تفسير سفر إرميا ١٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن عشر
مثل الفخاري
بأمرٍ إلهي نزل إرميا النبي إلى وادٍ منخفض ليلتقي هناك بفخاري، لكي يعلن للشعب كيف أن حياتهم في يد فخاري سماوي حكيم، قادر أن يُخرج من الطين إناءً للكرامة، حتى إن أدب إنما لكي يقبلوا من يده الخالقة إمكانية تجديدهم، كما يعمل الفخاري بالطين فيظهر منه عجبًا.
عوض التجاوب مع إرميا فكروا جديًا في الخلاص منه كي لا يسمعوا بعد كلمة توبيخ.
- إرميا والفخاري المحب[1-6].
- الفخاري المؤدب [7-17].
- الرغبة في الخلاص من إرميا[18-23].
- إرميا والفخاري المحب:
ُتعتبر مصانع الفخار من الملامح الرئيسية في العالم القديم، إذ كانت الأواني الفخارية أساسية في الحياة اليومية، لهذا نجد علماء الآثار مدينين للأواني الفخارية المكتشفة بلا حصر في التعرف على ثقافات المدن القديمة وتاريخها.
كان صانعوا الأواني الفخارية معروفين لدى الشعب قديمًا وكانوا من بين الذين أقاموا هناك مع الملك لشغله حيث نقرأ “هؤلاء هم الخزافون وسكان نتاعيم وجديرة أقاموا هناك مع الملك لشغله” (1 أي 4: 23)، فقد كان الخزَّافون تحت الحماية والعطف الملكي. وفي (مز 2: 9) يُشبه المسيح بالفخاري الذي يحطم الإناء الفاسد ويكسره قطعًا قطعًا. وفي نبوة إشعياء يشبه الله بالفخاري وما نحن إلاّ الطين بين يديه، فيقول “والآن يارب أنت أبونا نحن الطين وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك” (إش 64: 8). والرسول بولس يستعمل الصورة عينها (رو 9: 21) التي يستحضرها إرميا أمامنا في هذا الأصحاح.
“الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً:
“قم انزل إلى بيت الفخاري،
وهناك أُسمعك كلامي” [1-2].
قم انزل
بدأ حديثه بقوله: “قم انزل“. هذا يحمل معنى أن الأمر عاجل ويحتاج إلى سرعة: “قم“. ومن الجانب الرمزي أو الروحي فإنه لا يستطيع إنسان ما أن يدرك معاملات الله مع البشر، خاصة شعبه، ما لم يختبر القيامة مع المسيح، أو الحياة الجديدة المُقامة، كخبرة يومية معاشة. وكما يقول الرسول: “قم من الأموات، فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14). خلال التمتع بالقيامة نرى كيف يحول الفخاري طينتنا إلى إناءٍ سماوي حيّ مكرم، شريك مع المسيح في المجد.
بينما يطلب منه أن يقوم إذ به يسأله أن ينزل، ربما لأن مصانع الفخار غالبًا ما ُتقام في الوديان والحقول المنخفضة حيث توجد التربة والطين لعمل الأواني الفخارية.
لنقم فيرتفع قلبنا إلى السماء، لكن لا بروح التشامخ والتعالي، إنما ننزل مع مسيحنا إلى الصفوف الأخيرة، فنراه بروح الاتضاع يعمل وسط الخطاة، ليمكثوا معه أبديًا، يحملهم بالحب على كتفيه وينطلق بهم إلى حضن أبيه.
ما أروع كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم الذي يحدثنا بخبرته الروحية عن العمل وسط الخطاة، أنه يجب علينا ألا نتحدث كما من على كرسي المعلم البار، إنما بالحب ننحني بظهورنا، ونمسك بالساقطين بعد أن نكون قد ثبّتنا قدمينا تمامًا، حتى نرتفع بروح الرب بهم دون أن ننهار ونسقط معهم في الوحل، أو ننطرح معهم أرضًا.
مسيحنا نزل إلى وادينا، وادي الموت، وأكل مع العشارين والخطاة، وبحبه قدسهم، لا ليحملهم إلى سمواته فحسب، إنما ليقيم منهم صيادين ماهرين يصطادون النفوس إلى مجده السماوي!
نقرأ عن ربنا يسوع أنه النازل من السماء، تلك الحقيقة التي تتكرر في إنجيل يوحنا الأصحاح السادس سبع مرات وفي ذلك كمال الاتضاع لمن قيل عنه “الذي مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به” (عب 5: 8).
والنزول بحسب فكر الرب معناه الاتضاع تحت يد الله القوية، وإن لم نتضع لابد أن ننحدر منزلقين.
للعلامة أوريجينوس تعليق جميل على “النزول”:
[لنرى من خلال الكتاب المقدس نفسه ماذا قيل بخصوص وعاء الفخار الذي بين يدي الفخاري، وكيف أن النبوة نفسها تقدم لنا نقطة انطلاق لا يمكن إغفالها في تفسير قصة الأشياء التي بين يدي الفخاري. “الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً: قم انزل إلى بيت الفخاري” [2].
كان إرميا فوق، لقد صعد أعلى من آنية الفخار. كانت آنية الفخار أسفل، أيضًا الطبيعة التي تتحكم وتدير هذه الآنية وُجدت أسفل، ذلك بتنازلها من أجل الآنية التي تديرها. لهذا فإن “الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب هو: قم أنزل إلى بيت الفخاري وهناك أُسمعك كلامي”. أما موسى فقيل له: “اصعد إلى الجبل واستمع“، لأن كل من يسمع كلمة الله، يستمع إما إلى معلومات عن الأمور العليا السماوية وبالتالي يلزمه أن يرتفع بأفكاره إلى السماء ليتأمل فيها أو يستمع إلى تعليمات من الرب بخصوص أمور أرضية وبالتالي يلزمه أن ينزل بأفكاره إلى أسفل ليراها.
أستعين بمثال من الكتاب المقدس حتى يمكن للجميع أن يتابعوني على قدر استطاعتهم: “لكي يجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب“ (في 2: 10-11).
توجد حكمة تناسب السمائيين، وهي معرفة الطريقة التي بها تُقسم الكائنات السمائية، وحكمة تناسب الكائنات الموجودة تحت الأرض؛ وأخرى تناسب الكائنات الأرضية. فإن أردت أن أفهم الحكمة التي تناسب السمائيين، يجب عليّ أن أصعد إلى قمة الجبل كما فعل موسى، حتى تكون الكلمات الآتية إلى من السماء مفهومة، كما يلزمني أن أعارف الليتورجيات السمائية، لأنه يوجد ظل وصورة للأسرار السماوية في الشريعة التي تسلمناها، وقد أوضح لنا ذلك بولس الرسول حين قال: “الذين يخدمون شبه السماويات وظلها كما أوحى إلى موسى” (عب 8: 5).
إن كان يجب عليّ أن أصعد لكي أتعلم الأمور السماوية، كذلك أنزل لكي أتعلم الأمور الموجودة تحت الأرض حتى إن كنت نبيًا. ربما لهذا السبب أيضًا نزل صموئيل النبي إلى الهاوية (إلى تحت الأرض)، ليس بسبب حُكم وقع عليه، إنما لينظر ويتعلم الأسرار الموجودة تحت الأرض (1 صم 28: 13).
يمكننا كذلك أن نجد شيئًا مماثلاً لهذا في قول بولس الرسول بالنسبة للحكمة حينما يميز بين درجاتها، قائلاً: “حتى تستطيعوا أن تدركوا مع الجميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو” (أف 3: 18). إذا كُلفت من قبل الله بمعرفة الطول فعليك أن تصعد بعقلك إلى الطول؛ وإذا كُلفت بمعرفة العمق تنزل بعقلك إلى العمق. العقل الذي يستطيع أن يتبع الابن الكلمة يمكنه أن يفعل كل شيء طالما يقوده الرب ويعلِّمه كل شيء، ويتبعه إذا استطاع أن يترك العالم ويحمل صليبه، قائلاً: “قد صُلب العالم لي وأنا للعالم”.
إذًا، من بين الذين يسمعون يوجد أناس يصعدون ليتعلموا، لكنهم لا يصعدون بطريقة جسدية؛ ويوجد آخرون ينزلون لكنهم مع هذا يحتفظون بنفوسهم عالية مرتفعة.
ربنا ومخلصنا يسوع المسيح نفسه قد صعد ونزل، لأن “الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات” (أف 4: 10). إذن إن كان عليك أنت أيضًا أن تفهم الابن الكلمة الذي يعلم الأمور السماوية والذي صعد إلى العلاء، وأن تفهم الابن الكلمة الذي يعلم الأمور الأرضية والذي نزل إلى أسفل، إذًا “لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليُحْدِر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية أي لُيصعد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول (الكتاب)؟ الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك” (رو 10: 6-8).
يمكنك بواسطة الابن الكلمة أن تصعد إلى السماء أو أن تنزل إلى أسفل طالما أن “الكلمة قريبة منك”. لأنه ماذا يمكن أن يوجد في داخل الإنسان البار إلا “كلمة الله” الذي يملأ الكل؟ فإنه بالفعل “ملكوت الله في داخلكم”[397]].
ما هو “بيت الفخاري”؟
سأله أن يذهب إلى “بيت الفخاري” [2]. ما هو هذا البيت إلا كنيسة المسيح، بيته المقدس، المُقام في وادي هذا العالم، لا كمحكمة تدين الخطاة، وإنما كبيت فخاري يحول الطين إلى أوانٍ مكرمة، أو كما يقول البابا أثناسيوس الرسولي عن الكنيسة إنها مستشفى لا محكمة، تضم المرضى، لا ليستعذبوا المرض أو يستسلموا له، بل ليشفوا منه.
يرى البعض أن الكلمة العبرية لـ “فخاري” تعنى “المُشَكِل” أو “الجابِل”، تُستخدم للتعبير عن إمكانية الله الخالق كما في (تك 2: 7-8؛ مز 94: 9)، وكما جاء في إشعياء: “يا لتحريفكم! هل يُحسب الجابل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني؟! أو تقول الجبلة عن جابلها لم يفهم؟!” (إش 29: 16).
الإناء الفخاري قبل حرقه والإناء الخزفي
يقول العلامة أوريجينوس:
[توجد وصيتان متتاليتان لإرميا: الأولى تختص بالإناء المصنوع من الفخار الخام، والذي يكون قابلاً للإصلاح وإعادة التشكيل عندما يُكسر، ذلك لأنه يمكن أن يصير عجينة لينة مرة أخرى في يد الفخاري. والثانية تختص بالإناء الفخاري المصنوع من الخزف، الذي إذا انكسر لا يكون قابلاً للعلاج أو الإصلاح، لأنه جاز في النار وأصبح صلبًا غير قابلٍ لإعادة التشكيل مرة أخرى.
طالما الفخار طينًا خامًا يكون قابلاً لإعادة التشكيل، لكن بمجرد دخوله النار يصبح صلبًا إذا انكسر لا يمكن علاجه. ماذا يعني ذلك؟ نفهم هذا بصورة عامة أولاً، ثم إذا سمح الرب نفهمه بالتفصيل.
طالما نحن في هذه الحياة، نُعتبر آنية من الفخار الخام، إما أن نكون مصنوعين من الرذيلة أو الفضيلة. علىأي الأحوال يُمكن أن تُكسَر رذائلنا لتصير فضائل جديدة، كما أن تقدُمنا في الفضيلة يكون قابلاً للرجوع والتقهقر إلى الوراء. لكن حينما نعبر الزمن الحاضر ونصل إلى الحياة الأخرى، نجوز في النار، سواء نار سهام الشرير المشتعلة أو في النار الإلهية بما أن إلهنا نار آكلة، وفي كِلتي الحالتين سواء كُنّا أشرارًا أو صالحين، فإنه بعد كسْرِنا (موتنا) لن يمكن إعادة تشكيلنا ولن نكون قابلين للإصلاح.
هكذا ما دمنا في هذه الحياة كأننا في يد الفخاري: إذا سقط الإناء من يديه يمكنه أن يعالجه ويصلحه. فلنتب عن خطايانا التي فعلناها بالجسد، ولنرجع إلى الله بكل قلوبنا الآن، لكي يمنحنا النجاة والخلاص، طالما عندنا فرصة للتوبة، لأنه بعد خروجنا من العالم لن نتمكن من الاعتراف بخطايانا وتقديم توبة عنها.
هذا ما نستطيع أن نقوله بأسلوبٍ سريع ومجمل قبل أن نفحص بالتدقيق هذا النص الخاص بالنوعين من الآنية الفخارية، إحداهما إناء خام والآخر إناء صلب[398]].
في بيت الفخاري
يقول إرميا النبي:
“فنزلت إلى بيت الفخاري،
وإذا هو يصنع عملاً على الدولاب.
ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري،
فعاد وعمله وعاءً آخر كما حسُن في عيني الفخاري أن يصنعه.
فصار إلى كلام الرب قائلاً:
أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا ببيت إسرائيل؟ يقول الرب؟
هوذا كالطين بيد الفخاري أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل” [3-6].
واضح هنا أن إرميا قد دُعي ليقدم رسالة رجاء للشعب، فيدركوا إمكانياتهم الحقيقية كطين في يد خالقٍ حكيمٍ قدير. يؤكد الله لهم أنه موجود ومحب، قادر أن يشكلهم من جديد، إن أرادوا.
ر أي إرميا النبي الفخاري بجوار الدولاب، يحرك بقدميه قرصًا حجريًا دائريًا من أسفل، فتتحرك معه عجلة خشبية من أعلى، وقد بدأت أصابعه تلعب في الطين ليُخرج الإناء كما في ذهنه، بالشكل الذي يريده له. وكما جاء في ابن سيراخ (38: 29) “هكذا أيضًا يجلس الفخاري في عمله، ويحرك العجلة بقدميه”. ويؤكد أيوب البار سلطان الله على الإنسان، قائلاً: “يذهب بالمشيرين أسرى ويُحمِّق القضاة؛ يحل مناطق الملوك ويشدّ أحقائهم بوثاقٍ؛ يذهب بالكهنة أسرى ويقلب الأقوياء… يُكثر الأمم ثم يبيدها؛ يُوسع للأمم ثم يُجليها”) أي 12: 17-23).
بلا شك استرعى انتباه إرميا النبي الآتي:
أ. بقوله: “وإذا هو يصنع عملاً على الدولاب” [3]، أوضح أن الفخاري لا يلهو بالطين أو يلعب به، إنما يعمل في جدية عملاً هادفًا. هكذا حياتنا في يدي الله – الفخاري السماوي – موضع اهتمامه، يعمل في جدية خلال الأفراح والضيقات، بالترفق تارة، وبالضغط تارة أخرى، ليقيم منا آنية مقدسة مكرمة. الله هادف في خلقتنا كما في تجديد طبيعتنا، هادف في إقامة ممالك وإزالتها. كل العالم بين يديه، وكل التاريخ في قبضته، ليس من أمرٍ يسير محض مصادفة.
ب. كيف يعجن الفخاري الطين بيده ليخليها من فقاقيع الهواء، ويضعها في الدولاب ليتحرك برجليه ويديه بل وكل فكره، فيحول قطعة الطين التي لا شكل لها إلى إناءٍ جميلٍ، يوسعه الفخاري من هنا، ويضيقه من هناك، ويفتح فوهته الخ.
ج. “ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري فعاد وعمله وعاءً آخر” [5]. يرى العلامة أوريجينوس في هذا النص مسئوليتنا الشخصية عن فسادنا.
[لماذا لم يُلقِ النبي اللوم على الفخاري باعتباره هو المسئول عن فساد الوعاء الذي كان بين يديه؟ الإجابة ببساطة: أن النص يختص بآنية حية تفسد نتيجة خطأها، إذ يقول: “ففسد الوعاء الذي كان يصنعه”.
احذر إذًا لئلا تسقط وتفسد حينما تكون في يدي الفخاري وهو يُشكلك، ويكون فسادك نتيجة لخطأك. يقول السيد المسيح: “ولا يخطفها أحد من يدي” (يو 10: 28)، كما أنه لا يستطيع أحد أن يخطفها من يده، كذلك لا يستطيع أحد أن يُفسدها. بذلك يمكنني أن أقول: أنه لا يستطيع أحد أن يخطف شيئًا من يدي الراعي الصالح أو ينزعنا من بين يدي الرب، إنما بإهمالنا يمكننا أن نسقط ونفسد ونحن بين يديه[399]].
خلق الله الإنسان صالحًا لكنه فسد خلال فساد إرادة الإنسان، وصار الأمر يحتاج إلى تدخل الفخاري نفسه القادر وحده على إعادة تشكيل الإناء. وكما يقول الرسول: “الجميع زاغوا وفسدوا معًا؛ ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد” (رو 3: 12). يصف لنا البابا أثناسيوس الرسولي عمل الفخاري لإصلاح الطبيعة البشرية قائلاً:
[خلق الله الإنسان، وأراد له أن يبقى في عدم فساد، لكن البشر باحتقارهم ورفضهم التأمل في الله، ابتكروا ودبروا الشر لأنفسهم… فنالوا حكم الموت الذي أُنذروا به، من ذلك الحين لم يستمروا كما خُلقوا، بل فسدوا حسب تدابيرهم…
وإذا ر أي “الكلمة” أن فساد البشر لا يمكن إبطاله بأية وسيلة سوى الموت كشرطٍ ضروري… لهذه الغاية أخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت، لكي باتحاد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الكل يكون جديرًا بأن يموت بالنيابة عن الكل؛ ولأن الكلمة أتى وسكن فيه، يبقى في غير فسادٍ، وبذلك ينزع الفساد من الكل بنعمة القيامة].
د. إذا تحطم إناء لا يلقيه خارجًا، بل يعود فيعجنه بيديه مرة أخرى، ويجمع الأجزاء المتناثرة منه بكل حرص، ويضغطها معًا ليجعل منها كتلة واحدة يعيد تشكيلها باهتمام شديد.
هـ. إذ يضع الفخاري الإناء في الفرن يعرف درجة الحرارة المناسبة، ويحدد الوقت بكل دقة، حتى لا يحترق الإناء بنارٍ زائدة، أو يفسد لانخفاض درجة الحرارة. جاءت الكلمة العبرية المقابلة “في عيني” تحمل معنى “السرور”، فالفخاري هنا ليس أجيرًا يعمل لحساب آخر، بل يهوى عمله ويُسر به، يشتهى أن يقدم بيده الفنانة إناءً جميلاً يكون موضع سروره. هكذا نرى في الله خالقنا ومخلصنا، أنه يعمل فينا لا لغرضٍ إلا لأننا موضع سروره، أو كما قيل في ابن سيراخ إن لذة الله في بنى الإنسان. فإنه “لا يُسر بموت الشرير بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا” (حز 33: 11)، “يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1 تي 2: 4).
و. يستطيع الفخاري أن يصنع ما يريده بالطين وليس العكس، وكأن الله هنا يؤكد لشعبه أنه من حقه أن يضع خطة خاصة بهم لا أن يضع الشعب خطة لله، كقول الرسول بولس: “بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟! ألعل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟!” (رو 9: 20-21). كان يليق بهم أن يخضعوا لله الخزاف السماوي، الذي من أجل تقديسه للحرية الإنسانية يترك للجبلة حق الخيار، وإن كانت لا تقدر أن تتشكل بذاتها. إنها في حاجة إلى نعمته المجددة للطبيعة البشرية!
v بهذا يتكشف بجلاء أن نعمة الله ورحمته تعملان دومًا لأجل خيرنا، فإذا تركتنا نعمة الله لا تنفع كل الجهود العاملة شيئًا. مهما جاهد الإنسان بكل نشاطٍ لا يقدر أن يصل إلى حالته الأولى بغير معونة الله[400].
الأب دانيال
في هذا المنظر تجلى لإرميا النبي حب الله لشعبه وصبره وطول أناته، كيف يشَّكل الطبيعة الفاسدة ليقيم منها إناءً للكرامة مقدسًا نافعًا للمجد (2 تي 2: 21). وكما سبق فصرخ إشعياء النبي: “الآن يارب أنت أبونا، نحن الطين وأنت جابلنا. وكلنا عمل يديك، لا تسخط كل السخط يارب، ولا تذكر الإثم إلى الأبد” (إش 64: 8-9).
قبل أن يصنع الفخاري الإناء يرتسم شكله في ذهنه، فيراه مخفيًا وراء كتلة الطين التي بلا شكل، وينتظر خروجه إلى عالم الوجود. هكذا يرانا الله آنية كرامة مُعدة للمجد الأبدي، يرانا خلال طبيعتنا الترابية التي يعيد تشكيلها في مياه المعمودية بعمل روحه القدوس الناري.
حياتنا الزمنية أشبه بقطعة طين تدخل الدولاب الذي يدور في اتجاه واحد، فنظنها وليدة صدفة أو حياة مملة، لكن يدي الفخاري لا تتوقفان عن العمل لكي يحقق خطته تجاهنا. علينا أن نلبث في الدعوة التي دعينا إليها (1 كو 7: 20)، متكئين على صدر المخلص العامل فينا، فنشعر بلمسات يديه المجروحتين لأجلنا، وندرك عنايته وحبه الباذل فنقول: “الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا معه كل شيء؟!” (رو 8).
بيديه يعيد تشكيلنا، فجعل من سمعان الذي يخشى جارية بطرس الصخرة التي لا تهتز أمام ملوك وولاة، ومن شاول الطرسوسي مضطهد الكنيسة رسولاً كارزًا بإمكانيات فريدة. يحول حتى أخطاءنا إلى ما هو للخير والبنيان مادمنا بين يديه مجاهدين. يحول الفتيلة المدخنة التي ُتفسد العيون إلى شعلة نار ملتهبة.
عجيب هو هذا الفخاري، فإنه يهب رجاءً لكل نفس. يجعل الحديد المفقود يطفو على وجه الماء (2 مل 6: 6) ويملأ الجرار الفارغة خمرًا جديدة جيدة (يو 2)، ويعوضنا عن السنين التي أكلها الجراد (يؤ 2: 25) ويرد الحرب حتى إن كانت قد بلغت إلى الباب (إش 28: 6).
v عندما ُشكل آدم من الطين كان لا يزال طرياً… ومع ذلك كان كالقرميدة (بلاطة) متماسكًًا وغير فاسدٍ، أهلكته الخطية، متسللة إليه ومنهارة عليه كالماء. لذلك عجنه الله من جديد وشكَّل ذات الطينة مرة أخرى لأجل كرامة الله، فأتى بها قوية وثابتة في رحم البتول، ووحدّها وربطها بالكلمة، حاليًا جاء بها إلى الحياة فلم تعد بعد لينة أو منكسرة لئلا إذا افاضت عليها بعد مجارى الفساد من الخارج تلين وتهلك.
اظهر الرب (اهتمامه بها) في تعليمه في مثل الخروف المنعزل وحده، إذ قال ربي للذين حوله: “أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحدًا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟! وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحًا، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران، قائلاً لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال” (لو 15: 4-6) [401].
الأب ميثوديوس
يرى الأب Methoduis أن هذا المثال يعلن عن حقيقة القيامة[402].
v يمكن لله ليس فقط أن يُصلح هؤلاء الذين هم من طين، خلال جرن التجديد، بل ويعيدهم إلى حالتهم الأصلية، خلال توبتهم النافعة، هؤلاء الذين نالوا قوة الروح وأخطاؤا[403].
القديس يوحنا الذهبي الفم
بالقيامة يُعاد تشكيلنا
يقول العلامة أوريجينوس:
[“فصار إليّ كلام الرب قائلاً: أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا بيت إسرائيل يقول الرب” [6]. يفهم كل واحدٍ هذا الكلام قدر استطاعته: فيمكن لواحد أن يفهم المعنى بطريقة سطحية، ولآخر أن يفهمه بطريقة أكثر عمقًا. يفهم بعض الناس موضوع الوعاء الفخاري الذي فسد وأعيد تشكيله بطريقة بسيطة… من وجهة نظر هؤلاء الناس، هذه القصة ترمز إلى القيامة. لأنه إذا كان وعاء الفخار قد سقط وفسد من يدي الفخاري، وعاد هذا الفخاري وعمله وعاءً آخر كما حسن في عينيه، وعمله من نفس المادة التي عمل بها قبل ذلك، فإن الله هو أيضًا، بما أنه الفخاري الذي عمل أجسادنا وخلق طبيعتنا يمكنه إذا سقط الوعاء وانكسر، أن يعيد تشكيله ويصنع منه وعاءً آخر أحسن نوعًا كما يحسن في عينيه[404]].
- الفخاري المؤدِّب:
بدأ أولاً برسالة الرجاء ليعلن أننا وإن كنا كطينة بلا قيمة، لكننا موضع سرور الفخاري القادر أن يحولنا إلى إناء المجد. الآن يقدم الجانب الآخر، وهو إن لم نقبل حبه وحنانه ونسلم حياتنا بين أصابعه يقوم بالتأديب لأجل خلاصنا أيضًا. إنه يقدم دروسًا قاسية لطينة عنيفة، قائلاً:
“تارة أتكلم على أمةٍ وعلى مملكةْ بالقلع والهدم والإهلاك،
فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها،
فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها
وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس،
فتفعل الشر في عيني، فلا تسمع لصوتي،
فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به” [7-10].
أمتان: واحدة ُتقتلع والأخرى تُغرس!
يقول العلامة أوريجينوس:
[بجانب هذا التفسير، لنسمع أيضًا التفسير الذي يقدمه لنا الرب نفسه:
“فصار إليّ كلام الرب قائلاً:
أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا بيت إسرائيل يقول الرب.
هوذا كالطين بيد الفخاري أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل.
تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها.
وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به” [5-10].
هكذا نرى أن ما حدث في بيت الفخاري لا يشير من الجانب الرمزي إلى أحداث فردية (أي إلى قيامة الأفراد) وإنما يُقصد به أمتان أو مملكتان. من هما هاتان الأمَّتان؟ من هي الأمة الأولى التي يتكلم عليها بالقلع والهدم، ومن هي الثانية التي يعطيها الوعد بالبناء والغرس؟ الله في تهديده يهدد بحيث إذا رجعت الأمة وتابت لا ينفذ فيها التهديد، كما أنه في وعوده إذا رجعت الأمة وصارت غير مستحقة تحرم من تلك الوعود…
قام الرب بتهديد الأمة الأولى، وظهر آثار هذا التهديد: فقد تم سبيهم، وخُرَّبت مدينتهم، وُهدم الهيكل، ودُنِس المذبح، ولم يبقَ عندهم شيئًا من المقدسات التي كانوا يملكونها، لأن الرب قال لهذه الأمة: ارجعي إليّ، فلم ترجع. ويتحدث الرب إلى الأمة الثانية عن بنائها وغرسها، لكنه يرى أن تلك الأمة مكونة من أناسٍ قابلين أيضًا للسقوط والفساد؛ لذلك يهددها ويقول لها: بالرغم من أنني تكلمت عليك في البداية بالبناء والغرس، إلا أنك إن أخطأتِ يحدث لك ما حدث مع غيرك حينما أخطئوا.
راجع كل الكتاب المقدس، تكتشف أن معظم أجزائه تتحدث عن هاتين الأمتين. اختار الرب الآباء الأولين (إبراهيم وإسحق ويعقوب) وأقام معهم وعودًا، وقام بإخراج الشعب الآتي من نسل الآباء من أرض مصر وحررهم من العبودية. كان طويل الأناة معهم حينما كانوا يخطئون، وكان يصحح أخطاءهم كأب، وأدخلهم إلى أرض الموعد وأعطاهم إياها، وأرسل لهم الأنبياء في فترات متعددة. كان يوجههم ويرشدهم ويتوبهم عن خطاياهم، وكان في طول أناة يرسل إليهم دائمًا أشخاصًا لكي يساعدوهم على الشفاء، إلى أن جاء رئيس الأطباء، والنبي الذي يفوق جميع الأنبياء. لكنه عندما جاء أسلموه للموت، قائلين: “خذه خذه“، خذ مثل هذا الإنسان من الأرض! “أصلبه أصلبه” (يو 19: 6، 15). من هنا اختار الله أمة أخرى. انظروا كيف أنالحصاد كثير بالرغم من أن الفعلة قليلون. في كل مكان وزمان يعمل الله على أن تكون شبكته دائمًا مُلقاة في بحر هذا العالم لكي يجمع فيها الأسماك من كل الأنواع؛ ويرسل صيادين كثيرين، وقانصينكثيرين، ويصطاد على كل جبل وعلى كل أكمة: انظر كم يعمل الله من أجل خلاص الأمم!
إذًا “هوذا لطف الله وصرامته، أما الصرامة فعلى الذين سقطوا”، أي على الأمة اليهودية التي سقطت، “وأمااللطف فلنا نحن الأمة الأخرى، إن ثبتنا في اللطف، وإلا فإننا أيضًا سنُقطع” (رو 11: 22). لأن الفأس لم تكن موضوعة على أصل الشجر في أيام السيد المسيح فقط، بل يمكن أن تُوضع من جديد في وقتنا الحاضر. قال يسوع المسيح في تنبؤه عن سقوط إسرائيل: “هوذا الفأس قد وُضعت على أصل الشجر”، وأيضًا: “كل شجرةٍ لا تأتي بثمر تُقطع وتُلقى في النار”. وأما الآن فيوجد زرع آخر، قيل عنه: “تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك، المكان الذي صنعته يارب لسكناك“ (خر 15: 17). جاء الرب بأمته الجديدة إلى جبل ميراثه. فإنني لن أبحث عن الجبل في وسط الأشياء الجامدة كما فعل اليهود؛ لأن الجبل هو السيد المسيح، غرسنا فيه وثبتنا فيه.
أنظروا إذًا هل يقول رب البيت – بعد أن يكون قد استخدم معنا طول الأناة – عندما يجيء: “هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد، اقطعها، لماذا تُبطل الأرض أيضًا؟” (لو 7: 13). لأن الإنسان، الذييأتي إلى الكنيسة ولا يأتي بثمرٍ يبطل أرض السيد المسيح الجيدة، التي هي الكنيسة، ويشغلها بدون فائدة[405]].
v يقدم التهديد خلاصًا من الكارثة!
الحكم بالقلع يوقف القلع!
ياله من أمرٍ غريبٍ ومدهش، فإن الحكم الذي يهدد بالموت يجلب حياة! [406]
القديس يوحنا الذهبي الفم
هل يندم الله؟
يقول العلامة أوريجينوس:
[“تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها“.
يطلب بعض الوثنيين المثقفين منا أن نبرر موقفنا وأن نفسر لهم ماذا يقصد “بندم الله”. لأنه يبدو أن “الندم” أمر غير لائق، ليس فقط بالنسبة لله، إنما أيضًا بالنسبة لأي إنسانٍ حكيمٍ. لأنني لا أتقبل فكرة أن يندم إنسان حكيم، لأن من يندم يفعل ذلك لأنه لم يأخذ من البداية الجانب الصحيح أو الرأي الصائب. لا يمكن للرب الذي يرى المستقبل ويعرفه، أن يأخذ أي جانب آخر سوى الرأي السديد. إذًا كيف ينسب الكتاب المقدس لله القول “فأندم“؟…[1]
نجد نفس الفكرة في سفر الملوك أيضًا حينما يقول الرب: “ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا“ (1 صم 15: 11). ويُقال أيضًا عن الرب: “ويندم على الشر” (يؤ 2: 13). هلموا لننظر ماذا يقول لنا الكتاب المقدس أيضًا عن الله.
تارة يقول: “ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم“ (عد 23: 19)، تعرفنا هذه الآية أن الله ليس إنسانًا. تارة أخرى يتكلم عن الله كإنسانٍ: “فاعلم في قلبك أنه كما يؤدب الإنسان ابنه قد أدبك الرب إلهك“(تث 8: 5). إذًا، عندما يتحدث الكتاب المقدس عن لاهوت الرب، يقول إنه “ليس إنسانًا”، وأن: “ليس لعظمته استقصاء” (مز 145: 3). وأنه “مهوب على كل الآلهة“ (مز 96: 4). ويقول أيضًا: “سبحوه يا جميع ملائكته. سبحوه يا كل جنوده. سبحيه أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور” (مز 148: 2-3).
لكن عندما تنازل الله وأخذ جسدًا واختلط بالناس، أخذ أيضًا حكمة الناس ولغتهم، فعل تمامًا مثلما نفعل نحن حينما نريد أن نتحدث إلى طفلٍ عمره سنتين، فنقوم بعمل حركات وأصوات غير مفهومة تناسب الطفل، أما إذا احتفظنا بوقارنا وأصررنا على الحديث معه بلغة البالغين لن يفهم شيئًا. هكذا يفعل الله في اهتمامه بالجنس البشري، وخاصة الأطفال منهم. انظروا كيف أننا نحن البالغين نقوم بتغيير أسماء الأشياء بالنسبة للأطفال الصغار؛ فنسمي لهم الخبز باسم خاص، والشرب باسم آخر، دون أن نستعين بلغة البالغين التي يستخدمونها في أحاديثهم. ماذا إذًا، هل نحن أشخاص غير ناضجين؟ هل إذًا سمعنا أحد ونحن نتكلم مع هؤلاء الأطفال يقول: لقد فقد هذا الشيخ عقله وتناسى شيبته ووقاره؟ ألا يُرجعوا هذا بالأولى إلى الظروف التي دفعت الشيخ الوقور إلى استخدام تلك اللغة؛ وهى مخاطبة الأطفال؟
بالمثل، يتحدث الله أيضًا إلى أطفالٍ. قال المخلص: “هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب”. بما أننا أشخاص وبشر نندم، فإن الله عندما يريد أن يخاطبنا بلغتنا، يقول: “ندمت”، وحينما يهددنا لا يظهر نفسه بصورة مَنْ يَعْلم المستقبل، لكنه يتصرف معنا كمن يخاطب أطفالاً، بالرغم من أنه “يعرف جميع الأشياء قبل أن تكون“.
في مخاطبته للأطفال الصغار يتظاهر بأنه كمن لا يعرف المستقبل. يقول: إذا رجعت هذه الأمة عن شرها، سأندم أنا أيضًا عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها.
آه يارب! عندما كنت تهدد، ألم تكن تعلم ما إذا كانت هذه الأمة سوف تتوب أم لا؟
وحينما كنت تعطى وعودًا، ألم تكن تعلم ما إذا كان الإنسان أو الأمة التي وجهت إليها وعودك ستظل مستحقة لتلك الوعود أم لا؟
كنت تعلم كل شيء لكنك كنت تتظاهر بعدم المعرفة.
تجد في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة من هذا النوع، منها: “تكلم مع بني إسرائيل، لعلّهم يسمعون ويتوبون“.ليس أن الله كان غير متأكدٍ عندما قال: “لعلهم يسمعون”، لأن الله لن يقع في الشك أبدًا؛ لكنه قال ذلك حتى يُظهر بوضوح حرية إرادتك، حتى لا تقول: بما أن الله يعرف مسبقًا أنني سأخلص، إذن لابد أن أخلص.يتظاهر بعدم معرفته لما سيحدث لك لكي يحترم حرية إرادتك وتصرفاتك.
تجد أجزاء كثيرة في الكتاب المقدس يتشبه فيها الله بصفات الإنسان. فإذا سمعت يومًا كلمات “غضب الله وثورته” لا تظن أن الغضب والثورة عواطف وصفات موجودة لدى الله، إنما هي طريقة بها يتنازل الله ويتكلم ليؤدب أطفاله ويصلحهم. لأننا نحن أيضًا حينما نريد أن نوجه أولادنا ونصحح أخطاءهم نظهر أمامهم بصورةٍ مخيفة ووجه صارمٍ وحازمٍ لا يتناسب مع مشاعرنا الحقيقية، إنما يتناسب مع طريقة التأديب.
إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكلٍ دائمٍ، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال، نفسدهم ونردّهم إلى أسوأ. بهذه الطريقة نتكلم عن غضب الله، فحينما يُقال أن الله يغضب، المقصود بهذا الغضب هو توبتك وإصلاحك، لأن الله في حقيقته لا يغضب ولا يثور، بل أنت الذي تتحمل آثار الغضب والثورة عندما تقع في العذابات الرهيبة القاسية بسبب خطاياك وشرورك، في حالة تأديب الله لك بما نسمِّيه غضب الله! [407]].
هنا لا نفهم كلمة “أندم” بمعنى أن الله يغير رأيه كأنه غير عارفٍ بما سيحدث في المستقبل، إنما إذ يتحدث الله معنا نحن البشر يكلمنا بلغتنا، مؤكدًا لنا أنه في محبته للإنسان يعطيه حرية الإرادة. فإن كان الله يريد تأديب شخصٍ أو جماعةٍ بسبب الخطية ويقدم الشخص أو الجماعة توبة صادقة قلبية، يرفع عنه أو عنهم التأديب. وإذا ما كان إنسان ما (أو جماعة) يستحق بركات كثيرة لكنه انحرف، يمد الله يده للتأديب. المتغير ليس الله، بل الإنسان الذي تارة يغتصب مراحم الله بالتوبة، وتارة يجلب لنفسه تأديبًا بانحرافه.
هنا يؤكد دور الإنسان وحرية إرادته، فإن الله لا يُلزمنا أن نقبل عمل الخلاص، إنما يحثنا عليه.
v لا يغصبنا الله، ولا تُلزِم نعمة الروح إرادتنا، لكن الله ينادينا، وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه[408].
v الله لا يُلزم الذين لا يريدونه، لكنه يجتذب الذين يريدون[409].
v نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر، أو آلة للبر[410].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هنا يُحمِّل الله مملكة يهوذا، على المستوى الجماعي كما على المستوى الشخصي، المسؤولية. لقد أظهرت نفسها أنها غير طيِّعة، بل عنيدة ومقاومة لله.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات السابقة [7-10]، قائلاً: [هذا القانون بحقٍ وضعه الله من البداية ونشره على كل البشر بالنبي لكي يطبق بدقة… بمراعاة هذا القانون خلص الذين تحولوا عن غضبه وتحرروا، بتركهم شرورهم[411]].
ربما يتساءل أحد: هل يصنع الله شرًا [8]؟
يجيب العلامة ترتليان لا يُقصد هنا بالشر الخطايا وإنما التأديب: [لا تعني الخطايا الشريرة بل العقاب… فاليونان يستخدمون أحيانًا كلمة “شرور” على الأتعاب والأضرار[412]].
“فالآن كلِّم رجال يهوذا وسكان أورشليم، قائلاً:
هكذا قال الرب:
هأنذا مُصدِر عليكم قصدًا،
فارجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء،
وأصلحوا طرقكم وأعمالكم” [11].
هذا هو نداء الرب عبر كل العصور، فيه يبدو الله حازمًا، يصدر علينا تأديبًا نحسبه شرًا، أما غايته فهو رجوعنا عن طريقنا الرديء وإصلاح حياتنا حتى نحمل صورته ونشاركه سماته، ولا نسقط في الهلاك.
إن كان الله هو الفخاري الذي يشكل الطين فإنه يبدو أحيانًا قاسيًا لكي يقبل الطين أن تمتد يد الفخاري إليه وتعمل حسب مقاصده الإلهية من نحوه. في ذهن الله خطة من نحونا نحن الطين، لكنه لا يعمل بدون موافقتنا.
كانت إجابة الشعب على النداء الإلهي مملوءة استهتارًا.
“فقالوا: باطل،
لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)،
وكل واحدٍ يعمل حسب عناد قلبه الرديء” [12].
ربما كان هذا تقرير قدمه إرميا النبي لله في مرارة قلبٍ، فيه يشكو الشعب لأجل استهتارهم بتهديدات الرب الخاصة بالتأديب، وإصرارهم على العناد ضد الله نفسه وضده خطته. جاءت إجابتهم على الله مملوءة عنفًا وعنادًا.
إن كنتم تعيشون في حياة الخطية تكون إجابتكم كالإجابة السابقة تمامًا، حتى وإن لم تستخدموا نفس الكلمات، لا تجيبوا بشفاهكم على الإطلاق، بل أعمالكم الشريرة هي التي تجيب على الدعوة التي يوجهها الله لكم للتوبة.
ماذا تعنى عبارة: “لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)”؟
الذين بدءوا بوضع أيديهم على المحراث وامتدوا إلى ما هو قدام لكي يزرعوا نسوا ما هو وراء،وأعطوا ظهرهم للأعمال الشريرة. أما إذا وضع أحد يده على المحراث ونظر إلى الوراء فهو يسعى وراء شروره، لأنه يسعى مرة أخرى إلى الأشياء التي كان قد تحول عنها، ويجيء مسرعًا إلى الخطايا التي تركها.
يقول العلامة أوريجينوس: [كل الذين بعدما سمعوا دعوة الرب للتوبة تحولت حياتهم إلى الفساد، سواء كانوا مسيحيين قد تركوا الحياة الوثنية، أو مؤمنين قد تقدموا في الإيمان ثم بعد ذلك سقطوا ورفضوا التوبة، لن يستطيعوا أن يقولوا سوى تلك الكلمات: “لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا) وكل واحد يعمل حسب عناد قلبه الرديء“[413]].
أمام هذا الاستهتار والإصرار على العناد قيل:
“لذلك هكذا قال الرب:
اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟
ما يُقشعر منه جدًا عملت عذراء إسرائيل.
هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟!
أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية؟!
لأن شعبي قد نسيني.
بخروا للباطل وقد أعثروهم في السبل القديمة ليسلكوا في ُشعب في طريقٍ غير سهلٍ” [13-15].
تكررت عبارة: “هكذا قال الرب” 26 مرة في سفر إرميا، أما هنا فيضيف: “لذلك“، وكأن ما يصدره من حكم هنا إنما يقدمه بعد تقديم حيثيات للحكم…
جعل الله من شعبه عذراءً، مقدمًا لها كل إمكانيات لتمارس الحياة المقدسة، فأساءت استخدام العطايا الإلهية. هذا بالنسبة لكنيسة العهد القديم، فماذا بالنسبة لكنيسة العهد الجديد، إذ يقول الرسول: “لأن الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه” (عب 6: 4-6). وأيضًا: “فكم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مُستحقًا من داس دم ابن الله وحسب دم العهد الذي ُقدس به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟!” (عب 10: 29).
“اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟
ما يُقشعر منه جدًا عملت عذراء إسرائيل”.
يقول العلامة أوريجينوس:
[قال الرب لهؤلاء الناس: “لذلك هكذا قال الرب: اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟! ما يُقْشًعر منه جدًا عَمِلتْ عذراء إسرائيل“. يبدو للبعض أن هذه الكلمات قيلت بدون هدفٍ أو قصدٍ معين. لكنني أقول لا، بل إذا رجعت كنيسة الأمم إلى الرب بكل قلبها ُيقال لها: “اسألوا بين الأمم، واسمعوا المصائب الكثيرة التي ارتكبتها عذراء إسرائيل”. دعونا نقارن إذًا بين حياة اليهود الذين أخطئوا وبين حياة هؤلاء الذين تابوا وآمنوا، عندئذ نعرف أن اليهود قد عملوا ما يُقشعر منه جدًا حينما قتلوا رب المجد؛ في حين أن الأمم تابوا ورجعوا إليه بعد ما قتله اليهود، دفعوه إلى الموت من أجل خلاص العالم[414]].
مما يحزن قلب الله أن مملكة يهوذا ليس فقط لم تستجب لنداء حبه، ولا تجاوبت مع نعمته، إنما سلكت أيضًا ضد الطبيعة والمنطق، الأمر الذي لا يحدث بذات الصورة حتى بين الأمم الوثنية. عندما أخطأت نينوى استجابت لأول نداء ُقدم إليها بواسطة يونان الذي لم يقدم لها أي رجاء في الخلاص، وقدمت توبة جماعية، أما يهوذا فقُدم لها عطايا إلهية كثيرة وأُرسل لها أنبياء، وها هي ترفض عريسها الإلهي وتتغرب عنه، ولا تريد العودة إليه.
في عرضٍ مسهبٍ قدم القديس يوحنا الذهبي الفم مقارنة بين الشعب اليهودي في عناده بالرغم مما قدم الله له من إمكانيات وبين أهل نينوى سريعي التوبة، جاء فيه:
[أية عطايا ُقدمت لليهود (في خروجهم من مصر)؟!
ألم تقم المخلوقات المنظورة كلها بخدمتهم؟! وأُعطيت لهم وسائل جديدة وفريدة للحياة؟! فإنهم (في البرية) لم يكونوا يذهبون إلى سوقٍ، إنما يأخذون مجانًا بما يُشترى بمالٍ، ولم يُفلِّحوا أرضًا، ولا استخدموا محراثًا، ولا مهدوا الأرض للزراعة، ولا ألقوا بذارًا، ولا احتاجوا إلى أمطارٍ ورياحٍ أو إلى فصول السنة الزراعية… لم يحتاجوا إلى أدوات للعجن… ولا إلى أي نوعٍ آخر من الأدوات الخاصة بالنسج والبناء وصنع الأحذية، بل كانت كلمة الله هي كل شيء بالنسبة لهم.
كانت لهم مائدة لم تعدها يد بشرية، أُعدت بدون جهاد أو تعب، لأنه هكذا كانت طبيعة المن: كان جديدًا وطازجًا، لا يحملهم أية مشقةٍ أو جهادٍ.
ثيابهم وأحذيتهم وأبدانهم ففقدت ضعفها الطبيعي؛ ثيابهم وأحذيتهم لم ٌتبلَ بعامل الزمن، وأرجلهم لم تتورم بالرغم من كثرة السير. ولم ُيذكر قط أن بينهم كان أطباء أو دواء أو أي شيء من هذا القبيل. وهكذا أُنتزع كل ضعفٍ من بينهم. قيل: “فأخرجهم بفضةٍ وذهبٍ، ولم يكن في أسباطهم عاثر (هزيل)” (مز 105: 37)…
لم تضربهم أشعة الشمس في حرارتها، لأن السحابة كانت تظللهم وتحيط بهم كمأوى متحرك يحمي أجساد الشعب كله.
لم يحتاجوا إلى مشعلٍ يبدد ظلام الليل، بل كان لهم عمود النار مصدر إضاءة لا يُنطق به، يقوم بعملين: الإضاءة مع توجيههم في طريق رحلتهم… قائدًا هؤلاء الضيوف الذين بلا عدد في وسط البرية بدقة أفضل منأي مرشدٍ بشرى…
لم يسيروا على البر فقط بل وفي البحر كما لو كان أرضًا يابسة… قاموا بتجربة جريئة تخالف قوانين الطبيعة، إذ وطأوا البحر الثائر…
ماذا أقول عن الصخرة التي أخرجت ينابيع ماء؟
وسحابة الطيور التي غطت الأرض بكثرتها؟!…
ومع ذلك فإنه بعد عناية ملموسة عظيمة هكذا، وبركات لا يُنطق بها، ومعجزات قوية، واهتمام زائد، وتعليم مستمر… تذمروا بلا إحساس!
أما أهل نينوى فبالرغم من كونهم شعبًا بربريًا وغريبًا، ليس له أية شركة في البركات، صغيرة أو كبيرة، لا بكلمات ولا بمعجزات ولا بأعمال، هؤلاء عندما رأوا إنسانًا مُنقذًا من الغرق لم يلتقِ بهم من قبل ولا سبق لهم أن عرفوه يدخل مدينتهم، قائلاً: “بعد (أربعين) يومًا تنقلب نينوى” (يون 3: 4) رجعوا وتابوا… ونزعوا شرورهم القديمة، وتقدموا في حياة الفضيلة بالتوبة…
بالرغم من أن شعب نينوى لم يكن لهم أي نصيب من المعجزات التي للشعب اليهودي، لكن بقدر ما كان لديهم من استعدادٍ داخلي حسن، إذ أُعطيت لهم فرصة بسيطة استفادوا منها ليصيروا إلى حالٍ أفضل، بالرغم من جهلهم بالوحي الإلهي وابتعادهم عن فلسطين![415]].
v من لا يحزن على مثل هذه الأمور ويقول: “كيف صارت القرية (المدينة) الأمينة زانية؟!” (إش 1: 21)…
خطبتها لنفسي بثقةٍ وفي طهارةٍ وبرٍ وعدلٍ وحنوٍ ورحمةٍ كما وعدتها بهوشع النبي (2: 19)، لكنها ارتبطت بغرباء، بينما أنا رجلها حيّ! دُعيت زانية ولم تخف أن ترتبط برجل آخر.
ماذا يقول قائد العروس (الصديق الذي يقودها من بيت أبيها إلى حجال العرس) بولس الإلهي الطوباوي الذي خلال تأمله وتعاليمه تركت بيت أبيها واتحدت بالرب؟ ألا يقول أيضًا في أسى خشية حدوث مثل هذه المتاعب: “الذي فزعت منه جاء عليّ” (أي 3: 25). “إني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2 كو 11: 2) أنني بالحق دائمًا “أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح” (2 كو 11: 3) [416]…
القديس باسيليوس الكبير
“هل يجف ثدي الصخرة؟
أو هل يخلو الثلج من لبنان؟
أو هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟” [14] (LXX).
يترجم البعض عبارة: “هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟” هكذا: “هل يخلو تربة من صخر، وثلج من لبنان؟”[417].
إن كانت الصخور القاسية لا تخلو من تربة صالحة للزراعة، ولبنان لا تخلو من ثلج، وينابيع المياه لا تتوقف، فلماذا جف شعب الله هكذا ولم يوجد بعد فيه تربة صالحة تقدم ثمرًا روحيًا، أو نقاوة كالثلج، أو مياه الروح القدس؟! هكذا يحزن الله على شعبه الذي فقد كل صلاحٍ من ثمرٍ نافعٍ وطهارة وعمل الروح.
يرى البعض انه ُيقصد بالجبل الذي يعلوه الثلج هو حرمون. في الواقع يخلو منه الثلج في شهر يونيو، لكن تبقى قمته كما قمم بقية الجبال العالية يكسوها الثلج أغلب أيام السنة.
v من هي هذه البتول التي ارتوت بمجارى الثالوث، والتي من صخرتها فاضت المياه، وثديها لم يتوقف وقد فاض عسلها؟!
بحسب قول الرسول، الصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4)، فمن المسيح لم يتوقف ثديه، ولا البهاء عن الله، ولا النهر عن الروح. هذا هو الثالوث الذي عطر على كنيستهم الآب والمسيح والروح[418].
القديس أمبروسيوس
يقول العلامة أوريجينوس:
[“هل يجف ثدي الصخرة؟ أو هل يخلو الثلج من لبنان؟ أو هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟” [14] (LXX).
يتعلق الأمر هنا بأنواع مختلفة من المياه:
في المقام الأول ثدي الصخرة؛
في المقام الثاني ثلج لبنان؛
وفي المقام الثالث المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة.
هذه الأنواع الثلاثة من المياه هي التي تشتاق إليها نفوس الأبرياء الذين أصبحوا مثل الأيائل، حتى أن كل واحدٍ منهم يمكنه أن يقول: “كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله” (مز 42: 1). من إذن أصبح مثل الإيل الذي يُقال عنه إنه عدو الثعابين بكل أجناسها وأنواعها ولا يتأثر بسمومها؟ من أصبح عطشانًا إلى الله فيقول “عَطَشت نفسي إلى الله الإله الحيّ” (مز 42: 2)؟”
من أصبح عطشانًا إلى ثدي الصخرة، “والصخرة كانت المسيح”؟
من أصبح عطشانًا إلى الروح القدس فيقول: “كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله”؟
إذا لم نعطش إلى هذه الثلاثة ينابيع من المياه معًا، لا نستطيع أن نجد أي واحدٍ منها على حدة. كان اليهود يعطشون إلى ينبوع واحد وهو الله الآب؛ لكن لأنهم لم يعطشوا إلى السيد المسيح ولا إلى الروح القدس؛ لم يستطيعوا أن يشربوا حتى من الآب. كذلك الهراطقة كان يبدو عليهم أنهم يعطشون إلى يسوع المسيح، لكنهم لم يعطشوا إلى الآب الذي هو رب الناموس والأنبياء، لذلك لم يستطيعوا أن يشربوا من السيد المسيح. وأيضًا الذين يتمسَّكون بالرب لكنهم يحتقرون النبوات لم يعطشوا إلى الروح القدس الموجود في الأنبياء، لهذا لن يشربوا أيضًا من الآب، ولا من السيد المسيح الذي وقف في الهيكل ونادى قائلاً: “إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب“ (يو 7: 37).
إذن ثديا الصخرة لن يجفا، لكنهما يجفان إذا تركا ينبوع المياه الحيَّة؛ إذا هما تركا الينبوع، ولم يُقل الينبوع تركهما. بالفعل، فإن الله لا يبتعد عن أحد، لكن الذين يبتعدون عنه يهلكون. الله على العكس، يقترب إلينا، ويذهب لملاقاة الإنسان الذي يرجع إليه. عندما رجع الابن الضال الذي أضاع ثروة أبيه، “إذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبَّله“ (لو 15: 20).
إذن ثديا الصخرة، أو ينابيع مياه السيد المسيح لن يجفَّا؛ كذلك الثلج الذي هو مياه الآب لن يخلو من لبنان.
في الواقع أن البخور المقدس الذي توصى به شريعة الله والذي ُيقدم على المذبح يكون لونه أبيضًا ويدعى لبانًاأي لبنان (تدعى لبنان بالفرنسية Liban واللبان Libanos). إذن جبل لبنان له نفس اسم البخور، وينزل ثلجًامن على Liban مثل مياه الروح القدس التي ُيقال عنها: “هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟” إن مياه الروح القدس لا تنشف، ولا تهرب، ولكننا نحن بارتكابنا الخطية نهرب منها بدلاً من أن نشرب من تلك المياه المقدسة[419]].
كثيرًا ما يكرر الله عتابه لشعبه قائلاً إنهم تركوه، أما هنا فلا يقف الأمر عند الترك إنما قد نسوه تمامًا: “لأن شعبي قد نسيني” [15].
نسوا الرب فاختاروا طريق الجحود، الذي في ظاهره مملوء ترفًا وبهجة، لكنه في حقيقته مملوء شُعبًا وغير سهلٍ؛ انحرفوا عن الطريق السماوي الملوكي.
أبرز كيف حولتهم الخطية إلى الغباء والجهالة، فإنهم إذ ينسون الله من أجل الأوثان يصيرون مثل مسافرٍ في حالة ظمأ يترك الثلج الذي على قمم الجبال وقد ذاب ونزل على الجبال وفاض من الصخور كمجارى مياه نقية ونظيفة كالكرستال، حاسبًا أنه يجد ماءً أفضل في المياه الراكدة المملوءة طميًا. هل يفعل مسافر هكذا؟ أو هل يترك ماءً باردًا يأتي من أي مكانٍ آخر في وسط حر الصيف؟!
تركوا الطرق القديمة التي عيَّنها الناموس الإلهي والتي سلكها القديسون، الطريق الآمن الملوكي العلوي، وانحرفوا إلى العبادة الوثنية.
v هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يُحرمون من الوصول إلى المدينة التي وُجهت إليها أنظارنا[420].
الأب إبراهيم
يقول العلامة أوريجينوس:
[“لأن شعبي قد نسيني، بخَّروا للباطل” [15].
كل إنسان يخطئ ينسى الرب، بينما البار يقول: “هذا كله جاء علينا وما نسيناك ولا خُنَّا في عهدك” (مز 44: 17). لقد نسى هذا الشعب الله، وبخَّروا للباطل.
لنتأمل ماذا تعني هذه الآية: “بخَّروا للباطل“؟ يقول المزمور: “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك“. إذن صلاتي الرقيقة المكونة من أفكارٍ سماوية خفيفة والصادرة من قلبٍ لطيفٍ وخفيفٍ غير مثقَّل بهموم العالم تصعد أمام الله كرائحة بخور ذكيَّة.
بما أن صلاة الإنسان البار هي رائحة بخور أمام الله، كذلك صلاة الإنسان الشرير هي أيضًا رائحة بخور، لكن كالبخور الذي قيل عنه: “بخَّروا للباطل”[421]].
إذ يصر الشعب على تجاهل الله إلهه، بل تناسيه تمامًا، يسقطون تحت التأديب:
“لتجعل أرضهم خرابًا وصفيرًا أبديًا.
كل مارٍ فيها يدهش وينغص رأسه.
كريحٍ شرقيةٍ أبددهم أمام العدو.
أريهم القفا لا الوجه في يوم مصيبتهم” [16-17].
يمكن تلخيص التأديب في الآتي:
أولا: “لتجعل أرضهم خرابًا [16]، كأن الأرض التي احتضنت الفساد والجحود ونسيان الرب لا تثمر إلا خرابًا. هكذا أرض الإنسان أي جسده الذي يتلذذ بالخطية، حاسبًا أن سعادته في ملذات الجسد يفقد حتى صحته وسلامته.
ثانيا: لتجعل أرضهم… صفيرًا أبديًا” [16]. لقد فضلوا عدو الخير إبليس، الحية القديمة، عن خالقهم ومخلصهم، لهذا تتحول أرضهم إلى مسكن دائم للحيات، لا ُتسمع فيها إلا صفيرها. والعجيب أنه في السنوات الأخيرة بدأت تحتل الحية مركزًا خاصًا في العالم الحديث، فنرى في بعض المدن محاولة جادة لجذب الإنسان نحو الحية… على سبيل المثال في أستراليا في بعض دور الحضانة يعلمون الأطفال ما يسمى بـ “رقصة الحية”!
ثالثًا: تصير موضع سخرية كل من يعبر بها: “كل مارٍ يُدهش وينغص رأسه” [16]. نغص الرأس يشير إلى السخرية والاستهزاء، مع حالة من الرعب والخوف مما يحدث، كما ُتستخدم كنوعٍ من الشماتة مع الدهشة على غباء هذا الشعب في علاقته بالله…
رابعًا: تتعرض لهجوم العدو كريحٍ شرقية جافة وحارة وعنيفة تبددهم، ليس من يقدر أن يقف أمامها.
خامسًا: يصرخون إلى الله لكنه لا يستجيب لهم في يوم مصيبتهم حتى يطلبون في جدية الرجوع إليه، لأنهم كسروا العهد معه. أعطوه القفا لا الوجه أي نبذوه، لذا يعطيهم هو أيضًا القفا لا الوجه، لأنه بالكيل الذي به يكيلون ُيكال لهم ويزداد، لكي يدركوا قيمة حرمانهم من الوجه الإلهي.
هذه هي أقصى عقوبة، أن يدير الله وجهه عنا. فإنه مهما بلغت التجارب في قسوتها يمكن احتمالها إن أدركنا أن الله يتطلع إلينا ويترفق بنا، أما إذا أدار وجهه عنا، فتتحول حياتنا إلى جحيم لا يُطاق، ونعاني من الشعور بالعزلة، الأمر الذي عانى منه آدم وحواء وهما في الفردوس!
- الرغبة في الخلاص من إرميا:
بدأ الأعداء يخططون ضده، حاسبين أن ما يقوله إنما هي تهديدات لن تتم، فستبقى الحياة كما هي… لا يحل الخراب ولا ُتباد الشريعة عن الكاهن الخ.
“فقالوا: هُلم فنفكر على إرميا أفكارًا،
لأن الشريعة لا تبيد عن الكاهن،
ولا المشورة عن الحكيم،
ولا الكلمة عن النبي.
هلم فنضربه باللسان،
ولكل كلامه لا نصغِ” [18].
أرادوا الافتراء عليه باتهامات باطلة دون الإصغاء إليه، بقصد قتله [23]. لعلهم قصدوا بضربه باللسان هو اصطياد كلمات من فمه، لاتهامه بكلمات نطق هو بها، كسلاحٍ يستخدمونه لقتله، أو أنهم أرادوا أن يبكموا فمه فلا ينطق بكلمة الرب.
العداء هو ضد كلمة الرب وإن ظهر أنه شخصي. إرميا ليس طرفًا في المعركة، إنما هو ممثل كلمة الرب التي لا يطيقها عدو الخير. العجيب أنهم وهم يقاومون الكلمة الإلهية يظهرون كأنهم مدافعون عنها، يعملون كي لا تبيد الشريعة عن الكاهن والمشورة عن الحكيم والكلمة عن النبي. يظهرون كأنهم مملئون غيرة على الشريعة والناموس الإلهي وخدمة الهيكل وهم في الواقع مقاومون لهذه كلها.
الاتهامان الموجهان ضده:
أولاً أنه ليس بنبي حقيقي وأنه يدعى النبوة، ما ينطق به ليس من الله، بل هو تجديف[422]. لأن الشريعة تُؤخذ من فم الكاهن لا من فم إرميا. لذلك يجب الخلاص منه حتى تُسمع الشريعة من فم الكاهن والمشورة من الحكيم وكلمة الرب من فم الأنبياء.
الثاني أنه أخذ موقفًا مضادًا للكهنة والحكماء والأنبياء (الكذبة). هذا بجانب الاتهامات الأخرى، كمحطمٍ لنفسية القيادات والشعب بنبواته المملوءة تشاؤمًا في نظرهم!
لقد أرادوا أن يبكموا فمه فيصمت تمامًا، وإذ عرفوا انهم لن يستطيعوا فكروا في قتله [23].
سبق أن قام أهل قريته عناثوث (أقاربه) بتدبير مؤامرة ضد إرميا، قاموا بها لأنهم حسبوه أساء إلى سمعتهم ووضعهم في موقفٍ لا يُحسدون عليه، أما الآن فالذين يخططون للمؤامرة هم الكهنة والحكماء والأنبياء الكذبة… اتفقوا معًا لاتهامه بالهرطقة والخيانة الوطنية.
في المؤامرة الأولى صرخ: “لماذا تُنجح طريق الأشرار؟” (12: 1)، أما هنا فقدم صلاة مُرّة للغاية، تكشف عن مدى تعب إرميا الشديد… تُعتبر أقسى صلاة للانتقام في كل السفر. فقد وجد نفسه مُحاطًا بالشباك التي نصبها له من كان يجب أن يساعدوه، وشعر كأن الحق قد صار في خطر، والشعب كله بكل إمكانياته ينهار بسبب قيادات فاسدة مُغرضة.
حاول معهم مرة ومرات، وكان يُصلي لأجلهم ويشفع عنهم، أما وقد شعر باستحالة توبتهم، وأدرك خطر عملهم فصار يصرخ للتدخل الإلهي. رفع إرميا قلبه لله ملجأه كي يدافع عنه ضد الأنبياء الكذبة الذين يدفعون الشعب كله نحو الهلاك، ويطلبون أيضًا نفسه:
“اصغِ لي يارب واسمع صوت أخصامي.
هل ُيجازى عن خيرٍ بشرٍ؟!
لأنهم حفروا حفرة لنفسي.
أذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير،
لأرد غضبك عنهم.
لذلك سلم بنيهم للجوع،
وادفعهم ليد السيف،
فتصير نساؤهم ثكالى وأرامل،
وتصير رجالهم قتلى الموت،
وشبانهم مضروبي السيف في الحرب.
ليُسمع صياح من بيوتهم، إذ تجلب عليهم جيشًا بغتةً.
لأنهم حفروا حفرة ليُمسكوني،
وطمروا فخاخًا لرجليّ.
وأنت يارب عرفت كل مشورتهم عليّ للموت.
لا تصفح عن إثمهم،
ولا تمحُ خطيتهم من أمامك،
بل ليكونوا متعثرين أمامك.
في وقت غضبك عاملهم” [19-23].
في هذا ينطق إرميا بصلاة تقترب من تلك التي قدمها داود النبي:
“خاصم يارب مخاصميّ، قاتل مقاتليّ…
شهود زور يقومون، وعما لم أعلم يسألونني.
يجازونني عن الخير شرًا. ثكلاًً لنفسي.
أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا. أذللت بالصوم نفسي…” (مز 35).
هكذا كان إرميا النبي مثل داود النبي رجل آلام، قاسى المتاعب بلا حصر ممن كان يجب أن يكونوا سندًا له وعونًا، وأن ما يطلبه من انتقام يحمل نبوة عما يحل تحقيقًا للعدل الإلهي لنفوس مصممة على تحطيم شعب الله في خداع وبغير توبة!
من وحي إرميا 18
خذني إلى بيتك أيها الفخاري!
v هل للطين أن يسأل الخزاف:
لماذا جبلتني هكذا؟!
أما أنا فكثيرًا ما تذمرت عليكَ يا جابلي!
خذني إلى بيتك أيها الفخاري!
أرى هناك يدك الإلهية تشكلني،
وروحك القدوس يجدد طبيعتي،
فتُخرج من الفاسدِ عدم فساد،
ومن الطينِ إناءً سماويًا مكرمًا!
v من ينحني إلى الأرض ليجمعني في يده،
من يهتم بيّ في جدية،
من يدبر كل كبيرة وصغيرة في حياتي،
سواك أيها الفخاري السماوي؟!
v يكفيني لمسات يدك المملوء حنانًا!
يكفيني اهتمام قلبك بي وتدبير خطتك،
فإنك حتمًا تضعني في فرن التجارب،
لكن تبقى عيناك مترفقتان بي!
لن تنساني ولا تتجاهلني يا محب البشر ومخلص العالم!
v عجنتني أنا التراب في مياه الأردن،
وقدمت لي روحك القدوس ساكنًا في،
وهبتني ذاتك كنزًا مخفيًا في، أنا الإناء الخزفي.
عجيب أنت أيها الفخاري، وعجيب هو بيتك!
v تحملني إلى بيتك أيها الفخاري،
أراه السماء عينها، لأنك حال فيه!
اشترك مع ملائكتك في تسبيحك،
وانعم بجسدك ودمك أيها العجيب في حبك!
v أقمتني أنا الطين عذراء عفيفة،
أردت لي أن أكون عروسًا سماويًا، وبيتًا مقدسًا لك!
في جهالتي صرتُ كقريةٍ زانية.
جلبتُ لنفسي خرابًا تامًا وهلاكًا،
صرتُ كبرية قفراء.
صار الكل يستهزئون بي.
من يخلصني من هلاكي؟!
v صرخت إليك،
أعطيتني القفا لا الوجه،
لأنني لم أعطك الوجه قط!
ليُدر روحك القدوس وجهي إليك،
فأعطى القفا لمحبة العالم!
لتدر وجهك إليّ!
ليلتقي وجهك بوجهي،
فتتهلل نفسي بك أبديًا أيها الفخاري العجيب!