تفسير سفر الجامعة ١٢للقمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الثاني عشر

آية(1): “فاذكر خالقك في أيام شبابك قبل أن تأتى أيام الشر أو تجيء السنون إذ تقول ليس لي فيها سرور.”

اذكر خالقك في أيام شبابك= جاءت الآية في العبرية REMEMBER  THY   CREATORS     . فكلمة خالق وردت بالجمع. كما قيل في (تك26:1) نعمل الإنسان. فالخالق ثالوث في واحد، آب وابن وروح قدس. أذكر= فالإنسان مستعد أن يذكر أي شئ ولكنه ينسى الله. وربما نذكر أي صنيع حسن فعله معنا إنسان ولكننا ننسى أن الله خلقنا، بل هو خلق العالم لأجلنا، وبعد أن سقطنا فدانا، وأعطانا ابنه وروحه القدوس، وهيأ لنا حياة أبدية. لو تذكرنا الله دائماً لن نخطئ، كما حدث مع يوسف لأنه تذكر أنه أمام الله. في أيام شبابك= الله يستحق الباكورات، ويستحق أن نعطيه أفضل شئ وليس أن نعطيه الفضلات، وهل نقدم الأعرج والأعمى ذبيحة لله، ونقدم للشيطان باكوراتنا أي شبابنا. ونعطي لله شبابنا لنفرح فرح حقيقي العمر كله، فالفرح الحقيقي هو مع الله. أما من يترك موضوع التوبة حتى سن الشيخوخة فهو لن يتذوق حب الله، بل نحن في شيخوختنا يصعب أن نترك عاداتنا الشريرة التي تعودنا عليها. وسليمان يوجه هذه النصيحة للشباب لأن قوتهم الجسدية وإمكانياتهم تعطيهم إطمئنان أن الحال سيبقى كما هو عليه وتخدعهم لذات العالم وخطاياه، وتأتي عليهم أيام الشيخوخة والعجز ويجد الإنسان نفسه مضطراً لترك خطايا محببة إليه .. .. فلنترك خطايانا قبل أن تتركنا خطايانا. وعلينا أن نذكر أن الله هو الذي خلقنا فهو صاحب الأمر ووصايا الله خالقي ملزمة لي فأنا لست حراً تماماً. قبل أن تأتي أيام الشر= أيام المرض والشيخوخة والموت. التي يقول فيها الإنسان ليس لي فيها سرور= في أيام الشيخوخة لا يجد الإنسان لذات سواء جسدية أو عقلية. وهناك شيخوخة روحية لا يجد فيها الإنسان لذة روحية، ولا ينمو فيها نمواً روحياً. وقد تأتي أيام الشر مبكراً (مرض/ موت) فلا تكون هناك فرصة للتوبة.

 

الآيات (2-8): “قبل ما تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم و ترجع السحب بعد المطر. في يوم يتزعزع فيه حفظة البيت وتتلوى رجال القوة وتبطل الطواحن لأنها قلت وتظلم النواظر من الشبابيك. وتغلق الأبواب في السوق حين ينخفض صوت المطحنة ويقوم لصوت العصفور وتحط كل بنات الغناء. وأيضا يخافون من العالي وفي الطريق أهوال واللوز يزهر والجندب يستثقل والشهوة تبطل لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي والنادبون يطوفون في السوق. قبل ما ينفصم حبل الفضة أو ينسحق كوز الذهب أو تنكسر الجرة على العين أو تنقصف البكرة عند البئر. فيرجع التراب إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها. باطل الأباطيل قال الجامعة الكل باطل.”

وصف أيام الشيخوخة:

هنا يصف الجامعة إنحلال الشيخوخة وعاهاتها بأوصاف كان اليهود يستخدمونها أيام سليمان ولم تعد تستخدم الآن. ونرى فيها كيف يفقد الشيخ حيويته، فحتى إن تاب لن يجد فرصة للجهاد والتعب ولا للتمتع بعذوبة الحياة الروحية المبكرة.

قبل ما تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم= إذ يشيخ الإنسان يفقد بصره ولا يعود يتمتع برؤية شئ. والشمس والنور.. كناية عن السرور والحياة في ربيع الحياة حيث لا سُحب تحجز رؤيتها فالإنسان في شيخوخته يشعر أنه فقد بهجة الحياة وجمالها. وروحياً:- فالشيخوخة الروحية تحرم الإنسان من رؤية النور الإلهي شمس البر وشركة الكنيسة القمر وشركة القديسين النجوم. وترجع السحب بعد المطر= هذه إشارة لشتاء الحياة، فالسحب تأتي وراء المطر إشارة لتوالي الآلام على الشيخ العجوز. وروحياً= فالشيخوخة الروحية تشير للسقوط المتكرر.

يتزعزع حفظة البيت وتتلوى رجال القوة= جسد الإنسان ممثل هنا ببيت وحفظة البيت هما اليدان ورجال القوة هما الرجلان (مز10:147). وهذا يشير لضعف الهيكل العظمي وإنهيار الجهاز العصبي. فاليدان تضعف والرجلان مرتعشتان. وروحياً= فالشيخوخة الروحية تصيب صاحبها بحالة إحساس باليأس والضعف أما القوي روحياً ففي رجاء يقول الرب قوتي فلا أتزعزع. فالرب ذراعاه أبدية. والرب يجدد مثل النسر شبابه. وتبطل الطواحن لأنها قلت= تتساقط الأسنان= الطواحن فيعجز الشخص عن التمتع بكثير من الأطعمة. وروحياً= فالشيخوخة الروحية تمنع صاحبها من أن يقول وجدت كلامك حلو فأكلته، فهو بلا أسنان روحية تتمتع بالطعام الروحي وتقتات عليه. تظلم النواظر من الشبابيك= النواظر هما العينان اللتان تضعفان. ونرى موسى القديس وهو صاحب 120سنة لم تفارقه نضارة عينيه. وفي الشيخوخة الروحية تفقد النفس حواسها الداخلية الروحية فلا تستطيع أن تعاين الله، ولا الأذنان يستمعان صوته ولا يستطيع الإنسان أن يتذوق حلاوة الرب ولا أن يتلامس مع محبته وقدرته.

وتغلق الأبواب في السوق= الأبواب ربما هي بقية الحواس وربما هما الشفتين اللتين بهما نكلم الناس ونتعامل معهم. فالعجوز أصبح غير قادر على الكلام والحوار وكأن السوق قد أغلق أمامه، فلم يعد قادراً على البيع أو الشراء، أو الحوار مع الناس. وروحياً. ففي الشيخوخة الروحية ينغلق قلب الإنسان من نحو الله ومن نحو الناس، وينغلق على نفسه يصير كمن دفن وزنته في التراب ولم يذهب للسوق ليتاجر بها.

حين ينخفض صوت المطحنة. ويقوم لصوت العصفور. وتحط كل بنات الغناء= لقد ذهب سمع الإنسان العجوز فلم يعد يسمع صوت المطحنة، وهذه عند طحن الحبوب يكون صوتها عالياً جداً. فكيف يقوم لصوت العصفور وهو لا يسمع صوت المطحنة؟! هذه تشير للتعب العصبي فهو يضطرب ويقلق من أقل صوت يسمعه، أو خبر يسمعه. بل هو صار بسبب فقدان سمعه لا يتلذذ بصوت بنات الغناء أي المغنيات (2صم35:19). وروحياً. فالشيخوخة الروحية تسبب الإضطراب العصبي والقلق وعدم التلذذ بل تفقد الإنسان سلامه الداخلي. ويفقد روح التسبيح= تحط كل بنات الغناء.

يخافون من العالي= يخافون من الدوار وإمكانياتهم الجسدية لا تساعدهم على الصعود. وروحياً. فالشيخوخة الروحية تجعل صاحبها غير قادر على النمو الروحي ويستصعبه.

في الطريق أهوال= يستصعب الشيخ السفر ويتوهم وجود أهوال في الطريق. وروحياً= فمن هو في شيخوخة روحية يستصعب الجهاد الروحي فلا يتمتع بخبرات روحية جديدة. اللوز يزهر= إشارة لإنتشار الشعر الأبيض فتصير الرأس كشجرة اللوز المزهرة. وهو استخدم في تشبيهه شجرة اللوز بالذات لأنها من الأشجار المبكرة في إزهارها والشيب والشيخوخة سريعاً ما سيأتون. وروحياً. يمثل هذا فقدان حيوية الشباب الروحية. والجندب يستثقل= الجندب يتخذ مثلاً لكل صغير (إش22:40). فما عاد الشيخ قادراً أن يحمل أي شئ. وروحياً. يستصعب الإنسان أي تدريب روحي لبناء النفس. والشهوة تبطل= الشيخ لا يشتهي الطعام ولا الملذات الجسدية، وفقد كل رغبة داخلية للبهجة والسرور. وروحياً. يفقد الإنسان كل شهوة وحنين للسماويات والأفراح الروحية ثم يقترب سليمان من الحقيقة المرة أن هذه الشيخوخة تعلن قرب مجيء ساعة الموت.

النادبون= هم محترفو الندب، وكانوا يسيرون وراء الجنازة ليحصلوا على أجرتهم. وها هم منتظرون بفارغ الصبر موت هذا العجوز ليندبوه ويكسبون من وراء موته.

آية (6) صورة الموت. الكوز= هو وعاء الزيت على رأس السراج، أو خزان الزيت الذي يُموِّن السراج بالزيت (الوقود). ومنه ينزل الزيت إلى السراج. والسراج يكنى عن الحياة، وإذا إنطفأ السراج يشير هذا للموت. وفي البيوت يعلق السراج وسط سقف الحجرة. وفي بيوت الأغنياء يكون السراج والكوز من الذهب ويعلقان في سقف الحجرة بحبل من الفضة. فإذا أنفصم الحبل يقع الكوز وينكسر وينطفئ نور السراج وهذا يمثل موت الإنسان، وهناك تشبيه آخر بالجرة التي يأخذون بها الماء من البئر. فكسر الجرة أو كون البكرة تنقصف (والبكرة يعلق بها الحبل الممسك بالجرة فتدلى داخل البئر) فهذا أيضاً يشير للموت فإذ ليس ماء فهذا يعني الموت.

وفي (7) فيها إيمان واضح برجوع الروح إلى الله فالإنسان ليس كالحيوان. هنا إيمان الجامعة قد تبلور وأتضح وظهرت أمامه صورة واضحة. وهذا عكس حالة البحث السابقة (21:3).

آية (8) بعد أن صارت الصورة واضحة لسليمان، فحينما يقول الكل باطل= فهو يقولها بنفس المفهوم الذي قاله بولس “إن كل الأشياء نفاية .. من أجل فضل معرفة المسيح” (في8:3). وسليمان هنا قد توصل للحقيقة الآن مثل بولس. وهو الآن ينظر للأبدية وما بعد الموت من راحة وفرح، وقد وجد أن العالم بكل ما فيه هو لا شئ بالنسبة لهذا الفرح.

 

آية(9): “بقي أن الجامعة كان حكيماً وأيضاً علم الشعب علماً ووزن وبحث وأتقن أمثالاً كثيرة.”

هدف سليمان من كتابة السفر هو إجابة السؤال “ما هو الخير لبني البشر حتى إذا فعلوه يعيشوا في سعادة حقيقية”. وهنا فسليمان ينصح من يسمعه أن يتقي الله ففي هذا فرحه، وليس في أي شئ آخر. بقى أن الجامعة كان حكيماً= كأنه يقول بعد كل ما قلته تبقى أن أقول أن من يكتب هذا كان حكيماً ليس مثله، وعالماً ليس مثله وقد اختبر كل شئ فمهما اختبرت أيها السامع لن تزيد على ما أقوله. وما أراد أن يقوله أنه ليس في العلم ولا البحث ولا في زيادة الحكمة راحة الإنسان. ومهما حصل الإنسان لن يزيد عن سليمان ومع هذا فقد ظلت الأسئلة حائرة بلا إجابة أمام سليمان، وظل لغز العالم وحكمة الله غير المعلنة في كثير من القضايا سبب تعب له.

 

آية(10): “الجامعة طلب أن يجد كلمات مسرة مكتوبة بالاستقامة كلمات حق.”

الجامعة طلب= والله أعطى له حكمة لم تكن لأحد مثله، لأنه طلب “أسألوا تعطوا” فالمهم أن نسأل ونجتهد، فمعنى طلب هنا أنه اجتهد قدر طاقته أن يعرف.

 

آية(11): “كلام الحكماء كالمناسيس وكأوتاد منغرزة أرباب الجماعات قد أعطيت من راع واحد.”

المناسيس= هي المناخس للثيران. والثور لا يفرح بالمنساس،ولكن المنساس يحركه للعمل المطلوب. وهكذا كلام الله الذي يقوله الحكماء في تعاليمهم يحرك النفس للتوبة بل يبكتها. أرباب الجماعات=هم الكهنة والرؤساء الذين هم كأوتاد، أي ثابتين والشعب يتلقى منهم الإرشاد والتدابير. هم يستنيرون بكلام الله من الكتاب المقدس وبه يرشدون الشعب. أعطيت من راعٍ واحد= فأقوال الحكماء وإرشاد أرباب الجماعات هو عمل الروح القدس فيهم. فالراعي الواحد هو الله والشعب كله هم الرعية. والله هو راعي الرعاة ومرشد المرشدين وهو مصدر كل حكمة.

ولاحظ أن كلمة الله لها فعل مختلف مع كل واحد حسب حاجته فهي كالمناسيس للخاطئ الفاتر المتراخي لتدفعه للتوبة. وهي كالأوتاد لتدعيم غير الثابت المزعزع. والكلام له قوة تحريك القلب للفاتر، أما غير الثابت المزعزع فيحتاج لنموذج يراه في قديسي كنيسته ورئاساتها (لذلك تقرأ الكنيسة السنكسار). ويأتي الشعب للكنيسة ويرى رئاسته الثابتة ويصلي الشعب والمسيح وسط شعبه هو راعي الرعاة، الراعي غير المنظور يقود الكل. ولكن الشعب يرى رعاته المنظورين كأمثلة تثبته. وهؤلاء الأرباب أو رئاسات الكنيسة هم فم الله لدى الشعب (في تعاليمهم للشعب) وفم الشعب لدى الله (في صلواتهم عن الشعب).

 

آية(12): “وبقي فمن هذا يا ابني تحذر لعمل كتب كثيرة لا نهاية والدرس الكثير تعب للجسد.”

وبقى= لم يبقى لي سوى أن أخبرك أنه لعمل كتب كثيرة لا نهاية= الكتب كثيرة، ولكنها مهما كثرت لن تحل مشكلة الإنسان. فالمعلومات الكثيرة لن تحل المشكلة ولا يجب أن نظن هذا. وهي مهما كثر علمها وعددها فهي محدودة جداً. والجامعة هنا لا يدعو للجهل. بل يفهم من قوله أنه علينا أن ندرس ونجاهد ولكن لن يحل مشكلة الإنسان سوى أن يتقي الله لأن الله سيأتي بالكل إلى الدينونة. ومن وقت سليمان حتى الآن كتبت ملايين الكتب ومازال الكثير سيكتب، ومازال الإنسان متعطشاً للمعرفة. ولم يعرف ولن يعرف سوى ما يسمح به الله. وإشباع الإنسان لن يأتي بالمعرفة الكثيرة.. فمن هذا يا ابني تحذَّر. بل الشبع سيأتي بتقوى الله. والروح القدس يعلن لمتقي الله كل شئ (1كو10:2)+(تك17:18) “هل أخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا فاعله”.

 

الآيات (13،14): “فلنسمع ختام الأمر كله اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي أن كان خيراً أو شراً.”

هنا يقدم الجامعة علاج لبطلان الحياة الزمنية، ألا وهو الإلتقاء مع الله خالق العالم ومهييء المجد الأبدي، خلال الطاعة لوصيته بخوف تقوي.

فلنسمع ختام الأمر كله= هو ختام البحث الدقيق للجامعة. وقال فلنسمع ولم يقل اسمعوا فالواعظ عليه أن يسمع لما يقوله هو أيضاً وينفذ ما يقوله. لأن هذا هو الإنسان كله= ليس مهما أن يكون غنياً أو فقيراً، عظيماً أو حقيراً، المهم أن يتقي الله. هذا هو كل عمله وكل بركته وكل واجباته وكل سعادته وكل حياته على الأرض بل في السماء أيضاً. وبهذا يجب أن يكون الإلتصاق بالله خلال التقوي هو أهتمامنا الوحيد. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة= هذا برهان على ضرورة أن تكون التقوى هي إختيارنا، وهذا ما سيحل مشكلة الإنسان. فهو عين الحكمة أن تكون أعيننا إلى يوم الدينونة وليس إلى ملذات العالم.

فاصل

سفر الجامعة: 123456789101112

تفسير سفر الجامعة: مقدمة123456789101112

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى