تفسير رسالة رومية اصحاح 10 للقمص متى المسكين
الأصحاح العاشر
إسرائيل يرفض البر
الذي بالإيمان بيسوع المسيح ؛
مع أن :
1- 4-1:10 : المسيح هو غاية ونهاية الناموس .
2 – 13-5:10 الإيمان لا يعتمد على أعمال والعكس صحيح
3 – 14:10 -21 : الله يشتكي إسرائيل :
« مددتُ يدي طول النهار لشعب معاند ومقاوم » .
[ 4-1:10 ] المسيح هو غاية ونهاية الناموس
1:10 «أيها الإخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هي للخلاص».
الإخوة هنا هم الإخوة في المسيح .
بولس الـرسـول يـسـتـقـبـل عـشـرة إسرائيل في بداية الأصحاح السالف بالحزن، وذلك من كل القلب . وهو هنا يودع عثرتهم إلى الأيام والأجيال ، برجاء تسنده الصلاة لعلهم يخلصون، وذلك من كل القلب أيضاً…
في الأصحاح التاسع ملكت على ق. بولس الكآبة والحزن والوجع بسبب الأمجاد العريضة التي لإسـرائـيـل، وتاريخ إسرائيل المملوء بتجليات الله وبركاته ، المزدحم بالآباء العظام والأنبياء العظام والملوك العظام والمـواعـيـد العظام، فهذه كلها فقدوها بفقدان صاحبها ـ المسيا ـ ولي نعمتهم ، الذي رفـضـوه وقـتـلـوه فتحول التاريخ بجملته ، الذي هو فخرهم ، إلى الذين آمنوا به فصاروا أولاد إبراهيم وورثة شرعيين لكل العهود والمواعيد ، دون أن يروا إبراهيم .
وهنا يصلي ق. بولس برجاء أيضاً من أجلهم ، والسبب أنه يعلم جيداً ـ إذ هو واحد منهم ـ أن لهم غيرة الله لا مثيل لها؛ ولكن ضاعت منها المعرفة، وهم كانوا أصحابها وخراسها ، فانطفأت منهم الشاكيناه ـ مصباح حضرة الله ـ لما أهملوه وأحبوا الظلمة أكثر من النور! وعوض أن يطلبوا بره سعوا يطلبون بر أنفسهم، وعوض أن يمجدوا صاحب المجد انشغلوا يمجدون بعضهم بعضاً .
و بـولـس الـرسـول يـرى خلاصـهـم حاضراً كل حين، لأنهم وإن كانوا قد عثروا، ولكنهم لم يسقطوا، فهم لا يزالون يعبدون ولكن في جهل . فآذانهم انسدت ، فلا يسمعون ؛ وعيونهم عميت ، فلم تر يده الممدودة إليهم طول النهار.
وهو هنا حينما يصلي من أجل خلاص إسرائيل، يتجاوز المحدود الذي سبق وحدده أن البقية فقط ستخلص ، حيث أن الكثير قد رفض ، فهو هنا يطلب ويتمنى من أجل الكثيرين والقليلين ، فهو يتجاوز حتى قول إشعياء بالنبوة الذي يوحي بأن القلة فقط (البقية) ستخلص ! (رو9: 27)
2:10 «لأني أشهد لهم أن لهم غيرة الله ولكن ليس حسب المعرفة».
لا يوجد شعب في العالم له غيرة الله كما كان لهذا الشعب ، ولكن الغيرة إذا لم تسندها المعرفة الصحيحة بالحق تصير وبالاً على صاحبها ، وقد استعلنت غيرة اليهود الفاقدة للمعرفة الصحيحة في بولس نفسه، فصار المثل الواقعي الحي أمام عيوننا، وكلامه هنا يجيء مصداقاً لواقعه ، يكفي أنهم في عمى قلوبهم حكموا على النور الحقيقي أنه مستحق الموت، وعلى الذي بلا خطية أنه ابن للعنة ، وعلى الذي جاء لـيـكـمـل الـنـامـوس أنه يكسر الناموس، وعلى الذي سينقلهم إلى الوطن الأفضل السماوي أنه يعرض وطنهم الأرضي للخطر، وأخيراً حكموا على ابن الله أنه يجذف !!
بولس الرسول هـنـا يـقـدم شهادة من واقع اليهود وواقع المسيح معاً. فهو من اليهود، وهو في المسبح بآن واحد. بولس يشهد على الظلمة بعيون النور الحقيقي التي انفتحت عليها بصيرته لترى الحق، فليس مثل بولس ولا بعده من شاهد وشهد!
حينما دخل بولس الرسول في النور الحقيقي وأدرك سر الحق الإلهي، سر ابن الله ، ظهرت له الـعـبـادة اليهودية وكأنها تسير في خط معاكس للحق تماماً، كما كان يصنع هو واكتشف الحقيقة على طريق دمشق !
الـقـديـس بولس يؤكد لنا ـ في موضع آخر ـ أن المسيح هو المعرفة ، بل وهو الذي فيه وله كل كـنـوز المعرفة (كو2: 3)، ولهذا يرى هنا أن غيرة اليهود الله ضلت المعرفة برفض المسيح ، وفقدت المعرفة نهائيا بفقدانها المسيح . وماذا يمكن أن تصنع الغيرة التي فقدت المعرفة بفقدها للمسيح أكثر من أنها تقتل المسيح !! هم قتلوا المسيح ، وهو ـ أي بولس ـ بنفس الجهالة وعدم المعرفة قتل من المسيحيين ما شاءت له غيرته.
بولس كان شريك الجهالة اليهودية، فله الآن أن يبكي ويتوسل ويطلب خلاص اليهود، لأن ليس من يقدر ألم العمى إلا من كان أعمى وأبصر.
وأتمنى أن يصحح العلماء فكرتهم أن ق. بولس يصنع هذا من واقع حبه المربوط باليهود واليهودية وارتباطه بوطنه، هذا افتئات على ق. بولس ولاهوت بولس . بولس الرسول يبكي ويتوسل مـن أجـل الـيـهـود ومـن أجـل الأمم معاً. بولس الرسول له الآن غيرة المسيح وليس غيرة اليهودي . بولس الرسول يطلب الخلاص لليهود لأنهم حقا وبالحق أحق بالخلاص من الأمم . ثم هو يطلب لهم الخلاص لا حـبـا في الـيـهـود بـل كرها في الغيرة التي هي ليست بحسب المعرفة، التي جعلته يجدف على المسيح ويـضـطـهـد الـقـديـسين بإفراط ويقسو على الأبرياء ويظلم المساكين ويقتل !! القديس بولس يتكلم بالروح وبفم المسيح وليس بفم فريسي يتعاطف مع الذين قتلوا المسيح .
3:10 «لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله» .
« يجهلون»:
واضح أنه لهذه الكلمة بقوله في الآية السابقة (10: 2): « لهم غيرة الله ولكن ليس حسب المعرفة». هنا «حسب المعرفة» تجيء وملتحماً بها في الآية (3:10) تجيء كلمة «يجهلون بر الله» مباشرة. وفي الاصطلاحين نلمح المعنى وهـو غـيـاب عنصر الإمساك بالحقيقة، فهنا ليس غياب المعرفة ولكن غياب البصيرة التي تمسك بالحق. وواضح جداً أن الغيرة التي ليست حسب المعرفة هي التي أنشأت هذا الجهل ، لأن الغيرة التي ليست حسب المعرفة هي إدعاء المعرفة التي تبرهن على عدم المعرفة. والبصيرة هبة تعطى للباحثين عن الحق وليس للباحثين أو المشتغلين بالمعرفة . فيوجد علماء روحيون لهم بصيرة نافذة وعـلـمـاء مـشـهـورون بالعلم فقط، وليست لهم أية بصيرة بل مجرد إتقان العلم . وغياب البصيرة هو معوق شـديـد للذين يعملون في خدمة الدين. إنها كارثة، وهي تؤدي إلى ما انتهى إليه اليهود. إن أعظم مصيبة أصابت الكنيسة في كل العصور هي الغيرة الجاهلة بمعرفة ما هو بر الله ، الغيرة الجاهلة بما هو الحق، الغيرة الجاهلة باتساع رحمة الله ، الغيرة الجاهلة بمشيئة الله الذي يود أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون ( ١ تي ٢ : ٤ ). ماذا تنفع الغيرة لإنسان جاهل ضيق العقل ؟ أليس هذا هو الذي قتل المسيح !؟
«بر الله … وبر أنفسهم » :
الله أعـطـى الـيـهـود الـنـامـوس وطلب منهم طاعة أوامره في الناموس ليتقربوا منه ويلتصقوا به ويحبوه ويخضعوا لنعمته ، لكي يرتقي بهم ويزيد لهم المعرفة واستعلان ذاته، ولكنهم اتخذوا خطأ آخـر أبـعـدهـم عـن الله . فـعـوض أن يـطـيـعـوا أوامر الله في الناموس فيخضعوا الله ، أطاعوا الناموس وخـضـعـوا لأوامر الناموس والتصقوا بالناموس وأحبوا الناموس، و بذلك خرجوا عن طاعة الله وعن الخضوع لنعمته . هذا هو الطريق الأسهل الذي ساروا فيه ، لأن أجرته منظورة، وهي ازدياد كرامة الـذي يـطـيـع الناموس في عين الناس ثم عين نفسه. والتمادي في التمسك بالناموس يزيد جداً من قدر الإنسان ويجده في عيون الناس ثم عين نفسه. هذه الأجرة السريعة لطاعة الناموس والخضوع له جعلت اليهود يعبدون الناموس لا الله، وتنتهي عبادتهم عند أنفسهم وليس عند الله . وهكذا عاد اليهود وعن طريق الناموس إلى تأليه أنفسهم ليكونوا مثل الله وهذه هي خطية أبيهم آدم الأول .
ولكن من أين أتتهم الجهالة ببر الله ؟ هل ولدوا فيها ؟ أبدأ، إنهم يدعون أنهم أولاد إبراهيم ، وإبراهيم هو أبو الإيمان الذي حسب له إيمانه براً!! (تك 10: 6)
هنا الجهل ليس جهل المعرفة بل هو غياب عنصر الإلهام، الذي هو البصيرة، وهذا بحد ذاته يجعل أعظم العلماء جاهلاً لبر الله !! لأن عنصر الإلهام أو البصيرة هو الوحيد الذي يستعلن لنا . الله ، لأن بر الله ليس معرفة عادية أبدأ، بل هو فوق جميع المعارف وأعظم منها جميعاً فهو سخاء رحمة الله وغنى رحمة الله التي لا تحد، هذا البر الذي ظهر في المسيح يسوع . فهنا جهل اليهود ظهر في عدم معرفتهم المسيح لما جاء بسبب غياب عنصر الإلهام والبصيرة . فالذي عنده البصيرة الروحية هو الذي يترك كل شيء وكل معرفة وكل عمل وكل جهد وكل بر ذاتي ويخضع لبر الله ، الكفيل أن يمنحه ـ بحسب غنى رحمته ـ كل ما لا يمكن أن يناله بقدرته أو معرفته ، البر الذي تم بالمسيح يسوع.
بولس الرسول شرح سابقاً كيف يغيب عنصر البصيرة من الإنسان : «وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق» (رو1: 28). والله يشهد عليهم في التوراة : « هذا الشعب يكرمني بشفتيه أما قلبه فمبتعد عني» (مر7: 6؛ راجع اش29: 13). هنا «القلب » تعبير عن النية الصادقة والفهم الصادق، فهم لم يكونوا جاهلين لبر الله بل تجاهلوه (ابتعدوا عني) وانشغلوا يطلبون بر أنفسهم والنتيجة أنهم أخرجوا أنفسهم من دائرة الله. هذا قاله المسيح لهم : « ولكني قد عرفتكم أن ليس لكم محبة الله في أنفسكم … كيف تقدرون أن تـؤمـنـوا وأنـتـم تـقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه» (يو5: 42و44). إذا العلة هنا أنهم فقدوا محبتهم الله، وأهملوا الانشغال به سواء في القلب أو بـالـروح ، والنتيجة الحتمية أن يتخلى الله عنهم، بحسب قوة النبوة في القديم التي تعتبر القاعدة الكاشفة للعلاقات التي تربط الإنسان بالله : « وكان روح الله على عزريا بن عوديد فخرج للـقـاء آسا (الملك) وقال له : اسمعوا لي يا آسا وجميع يهوذا و بنيامين . الرب معكم ما كنتم • وإن طـلـبـتـمـره يـوجد لكم وإن تركتموه يترككم » ( ٢ أي ١٥ : ١و٢). هكذا انتهى بهم ا الأمر أنهم لما طلبوا أن يثبتوا بر أنفسهم، لم يخضعوا لبر الله، فانتهى بر الله من معرفتهم . لذلك إذا أردنا أن نفسر الآية من وجهة التحليل السببي، نقرأ من الآخر إلى الأول هكذا : «لم يخضعوا لبر الله لأنهم طلبوا أن يثبتوا بر أنفسهم فارتفعت عنهم معرفة بر الله » .
فهنا نود أن نركز النور حول نقطة أو لحظة الانحراف الخطيرة التي اختاروا فيها الانحياز لبر أنفسهم ورفضهم لبر الله. فهي لحظة قرارهم الأخير برفض المسيح وقتله، فهنا اللحظة التاريخية الفاصلة التي حددت كل شيء عن مصير اليهود من جهة الحرمان النهائي من برا الله الذي حددوه برفضهم له وبإرادتـهـم . ولـكـن الـذي يـلـزم الانتباه إليه ، أن سوء سيرتهم مع الله سابقاً وسوء استخدامهم للناموس لتزكية وتعظيم أنفسهم هو الذي انتهى بهم في النهاية إلى الانحياز لبر أنفسهم بـالـنـامـوس ورفضهم بر الله بالمسيح، مع أن المسيح جاء ليكمل لهم ما عجزوا عن تحقيقه بالناموس من جهة الحصول على بر الله.
لاحظ أن بولس الرسول يضـع الـبـر الـذاتـي ـ الذي تربى فيهم من سوء استخدامهم للـنـامـوس ـ كعامل أساسي لعدم الخضوع لبر الله. فالذي يود أن يقتنص بر الله بجهده وجهاده هو في الحقيقة يختلس بر الله لذاته ويستخدم الله لتعظيم نفسه. فكيف يستطيع ـ حتى ولو حاول ـ أن يخضع لبر الله؟ في هذا يقول إشعياء النبي بلسان الله وهو يعير شعب إسـرائـيـل: «بشحم ذبائحك لـم تـرونـي لـكـن اسـتـخـدمـتـنـي بـخطاياك وأتعبتني بآثامك » ( إش43: 24)، أي أن إسـرائـيـل تعظم بناموس الله من دون الله . يلاحظ أن بر الله هو قوة فعالة نستعلن من داخل علاقة تربط الإنسان بالله فتحفظه أول ما تحفظه من الكبرياء والاعتداد بالذات بل ومن الاهتمام الزائد بالذات والاضطراب من أجل النفس. فالخضوع لبر الله هو بداية وضمان لتهذيب وتطهير النفس من الاعتماد على ذاتها ، والبر في حد ذاته، كما سبق وقلنا، هو رحمة الله بحسب غنى نعمته المؤسسة على غفران الخطايا. لذلك نود لو نشرح الآية التي جاءت في رسالة يوحنا الأولى : « إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادك حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم » (1یو1: 9)، بمعنى: « فهو أمين و بار » . لماذا «البر» هنا ؟ لأن غـفـران الخطايا هو أول عمل لبر الله المستعلن لنا في تقديم يسوع المسيح ذبيحة كفارة للفدية . فالخـضـوع بالايمان لبر الله قوة تضعنا تحت فعالية دم المسيح لنوال غفران الخطايا والخلاص دون أن يعطينا فرصة لكي نشعر بأي استحقاق من طرفنا ، بل والإيمان الذي هو العلاقة الحية الوثيقة التي تربط حياتنا بالله، هو هبة من هبات بر الله .
هنا نستطيع أن نفهم من أين ضل إسرائيل وفقدوا الطريق الصحيح واصطدموا بحجر الصدمة وصخرة العثرة ورفضوا المسيح وقتلوه ، فهم أولأ تجاهلوا بر الله فجهلوه مع الطريق الوحيد للخلاص الذي كان يعد له الناموس، ولكنهم فضلوا الناموس على المسيح وذهبوا يسعون كأنه بـجـهـودهـم يحـفـظـون لأنفسهم ولأمتهم بر إبراهيم و بركات الوعد. فبدل أن يتبعوا «بر الإيمان » (الذي اكتسبه لهم إبراهيم)، بخضوعهم للمسيح، فضلوا الناموس كأنه قادر أن يضمن لهم الوعد والميراث، ويعطيهم الحق في مملكة المسيا القادم. وهكذا بسبب قساوة قلوبهم لم يخضعوا لبر الله عندما أظهر بظهور المسيح .
ولا يزال الإنسان المسيحي مجرباً بأن يتصور أن بأعماله ينال الخلاص، تاركاً الخلاص الذي أكمل بعمل الله بدم المسيح، غير مميز بين العمل كشهادة والذي يتطلبه الخلاص الذي تم، وبين العمل كبر الذي يزيف له أنه يمكن أن يخلصه ، وكأن دم المسيح لم يكمل الخلاص. فيا عزيزي القارىء، نـحـن مـطالبون أن نقدم الأعمال اللائقة من كل صنف : صلاة، سجود، صوم، سهر، نسك، وبذل، وخدمة، لكي تبرهن أننا نلنا الخلاص ولسنا بعد من أولاد العالم بل صرنا أولاد الله. ولكن غير مسموح لنا أن نقدم هذه الأعمال كأن دم المسيح غير كاف لخلاصنا، فهذا يحسب ضدنا إذ نحسب أننا لسنا خاضعين لبر الله ، مفضلين أن نثبت برنا بأعمالنا مع أننا نصلي كل يوم صارخين (في الأجبية): «بأعمالي ليس لي خلاص»!! لأننا لو خضعنا حقاً وباتضاع لبر الله بالإيمان القلبي الصادق، فإن بر الله نفسه سيمنحنا أعمالاً روحية لائقة نثبت بها أننا فعلاً خاضعون لـبـر الله. هذا هو بر الله الذي أتى به المسيح ليمنحنا أعمالاً صالحة سبق فأعدها لنا (أف ٢ :١٠)، لنشهد لـبـره وصلاحه ونمجده بها ، لا أن نتمجد نحن بها أو نتبرر. فكل أعمال التوبة حسنة وجيدة وصالحة ولكن على أساس أنها تحفظنا في دائرة بر الله الذي منحه لنا في المسيح يسوع، لا أن نتأهل له أو نحصل عليه . فلا يوجد عمل في العالم كله يؤهل الإنسان لبر الله إلا دم المسيح .
كذلك لا نستطيع أن نلغي قيمة الأعمال الجسدية النسكية المعمولة بالروح العبادية الصادقة في تهذيب المؤمنين الجدد أو المبتدئين في الحياة الروحية بعد ضلال وحياة الخطية, فالجسد يحتاج إلى تهذيب وسهر، كذلك النفس التي اعتادت حياة الانحلال والخطية التي يسميها بولس الرسول : «رياضـة الـتـقوى» (1تي7:4) على غرار رياضة الجسد لتقويته صحياً، فهي إن كانت رياضة نافعة فهي لقليل، أما رياضة التقوى التي يتمرن فيها الجسد وتتمرن فيها النفس على حياة التقوى مـن اتـضـاع وخـضـوع وطـاعـة وحب و بساطة وإيمان ووداعة ، فهي نافعة لكثير لأن لها موعد الحياة الأبدية. ولكن كل أعمال التقوى للجسد والنفس إذا لم تكن معمولة بإيمان الطاعة لله والا تكال على نعمة الروح القدس، فهي إذا نجحت لن تأتي إلا بالبر الذاتي الذي سقط فيه عباد الناموس مـن الـيـهـود. فالصوم ينجح كعمل نسكي إذا كان بحراسة الصلاة في خضوع الله وطاعته ، على لن يمنحنا بر الله . و يا له من قول نافع جداً في هذا المقام : « متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا » ( لو17: 10). و بولس الرسول يقول : « أما الذي يعمل فلا تُحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين . » (رو4:4)
بر الله أو بر الإنسان ؟ = إنجيل أو لا إنجيل !
4:10 «لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن » .
لماذا؟ لأن الـنـامـوس جاء ليحقق بر الله عندما يستخدم إسرائيل الناموس كما وضعه له الله لـكـي يـزيـدهـم معرفة بالله والتصاقاً، وحبا له وتمجيداً، فإن كانوا اتبعوا خط الناموس بحسب مشيئة الله لكان الناموس قد أوصلهم في النهاية إلى الاستعلان الكلي الله في شخص يسوع المسيح ، لأن منتهى قصد الناموس هو معرفة الله ، والمسيح هو الله منظوراً ومعروفاً بالجسد . فالمسيح هو بالحقيقة غاية الناموس .
هـنـا قـول بولس الرسول إن المسيح هو غاية الناموس يقصد النهاية المطلوبة أو القصد الذي من أجله وضع الله الناموس . فعليك أيها القارىء أن تتصور قيمة الناموس : ماذا يكون وماذا يبقى من الناموس بدون المسيح ؟ علماً بأن الناموس يعني ضمن ما يعني التوراة !! فتصور التوراة بدون المسيح ، ماذا تفيد ؟ كذلك وبعد مجيء المسيح الذي القصد الأساسي من الناموس والغاية من وضعه ، ماذا يـكـون موقف الإنسان إن هو رفض المسيح وظل متمسكاً بالناموس ؟ واضح أنه يكون قد فقد الغاية من الناموس ثم الناموس كله.
ولـكـن الـنـامـوس لـم يخفق في تحقيق بر الله لإسرائيل، بل هم الذين أخفقوا أن ينالوا القصد الأساسي منه، وهو بر الله ، لمـا انـحـرفـوا واسـتـخـدموه ليزيدهم برا لأنفسهم، وكأنهم بقدراتهم بـسـتـطـيـعـون أن يـكـوتـوا عـلاقة ممتازة مع الله أي كأنهم بأعمالهم صاروا أبراراً ، فإذا هم في وهم وسـراب . وعـلاقـة الـنـامـوس بالمسيح كعلاقة التمهيد للغاية المرجوة أو النموذج المصنوع للحقيقة غير المـصـنـوعة. ولكي ندرك ذلك فما علينا إلا أن نرفع من الناموس الكفارة أو ذبيحة الخطية أو فعل الدم في التكفير لنرى ماذا يبقى من الناموس ؟ تبقى خطية بلا صفح ونجاسة بلا تطهير. وهذا هو الـنـامـوس بـدون المسيح صاحب الكفارة الحقيقية بالروح ودم التكفير والتطهير الحقيقي بـالـروح مـن كـل خـطية ونجاسة. الناموس نفسه يشهد بذلك و ينطق بهذه الحقيقة نطقاً صارخاً في آذانهم؛ إذ يقول داود النبي في المزمور 6:40 و7 وذلك بلسان المسيا المسيح الآتي، وقد عاد وكرره بولس الرسول ليشهد الناموس على الذين رفضوا المسيح واكتفوا بالناموس : «لأنه لا يمكن أن دم ثـيـران وتـيـوس يرفع خطايا . لذلك عند دخوله إلى العالم ( المسيا ) يقول : ذبيحة وقرباناً لم ترد، ولكن هيأت لي جـسـداً، بمـحـرقـات وذبائح للخطية لم تُشر، ثم قلت هاأنذا أجيء في درج الكتاب مكتوب عني، لأفعل مشيئتك يا الله … ينزع الأول لكي يثبت الثاني. فبهذه المشيئة نحن مقدسـون بـتـقـديـم جـسـد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب 10: 4- 10). هكذا من جهة الذبائح، يأتي المسيح تفسيراً وتحقيقاً، ثم كختام لها ونهاية، إذ تستعلن فيه الذبيحة الوحيدة الحقيقية التي لها قوة رفع الخطايا والتي كانت كل الذبائح تصورها من بعيد وترمز لها وتشرحها وتمثلها دون أن يكون لها قوة الفعل .
وكانت الذبائح للمسامحة الوقتية والمفردة، لكل خطية بحد ذاتها، ولكن خطية السهو فقط لأن الخطية عن عـمـد بالإرادة لا غفران لها ولا مسامحة ولا ذبيحة بأي حال من الأحوال. وكان القصد من هذه الذبائح هو محاولة لتقريب الإنسان من الله ومحاولة لتطهيره جسدياً وتبريره المؤقت حتى يمكن أن يقف أمام الله في العبادة. ولكن هذه المحاولة كانت، كما قلنا ، من أجـل خـطـايـا السهو فقط. أما خطايا العمد فلم يكن لدى الناموس أي سلطان عليها أو تكفير، بل كان حكم الموت واللعنة حتمياً وبمقتضى الناموس ذاته . وهكذا أثبت الناموس عجزه المطلق عن تـبـريـر الخاطىء أمام الله في خطايا العمد، أما في خطايا السهو فقد توقف فعل دم الحيوانات عند حدود تطهير الجسد فقط والـتـبـريـر المؤقت : «لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا » ( عب 4:10). وهكذا يشهد الناموس على عجز نفسه ، وفي عجزه وقصوره كان يمهد للآتي ـ الرب يسوع ـ الذي سيبرر الجسد والروح والنفس، و يبرر الآن وإلى الأبد، و يبرر من طرف واحد فقط ـ أي بإعطاء بره المجاني بالإيمان و بدون الناموس. هذا هو معنى «غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن» . –
و بالنهاية نرى أن بم بمجيء المسيح ، يكون قد انتهى عمل الناموس وانتهت صلاحيته ، فليس بعد اختيار للبر بين الأعمال والإيمان، فالعمل انتقل نهائياً ليصير مبادرة من الله دائمة، أي أن العمل صـار عـمـل الله : «لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد» (رو3:8)، فأصبح الإيمان بعمل الله ضرورة حتمية وإلا فلا غفران ولا تبرير ولا حياة !
[ 10: 13-5 ] الإيمان لا يعتمد على أعمال
والعكس صحيح
5:10 «لأن مـوسى يكتب في البر الذي بالناموس إن الإنسان الذي يفعلها ( الفرائض والأحكام) سيحيا بها».
بعد أن قطع بولس الرسول بأن المسيح هو غاية الناموس منذ أن وضع الناموس ، بل وإن الناموس وضع على أساس أن غايته ونهايته هو المسيح في مجيئه ، يعود هنا لمقارنة إضافية يوضح فيها أن الـنـامـوس نفسه يقارن بين العمل بالناموس وبين عمل الإيمان. فيقول إنه بالرغم من أن موسى أوضح أن الذي يعمل الناموس يحيا به وأن العمل بالناموس ليس هو بالأمر الصعب أو الشاق ، يعود هو نفسه ـ أي الناموس مع شرح جانبي من بولس الرسول ـ يعرج على الإيمان أن الحياة بالإيمان أسهل كثيراً جداً .
وهنا في هذه الآية يبدأ بالحوار، كما جاء في الرسالة إلى غلاطية، على لسان موسى : « ولكن الـنـامـوس ليس من الإيمان بل الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها » (غل ۳: ۱۲)، التي جاءت في سفر اللاويين ١٨: ٥ : « تحفظون فرائضي وأحكامي التي إذا فعلها إنسان يحيا بها. أنا الرب » .
هـنـا يـحـاول بولس الرسول بعد ذلك أن يثبت أن الأعمال التي في الناموس تنظر من وجهين : وجه إنساني، ووجه إلهي . فإذا نظرت من وجه إلهي فإنها تصبح بمثابة « كلمة الله » القادرة فعلاً أن تُـحـيـي كـل مـن يعمل بها، حيث يصبح عمل «الكلمة» هو للبر الحقيقي. أما إذا نظرت من وجه إنسـانـي فـإنها تظهر كأعمال جسدية يؤديها الإنسان ليربح من ورائها تبريراً لنفسه وكأنه قد عمل الله عملاً .
هنا نرجو القارىء أن ينتبه إلى هذا في الآية القادمة .
10: 8-6 « وأما البر الذي بالإيمان ( الإيمان بالكلمة = النظرة إلى الناموس من وجه روحي إلهي) فيقول هكذا لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح أو من يهبط إلى الهاوية أي ليصعد المسيح من الأموات . لكن ماذا يقول . الكلمة قريبة منك في فيك وفي قلبك أي كلمة الإيمان التي نكرز بها » .
فلينتبه القارىء لأن بولس الرسول هنا يعيد . عنده ـ صياغة الآية التي قالها الله لموسى بخصوص أعمال الناموس، وإليك الآية الأصلية كما جاءت في سفر التثنية:
+ «إن هذه الوصية التي أوصيك بها اليوم ليست عسرة عليك ولا بعيدة منك . ليست هي في السماء حتى تقول من يصعد لأجلنا إلى السماء ويأخذها لنا ويسمعنا إياها لنعمل بها . ولا هي في عبر البحر حتى تقول من يعبر لأجلنا البحر ويأخذها لنا ويسمعنا إياها لنعمل بها . بل الكلمة قريبة منك جداً في فمك وفي قلبك لتعمل بها . » (تث 30: 11-14)
هنا بولس الرسول عمل عملين : الأول بدأ يشرح الآية التي في سفر التثنية في مضمونها السري الإلهي، بـاعـتـبار أن أعمال الناموس هي بعينها «كلمة الله » إذا رئي الناموس في واقعه الإلهي – الذي سوف يستعلن في النهاية في شخص يسوع المسيح ـ باعتبار أن المسيح هو غاية الناموس كما سبق وقال، بمعنى أن الناموس يحمل هدفه وغايته في داخله ، فجعل قول الآية في التثنية : «من يصعد لأجلنا إلى السماء ويأخذ ( الوصية) لنا ويسمعنا إياها لنعمل بها»، إلى : «من يصعد إلى السماء ـ أي ليحدر لنا المسيح » .
العمل الثاني : ثم أنه أعطى لنفسه الحق في أن يحول ما قاله الله بخصوص الوصية : « من به لأجلنـا الـبـحـر ويـأخـذهـا لنا ويسمعنا إياها»، حولها بولس الرسول إلى وضعها الأصعب والذي استعلن فيها المسيح باعتباره «كلمة الله » فجعلها : « أو من يهبط إلى الهاوية ـ أي ليصيد المسيح من الأموات » .
وبحسب أصل الآية هنا، فإن الله حينما خاطب شعب إسرائيل بفم موسى، كان يعبر لهم في بساطة منتهی البساطة عن سهولة العمل بالناموس باعتباره كلمته الحية التي كل من خضع لها يحيا بـهـا بـكـل تـأكيد؛ بينما الذي لا يأخذها في مضمونها الحي المحيي بل كأمر ووصية حرفية يتممها في ذاتها دون أن يتصل بقلبه وروحه بقائلها والموصي بها ، فإنه لا يستفيد بها ولا تصبح الـوصـيـة فـرصـة للـتـقرب إلى الله أو الخضوع له ، و بالتالي لا ينال الحياة التي وعد بها الله كل من يخضع له شخصياً بطاعته لكلمته ، أي ناموسه .
هذا ما استعلنه بولس الرسول بروحه من نص الآية في سفر التثنية ، وبناء عليه بدأ يوضح هذه الحقيقة من واقع الذي حدث ناظراً إلى « الناموس» في غايته التي استغلنت في المسيح. وهكذا عاد أعمال يخاطب الإنسان المسيحي هذه المرة ويقول له على قياس ما قاله الله لموسى بخصوص الناموس : لا تقل إن الإيمان بالمسيح صعب لأنه لا يطلب منك أن تذهب إلى السماء لتحدر المسيح إلى الأرض للتجسد، فهو جاء بدون سعي من جهتك أو طلب أو حتى مجرد الفكر، كذلك لا يطلب منك أن تنزل إلى الهاوية لتصيده لما مات من أجلك، ولكنه قام من الأموات دون أن تطلب أنت أو تفكر. وهكذا أصبح الإيمان بالمسيح متجسداً وميتاً ومقاماً من أجلك عملاً قد أتمه الله من أجلك وصـار بـه بر الله حاضراً ومستعلناً وجاهزاً للإيمان . وهو لا يطلب منك أنت أي عمل لتعمله في هذا الأمـر مـن جهتك بل يطلب إيمانك بموت المسيح وقيامته لكي تخلص وتنال بر الله وتحيا . فهل كلمة الإيمان بالمسيح هنا صعبة عليك أو تحتاج منك إلى جهد ؟
ويـعـود بـولـس الـرسـول يقتبس نفس ما قاله الله قديماً لشعب إسرائيل من جهة قرب «كلمة الإيمان» التي هي جوهر الناموس ومحوره وغايته . فكما قال لهم الله : «بل الكلمة قريبة منك جداً في فمك وفي قلبك لتعمل بها»، هكذا يقول بولس الرسول للمسيحي بنفس الكلمات عن سهولة قـبـول كلمة الإيمان للخلاص والحياة بها : « الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك أي كلمة الإيمان التي نكرز بها » .
وهكذا يرى بولس الرسول – ، أن المسيح بالفعل هو غاية الناموس الذي حقق بر الله وحياة الدهر الآتي .
«كلمة الإيمان التي نكرز بها » :
هكذا ينتهي بولس الرسول بالإيمان المسيحي باعتباره «كلمة الإيمان» إلى أنها « هي التي یکرز بها»، أي إنجيل ربنا يسوع المسيح . وهكذا وبالنهاية يحل الإنجيل، أي الخبر السار بقيامة المسيح من الأموات واستعلان بر الله الموهوب للإنسان مجاناً، مكان ناموس موسى والأعمال الخاصة به . وطبعاً الإنجيل يحمل سر الإيمان بالمعمودية والشركة في جسد المسيح ودمه .
ثـم يـبـتـدىء بولس الرسول يشرح كيفية سهولة « الإيمان» والحصول عليه «بالكلمة» بالنسبة للإيمان المسيحي هكذا :
9:10 «لأنك إن اعـتـرفـت بـفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت».
هذا هـو قـانـون الإيمان، هو قوة المعمودية وهو روح الاستعداد للتناول من جسد الرب ودمه ، و بالتالي هو جوهر الإنجيل . و بولس الرسول يقصد هذه المعاني كلها التي يكرز بها.
«لأنك»:
يا حبذا لو صححت الترجمة العربية «لأنك » فتصير « وهي»، أي إن كلمة الإيمان التي يكرز بها بولس الرسول : « هي إن اعترفت … خلصت » . و بذلك تصير الآية التاسعة هي الشرح المباشر للآية الثامنة. ولكن من أين جاء بولس الرسول بهذه المقولة العقائدية ؟
إن الـقـديـس بـولـس اقتبسها من سفر التثنية 14:30، ا، التي كررها في الآية الثامنة : «بل الكلمة قريبة منك جدأ في فمك وفي قلبك لتعمل بها»، فوضع ق. بولس الإيمان في موضعه الصحيح في القلب والاعتراف في موضعه الصحيح في الفم، كحقيقة ثابتة فسّرها بولس الرسول بالروح ، لأن الإيمان لابد أن يعترف به بالفم والاعتراف بالفم لا بد أن يكون صادراً من إيمان في الـقـلـب ! هكذا أثبت بولس الرسول منتهى الوعي النبوي ومنتهى الفهم الإلهي لكي يجعل من مقولة في سفر التثنية هي نفس المقولة التي تحمل جوهر العقيدة المسيحية بكل دقة وانضباط . ولا عجب يا خوة ، فالله الذي كان ينطق بالرمز لموسى ليوصل إلى الشعب ، هو هو الله في شخص يسوع المسيح الـذي يـنـطـق بـالـروح في وعـي بـولـس الـرسـول شـارحـاً مـا سبق وقال لموسى كاشفاً السر المخفي لأصحاب أسرار الله.
وهكذا انتهت مقولة سفر التثنية عبر بولس الرسول إلى منطوق الإيمان المسيحي، ثم استقرت في الكنيسة لـتـأخـذ الصيغة الليتورجية لإجراء التقديس في المعمودية ليخرج بها الإنسان من جرن المعمودية ليصير عضواً في جسد المسيح .
« اعترفت » : = « شهدت » .
كلمة رسمية، أي شرعية ، تدخل ضمن صميم التشريع الكنسي ، فهي تحتسب في الكنيسة كـأعـظـم فـعـل يعلن الإيمان ويزكيه ويمجده. وهي ليست كأنها سهلة أو مجرد نطق يقوله الإنسان بفمه، ولكن الاعتراف بحد ذاته يساوي تماماً الموت مع المسيح ويساوي تماماً الاستعداد للموت من أجل المسيح. فالاعتراف كشهادة هو والموت شيء واحد في وعي الإيمان المسيحي. فالإنسان يعترف أي يشهد بالإيمان بالمسيح والسيف على رقبته أو باستعداد أن يكون السيف على رقبته في أية لحظة، وأي اعتراف أو شهادة لا يحمل هذا الواقع الإيماني ـ أي احتساب الموت ثمنا للإيمان ـ لا يكون له فاعلية ولا يساوي الخلاص .
كثير من المسيحيين ـ ولا نغالي إن قلنا الجميع ـ حينما يسمعون أن مقولة العقيدة المسيحية هي الإيمان في القلب والاعـتـراف بالفم يستسهلون ويستهينون ، ويرددها الإنسان بسرعة وراءك باعتبار أن الإيمان هو التصديق والاعتراف هو النطق وانتهى الأمر. وهنا يتحتم علينا أن نوعي كل قارىء أن :
+ الإيمان بالمسيح في القلب يعني المسيح نفسه أصبح في القلب !! إذ عليك قبل أن تنطق بقانون الإيمان أن تتحسس المسيح في قلبك .
+ الإيمان بالمسيح في القلب يعني أن العالم بشهواته ومخاوفه قد انطرح بعيداً عن القلب !! هل حقا أنت لا تشتهي شيئا ولا تخاف شيئا ؟
+ الإيمان بالمسيح في القلب يعني أن في القلب صلاة مرفوعة وحباً قائماً دائماً وطهارة بالنية لا تتنازل !! فهل القلب عامر بهذه ؟
+ الإيمان بالمسيح في القلب يعني أن في القلب فرحاً كل حين وفرحاً في الضيقات وتهليلاً بالخلاص وتمجيداً للقيامة !!
أما الشهادة أو الاعتراف بالفم للخلاص فيعني :
+ يعني أن اسم المسيح يملأ الفم، ولا يعلو اسم آخر على اسم المسيح لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت ولا زوجة ولا أولاد !!
+ يعني أن اسم المسيح قد قدس الفم فلا تعظيم إلا للمسيح ولا خوف إلا للمسيح ولا رجاء إلا بالمسيح ولا شهوة إلا للمسيح .
+ يعني أن اسم المسيح في الـفـم هو أثمن من «الحياة» ، يتخلى عنها ولا يتخلى عن اسم المسيح !!
لذلك حينما تقول العقيدة المسيحية إن « القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به»، هذا يعني أنه قد حدث الخلاص !! والخلاص موت وقيامة .
ولكن يظل للشهادة دورها المجيد في حمل الإنجيل وإذاعته . فأنا آمنت بشهادة آخر، وأنا أشهد لآخـر لـيـؤمـن بمـن آمـنـت ــ فـالشهادة إنجيل يتحرك من قلب لقلب، وإيمان محمول من جيل إلى جيل. لا يمكن فصل الإيمان عن الشهادة ولا الشهادة عن الإيمان . فالإيمان والشهادة هما المسيح الناطق في الإنسان. الشهادة عبادة والإيمان حياة .
والـشـهـادة أو الاعتراف بالمسيح رب تأتي بعد الإيمان ، ولكنها تتقدم على الإيمان في الكرازة . قـانـا آمنت أولاً لذلك أعـتـرف وأشـهـد، وأنا أشهد أولا وأعترف ليؤمن الآخرون . ولكن يظل لاعتراف جزءاً لا يتجزأ من الإيمان .
«بالرب يسوع » :
الاعتراف أو الشهادة ( المصبوغة بالدم أو التي يمكن أن تصطبغ بالدم) «بالرب يسوع » ، تعني أني أشهد أن «المسيح رب ». و « الرب» هنا في التوراة «كيريوس» باليوناني وهو بالعبري «أدوناي » وهو «يهوه» وهو «الله المتكلم مع الإنسان» هو «الكلمة الأزلي » هو «الخالق مع الله» هو «والله واحد». فهو «الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين» (رو9: 5). هو من جهة الله الأزلي الكلي القدرة والوجود «”ابن“ كلي القدرة والوجود مع الآب». وهو من جهة بشريته ، أي تجسده، «هو استعلان ملء لاهوت الله في الجسد»، «هو استعلان ملكوت الله على الأرض»، «هو استعلان الحياة الأبدية المخفية في الله »، « هو تحقيق الآخرة وكل خيـرات الـدهر الآتي»، «هو ملء الله في الزمن الإنساني لتحقيق وجود الله في التاريخ»، «وهو استعلان نهاية كل شيء ونهاية الزمن والتاريخ » ، « هو بدء أزمنة الخلاص التي لن يـكـون لها نهاية». لذلك يقول بولس الرسول : « إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله اقامه من الأموات ” خلصت‘‘ » ، لأنك تكون قد صرت في المسيح وله ، وقد صار لك ما للمسيح من قيامة وحياة و بنوة !
وعلى القارىء أن يلاحظ هنا أن الإيمان بقيامة المسيح من الأموات هو عنصر أساسي في ربوبية المسيح، التي يتبعها الإيمان بمجيء المسيح كرب «ماران أثا» (1كو16: 22)، «تعال أيها الرب يسوع » (رؤ22: 20)، وهي محور العبادة !!
«فالمسيح رب» هو عنصر الـكـرازة : «فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع ربا ولكن بأنفسنا عبيداً لكم من أجل يسوع . » ( 2كو4: 5)
« لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب . » (في2: 10و11).
ولـكـن يـلـزم جـداً أن ندرك أين ولماذا دعي المسيح ربا ، فهو دعي كذلك أو بحسب لغة بولس الـرسـول أنه «تعين ابن الله » بالقيامة من الأموات (رو1: 4)، فالمسيح دعي ربا واعترف به لمجد الله بالقيامة من الأموات ، لأن ليس إنسان قط قبل المسيح بلغ القيامة من الأموات.
10:10 «لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص» .
لا ننسى هنا أن محـور الإيمان هو المسيح ومركز الإيمان هو القيامة من الأموات. وهكذا فإن مختصر إعلان الإيمان هو قيامة المسيح من الأموات.
الـقـديـس بـولـس دار دورته وانتهى على ما ابتدأ أي : «البر بالإيمان». وهنا يضيف أن أداة الإيمان هي القلب ، ،، وهـكـذا يـبـتـعـد بعيداً عن مظاهر الأعمال وأفعالها ؛ حيث القلب هو الأداة الوحيدة في الإنسان التي يتعامل فيها مع الله ، وهو مركز التعلق وليس مركز العمل.
فإذا استقر « الإيمان بالمسيح » في القلب فإن القلب يتهيأ لاستقبال بر الله ، لماذا ؟ لأن المسيح يكون في القلب . وهكذا إذ يحل المسيح بالإيمان في القلب ، ينال الإنسان استحقاق «بر الله » بسبب المسيح ، الذي مضمونه العملي هو نوال الخلاص بصورته الأخروية . إن «بر الله » الأزلي – (لخلاص الإنسان ) ـ ظل يتوق ويتحين الفرصة متى يصير الإنسان أهلاً لحلوله فيه ؛ وهكذا عندما يحل المسيح بالإيمان في القلب تكون فرصة بر الله للإنسكاب بلا مانع، ومع بر الله النعمة والمحبة والروح القدس وعطايا الله الروحية التي بلا كيل .
لماذا لا يحل بر الله إلا إذا حل المسيح بالإيمان في القلب ؟ لأن بحلول المسيح تنتهي كل الـعـوائـق مـن جـهـة الخطية وكل متعلقاتها التي كانت تمنع حلول بر الله ، لأن بر الله لا يحل على خطية : «بعيد هو الخلاص من الخطاة» (مز118: 155 النسخة القبطية). وكون القلب هكذا يصير أداة بـر والـفـم يـصير أداة خـلاص ، يكون بولس الرسول قد شرح شرحاً بديعاً وعملياً كيف تتحول أعـضـاؤنـا أعضاء تخدم الخطية إلى أعضاء تخدم البر: « ولا تقدموا أعضاء كم آلات إثم للخطية بل قدموا ذواتكم الله كأحياء من الأموات وأعضاء كم آلات بر الله . فإن الخطية لن تسود كم لأنكم لـسـتـم تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو6: 13 و14). وكما قال النبي سابقاً وكرره بولس الـرسـول : « ما أجمل أقدام المبشرين» (رو10: 15)، يصح هنا أن نقول مع ق. بولس ما أعظم أفواه المعترفين ، يخلصون ويخلصون السامعين . وهكذا كما استؤمن قلب الإنسان على حقيقة الإيمان بالله ، هكذا استؤمن الفم على الاعتراف بفضل الله وعمله، وهكذا تأهل الإنسان للبر وللخلاص.
علماً يا عزيزي القارىء أن كل صلاة هي اعتراف ، وكل تسبيح وترتيل ونشيد وهتاف هو اعتراف، وكل شكر وحمد وتمجيد هو اعتراف ، وهذه هي أعمال الإيمان والخلاص لأنه يستحيل أن يوجد إيمان بدون أعمال تشهد له. وأعمال الإيمان هي اعتراف .
هـل يـوجـد إيمان بدون اعـتـراف ؟ هكذا يستحيل أن يوجد إيمان بدون أعمال تعترف يصـدقه وتشهد للمسيح والآب: «فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات » (مت5: 16). فالخلاص يتم بالإيمان ويشهد له بالأعمال . فلا خلاص بدون إيمان ولا خلاص بدون شهادة .
11:10 «لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزى » .
الكتاب هنا هو سفر إشعياء ـ الذي سبق أن أوردنا نصه : « هكذا يقول السيد الرب . ها أنذا أؤسس في صـهـيـون حـجراً . حجر امتحان حجر زاوية كريماً أساساً مؤسساً. من آمن لا يهرب ( لن يخزى ) » ، وصحتها في النسخة السبعينية : «من آمن به لا يخزى» ( إش28: 16). ولكن في صورتها العامة ـ « naq » = كل بلا تفريق ، الأمر الذي انتهزه بولس الرسول ليبني عليه بعد ذلك أنه لا فرق بين يـهـودي وأممي. فالحرف الذي أدخله ق. بولس « nas » الذي لم يأت في النص السبعيني، أضافه ق. بولس ليفيد العمومية وليس الفردية . وهكذا نجح بولس الرسول في أن يـبـرهـن ، ومن واقع التوراة، أنه كما صارت الخطية عمومية بلا تفريق ، هكذا صار بر الله بالإيمان عمومياً بلا تفريق : «كل من يؤمن به لا يخزى» ، بمعنى أن كل من يؤمن به لا يخزى بل يخلص !!
ولكن يحضرنا هنا سؤال ملح : لماذا سمحت العناية الإلهية بأن لا يؤمن به اليهود وهم أصحاب الـوعـد ؟ فبالإضافة إلى ما سبق وقاله بولس الرسول في هذا الأمر، سنرى كيف أن عثرة اليهود في «حجر صهيون» هي التي هيأت استعلان إنجيل الخلاص للأمم ـ أي العالم كله يهوداً وأمماً ، كما سيجيء في الأصحاح الحادي عشر. فإذا سألت ولماذا اصطدم اليهود « بحجر صهيون » ، فالسبب واضح لأن الحجر تأسس في صهيون بصورة متواضعة للغاية حتى عثرت فيه أقدامهم وهم ظـنـوا أن يأتيهم بعظمة ومجد وأبهة سماوية ونفخ أبواق مع مراسيم سماوية فخمة. فلما جاءهم بلا منظر يشتهى، احتقروه ؛ أما الذين آمنوا به وقبلوه وهو في عثرة خزي اتضاعه ـ أي الصليب ـ فلم يخزوا. إذاً، فليس من فراغ تقول النبوة ويرددها بولس الرسول بفهم ووعي سماوي أن «من يؤمن به لا يخزى»، لأنهم آمنوا بخزي صليبه الذي احتوى كل مجد الألوهة . فكما صار خزي الصليب إلى مجد بالاستعلان، هكذا يتحول من آمنوا بخزي صليبه إلى مجد لهم بالشركة! لذلك يلح علينا أن نكمل الآية هكذا : أن كل من يؤمن به لا يخرى بل يتمجد !!
10: 12و13 « لأنه لا فرق بـيـن الـيـهـودي واليوناني لأن رباً واحداً للجميع غنيا لجميع الذين يدعون به. لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص » .
لقد مهد بولس الرسول لهذه العمومية بإضافة حرف « nas » في الآية السابقة : «كل من»، في صورة عمومية ليستطيع أن يبني هنا عليها هذه الحقيقة أنه «لا فرق » في الإيمان بالمسيح كرب ، والرب هو اسم من أسماء الله .
لقد سبق بولس الرسول في الآية 22:3 أن قال إنه لا فرق بين اليهودي والأممي في نوال بر الله المـجـانـي والسبب أنه لا فرق بينهما في الخطية . فكما أخطأ هذا أخطأ ذاك ، لذلك حق أن يكون البر لهما بلا تمييز: «بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق . إذ …» (رو3: 22و23). وهنا يعطي العمومية أيضاً ودون تمييز بين اليهودي والأممي بـسـبـب آخر جليل وهو أن المسيح « رب واحد للجميع »، وغناه يتدفق على الجميع بالسواء ، كل الجميع أخطأوا من يدعوه !!
لاحظ أن بـولـس الـرسـول يـتـجـه نـاحـيـة وحدانية الرب يسوع حيث لا ثنائية فيه. فهو الابن الـوحـيـد: «رب واحد»، كما أن الله الآب «إله واحد» (١ کو8: 6). لذلك فهو واحد لكل من يدعو به بلا تمييز بين داع وداع .
وهـنـا يـقتبس بولس الرسول نبوة يوئيل النبي عن أن كل من يدعو باسمه يخلص : « ويكون أن كـل مـن يـدعو باسم الرب ينجو. لأنه في جبل صهيون وفي أورشليم تكون نجاة. كما قال الرب . وبين الباقين من يدعوه الرب . » (یوئیل2: 32)
و واضح من هذه الآية أنها تشير إلى البقية التي ستبقى من وسط جحود إسرائيل من سيدعوها الـرب ـ ( يسوع المسيح) ــ فـتـنـجـو أي تخلص، التي أشار إليها بولس الرسول في رو27:9: «فالبقية ستخلص» .
ولكن الذي يهمنا جداً هنا في اقتباس بولس الرسول لهذه النبوة بالأكثر هو إعطاء المسيح اسم «الرب» الذي يقع في الآية المذكورة موقع يهوه الله القدير بذاته : « وتعلمون أني أنا في وسط إسـرائـيـل وأنـي أنـا الرب إلهكم وليس غيري ولا يخزى شعبي إلى الأبد. ويكون بعد ذلك أني أسـكـب روحي على كل بشر… أسكب روحي في تلك الأيام … ويكون أن كل من يدعو باسم الرب ينجو (يخلص) . » (یوئیل2: 27-32).
فـانـظـر وافـهـم أيها القارىء العزيز أن بولس الرسول في إعطائه المسيح اسم «الرب» الذي يدعى به ، يـكـون المسيح عند بولس الرسول هو يهوه الإله «إني أنا الرب إلهكم» الذي ظهر في الحسد ممثلاً له ومتكلماً وساكباً روحه على كل بشر وأن هذا الروح عينه هو الذي يكون فيهم ناطقاً ومعترفاً باسم الرب !! والرب هو الذي يعطي الخلاص بالمقابل !! لهذا، فإن الإيمان الذي في القلب الذي به ندعو المسيح ربا هو بعينه العبادة المطلقة للمسيح كرب لمجد الله الآب : « أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي.» (يو14: 1)
ومـا يـقـول به بولس الرسول قال به بطرس الرسول عندما حل الروح القدس الموعود به يوم الخمسين: «هذا مـا قيـل بـيوئيل النبي ” يقول الله ، ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر … أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون … ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص » (أع2: 16-21). وهنا يعطي بطرس الرسول اسم الله واضحاً على أنه هو هو اسم الرب . ويعود بطرس الرسول ليؤكد أن المسيح ـ الرب ـ هو الذي سكب الروح القدس : + «وإذ ارتفع بـيـمين الله وأخـذ مـوعـد الـروح القدس من الآب . هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه . » (أع2: 33).
وغنى المسيح هو غنى عطاء ، فالغنى واقع على سخاء المسيح في العطاء بلا كيل، ولا يتمايز ولا يفترق لدى كل من يدعوه أو يدعو به ، ليس بمعنى الصلاة وحسب بل العبادة في صورتها الكلية وخـاصـة مـن يـنادي ويعترف ويكرز. هنا سخاء عطاء بر الله بالمسيح لا يتمايز لواحد عن آخر، أو لـيـهـودي عـن أممي. فـمـيـزان سخاء العطاء يتوقف على سخاء الواعد والعاطي على أساس الإيمان بالرب الـواحـد الـذي يتساوى أمامه الجميع ، الأمر الذي لا يمكن بلوغه بالأعمال الناموسية التي تـتـمـايـز وتختلف وتتفاوت . كأنما الأعمال الناموسية في تمايزها وتفاوتها من واحد لواحد لا تعطينا الـصـورة الفائقة «للرب الواحد » يسوع المسيح . ولكن الإيمان الواحد الذي للجميع بلا تفريق أو تمييز باعتبار المسيح رباً واحداً للجميع ـ لليهودي وللأممي، وهو وحده الذي يعطينا بل ويثبت في قلوبنا وحـدانـية الرب يسوع المسيح وغناه الواحد المنسكب على الجميع ، بقدر ما يحتمل كل من يؤمن .
ويلاحظ في هذه الآية أن بولس الرسول يقدم موضوع الدعاء باسم الرب : «رب واحد لجميع الذين يدعون به »، لكي يبني عليه في الآية اللاحقة موضوع الكرازة بالإنجيل في كل مكان حتى يحاصر اليهود أن لا . لهم في رفض الدعوة .
[ 10: 14-21 ] الله يشتكي إسرائيل
« مددت يدي طول النهار لشعب معاني ومقاوم » .
14:10 و15 «فكيف يـدعـون بـمـن لـم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكـيـف يسمعون بلا كارز؟ وكيف يكرزون إن لم يرسلوا ؟ كما هو مكتوب ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات » .
يلاحظ هنا أن بولس الرسول يصنع «كماشة » ليطبق بها على إسرائيل وهي رافضة للإيمان بالمسيح رفضاً عن وعي وإرادة، وليس عن جهل أو عدم سماع . وعليك أن ترى، أيها القارىء، في أي الأفعال التي يوردها هنا استطاع أن يسقط إسرائيل في الرفض والعناد . فأولا وقبل كل شيء يلزم أن نعلم تماماً أنه لم يقم نبي ليبشر إسرائيل بأخبار سارة حادثة بالفعل، بل كل الأنبياء من موسى وحتى آخر نبي تنبأوا بالويل والثبور وعظائم الأمور لإسرائيل المعاندة الشاردة عن إلهها ، فإن كـان خـلاص وإن كان خبر سار مفرح فهو في آخر الأيام حينما يأتي الآتي، مسيا الموعود به منذ الدهور. وهوذا بولس الرسول يبشر بظهور الإنجيل الذي هو بعينه الأخبار السارة والمفرحة والخلاص المـوعـود بـه. وهنا يعطي بولس الرسول سلسلة من الأفعال لا تحتاج إلى شرح أو برهان، فهي تشرح نفسها بنفسها :
1- ففي الآية الـسـالـفـة يـنـادي ق. بولس بالنبوة القديمة أنه سيأتي الرب الذي كل من يدعو باسمه يخلص .
2– ومنها ينطلق ليسأل أنه «كيف يدعون باسم من لم يؤمنوا به » (10: 14)؟
3- ثم كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟
4- ثم كيف يسمعون بلا كارز؟
5- «ثم كيف يكرزون إن لم يرسلوا » (من الله ) ؟ (15:10)
هذا كلام منطقي تماماً وعملي وقد تم كله بالفعل. فالذين آمنوا بالمسيح الرب دعوا باسمه، أي عبدوه، وهم آمنوا لما سمعوا خبر قيامته، وإرسال روحه القدوس الذي نطق الإيمان فيهم .
وهم سمعوا من الذين كرزوا باسم الرب يسوع .
وهؤلاء الكارزون كرزوا لأنهم أرسلوا من الرب بالروح .
وهكذا بالرب يسوع ابتدأت سلسلة الإيمان لتنتهي به ، مدعوا باسمه .
فأين ، أو من أي الأفعال هذه ، أمسك بولس الرسول باليهود الرافضين الإيمان بالمسيح كرب ومخلص ؟ هذا يكشفه بولس الرسول في تكملة الآية الخامسة عشرة هكذا :
« كما هو مكتوب ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات ! » :
إذاً، فـقـد نـصـت الـنـبـوات كلها على أنه إذا جاءكم من يبشر بالسلام ويبشر بالخيرات المنتظرة، هذا يـكـون مـعناه أنه قد «أتى الموعود به» حتماً، هذا الذي على يديه سيحل السلام ونعم الخيرات !!
و بـولـس الـرسـول نـفـسـه إذ ينادي ويهتف ويقول إنه مرسل من الله للكرازة بإنجيل الخيرات والسلام والخلاص ، يـكـون رفض الـيـهـود له مأخوذاً عليهم ، إذ سمعوه ، مائة بالمائة وله في كلامه وكرازته ما يؤكد أنه مرسل من الله بالفعل وشهادته قائمة في كرازته بالروح القدس الناطق والعامل فيه.
ولكنهم لم يطاوعوا الإنجيل !!
16:10 و17 «لكن ليس الجميع قد أطاعوا الإنجيل. لأن إشعياء يقول يا رب من صدق خبرنا . إذا الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله » .
هنا سقطت إسرائيل وعثرت، ليس في بولس الرسول فقط ، بل في الإنجيل ، بل بالحري في صخر الدهور .
هنا أصبحت إسرائيل مسئولة عن رفضها تماماً بشهادة النبوة من فم إشعياء النبي الذي وقف من وراء الأيـام يـشـهـد ضـدهم أنهم سمعوا الخبر السار من الله ولم يصدقوه !! وهل يمكن أن يأتي إيمان إلا بالخـبـر؟ وهل يمكن أن يؤمن إنسان ويحسب له إيمانه برا إذا لم يؤمن بما هو على خلاف الرجاء والمـعـقـول ؟ إبـراهـيـم لما سمع الخبر من الله أنه سيعطى حياة ليعطي نسلاً، وهو شيخ فان وامـرأتـه اضمحلت قدرتها على الحمل والولادة، آمن بالخبر المستحيل إذ لم يكن ضعيفاً في الإيمان ، فحسب إيمانه بالمستحيل برا ونال الحياة والوعد بالنسل الذي ستتبارك به الأمم .
هـكـذا قـدم بـولـس لإسـرائـيـل الخبر بكلمة الله أي بالمسيح قائماً من الأموات باعتباره الرب المحيي مسيا الأنبياء الموعود ، وصخر الدهور المرصود. وكان هذا هو في عرف إشعياء النبي « خبر الله » . وخبر الأنبياء معاً. «يا رب من صدق خبرنا » ؟؟
ولـكـن لـيـس الجميع قد أطاعوا الخبر فأطاعوا الإنجيل، ولكن قلة وهي « الباقية » أطاعت ور بحت . يلاحظ القارىء أن الآية السابعة عشرة جاءت محكمة الوضع بعد الآية السادسة عشرة . ولـكـن للأسف عثر العلماء في موضع هذه الآية وقالوا إن وضعها الصحيح يكون بعد الآية الخامسة عشرة. والـكـاتـب يتعجب على قدرة العلماء في النقد دون التمشي مع إلهام الإنجيل، فهنا إشعياء يـقـول آخـر ما يقول : « يا رب من صدق خبرنا » ، و بولس الرسول يردف حالاً مصدقاً قائلاً: «إن الإيمان بالخبر والخـبـر بـكلمة الله»، وهكذا يضيف القديس بولس شارحاً قول إشعياء النبي إن «خبر الله » هذا هو بكلمة الله ذاتها ، فرفض الكلمة يكون هو بعينه رفض الله !! فانظر أيها القارىء قدرة بولس على الحبك الإلهامي الذي فات للأسف على العلماء !!
18:10«لكني أقول ألعلهم لم يسمعوا ؟ بلى، إلى جميع الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم».
هنا بولس الرسول أراد أن يثبت على إسرائيل أن لا عذر لها في رفضها ولا حجة لها. فإن كان الإيمان بالخبر والخـبـر بإعلان كلمة الله، فالكلمة أعلنت وغطت المسكونة كلها ، وبولس الرسول وإن كان يعتبر نفسه أحد الذين أذاع الله الإنجيل بصوتهم في أرجاء المملكة الرومانية التي كانت تمثل المسكونة في ذاك الزمان، إلا أنه يستشهد هنا بالنبوة في مزمور19: 4 . وإن كانت النبوة جاءت في المزمور لتشهد لأعماله في الخليقة، فالمصنوعات المخلوقة ـ ( الشمس والقمر والنجوم ) – تشهد الله في كل أنحاء الأرض والسماء، ولكن بولس الرسول اقتبسها باعتبار المسيح الذي ينادي به الرسل هو هو خالق هذه المسكونة بكل مصنوعاتها . فإن كانت «الخليقة » تشهد لخالقها ، «فالرسل» إنما ينادون بهذا الخالق عينه !! و بولس الرسول في هذا لا يخرج عن منهج المسيح الذي أراد أن الرسل يكرزون للخليقة كلها بخالقها . « وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل ـ الأخبار السارة ـ للخليقة كلها» (مر16 : 15). إذاً، بولس الرسول يردد صدى أمر الرب ؛ والقديس بولس يسأل: هل لم يسمع اليهود ؟ والرد الذي جاء: «بلى» أي : بل سمعوا ـ ولكنهم يسمعون ولا يسمعون كما قال فيهم الرب : «سامعين لا يسمعون » (مت 13: 13)، لأن الـيـهـود سـواء الذين كانوا في فلسطين أو الذين في الشتات بلغتهم جميعاً أخبار صليب المسيح بل وقيامته أيضاً من الأموات . لأنه حيث كان اليهود وأينما كانوا، فمنهم صار المسيحيون، لأن تقرير سفر الأعمال أن الكلمة كانت تنمو وتزداد بين اليهود .
10: 19 «لكني أقول ألعل إسرائيل لم يعلم ؟ أولا موسى يقول أنا أغيركم بما ليس أمة. بأمة غبية أغيظكم» .
هنا ينتقل بولس الرسول من «السمع» إلى «العلم». لأنه إن احتج اليهود أنهم لم يسمعوا بخبر المسيح سمع الأذن، إلا أنهم علموا به علم اليقين . لأن من ذا الذي لم يكن يعلم عن المسيا ومجيئه سواء من موسى أو جميع الأنبياء. ولكن بولس الرسول قال قولاً آخر تماماً لا يخطر على بالنا : قـال نـعـم إنـهـم عـلـمـوا ، علموا من موسى أن بعنادهم الله وعدم سماعهم له وعدم طاعتهم لكلمته سيبلغ بهم عنادهم إلى أن يفقدوا وجودهم كأمة، وتأتي أمة أخرى لا تدعي الحكمة كما يدعون ولا تدعي المعرفة وتحتكرها كما يعرفون ويحتكرون، « أمة غبية» بمعنى أنها كانت تجهل الله جهلاً غبياً، إذ عـبـدته في صورة الأصنام : حيوانات وطيور وزواحف . نعم هكذا قال لهم موسى – وهكذا سـمـعـوا وعـلـمـوا أنهم بإغاظتهم الله و بجهلهم وتجاهلهم المتجاسر ضد وصاياه سيغيظهم بأن يعطي نعمته وكل مواعيده للأمم (تث32: 21)!!
و بولس الرسول بقوله هذا، يكون كأنه يسأل اليهود الذين رفضوا الإيمان بالمسيح على يديه وعلى يدي باقي الرسل، يسألهم هكذا : ماذا تقولون يا شعب إسرائيل والنبوة تتحقق أمام أعينكم الآن ، وها الأمة الغبية عابدة الأصنام تأتي أمام أعينكم خاشعة خاضعة لله الآب الواحد يهوه العظيم بكل قلوبهم، ويطلبون الإيمان، ويطيعون وصاياه ، ويقبلون الخلاص العظيم المسيا ابنه يسوع المسيح الذي كان الوعد به لكم أنتم، وها هوذا ينقل للأمم كل أمجاده وعطاياه التي كانت لكم ؟ نعم ، مـاذا تـقـولـون وها الميراث ، بل الكرم، بل الملكوت ، يؤخذ منكم ويعطى لأمة تصنع أثمارها وذلك أمام أعينكم !!!
20:10 و21 «ثم إشعياء يـتـجـاسـر ويـقـول (بفم الرب) وجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عني. أما من جهة إسرائيل فيقول طول النهار بسطت يدي إلى شعب معائد ومقاوم » .
إنها نبوة إشعياء (1:65-3) بنصها في السبعينية التي جاءت في الترجمة العربية هكذا : + « أصغيت إلى الذين لم يسألوا. وجدت من الذين لم يطلبوني . قلت ها أنذا لأمة لم تسم بـاسـمي. بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره . شعب يغيظني بوجهي …» ( إش65: 1-3)
وواضح أيضاً من نبوة إشعياء أن في الوقت الذي رفض إسرائيل بعناد ومقاومة يد الله الممدودة بالخلاص، الذي تم بواسطة ابنه المسيح يسوع ، إذ بالأمم التي لم تكن تعرف الرب تناديه فيسمع لها، وهو بنفسه يعلن ذاته ويوجد لها علانية، للذين لم يسبق أن يطلبوه أو حتى يسألوه !
وكأن بولس الرسول يسأل اليهود : أما سمعتم يا شعب إسرائيل ورأيتم كيف قبل الرب الأمم وكـيـف أعـلـن نـفـسـه لهـم، وكيف صاروا شركاء الميراث والإنجيل والجسد والمجد رغم أنهم لم يكونوا يعرفونه أو يطلبونه أو حتى يسألونه ؟
والآن، فالغيظ الذي تغتاظونه الآن بدخول الأمم ومناداتي بالخلاص للوثنيين الفلف ، ليس هو غيظا من عملي أو عـمـل الرسل الكارزين ، بل هو هو غيظ الرب الذي يرده لكم مضاعفاً . فالغيظ الذي تغتاظونه الآن هو من عمل أيديكم ويشهد عليكم أنكم أغظتم الرب فأغاظكم ، وأن مـقـاومـتـكـم وعـنـادكـم لـكـلـمـة الـرب ارتدت عليكم هجراناً مريراً حتى يدخل ملء الأمم أمام أعينكم !!
فهل علمتم ؟؟
وقفة قصيرة
مجمل المعنى في هذا الأصحاح
لـم يكـن الإيمان بالمسيح صعبا على اليهود لأنه هو مرسل لهم ! إسرائيل لا تستطيع أن تعتذر أو تستثني ذاتها من دعوة الله بالمسيح يسوع . فهي لم ينقصها السمع ، فالأخبار ملأت الدنيا : أورشليم والسامرة وأقصى الأرض . السامرة سمعت وآمنت ، الحبشة سمعت وآمنت ، وكل أقطار العالم التي اجتمع أهـلـوهـا في أورشليم يوم الخمسين ، سمعوا جميعاً وبلغتهم الأخبار. وليس الخبر فقط ، بل والـعـلـم بالمسيا الذي هو في أوله وأصوله كان لليهود وليس للأمم ، فاليهود عرفوا المسيا وتأكدوا من مجيئه، في حين أن الأمم لم يعلموا عنه شيئا . الأمم قبلوه دون أن يسمعوا عنه أو يعرفوه ، وإسرائيل رفضت السمع والمعرفة وقدموا عدم ا الطاعة للكلمة بل والعناد والمقاومة بلا سبب : «أبغضوني بلا أبـغـضـونـي أنـا وأبـي» (يو15: 24و25)، مع أنه لا الله ولا المسيح قصروا في حبهم والتوسل إليهم : « طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم » (رو21:10). الرب يطلبهم وهـم أعـطـوه الـقـفـا دون الـوجـه ! كما تحن الدجاجة نحو أفراخها وتحاول جاهدة أن تجمعهم تحت جناحيها ، هكذا صنع الله والمسيح معهم منذ الدهر، أما هم فلم يريدوا أو يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم !
فالله لم يخفق في إسرائيل كما يقول ـ للأسف ـ النقاد، بل إسرائيل هي التي أخفقت في الله ، فكـل إحسانات الله لا تسعف الإنسان إذا اعتد بذاته. ويا ويل الإنسان الذي يستهين بغنی لطف الله وإمهاله، فإن عدم الطاعة أودى بآدم وهو نفسه الذي أودى بإسرائيل. ولكن لا عـقـوق آدم استطاع أن يوقف غنى محبة الله على الإنسان عامة ولا عقوق إسرائيل منع حب الله عن كل الأمم. وبالنهاية تحمل الله عقوق هذا وذاك على صليب ابنه ـ لأنه يستحيل على الإنسان أن يمنع الله من أن يسكب رحمته ويظهر بره.
فمن ذا يستطيع أن يفصل الله عن محبته للإنسان؟ أخطية أم عقوق أم عدم طاعة أم تعد أم أصـنـام؟ فهذه كلها لـم تـكـن قـادرة أن تمنع الله عن محبته للإنسان ! « ولذاتي مع بني آدم . » (أم 8: 31)
فلولا خطية آدم ما عرفنا المسيح ، ولولا عقوق إسرائيل ما دخلت الأمم في مجد التبني ! ولـكـن هـل معنى ذلك أن نستحسن خطية آدم أو نبارك على عقوق إسرائيل ؟ أبدأ، بل نعظم محبة الله التي غلبت خطية آدم ونكرم صليب المسيح الذي ابتلع عقوق إسرائيل ليلد له من كل الأمم شعباً جديداً !
تفسير رومية 9 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 11 |
القمص متى المسكين | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |