله يـرتـكـز على الإيمان وذلك في العصور السابقة على ظهور الناموس ، بينما انشغل الناموس بالأعمال، أو انشغل الذين أرادوا أن يتزكوا ويتبرروا بالأعمال بما في الناموس من أعمال، ففات عليهم ذخيرة الإيمان الذي له الوعد : « ولكن إسرائيل وهو يسعى في أثر ناموس البر لم يدرك ناموس البر، لماذا ؟ لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان (كما فعل إبراهيم والآباء الأوائل ) بل كأنه بأعمال الناموس . » (رو9: 31و32)
كم أن ق. بولس هنا عظيم وعظيم حقاً! إذ لم يفت عليه ذكر أصحاب الإيمان الذين أتوا قـبـل أصحاب الأعمال الذي عاشوا هم أيضاً بالإيمان. ولكنه يأسف على أن حتى هؤلاء (أي أصحاب الإيمان الذين أتوا قبل الناموس) وهم لم ينالوا المواعيد، أنه لم يتحقق لهم وعد الله ( أي الوعد بظهور بر الله في المسيح ) ، « هذا هو إمهال الله » ـ الذي ظنه الشراح أنه إمهال غضب من أجـل خطايا ! كيف يصح هذا وهم بحسب صدق الوحي يقول عنهم : «في الإيمان مات هؤلاء أجمعون» (عب11: 13)؟ بل يزيد على الإيمان قوله : «صنعوا برا » وهذا هو بر الإيمان ! بل ويصرح الله في إبـراهـيـم أن إيمانه حسب له برا. إذا فإمهال الله هو في احتماله عدم إظهار بره لهم إزاء إيمانهم الذي حسب لهم برا. إذ بالرغم من أنه صفح عن خطاياهم إلا أنهم «لم ينالوا المواعيد» أي حرموا من رؤيتهم لبر الله في المسيح بسبب عامل الزمن فقط! فيقول الكتاب عنهم إنهم رأوها بالروح ، بالإيمان، بالنبوة، من بعيد وحيوها مؤكدين أنهم كانوا يبتغون وطناً أفضل أي سماوياً .
عجبي على بولس هذا الرائي الذي يكشف الرؤى البعيدة حسناً كيف لم يفلت من وعيه أن يعطي لهؤلاء الآباء والأجداد والأنـبـيـاء الأمـاجـد حـقـهـم في بر الله بالمسيح ، فأعطاهم الحق والاسـتـحـقـاق بإيمـانـهـم أن يـطـالهـم دم المسيح بأثر رجعي من داخل إيمانهم الحي بالله لينالوا «صفحاً» عن خطاياهم .
يلاحظ القارىء هنا ورود كلمة «الصفح » لأول مرة فهي تختلف تماماً عن المغفرة. فالصفح هو العبور على الخطايا دون النظر إليها، أي تجاوزها ، وهذا لم يحدث قط في تدبير الله إلا فيما يخص هؤلاء القديسين الأوائل والأماجد الذين أظهروا قوة إيمانهم وشهد لهم من الله. فهنا إظهـار بـر الله بذبيحة كفارة دم المسيح ، عاد عليهم بالتصديق على « الصفح» الذي نالوه سابقاً حينما أمهلهم الله بطول إمهاله أن لا يعلن لهم بره هذا حتى لا يخلصوا بدوننا: «إذ سبق الله فنظر لنا شيئا أفضل ( الإيمان بدم المسيح ) لكي لا يكملوا بدوننا » (عب40:11). وهـكـذا صح لهم الآن أن يستأهلوا للخلاص والمجد ببر الله المعلن في المسيحو بحسب إيمانهم !!!
« ليكون بارا ويبرر من هو من الإيمان بيسوع المسيح » :
هذا هو صليب ربنا يسوع المسيح في مضمونه السري اللاهوتي الفائق العمق والمعنى .
فالله معروف منذ الدهور أنه بار حقاً. هذه طبيعته وليس صفته، ولكن هذه الطبيعة لم تظهر كفاعلة، بل ظهرت منذ البدء كصفة . وهنا كانت خسارة الإنسان التي لا يمكن أن يتصورها أحد، فـامـتـنـاع الله عن أن يمارس بره عملياً في إنسان حرمنا كل هذه الدهور السالفة من التعرف عليه، كونه الله صاحب البر والحب والغفران والأبوة الحانية التي ما بعدها أبوة. فقد عرفته كل الأجيال السالفة أنه لا يبرىء الخاطيء أبدأ : « والآن إن غفرت خطيتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت . فقال الرب لموسى من أخطأ إلي أمحوه من كتابي.» (خر33:32)
وحينما عرف الله نفسه من جهة طبيعته العاملة مع الإنسان قال هكذا : «حافظ الإحسان إلى ألوف ، غافر الإثم والمعصية والخطية. ولكنه لن يبرىء إبراء» (خر7:34)، أي يغفر الإثم والمعصية، فلا يهلك الإنسان ولكن يستحيل أن يبرىء، أي أن الخاطىء في القديم ولو أنه كان لا يموت بـفـعـل خـطيته جسدياً ولكن كان لا يتزكى أمامه، وعندما يأتي يوم الدينونة لا يتبرأ! وقالها الرب صـراحـة : «لأني لا أبزر المذنب » (خر23: 7). ومهما قيل عن البر والبار في العهد القديم فالمعروف أن هذا كله في محيط الإنسان، أما أمام الله «فإنه لن يتبرر قدامك حي. » (مز2:143)
فالرب وحده هو البار: «الرب هو البار» (خر27:29)، «فاحص القلوب والكلى الله البار» (مز9:7)، وأما غير الرب فلا يوجد قط بار على مستوى الله إلا «عبدي» لقب المسيح في العهد الـقـديـم، « وعبدي البار» بمعرفته «يبرر كثيرين » ( إش11:53). وهنا كلمة «البار» لا تفيد صفة بل طبيعة كالله تماماً. لذلك هو قادر أن يبرر: «لأنهم باعوا البار بالفضة» (عا٦:٢)، وهكذا غرف في الحال أنه المسيح !
وهكذا قدم الله المسيح كفارة ليكون الإيمان بدمه فرصة للصفح عن الخطايا وغفرانها من واقع العدل الإلهي. وهكذا تم التمهيد العملي لإظهار بر الله الذي كان مخفياً في الدهور السالفة وغير عامل بين الناس، وبذلك أعلن الوحي أن بإظهار بر الله بذبيحة المسيح تم الصفح عن الخطايا السالفة لكل رجال الله الذين حفظوا الإيمان عاليا ونالوا التبرير لأنه شهد لإيمانهم من الله نفسه ، ذلك في الزمان السالف، أما في الزمن الحاضر، فبذبيحة المسيح ثم العدل فتم إظهار واستعلان بر الله عملياً أنه حقا بار.
فطبيعة الله استعلنت وأظهرت في المسيح يسوع ابن الله ، كيف بذله الله من أجلنا حباً للعالم كله وبرا لكل من يوجد في إيمان المسيح ! فكون الله يبذل ابنه من أجلنا رحمة وحباً للعالم كله يعني أن بر الله أظهـر عـلانـيـة بـلا مانع . وأن يسفك دم ابن الله للصفح عن خطايا السابقين أصحاب الإيمان المشهود له وللغفران لخطايا الزمن الحاضر، فهذا يعني أن طبيعة الله البارة أظهرت للوجود لتعمل عملها في الإنسان باقتدار، أولا عدلاً ثم برا، ليشمل الماضي والحاضر وكل ما يشمله الزمن إلى نهاية الزمن، لأن الزمن الحاضر عند الله ممسوك بالزمان الآتي ولا يفترق عنه . وهكذا أصبح قصد إظهار بر الله هو أولاً ليكون الله بارا في عين الإنسان والعالم (مع أن الله باز في ذاته )، بعد أن كان بره مكنوناً في الأزمنة السالفة، وثانياً لكي يبرر كل من وجد في إيمان المسيح، أي الإيمان ببر الله الذي أظهر في ذبيحة المسيح حيث بعد التبريري ينال التبرير. فبعد حصول الإنسان على البراءة الكلية من كل خطاياه ، تأهل لعمل بر الله لنوال رحمة ونعمة وفيض روحه القدوس .
وقفة قصيرة مع القارىء
إنها رؤيـة جـديـدة أعـطـيـت لنا بهذه الآيات لكي نرى أعمال المسيح في الفداء بتقديم ذاته كفارة من أجل خطايانا، إنها في الحقيقة أعمال بر الله أظهرت في شخص يسوع المسيح . فصحيح أن دم المسيح يطهرنا من كل خطية ولكن على أي أساس ؟ إنه على أساس بر الله ، لأن غفران الخطايا بحد ذاته ليس هو منتهى الخلاص، لأن غفران الخطايا هو بمثابة حكم براءة، ولكن حكم البراءة لا يقدمنا إلى الله، إنه يعتقنا من الدينونة بينما نظل نحتاج إلى تزكية إيجابية من الله، نحتاج إلى وثيقة إرضاء الله ، نحتاج إلى ما يقربنا من الله ليس قرابة المكان ولا قرابة الغربي، نحتاج إلى شهادة أننا نتبعه أو أننا من أهل بيت الله . هذا هو عمل بر الله الذاتي، أي منح شيء من ذات الله ، من بر طبيعته، من غنى مجده وسخاء رحمته ونعمة محبته .
إن كفارة المسيح والإيمان بدمه رفعت عنا حكم عدل الله ، لقد استوفى المسيح بذبيحته ومـوتـه كل عقوبات كانت مفروضة علينا تجاه أحكام عدل الله . فلما رفعها المسيح أصبحنا في مواجهة بره ورحمته بلا أي عائق. وهكذا أهلنا المسيح بذبيحته لقبول بر الله .
بر الله انفتح علينا في عطاء المحبة : «لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا . » (رو5: 5)
بر الله انفتح علينا في هبة التبني: «أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتى تُدعى أولاد الله . » (1یو1:3)
بر الله انفتح علينا بمنحه حلول ابنه في قلوبنا : «لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بـالـقـوة بـروحـه في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم … وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلثوا إلى كل ملء الله . » (أف 3: 16 و17 و19)
بر الله انفتح علينا فأخذنا حق أن ندعو الله أبانا : «بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب . » (رو8: 15)
بر الله انفتح علينا فأعطانا حق الميراث في أمجاده الخاصة مع المسيح ابنه : « الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح . » (رو8: 16 و17)
هذا هو عمل بر الله فينا بعد ما رفع المسيح الغضب المستحق علينا بسبب خطايانا . هذا . هو مضمون الآية : «متبررين مجاناً بنعمته بالفداء». فالفداء إذ رفع الغضب صرنا داخل بر الله مجاناً. فالمسبح فدى؛ والله برر؛ المسيح رفع الغضب؛ والله سكب رضى الابوة بكل عطاياها. المسيح غفر الخطايا بدمه؛ والآب صالحنا في الحال لنفسه وكشف أعماق طبيعته لأرواحنا. المسيح أكمل الفداء؛ والآب بدأ التبرير. علماً بأن بر الله في شموله الكلي يشمل بالضرورة كل عمل الفداء أيضاً.
[ 31-27:3 ] + توقف العمل بالناموس
+ العمل بالإيمان للتبرير بدون أعمال الناموس
+ الله لليهود والأمم بالإيمان الواحد
27:3 «فأين الافتخار؟ قد انتفى. بأي ناموس ؟ أبناموس الأعمال ؟ كلا، بل بناموس الإيمان» .
کنا نحلق معاً أيها القارىء في سماء بر الله وبركات التبرير، ولكن يأخذنا ق. بولس مرة أخـرى لـنـواجـه معاً عدم جدوى التبرير الذاتي بكل صوره، وأشنع صورة لذلك كانت باستخدام أعمال الناموس التي بها يحاول الإنسان أن يسرق بر الله لنفسه فلا هو يتبرر ولا يدع الله يبرره .
هنا يستخلص ق. بولس من الآية (٢٤) القول : «متبررین مجاناً » . وبعد أن أثبت حصولها الفعلي بذبيحة الكفارة التي رفعت كل أحكام التعدي وبالتالي كل أحكام الغضب المستحق ، فـانـفـتـح عـلـيـنـا بر الله بسخاء و بدون مقابل لأن المقابل كله دفعه المسيح، يسأل هنا : أين موضع الافـتـخـار للإنسان هنا ؟ والمسيح حمل خطايانا كلها فبررنا الله وزكانا بسبب المسيح ، ويعود يسأل أين الناموس هنا وأعماله ؟ هل بناموس الأعمال صلب المسيح ومات ثم قام ؟ أم بناموس الأعمال أعطانا الله بره الخاص وزكانا من فضل غناه ؟ ويرد ق. بولس بل بناموس الإيمان، نعم فبالإيمان بدم المسيح والـكـفـارة التي قدمت ننال الغفران، وبالإيمان بأبوة الله ننال بره. فالإيمان بالمسيح يعطينا ما في يد المسيح، والإيمان بالله يعطينا ما الله . ولكن المفتخر بأعماله كيف يؤمن بأعمال الله ؟ والذي يسعى لتحقيق بر نفسه كيف يؤمن ببر الله ؟ أو حتى يثق في الله .
28:3 و29 «إذاً نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس. أم الله لليهود فقط ؟ أليس للأمم أيضاً؟ بلى للأمم أيضاً».
هنا ينتهي ق. بولس إلى حقيقة ذات رنين عال، لأن الأعمال التي يذكرها ق. بولس هنا للـنـامـوس ليست أعمالاً خاطئة ؛ بل يفترض أنها أعمال بمقتضى الوصية الصالحة والمقدسة والمرضية والروحية، ولكنه يقول إنه حتى هذه الأعمال لا تبرر الإنسان أمام الله ، فالذي يبرر هو الله من بره الخاص والوحيد . والذي يمكنه أن يحصل هكذا على بر الله الخاص، هو الذي يؤمن : يؤمن بالمسيح وما عمله المسيح وما عمله الله بالمسيح . هنا ق. بولس يكلم اليهودي الذي آمن بالمسيح ، فيقول له إنك بالإيمان تبررت بدون أعمال الناموس .
ومن هنا يخلص ق. بولس إلى حقيقة واضحة أن اليهودي الذي تبرر بالإيمان بالمسيح بدون أعـمـال الـنـامـوس يعطي النور الأخضر للأممي وهو بدون ناموس أصلاً لكي يتبرر بالإيمان بالمسيح ، وإلا، هنا يسأل ق. بولس سؤالاً استنكاريا لليهودي المؤمن بالمسيح ويقول له، أم يظل الله لليهود فقط حتى بعد أن آمنوا بالمسيح ؟ وذلك بحسب التعصب اليهودي العنصري الله . ويرد ق. بولس على اليهودي بل على نفسه : بلى، أي نعم ـ إزاء السؤال المنفي ـ هو للأمم أيضاً .
30:3 «لأن الله واحد هو الذي سيبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان» .
تكملة للآية السابقة أن الله للأمم كما هو لليهود ، بمعنى أنه واحد لهؤلاء وهؤلاء، لا تمييز بينهما ، فإن كان قد أظهر بره فهو قد أظهره للجميع لكل من يؤمن، فإن آمن اليهودي فهو سيبرره وإن آمن الأممي فهو سيبرره بالمثل. والقصد من هذه الآية هو جعل الإيمان هو المعيار الوحيد الذي يبرر الإنسان أيا كان.
وهـكـذا بـدخـول الأمم في الإيمان بالله جعل الله ليس لليهود فقط بل وللأمم على قدم المساوة . ومن ذلك يتحقق أن الله واحد فعلاً للجميع وهو ليس بعد إله إسرائيل بنوع التخصص .
31:3 «أفنبطل الناموس بالإيمان؟ حاشا . بل نثبت الناموس » .
في الحقيقة العكس هو الصحيح وهو مفتاح لشرح هذه الآية، فإن عدم الإيمان بالمسيح ، وبالتالي عدم الإيمان بير الله ـ الذي أظهر بذبيحة المسيح ـ هو الذي يبطل الناموس، وهذا هو الذي حدث لليهود الرافضين !! لأن الناموس «شهد» للمسيح ، لأن المسيح جاء «مشهوداً له من الـنـامـوس والأنبياء». فالإيمان بالمسيح يثبت أن الناموس حق وأنه شهد للحق. وإن كان « الـنـامـوس مؤدبنا إلى المسيح » (غل3: 24)، فإن آمنا بالمسيح أثبتنا أن الناموس مؤدب حقيقي ، ، وإن كان «غاية الناموس هو المسيح » (رو10: 4)، وآمنا بالمسيح ، أصبح الناموس صادقاً في دعـوتـه . ولكن إن رفضنا المسيح ، أبطلنا بالفعل الناموس كوننا أبطلنا شهادته وأبطلنا عمله التأديبي وأبطلنا صدق دعوته !! إذا وبالتالي يكون إيماننا بالمسيح يثبت الناموس ، وكل من يقول إن الإيمان بالمسيح يعطل الناموس يكون غير عادل بالنسبة للإيمان بالمسيح وبالنسبة للناموس أيضاً .
ولـكـن الخطأ الفادح بل والخطر أن نطلب بعد الإيمان بالمسيح «أعمال» الناموس ، لأن ذلك يبطل الإيمان بالمسيح ويوقف عمل بر الله : «قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس . سقطتم من النعمة . » (غل5: 4)
وبهذه البلاغة في الحوار المصطنع الذي عمله ق. بولس مع نفسه، ينتهي إلى حقيقة غاية في الإيجابية، فالناموس إذا استخدم لبر الإنسان في ذاته فهو وبال على الإنسان، وإذا فحص في نور استعلان المسيح وجـدنـاه شاهداً أميناً له ومعلماً ومؤدباً يسلمنا من يد موسى ليد المسيح، وليس ليبطل، فالحق الذي فيه يظل يعلن ويشهد للمسيح ، أي أن الإيمان بالمسيح يرتد على الناموس يثبته ويكرمه ويستخدم الحق الذي فيه الذي يشهد له .
هنا يشهد ق. بولس للعهد القديم أنه حق وصدق وقائم كشاهد للمسيح وأن البر الذي بالإيمان بيسوع المسيح أي العهد الجديد يثبت العهد القديم .
- والآن عزيزي القارىء ألا ترى ، قول ق. بولس هذا أن ليس في مقدور الإنسان أن يختبىء وراء خدمة الله العلنية أو ممارسـاتـه الـكـنـسـيـة، مهما كان اجتهاده في الظاهر ومهما كان تمجيده الله بالكلام، وهو في الخفاء لا يعطي الله حقه ولا يسلك بالتقوى والبر والتعفف ؟ هل يزداد محمد الله يكذبي أم تزداد كرامة الله بنجاسات قلبي وفكري ؟
تفسير رومية – 2 | رسالة رومية – 3 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية – 4 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير رومية – 3 | تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |