تفسير سفر الجامعة ٢ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثاني
بطلان مباهج العالم
“خبرته الشخصية”
في الأصحاح الأول يوضح الجامعة أنه لا يمكن للإنسان أن يشبع حتى بالمعرفة والحكمة البشرية. الآن يعلن أنه قد اختبر مباهج الحواس فلمْ يحظَ بالسعادة الحقيقية والشعور بالاكتفاء؛ كما وجَّه أيضًا قلبه نحو الغنى والجاه، فإذا به يجدهما: “باطل الأباطيل وانقباض الريح”. شعر أن قلبه محتاج إلى التحرر من هذا كله!
- بطلان السعي وراء الملذات [1-3].
- بطلان السعي وراء الثروات [4-11].
- بطلان السعي وراء الحكمة البشرية [12-19].
- بطلان السعي وراء التعب [20-23].
- التمتع بملذات الحياة العادية المعطاة من الله [24-26].
- بطلان السعي وراء الملذات:
حاول الجامعة “كوهيليث” أن يجد ضالته في اللذة المسعورة أو الإثارة الحسِّية، فانصرف إلى المباهج الجسدانية كمصدر يمكن أن يمنحه الشبع؛ فراح يغترف من ملذات الطعام الحسِّية والتي يُرمز إليها بالخمر، فكانت تعطيه لذة وقتية زائلة، وليس شبعًا دائمًا.
“قلت أنا في قلبي:
هلُمَّ امتحنك بالفرح فترى خيرًا (فتستمتع بالسعادة).
وإذا هذا أيضًا باطل.
للضحك قلت: مجنون!
وللفرح: ماذا ينفع؟!” [1-2].
ناجَى سليمان قلبه عوض أن يناقش الأمر مع الله بروح الصلاة والتقوى، قائلاً: جرِّب الضحك والأكل والشرب (الخمر) واطرد الهم وتمتع بالسعادة؛ وذلك كما قال الغني الغبى: “وأقول لنفسى: يا نفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة؛ استريحي وكُليِ واشربي وافرحي” (لو 12: 19).
كثيرون يظنون أن السعادة تكمن في حياة اللهو والحفلات والأفراح الزمنية، بما تحويه من أكل وشربوتسلية وضحك… هؤلاء لا يميزون بين الفرح الداخلي الذي يهب بشاشة دائمة وسلامًا حقيقيًا وبين ضحكات اللهو التي تنبع عن فراغ داخلي. الفرح الداخلي هو غذاء للنفس يقوتها ويُنمّيها فتتسع لتحمل في داخلها ملكوت الله المفرح، أما الفرح الزمني خارج دائرة الله فيُخدِّر الإنسان، ولا يُشبع أعماقه بل يزيده حزنًا… لذا يدعوه الحكيم مجنونًا! كثيرون يلجأون إلى المخدرات وأصدقاء السوء للهروب من مشاكلهم، فإذا بهم يرتمون في مشاكل أخطر تمس كيانهم الداخلي.
قال للضحك: “مجنون“، لأنه لا يقدر أن يحوّل قلبه إلى السعادة الحقيقية، إنما يقدم تغطية مؤقتة للحزن الداخلي والمرارة الخفية. ولعله يدعوه هكذا لأنه يحثه على الابتعاد عن الله الذي هو “الفرح الحقيقي”، إذ قيل: “يحملون الدّف والعود ويطربون بصوت المزمار؛ يقضون أيامهم بالخير، في لحظة يهبطون إلى الهاوية؛ فيقولون لله: ابعد عنا؛ وبمعرفة طرقك لا نُسر” (أى 21: 12-14).
يقول للفرح الظاهري: ماذا ينفع؟ إذ يدرك أن الضحك لا يُصلح القلب ولا ينزع عنه كآبته. لذا قيل: “يغني أغاني لقلب كئيب (مهموم)” (أم 25: 20)… كان يليق به عوض اللهو أن يلجأ إلى دموع التوبة، التي تهب فرحًا داخليًا وبشاشة صادقة، لأن الخطية تُحطم القلب وتملأه كآبة مُرة!
مع الضحك أو اللهو التجأ سليمان إلى شرب الخمر، وقد ظن أنه قادر أن يعلل جسده بالخمر بينما يلهج قلبه بالحكمة [3]، أي يشربها لكي تصير له خبرة ولكي يتحقق إن كان يمكن للخمر أن تُشبع حياته، لكنه وجد في ذلك حماقة، لأن “الخمر مستهزئة، المسكر عجَّاج raging، ومن يترنح بهما فليس بحكيم” (أم 20: 1). إنه بهذا يشبه من أراد أن يعبد الله والمال في آن واحد.
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن خطورة السعي وراء الملذات، قائلاً: [الحيوانات أرضية تجنح إلى الأرض… رأسها منحنِ نحو الأرض، وهي تنظر إلى بطنها تفتش عن الأشياء التي تلذّ لها. أما أنت أيها الإنسان فرأسك مرتفع نحو السماء، وعيناك تنظران إلى العلى، فإذا كنت تتلطخ بشهوات الجسد، وتتعبد للذَّات الجوف، وللذَّات السفلى، فأنت بهذا تقترب من الحيوانات التي لا تعقل وتتشبه بها. إنيّ أعرض عليك الاهتمام بأمر آخر يليق بك، “اطلبوا ما فوق حيث المسيح” (كو 3: 1). ارتفع فوق أعراض الدنيا الزائلة، وتعلَّم من تكوينك الجسدي، وأجعله قانونًا لحياتك. فمدينتك هي السماء، ووطنك الحقيقي هو أورشليم العليا، ومواطنيك هم الأبكار، الذين كُتبت أسماؤهم في السموات[54]].
مرة أخرى يقول: [حرص الفلاسفة والمفكرون على البحث عن غاية الإنسان على هذه الأرض. لكنهم اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، وتضاربت آراؤهم وتعددت مذاهبهم. فزعم البعض منهم أن غاية الإنسان هي العلم؛ بينما قال آخرون إنها العمل. قال البعض إن غاية الإنسان هي احتقار الجسد وإخضاعه لسيطرة العقل، وتعزيز الروح واعتبارها القوة العظمى في الإنسان، بينما قال آخرون إن غاية الإنسان في هذه الحياة إنما هي التمتع باللذّات وطيِّبات الحياة. أما نحن فالغاية التي نسعى إليها والتي نصبو للوصول إليها بكل حرص واجتهاد هي الحياة السعيدة مع الله في السماء الخالدة، ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفًا وعظمة للخليقة العاقلة[55]].
- بطلان السعي وراء الثروات:
زوَّد الجامعة نفسه بالمباهج العالمية والمباني الفخمة والعبيد والفضة والذهب والأمور الخاصة بالملوك دون سواهم، لكن لم يكن ذلك من قِبَلْ النكوص إلى الطفولة غير الملتزمة أو الهروب إليها، كما كان يفعل اليونانيون منغمسين في الملذات والانشغال بالمظاهر هربًا من المسئولية. وكما جاء في سفر الحكمة: “لأنهم قالوا في أنفسهم مفتكرين افتكارًا غير مستقيم، إن عمرنا هو يسير محزن… فهلم إذًا نتمتع بالخيرات الموجودة، ونستعمل الملذات في البرية مادام زمان شيبوبة، فنمتلئ من الخمر الفائقة والطيوب ولا يفوتنا نسيم زهر الربيع…” (حك 2: 1، 6، 7).
وإنما كانت هكذا عادة اليهود للتعبير عن القوة وذلك بإقامة ولائم ومباني فاخرة، وباختصار أن يصير سيدًا للفنون[56].
أ. اِنغمس كثيرًا في التشييد والبناء، في المدن كما في القرى، إذ يقول: “بنيت لنفسي بيوتًا” [4]. قيل عنه: “وهذا هو سبب التسخير الذي جعله الملك سليمان لبناء بيت الرب وبيته والقلعة وسور أورشليم، وحاصور ومجدو وجازر… وجميع مدن المخازن التي كانت لسليمان ومُدن المركبات ومدن الفرسان، ومرغوب سليمان الذي رغب أن يبنيه في أورشليم وفي لبنان وفي كل أرض سلطته” (1 مل 9: 15-19). لقد شيَّد مبانٍ كثيرة لكنه بدأ ببناء بين الرب، وليس كأولئك الذين قيل لهم: “هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب؟!” (حج 1: 3)… هذا وقد وظّف أيضًا العديد من فقراء العاملين لنفعهم. هذا هو الجانب الطيب من ناحية سليمان في اهتمامه بالتشييد والبناء، لكن ربما ما أفسده عمله إلى حين ظنه بأن هذه المشاريع تقدر أن تُشبع نفسه وتروي رغبته في المجد الزمني، إذ يقول: “ فعظمتُ عملي” [4].
بناء البيوت ليس خطية، لكن الخطية هي أن ننشغل ببناء بيوت لراحة أجسادنا دون أن نقدم بيتًا للرب في أعماقنا. ليستريح الرب في قلوبنا فيعطي راحة لأجسادنا أيضًا، ويلهب قلوبنا بنار الحب فتشتاق أن نرحل لنسكن معه ونستريح في أحضانه الإلهية عوض الانشغال بالعظمة الزمنية والمجد الباطل. ليسكن الرب في قلبنا كبيت خاص به، فنسكن نحن في سمواته كبيتنا الأبدي الخاص بنا، ولا يستطيع العالم كله أن يجتذبنا إليه.
v من يهرب من المجد الباطل بمعرفةٍ، يتذوق في نفسه (رجاء) الدهر الآتي[57].
v ما أن يختار الإنسان التحرر من القنية حتى ينشغل فكره بالرحيل عن العالم؛ فيجعل حياة ما بعد القيامة لهجِهِ الدائم، ويسعى نحو الاستعداد الدائم (للرحيل)، الأمر الذي هو نافع له، يبدأ يحتقر كل ما يجلب كرامة (زمنية) أو راحة جسدية، ويتغلغل هذا في أفكاره، وينتعش ذهنه دائمًا بالتفكير في احتقار العالم[58].
مار إسحق السرياني
يحثنا الآباء على بناء بيت الرب الداخلي وهيكله ومذبحه في قلوبنا:
v أهلني يا ربي يسوع المسيح أن أُساهم في بناء بيتك!…
أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة… بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه.
v ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تُقدم ذبائح الصلاة ومحرقاب الرحمة، فتُذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتُقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات…
لتعرف النفس كيف تُقيم داخل قدس أقداس قلبها منارة تضيء بغير انقطاع[59]!
العلامة أوريجينوس
ب. اهتم بزراعة بساتين: “غرست لنفسي كرومًا، عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر” [4-5].
قدم الله للإنسان الأول جنة عدن يعمل فيها، تحوي أشجارًا من كل ثمر، وتضم أيضًا شجرة الحياة… هكذا يود الله أن يشبع الجسد بكل ثمر زمني ويشبع النفس بشجرة الحياة الخالدة، لكن الإنسان اهتم بما يشبع جسده دون نفسه. لذا جاء السيِّد المسيح إلى أرضنا، وعُلق جسده على الشجرة، لعلنا نمد أيدينا ونقتطف منها ثمر الحياة. ليغرس الصليب في نفوسنا ونجني ثمر الروح القدس فينا فتتقدس نظرتنا إلى كل ثمر، ويشبع الإنسان بجسده وروحه.
يغرس مسيحنا صليبه في قلوبنا فيقيم منه فردوسًا مفرحًا، يحمل ثمر الروح القدس المبهج للسمائيين والأرضيين!
ج. أنشأ قنوات كثيرة للسقي: “عملت لنفسي برك مياه لتسقي بها المغارس المنبتة الشجر” [6].
نحن نحتاج إلى ينبوع المياه الحيَّة، أي إلى روح الله القدُّوس، الذي يسقي برِّيتنا الداخلية ويقيم منها جنة مقدسة.
د. اقتنى عبيدًا وجواري اَنجبن له ولدان بيت لخدمته [7].
هـ. اقتنى بقرًا وفضة وذهبًا وخصوصيات الملوك [7-8]. صار واسع الثراء، فقد قيل عنه: “وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة، وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة” (1 مل 10: 27).
ماذا تعني “خصوصيات الملك”؟ ما يخص الملوك أو ما ينفرد به الملوك عن سائر الأشراف والعظماء من ممتلكات أو قنية معينة.
تعبير “خصوصيات peculiar treasure” في العبرية s’qulia يعني أساسًا “قنية property“، لكنه صار مستخدمًا عمومًا للدلالة على القنية ذات القيمة العالية. دُعي شعب الله “شعب اقتناء” (خر 19: 5)، بكونه شعبًا اختاره الله ليكون نصيبه، وهو ثمين في عينيه للغاية.
اقتنى سليمان ما يخص الملوك كأمر ثمين… أما أنت فيُقدّم لك ملك الملوك ذاته لكي تقتنيه وهو يقتنيك، تصير نصيبه وهو نصيبك، فتقول: “أنا لحبيبي وحبيبي ليّ”. هذا ما يشبع أعماقك الداخلية التي خلقها الله على صورته، فلا يشبعها أحد غيره!
هذا وقد أوضح الجامعة في أكثر من موضع أن الغنى والمقتنيات ليست بالأمر الشرير، إنما يكمن الشر في فساد إرادتنا وسوء نظرتنا لها، وأيضًا انحراف هدفنا:
v كن يقظًا في استعمال ثرواتك لئلاَّ تبقى عطية الله لك بلا فائدة بين يديك.
هل عندك ذهب وفضة؟ إن أحسنت التصرف بهما كانا لك خيرًا. وإن كنت شريرًا فستُسئ التصرف بهما.
الذهب والفضة هما شرّ للأشرار، وخير للأبرار، لا لأن الذهب والفضة يجعلان الناس أبرارًا، بل، لأن الناس الأبرار يستعملونهما للخير…
أي نفع لك مما في حوزتك، حين لا تملك ذاك الذي أعطاك كل شيء؟!…
أتريد أن تحتفظ بثروتك؟ دبرها كما تُريد، إن وجدت لها حارسًا أفضل من المسيح فسلِّمه إيَّاها…
المسيح هو معك لكي يأخذ مالك ويحفظه لك؛ لن يخونك، بل سيحمل كنزك بأمانة[60].
القدِّيس أغسطينوس
في القرن الثاني كتب القدِّيس أكليمنضس الإسكندري كتابًا تحت عنوان: “من هو الغني الذي يخلص؟” يوضح فيه نظرة المسيحية إلى الغنى؛ جاء فيه:
[لا نلقي بالغني أرضًا، هذا الذي يُفيد إخوتنا…
لا يبدد الإنسان غناه،
بل بالحري يليق به أن يُحطم شهواته الداخلية التي تتعارض مع الاستخدام الصالح للغنى. فإذ يصير الإنسان فاضلاً وصالحًا يمكنه أن يستخدم هذا الغنى بطريقة صالحة.
إذن لنفهم ترك ممتلكاتنا (مر 10: 17-31) وبيعها أنه ترك وبيع لشهوات نفوسنا[61]].
و. قدم لنفسه دون جدوى كل جوٍ إباحي من مغنيين ومغنيات وسيدة وسيدات [8]… لم يحرم جسده أو قلبه من الملذات المادية أو غير المادية.
مع ما تمتع به من ثروات وملذات نال مجدًا زمنيًا وبقيت معه حكمته البشرية، إذ يقول: “فعظمت وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم وبقيت أيضًا حكمتي معي” [9].
أما الخبرة التي نالها من هذا كله فهي: “مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما، لم أمنع قلبي من كل فرح… ثم التفتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس” [10-11].
الله يُريد راحتنا وفرحنا، لكن إنهماكنا بملذات العالم وغناه كثيرًا ما يسحب قلبنا عن الراحة التي في المسيح يسوع، وتنعم شركة الأمجاد السماوية.
v عقل الإنسان الذي يهرب من راحة هذا الدهر يمعن النظر في الدهر الآتي. من تأسره القنية هو عبد لها[62].
v طوبى للإنسان الذي يُصم أذنيه عن كل المباهج التي تفصله عن خالقه، لأنه يأكل فقط طعامًا شهيًا واحدًا من مائدة العليّ، ذاك الذي تقتات منه قوات السمائيين.
طوبى لمن اتخذ من الخبز الحيّ النازل من السماء طعامًا له، ذلك الخبز الذي يُنير العالم، الذي يسند عصور العالم الجديد.
طوبى لمن كان في شرابه يرى نبع الحياة المروي، يتدفق من حضن الآب برحمته؛ فإنه حينما يشرب منه تُثبَّت عيناه عليه، ويفرح قلبه، ويزدهر من جديد، ويمتلئ فرحًا وحبورًا. من يعاين ربه في طعامه يرضى به ويتمتع بالشركة معه وحده، ولا تكون له شركة مع غير المستحقين لئلاَّ يُحرم من بهائه…
الإنسان الذي له أصدقاء بقصد ملء بطنه يشبه ذئبًا يقتات على الجيف!
يا لهول جشعك أيها الأحمق، لأنك تود أن تملأ بطنك بكل شهوة!
هذه التحذيرات كافية بالنسبة للقادرين علىالسيطرة على بطونهم[63].
v من ينشغل باهتمامات كثيرة هو عبد لكثيرين،
أما الذي يهجرها جميعًا ويهتم فقط بنفسه، فهو صديق لله![64]
v يارب، احسبني مستحقًا أن أبغض حياتي (الزمنية) لأجل الحياة التي فيك![65]
مار اسحق السرياني
يُقدم لنا آباء الكنيسة خبرتهم الروحية بخصوص التمتع بالملذات الجسدية تتلخص في ضرورة الالتزام بالطريق الوسط أو المعتدل، ويسمونه الطريق الملوكي.
v لا تملأ بطنك كثيرًا لئلاَّ يعذبك الزنا،
ولا تضعف جسدك لئلاَّ يفرح بك مبغضوك.
امسك رتبة معتدلة، وها أنت تسلك الطريق الملوكي، وبغير خوف يكون سيرك[66].
القدِّيس يوحنا سابا
يُلخص الجامعة خبرته مع الملذات العالمية، قائلاً: “فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس” [11].
v يقول الجامعة: “باطل الأباطيل، الكل باطل”. لكن إن كانت الخليقة كلها صالحة بكونها من صنع يدي الخالق الصالح، فكيف يمكن أن يكون الكل باطلاً؟ إن كانت الأرض باطلة، فهل السموات أيضًا باطلة؟… وأيضًا الملائكة والعروش والسلاطين والقوات وباقي الطغمات؟ كلاَّ! إن كانت الأشياء التي هي صالحة في ذاتها بكونها خليقة الخالق الصالح قد دُعيت باطلة، إنما بمقارنتها بما هو أسمى منها وأعظم. فمثلاً إذا قورن السراج بالمصباح حُسب أقل منه، أما إذا قورن المصباح بالنجم فلا يعطي ضوءًا على الإطلاق. وإذا سطع نجم فإنه أمام القمر يبهت، والقمر أمام الشمس يبدو غير ساطع، وإذا قورنت الشمس بالمسيح حُسبت ظلامًا. هكذا يقول الله: “أهيه (أنا هو) الذي أهيه”، إذا قورنت كل المخلوقات به حسبت غير موجودة[67].
القدِّيس جيروم
يختم الكاتب حديثه عن الملذات الحسِّية بقوله: “ولا منفعة تحت الشمس” [11]. كأنه يقول: من يحملني إلى ما فوق الشمس؟ من يرفعني إلى ما فوق الزمن؟ إنيّ محتاج إلى السيِّد المسيح، شمس البر، وحكمة الله.
بهذا ينتقل من الملذات الحسِّية غير المشبعة إلى الحديث عن الحكمة الزمنية التي وإن كانت أفضل من الجهالة أو الحماقة، لكنها لا تقدر أن تُشبع النفس كحكمة الله!
- بطلان السعي وراء الحكمة البشرية:
يعقد الكاتب مقارنة بين الحكمة والجهل، مقدمًا خبرته التالية:
أ. “رأيت أن للحكمة منفعة أكثر من الجهل، كما أن للنور منفعة أكثر من الظلمة” [13]. لا يتجاهل الجامعة الحكمة الطبيعية ولا الحكمة الصادرة عن الخبرات البشرية، مشبهًا الحكمة بالنور والجهل بالظلمة. الحكمة نافعة لكنها غير مشبعة، أما السيِّد المسيح فهو حكمة الله السماوي نافع ومشبع، أنه النور الذي يُضيء لكل إنسان آت إلى العالم، مبددًا ظلمة فسادنا، ومقدمًا نفسه لنا حكمة وبرًا وقداسة وفداءً (1 كو 1: 30).
يرى القدِّيس يوحنا الذهبى الفم أن الحكمة نافعة حتى بالنسبة للإنسان الفقير، لأنها تهبه النور فلا يعيش في الظلام، أما الجهالة فتحطم الغني الذي بطمعه وحبه للمال يعيش في الظلمة التي لا تسمح له برؤية الأمور كما ينبغي. من يقف في مكان مظلم لا يرى ما حوله، حتى وإن كان وعاءً من الذهب أو حجرًا كريمًا أو ثيابًا غالية… إنما يُحسب هذه كلها كلا شيء، لا يُقدّر قيمتها، ولا ينظر جمالها، هكذا لا يدرك الطماع قيمة الأمور الجديرة باهتمامنا[68].
لننعم بالسيِّد المسيح “الحكمة” الحقَّة فنستنير بروحه القدُّوس واهب الحب والفرح والسلام… ولنترك الجهالة لئلاَّ نهتم بالتراب ولا نبالي بالسماء! الجهالة ظلمة تُفسد نظرتنا نحو الله وملكوته بل ونحو أنفسها وإخوتنا كما نحو العالم وكل ما فيه!
v شتّان ما يفصل بين الحكمة والحماقة؛ إنهما يختلفان كاختلاف النهار والليل.
الذي يختار الفضيلة يشبه من يرى الأمور كلها بمنتهى الوضوح، كمن ينظر إلى فوق، ويسلك سبله في سطوع النور. أما ذاك الذي من جهة أخرى قد انخرط في الشر فيشبه شخصًا يتجوّل بلا هدف في ليلة غير قمرية، يسلك كأعمى، محروم من رؤية الأشياء، كمن هو في الظلام. وحينما أتأمل في نهاية تلك النماذج من الحياة لا أجد نفعًا في الأخير. وإذ أرافق الأحمق، أتلقى أجرة الحماقة، لأنه ما هو نفع تلك الأفكار، وما فائدة هذا الكم من الكلمات التي ينطق بها الأحمق، فإنها – إن جاز التعبير – نابعة عن فيض الحماقة؟!
أيضًا لا يوجد شيء مشترك بين الحكيم والأحمق، لا فيما يخص ذكرى الإنسان أو مجازاة الله لهما… الحكيم لا يُشارك الأحمق نهايته مطلقًا. لهذا كرهت حياتي كلها، تلك التي استهلكتها الأباطيل، والتي قضيتها بذهن مثقل بالهموم الأرضية[69].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن أهمية الحكمة البشرية والفلسفة والعلوم دون مبالغة أو تجاهل للحكمة الإلهية:
v في ظني أن كل إنسان عاقل يفكر بأن العلم هو الأمر الرئيسي بين كل ما هو حسن وفي منال عقولنا. ولا أقول بأن علومنا هي وحدها عالية ونبيلة، لأنها تحتقر أناقة الخارج لتتعلق بجمال الأفكار، وإنما أيضًا العلم الذي من الخارج، الذي يرفضه كثير من المسيحيين القليلي التقدير ويعتبرونه خادعًا وخطرًا يبعدنا عن الله… فمن هذا علينا أن نحتفظ بما يمكنه أن يُساعدنا على التأمل في الحق، متجنبين كل ما يؤدي إلى الشر والخطأ والهلاك.
v علينا أن نبتدئ بقراءة الفكر الدنيوي لنرتفع بعده إلى المقدسات وأسرار الإيمان… فإذا كان هناك منموافقة بين هذه الثقافة وعقائدنا، كانت معرفتها من الإفادة بمكان كبير، وإلاَّ فالمقارنة في الحالة العكسية من شأنها أن تثبت اعتقاداتنا الصحيحة.
v يهمنا جدًا ألاَّ ننكب بجهل على العلوم، وإنما أن نعرف ما هو الأفيد منها… وخوفًا من أن نتعلق بها وننسى علم الله منغمسين في أبحاث باطلة، يبين ضرورة التمييز في التربية بطريقة نختار فيها العلم المفيد ونتجنب كل ما هو ضار وشؤم[70].
القدِّيس باسيليوس الكبير
ب. يربط الجامعة بين الحكمة والبر، وبين الجهالة والشر، إذ يقول: “الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام” [14]. الإنسان الروحي هو الحكيم الذي يركز عينيه على السيِّد المسيح بكونه رأس الكنيسة، يتطلع إليه في كل أموره الزمنية والروحية، لأن العينين تُشيران إلى التطلع إلى الحياة الزمنية (العين اليسرى) والأبدية (العين اليمنى). يرى الإنسان الروحي الحكيم أن السيِّد المسيح هو مركز حياته الحاضرة والأبدية، أما الجاهل فيسلك في الظلمة، أي في دائرة الخطية خارج المسيح شمس البر.
v “الحكيم عيناه في رأسه”؛ في أي رأس؟ كل إنسان – حتى البليد والأحمق – عيناه في رأسه الجسدية، أما الحكيم فله عينان (هاتان اللتان تحدثت عنهما توًا، واللتان استنارتا بوصايا الرب) في رأسه، أي في المسيح، لأن “المسيح رأس الرجل” كما يقول الرسول.
المسيح هو العامل في فكرنا[71].
العلامة أوريجينوس
الحكيم عيناه في رأسه، أي في السيِّد المسيح السماوي، لهذا يرتفع قلبه أيضًا إلى السماء ويبلغ القمة، ولا يبقى في وحل هذا العالم وترابه. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [يكون القلب بالأكثر فوق القمة، لأن عينيّ الحكيم في رأسه[72]].
ويرى مار اسحق السرياني أن هذا يتحقق بالتمتع بالحكمة المكنوزة في كلمات الكتاب المقدس، فإنه إذ يكون الحكيم دائم التطلع في المسيح الرأس، أي في الكلمة السماوي، يرتفع قلبه إلى معاينة السمويات.
v حينما تنغمس أفكار إنسان ما بالكامل في بهجة السعي وراء الحكمة المكنوزة في كلمات الكتاب المقدس بإرادته التي تُكتسب خلال الاستنارة منها، يضع العالم خلف ظهره وينسى كل ما فيه، ويمحو من نفسه كل ذكريات تجسّم له العالم. بل أنه كثيرًا ما يبدأ في تناسي الأفكار العادية النابعة عن خواطر الطبيعة البشرية، وتبقى نفسه في حالة دهش (رؤيا إلهية ecstasy) بسبب ما تتفاعل فيه من خواطر جديدة تنشأ عن بحر أسرار الكتاب المقدس[73].
مار اسحق السرياني
ج. بالنسبة للحكمة البشرية فإنها عاجزة عن أن ترفع الإنسان إلى التمتع بالحياة الأبدية، أو تجدد طبيعته الفاسدة، فمع نفعها لا تختلف عن الجهالة، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لا تحملنا الحكمة الزمنية إلى ما فوق الزمن، لذلك كما يخضع الجاهل للموت هكذا تنتهي حياة الحكيم بالموت.
“وعرفت أنا أيضًا أن حادثة واحدة تحدث لكليهما؛
فقلت في قلبي:
كما يحدث للجاهل كذلك يحدث ليّ أنا.
فلماذا أنا أوفر حكمة؟
فقلت في قلبي:
هذا أيضًا باطل…
كيف يموت الحكيم كالجاهل؟!” [14-16].
إن كانت الحكمة الزمنية نافعة كالنور لكنها عاجزة، لا تقدر أن تواجه الموت أو تتحداه! بالحكمة البشرية والعلم تقدم الإنسان وأشبع الكثير من احتياجاته وإن كان قد ازداد عطشه بالأكثر إلى تطلعات جديدة، أما ما يعجز عنه العلم فهو الغلبة على الموت. بالمسيح يسوع وحده، حكمة الله، أستطيع مواجهة الموت، مترنمًا:
“آخر عدو يبطل هو الموت…
أُبتلع الموت إلى غلبة.
أين شوكتك يا موت؟
أين غلبتك ياهاوية؟…
شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح!” (1 كو 15: 26، 54-57).
ب. تعطي الحكمة الزمنية للإنسان مجدًا زمنيًا وشهرة قد تبلغ أقاصي الأرض، فيظن الإنسان نفسه مخلدًا على الأرض، أو أن اسمه لن يُمحى من بين بني البشر… لكن تعبر الأيام ويُنسى الحكيم كالجاهل تمامًا. “لأنه ليس ذِكر للحكيم ولا للجاهل إلى الأبد. كما منذ زمان كذا الأيام الآتية الكل يُنسى” [16]. نتطلع إلى الزمان الماضي كأمر قد أنتهى، وها هي الأيام القادمة ستتطلع إلى عصرنا كزمان قديم قد نُسيَ!
من يربط نفسه بعجلة الزمن الذي يدور معها إلى أعلى وإلى أسفل، ويبقى في تغير مستمر، ثم ينتهي ذكره مع الزمن، أما من يربط حياته بحياة المسيح الأبدي فتصير حياته مصاعد دائمة، وينعم بقوة فوق قوة، ونعمة عوضًا عن نعمة، وتزيده الأيام بهاءً، ويتجلى مجده في يوم الرب العظيم، ولا يُنسى قط!
ج. ربما لا يُبالي الحكيم بحياته ولا بذكراه، حاسبًا أن ما يجمعه بخبرته ومهارته وحكمته يبقى لورثته… لكنه لا يعرف ماذا يفعلون بما اقتناه هو بجهاده وتعبه. لذا يقول: “فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس حيث اتركه للإنسان الذي يكون بعدى. ومن يعلم هل يكون حكيمًا أم جاهلاً؟! ويستولى على كل تعبي الذي تعبت فيه، وأظهرت فيه حكمتي تحت الشمس. هذا أيضًا باطل:[18-19].
لا يعلم الحكيم ماذا يفعل ورثته بما اقتناه، أما من يرتبط بالحكمة السماوية فهو يورثهم البركة التي لا تضيع. ماذا ورَّث زكريا الكاهن واليصابات القدِّيس يوحنا المعمدان؟ صلواتهما الدائمة المقدسة وبرِّهما في الرب… فكانت حياتهما سندًا له وهو في البرية محروم من رعايتهما المنظورة!
قدمت لنا الأجيال السابقة وديعة التقليد الحيّ، أي الإيمان العملي بالثالوث القدُّوس، وخبرة الحياة الإنجيلية الصادقة ميراثًا لنا نعيشه تحت كل الظروف، كنزًا لا يُقدر بثمن! ونحن أيضًا يلزمنا أن نعيش ذات التقليد الحيّ الإنجيلي لنسلمه ميراثًا للأجيال القادمة، سرّ بركة للكثيرين! قد تضيع مشاريع الكنيسة أو ممتلكاتها الزمنية لكن إيمانها هو رصيدها الحيّ، الميراث العملي الذي تتلقَّفه الأجيال ميراثًا لها!
إذ لا يعرف الإنسان ما سيحل به في المستقبل أو ما سيفعله ورثته بتعبه، يعيش أيامه في غم وأحزان، وفي الليل لا يستريح قلبه [23]، أما من انشغل باللؤلؤة الكثيرة الثمن، بالسيِّد المسيح نفسه، فلا يخشى المستقبل كأنه مجهول! الأول يدخل لا شعوريًا إلى حالة من اليأس فيقول: “فكرهت الحياة… فكرهت كل تعب” [17-18]، أما الثاني فبرجاء مفرح يقول: “ليّ الحياة هي المسيح والموت هو ربح”.
- بطلان السعي وراء التعب:
يكره الحكيم الحياة بل ويكره التعب [17-18]، إذ يراه بلا قيمة… يتعب ليجمع ثمارًا تقع في قبضة آخر، ربما يكون أحمقًا ولا مبالٍ أو في يد إنسان لا يفعل ما يستحق أن ينال تلك الثروة…
“فانثنيت على قلبي يائسًا من كل التعب الذي تعبت فيه تحت الشمس” [20].
من يرتبط بالحكمة الزمنية يُعاني من اليأس والبؤس، أما من يرتبط بالحكمة الإلهية فينعم بالرجاء السماوي المفرح.
v الإنسان الصالح الذي ينال حكمة من الله يتمتع أيضًا بفرح سماوي، ومن جهة أخرى فإن الإنسان الشرير المضروب بالأمراض التي يسمح بها الله له، والمنغمس في مرض الشهوة، هذا الذي يتعب لأجل المزيد، سرعان ما يخزيه من كرَّمه الله… إذ يفضل الشرير العطايا غير النافعة ويسعى وراء الخداع والبُطل بنفسه البائسة[74].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
الإنسان الحكيم لا ينشغل بما يحيط بنفسه (اهتمامات الجسد) ولا بما يخصه من صحة وجمال ولذة، إنما يهتم بنفسه ذاتها فهي أفضل من كل شيء. يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [انتبه لنفسك (تث 15: 9) فهي الكنز الثمين والخير الأعظم، وهي تستحق أن توليها أشدّ الاهتمام… فلا تهتم بالجسد ولا بما هو مرتبط بالجسد كالصحة والجمال، واللذة والعمر المديد. وكذلك لا تُعير اهتمامًا كبيرًا بالغنى والمجد والسلطان، وكل ما هو مرتبط بالحياة الأرضية. لكن اهتم بنفسك فوق كل شيء… زيّنها بالفضائل، نَقّها من الخطية، وجمّلها بزينة الفضيلة التي هي أجمل زينة[75]].
- تمتع بملذات الحياة العادية المعطاة من الله:
لئلاَّ يُظن أن الكاتب يدفعنا نحو اليأس أو يشوّه صورة العالم والجسد اللذين خلقهما الله من أجلنا، إنه يُقدم لنا نصيحة عملية وهي أن نقبل الظروف التي نعيش فيها وأن نتمتع بالحياة قدر المستطاع، متطلعين إلى كل شيء حتى الأكل والشرب والقدرة على العمل والتعب كعطية إلهية، بكون الله قد وهبنا هذه الحياة وهو الذي خطط لها كما هي عليه.
“ليس للإنسان خير من أن يأكل ويشرب ويُرى (يذيق) نفسه خيرًا في تعبه
ورأيت هذا أيضًا أنه من يدّ الله” [24].
إنه لا يقول لنأكل ونشرب فإننا غدًا نموت كما قال الرواقيون محبو اللذات، وإنما لنأكل ونشرب ونعمل شاكرين الله الذي يهبنا كل شيء حتى إمكانية الأكل والشرب والعمل.
إنه لا يدفعنا إلى “التهرب escapism“، أي الهروب من المسئوليات ومن المتاعب الواقعية بالاستغراق في الملذات وحياة اللهو والخيال كإدمان المخدرات، وإنما يحثنا على ممارسة الحياة الواقعية شاكرين الله.
يرى القدِّيس أغسطينوس[76] أن الجامعة يدعونا إلى شركة مائدة الأفخارستيا التي أسسها السيِّد المسيح بجسده ودمه المبذولين، بكونه وسيط العهد الجديد والكاهن على رتبة ملكى صادق، فنأكل ونشرب بروح الشكر.
يمكننا القول بأن الجامعة في هذا الأصحاح وهو يؤكد بطلان الملذات الزمنية يدعونا إلى الخروج من العالم، لا خروجًا بالجسد، وإنما بالقلب، لكي لا نرتبك بهمومه ولا نُمتص بملذاته، إنما نرحل إلى الدهر الآتي بشكر وفرح.
v ما من أحد يقترب إلى الله، سوى الذي فصل نفسه عن العالم، لكنني لا أقصد بالانفصال الرحيل عن الجسد بل الرحيل عن (الارتباك) بشئون العالم[77].
v مبارك الذي لم يفقد سيرته في هذا العالم الباطل، وعلى هذا البحر العظيم!
طوبى للإنسان الذي لم تتحطم سفينته، والذي بلغ الميناء بفرح[78].
مار اسحق السرياني
دعوته لنا بالتمتع بالمسرات الخاصة بالحياة العادية المعطاة من الله تؤكد نظرة الجامعة إلى الخليقة أنها صالحة، وإن بطلانها يتوقف على سوء نظرتنا أو سوء استخدامنا لها.
v الثروة الجامدة لا تفيد، ولكنها تصبح خصبة ومثمرة إذا ما نُظِّم استعمالها[79].
v الخلائق ليست رديئة من طبعها، فلو كانت رديئة لما خلقها الله، إذ أن كل خليقة الله حسنة كما قال الرسول بولس (1 تي 4: 4)، ثم أن وصيته لا تأمر بأن نرذل الخيرات ونهرب منها، بل أن نحسن تدبيرها، ولا يُدان أحد لامتلاكه أموالاً، بل لافتخاره بها، أو لأجل سوء استعماله لها[80].
القدِّيس باسيليوس الكبير
حديث الجامعة هنا بمثابة دعوة إلى حياة العمل بفرح، إذ يقول:
“ليس للإنسان خير من أن… يرى نفسه خيرًا في تعبه؛
رأيت هذا أيضًا أنه من يد الله” [24].
إن كنا نشكر الله على ما وهبنا من طعام وشراب، فإننا نشكره لأنه وهبنا أن نتعب عاملين بلذة وفرح، نعمل ليس فقط في الحياة التعبدية، وإنما في حياتنا اليومية العادية. وللقدِّيس باسيليوس الكبير أحاديث شيِّقة عن “العمل” حتى بالنسبة للرهبان[81].
v بما أن ربنا يسوع المسيح قال: “الفاعل مستحق أجرته” (مت 10: 10)؛ وليس كل واحدٍ على الاطلاق وكيفما اتفق، وأمر الرسول أن نتعب ونعمل بأيدينا ما هو صالح لكي يكون لنا ما نُشرك به المحتاج (أف 4: 28)، فيتضح من ثمّ أنه يجب علينا أن نعمل باجتهاد، لأنه لا يسوغ لنا أن نتّخذ العبادة حجة للبطالة والهرب من النَّصَب…
وبما أن البعض يستنكف من العمل بحجة الصلوات وترنم المزامير، فعلى مثل هؤلاء أن يعلموا أن لكل شيء وقتًا خاصًا به كما قال الجامعة: “لكل أمر أوان” (3: 1).
v إن النهي عن الاهتمام الزائد بحاجات جسدنا لا ينفي الاهتمام والعمل مطلقًا. فقد بقي علينا “أن نعمل لنفُسنا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي للحياة الأبدية” (يو 6: 27). وسيقول لنا الرب في يوم الدين: “جُعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني” (مت 25: 35…) وبعكس ذلك سيُعاقب الذين لم يعملوا ولم يتعبوا ليساعدوا الضعفاء وليخدموا القريب (أع 20: 4)، ويرسلهم إلى العذاب (مت 25: 21). فالعمل إذن انطلاقًا من هذا المفهوم ينظِّم بأحسن طريقة العلاقات المجتمعية، ويضفي عليها جوًا من التعاضد والانسجام[82].
v يلزم على كل أحد أن ينتبه لعمله الخصوصي ويهتم به برغبة ويتممه من دون ملامة بغيرة ونشاط وعناية وسهر لئلاَّ يستحق اللعنة، إذ قيل: “ملعون من عمِل عمل الرب باسترخاء” (إر 48: 10)…
خير لنا أن نباشر عملاً واحدًا بضبط وإحكام من أن نقوم بأعمال كثيرة بدون إتقان. لأن التشتت بين أشغال كثيرة والتنقّل بين الأمور بحيث لا يُقضى منها شيء دليل على خفة متأصّلة في الطبع أو مدعاةً لتولّد تلك الخفة[83].
القدِّيس باسيليوس الكبير
سفر الجامعة: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12
تفسير سفر الجامعة: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12