تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 20 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح العشرون

عظة 132 طرد باعة من الهيكل (لو19: 45-48 ، 20: 1-2):

وَلَمَّا دَخَلَ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِيهِ قَائِلاً لَهُمْ:«مَكْتُوبٌ: إِنَّ بَيْتِي بَيْتُ الصَّلاَةِ. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!». وَكَانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ وُجُوهِ الشَّعْبِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُهْلِكُوهُ، وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ، لأَنَّ الشَّعْبَ كُلَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ يَسْمَعُ مِنْهُ. وَفِي أَحَدِ تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ، وَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ الشُّيُوخِ، وَكَلَّمُوُه قَائِلِينَ:«قُلْ لَنَا: بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ أَوْ مَنْ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟»”

مكتوب أنه ” يوجد دائما – نور للبار، أما نور الأشرار فينطفئ (أم 13: 9 س)، لأن الله الآب يمنح نور المعرفة الحقيقية غير المنطفئ الخاص بالرؤيا الحقيقية الله لأولئك الذين يقبلون بر المسيح، فهو يكشف لهم الابن، كما قال أيضا المخلص نفسه في موضع ما لليهود: ” لا تتذمروا فيما بينكم، لا يقدر أحد أن يُقبل إلى إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو  6: 43 و44) لكنه . طبعا – يجذب بالنور والمعرفة، وبربط المحبة (انظر هو 11: 4). أما بالنسبة لأولئك الذين لا تميل إرادتهم إليه، وعن شر يرفضون وصايا المسيح، فحتى ذلك النور الذى لهم في أذهانهم من وصية موسى، يتلاشى وينطفئ، وتحل ظلمة الجهل مكانه.

أما كون هذا الأمر حقيقي، وأنه هو الوضع الحقيقي للحالة، فهذا ما يثبته لنا عَمَى اليهود، لأنهم كانوا في ظلمة وغير قادرين على رؤية مجد الكلمة – الذي صار إنسانا لأجلنا – رغم أنه كشف نفسه لهم بعمل معجزات كثيرة وبسلطان إلهي. وأحد الأمثلة على ذلك هو ما حدث في الهيكل، فقد كان في الهيكل جمع كثير من التجار وآخرون أيضا من المذنبين بمحبة الربح القبيح وأعنى الصيارفة والعاملين على موائدهم، وبائعي الثيران وتجار الخراف وبائعي الحمام واليمام، وهذه كلها كانت تُستخدم في الذبائح بحسب المراسيم الشرعية. لكن قد آن الأوان لانتهاء الظل ولكي يلمع الحق، ويظهر الجمال البديع للطريق المسيحي، وأمجاد الحياة النقية، والرائحة العقلية الحلوة التي للعبادة بالروح والحق.

ولهذا السبب فإن الحق – أي المسيح تصرف بمنتهى الصواب ـ إذ هو مُكرَّم أيضا أبيه في هيكلهم فأمر أن تُحمل تلك الأشياء – المرتبطة بالناموس، خارجا، حتى ولو كانت تختص بالذبائح ومحرقة البخور، وأنه يجب أن يظهر الهيكل أنه بوضوح  بيت للصلاة، لأن هذا هو ما يعنيه بالتأكيد انتهار (المسيح) للباعة وطردهم من الأروقة المقدَّسة حينما كانوا يبيعون ما كان لازما للذبائح. كما يلزمنا أن نلاحظ أن واحدًا آخر من الإنجيليين الأطهار يذكر أن الرب لم ينتهر الباعة بالكلام فقط بل وصنع أيضا سوطًا من حبال وهددهم بالضربات (يو 2: 15)، لأنه يليق بالذين أكرموا العبادة الشرعية أن يعرفوا بعد ظهور الحق، أنهم باحتفاظهم بروح العبودية وبرفضهم أن يصيروا أحرارا، فإنهم يصيرون عُرضة لضربات ومعرضون للعذاب المرتبط بالعبودية. لذلك فإن مخلّص ورب الكل أظهر مجده لمنفعتهم حتى يؤمنوا به، فبسبب أنه يملك سلطانا على الهيكل فهو يعتنى به، وأيضا يدعو الله أباه. وكما كتب ذلك الإنجيلي الآخر، فإنه قال للباعة: ” لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة” (يو 2: 16)، ومكتوب أيضا ” بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (مر 11: 17)، لذلك كان من واجبهم ، وأقول أيضا كان من واجبهم بالأحرى أن يعبدوه على أنه هو الله الآب، رب الهيكل. ولكنهم في حماقتهم العظيمة لم يفعلوا هذا بل إذ كانوا بالأحرى متلهفين للبغضة بطريقة وحشيَّة، فإنهم أقاموا ضده شوكة الحسد الحادة وأسرعوا إلى القتل الذي هو قريب الحسد وشقيقه، لأنه (يقول) إنهم طلبوا أن يهلكوه ولم يجدوا ما يفعلون لأن الشعب كله كان متعلقا به يسمع منه “. ألا يجعل هذا الكتبة والفريسيين وكل رؤساء اليهود يستحقون عقوبة ثقيلة جدًّا؟ إن كل الشعب وهم غير متعلمين كانوا يتعلّقون بالتعاليم المقدَّسة ويشربون كلمة الخلاص كالمطر، كما كانوا أيضا مستعدين أن يثمروا ثمار الإيمان وأن يحنوا أعناقهم لوصاياه، أما الذين كانت وظيفتهم أن يستحلُّوا شعبهم على هذا الشيء عينه، فقد تمردوا بطريقة وحشية وبخبث يطلبون فرصة ليقتلوه، ويركضون على الصخور بعنف غير مكبوح، رافضين الإيمان بل وبشر يمنعون الآخرين أيضا.

 وكيف لا يكون ما قلته صحيحًا؟ فإن المخلّص نفسه وبخهم قائلاً: ” ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم” (لو 11: 52). لذلك فإنهم قاموا ضد المسيح بينما كان يعلّم ويستدعوه بحسد وببغضة وقالوا له: “قُل لنا بأي سلطان تفعل هذا أو من هو الذى أعطاك هذا السلطان؟ ” ويقولون إن الناموس الذي أعطاه موسى والوصايا التى تُنظم فرائضنا هذه، اشترطت أنَّ الذين من نسل لاوي فقط هم الذين يقتربون لتتميم هذه الواجبات المقدَّسة، فهم يقدمون الذبائح وينظمون كل ما يُعمل في الهيكل الإلهي، ولهم أعطيت وظيفة التعليم وإدارة الأعمال المقدسة. أما أنت ومع أنك من سبط آخر، لأنك طلعت من سبط يهوذا، فقد استوليت على الكرامات المخصصة لنا، “فمن أعطاك هذا السلطان؟” أيها الفريسي الأحمق تعال ودعني أخبرك بشيء لا تستطيع أن تناقضه إذا ما دافعت أمامك عن قضيَّة المسيح. مخلصنا . كلنا. لو كنت على دراية بالأسفار المقدسة الموحى بها من الله وعلى علم بكلام ونبوات الأنبياء القديسين، فربما كنت ستتذكر الطوباوي داود الذي يقول بالروح عن المسيح مخلّص الكل: “أقسم الرب ولن يندم أنك أنت كاهن إلى الأبد على طقس ملكيصادق” (مز 109: 4 س) ، لذلك اشرح لى هل هناك أى فريسي أو أى كاتب خدم الله على رتبة ملكيصادق، هذا الذي بارك إبراهيم وقبل منه العشور؟ وكما كتب بولس الحكيم جدًّا قائلاً: وبدون كل مشاجرة (مناقضة) الأصغر يُبارك من الأكبر” (عب 7: 7) لذلك فإن أصل وبداءة وجود إسرائيل ذاته الذى هو إبراهيم أبو الآباء – قد تبارك بواسطة كهنوت ملكيصادق، أما ملكيصادق وكهنوته فكان مثالاً للمسيح مخلصنا جميعا الذي صار رئيس كهنتنا ورسول ،اعترافنا الذي يُقرب إلى الله الآب الذين يؤمنون به لا عن طريق ذبائح دموية وتقدمات بخور بل يكملهم للقداسة بواسطة خدمة أعلى من الناموس، لأن ” لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات” (عب 8: 1).

الفرق بين الخدمتين عظيم جدا لأن مخلّص الكل ككاهن الله الآب يقدِّم اعتراف إيماننا، وينبوع الرائحة الروحية الطيِّبة، ” لأن الله روح والذين يسجدون فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ” (يو 4: 24).

أما الذبائح الدموية التي يُقدِّمونها فهي لا تُسرَّ الله، إذ قال لهم أيضا ” بغضتُ، وكرهت أعيادكم، ولستُ ألتذ باعتكافاتكم، وإذا قدَّمتم لي محرقاتكم وذبائحكم، فإني لا أقبلها، ولا ألتفت إلى خلاص وجوهكم، أبعد عنى ضجة أغانيك، ونغمة آلاتك (الموسيقية) لا أسمع” (عا 5: 21 -23س).

افهموا إذن أنه يقول إنه أبغض أعيادهم وكذلك أيضا تسابيحهم وذبائحهم رفضها. ومع ذلك فإن الله يُسرُّ بالتسبيح، ولكن ليس بأفواه نجسة أو بلسان دنس، لأنه مكتوب في سفر المزامير: ” وللشرير قال الله ما لك تتحدث بوصاياي وتحمل عهدي على فمك وأنت قد أبغضت التعليم وألقيت كلامي خلفك؟ ” (مز 49: 16 و17 س). وأيضا قال “لا تعودوا تدوسوا دوري، فإن قدمتم لي تقدمة (دقيق) فهي باطلة، وبخوركم مكرهة لي” (إش 1: 12 و13س). فلماذا تتذمر إذن أيها الفريسي، بسبب طرح تلك الأشياء بعيدا عن الأروقة المقدَّسة التي كانت مستخدمة للذبائح الشرعية، في الوقت الذي آن الأوان لدعوة الناس إلى حياة أفضل من الظلال وإلى التبرير الحقيقي بالإيمان بالمسيح، الذي هو الحق.

لكن سلسلة المواضيع المطروحة أمامنا الآن تقودنا إلى مناقشات طويلة جدًّا، وكل ما يتعدى الحد اللائق فهو غير مناسب لمن يسمع في كل مكان وأيضا هو غير مناسب لمن يعلمون. لذلك، لنكتف في الوقت الحاضر بما قيل، وما تبقى فهذا سوف نستكمله عندما يجمعنا المسيح هنا مرة ثانية معا، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.

عظة 133 مصدر سلطان المسيح (لو 20: 1-8):

وَفِي أَحَدِ تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ، وَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ الشُّيُوخِ، وَكَلَّمُوُه قَائِلِينَ:«قُلْ لَنَا: بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ أَوْ مَنْ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«وَأَنَا أَيْضًا أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَقُولُوا لِي: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟» فَتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ:«إِنْ قُلْنَا: مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ، فَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا، لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ». فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا».”

أعتقد أنكم قد اجتمعتم ثانية لكى تتعلموا، وأنا أمتدح تصرفكم وأعتبر رغبتكم جديرة بكل إعجاب لأنه مكتوب: الحكمة خير من الحجارة الكريمة الثمينة، وكل الأشياء النفيسة لا تقارن بها ” (ام 8: 11 س). لأن الحكمة النازلة من فوق من عند الله هى عطيَّة لا مثيل لها، وعندما ندركها بواسطة الكتاب المقدس الموحى به من الله وننال النور الإلهي ليسكن في أذهاننا، نتقدم آنذاك بلا انحراف إلى كل ما هو نافع لفائدتنا الروحية هلموا إذن لنفحص الآن أيضا بتدقيق معنى الدروس التي سبق أن قُرئت علينا.

في اجتماعنا الماضي، كان الحديث الذى وجهناه إليكم هو عن جهل الفريسيين وجنونهم المطبق وهجومهم الدنيء، فقد تقدموا إلى المسيح مخلصنا جميعا، قائلين: ” بأي سلطان تفعل هذا، ومن هو الذي أعطاك هذا السلطان”؟ ما هو الذي كان المسيح قد فعله؟ ما فعله هو أنه طرد من الهيكل أولئك الذين يبيعون الغنم والبقر والحمام واليمام وقلب موائد الصيارفة قائلاً: “ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة (يو 2: 16) وأيضا قال: ” بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (لو 19: 46).

تكلمنا آنذاك عن هذه الأشياء على النحو التالي:
إن الرب كان يجمع gathering up ظل الناموس كشيء أصبح غير نافع ولا لزوم له، وكان يسعى أن يُعطّل الذبائح الدموية، لأن الوقت الذي كان ينبغي فيه الإعلان عن العبادة التي بالروح والحق قد صار الآن قريبًا جدًا. لأنه هو نفسه الحق، وحيث إن الحق قد ظهر الآن، فيلزم بالضرورة أن تصير الرموز نافلة. ومع ذلك فقد هاجم أولئك التعساء رب الكل بشراسة. وهذا هو ما وصل إليه حديثنا في الاجتماع الماضي. 

سوف نبيِّن الآن بطريقة أخرى أنَّ رؤساء ومعلمي المجمع اليهودي قد هاجموا المسيح بعنف. كان المخلص يعلّم في الهيكل كما أنه من المؤكد جدًّا أنه كان يعلن – من أجل تعليم سامعيه – أشياء تسمو على الناموس، وهي طريق الحياة بحسب الإنجيل، أما هم فلأنهم كانوا مغتاظين من هذا أيضا فإنهم اقتربوا منه بخبث وسألوه :قائلين من أعطاك هذا السلطان، ماذا يعنى هذا أيضا؟ إنهم يقولون “أنت تعلم في الهيكل ولكنك خرجت من سبط يهوذا ولست من عداد أولئك الذين وظيفتهم أن يخدموا في الهيكل ككهنة، ولماذا تعلم ما يتنافر مع وصية موسى ولا يتوافق مع الناموس الذي أعطى لنا منذ القديم؟”.

لذلك، فلنقل لأولئك الذين تكلّموا هكذا هل هذا يلدغ أذهانكم ويدفعكم إلى حسد وحشي؟ أخبروني: هل تتهمون معطي الناموس بإبطال الناموس؟ هل تلومونه وتحتجون عليه بشدَّة لأنه لا يطيع شرائع الخاصة به؟ أخبروني: هل الله مُلزم بالخضوع لناموسه الخاص؟ ألعله شرّع الوصايا التي قيلت بواسطة الأنبياء القديسين لأجلنا أم لأجل نفسه؟ وحتى لو لم تعترفوا بذلك فإنه من المؤكد أنَّ الله يعلو على كل شريعة، وأما نحن أنفسنا فإننا نُوجَد تحت نير وصاياه. لذلك فإن تعدى أي شخص منا الناموس، فلوموه واحكموا عليه بسبب تعديه، أما الذي وضع الوصايا – ليس لأجل نفسه بل لأجلنا لكي نطيعها فإنه من حين لآخر وبحسب مسرة ،صلاحه، قد يُغيّر أي شيء مما قد أعطاه سابقا من وصايا، ويقصد بهذا لا أن يُخضع أولئك الذين تحت الناموس لأي شيء شرير، بل بالأولى يريد أن يرفعهم إلى ما هو أفضل. وها قد حان الوقت الآن لتتوقف تلك الأشياء التي كانت ظلالاً، ولتزول تعاليم الناموس التي أُعطيت لتعليم القدماء، لكيما يُستعلَن شيء أفضل، ألا وهو التعليم المعطى لنا في الإنجيل.

ولكنكم تقولون هل كان هذا بحسب مشيئة ذاك الذي أسس بواسطة موسى تلك الوصية السابقة لمن كانوا في القديم؟” وأنا أجيب “نعم”، وأبلغ إلى هذا الاستنتاج ليس من فكري الخاص بل إنى أستقي البرهان عليه من الأسفار النبوية. لأن الله قال في أحد المواضع بصوت ميخا النبي وسأجعل شرائع شعبي تزول” (می 6: 15 س). فكيف يجعل شرائع الشعب تزول؟ لأنه – كما قلت – ستصير إلى العدم بظهور وصيَّة جديدة أفضل، أى الوصية التي أُعطيت لنا من الابن نفسه، والتي أعلن عنها أيضا منذ القديم بفم إرميا للنبي ” هانذا أجمعهم من كل الأراضي التي طردتهم إليها بغضبي وغيظي وبسخط عظيم، واردهم إلى هذا الموضع وأسكنهم آمنين، ويكونون لى شعبا وأنا أكون لهم الهاء وأعطيهم طريقا آخر وقلبًا آخر ليخافوني كل أيامهم ” (إر 32: 37 -39). لذلك فقد أعطى لهم طريقا آخر وكما قلت سابقا فهو يجمع الخدمة الناموسية والتعليم الذي في حروف ورموز، ويُدخل تعاليم الإنجيل التى أول بدايتها وطريقها هو الإيمان، الذي بواسطة العبادة الروحية – يكمل إلى التبرير ويرفع إلى التقديس أولئك الذين يتقدمون إلى الله.

أما كون شرائع موسى كان مقدَّراً لها أن تبلغ النهاية وأن يُعطى بواسطة المسيح ناموس جديد وعهد جديد، فهذا يمكن لأى إنسان أن يراه بسهولة كما يقول النبي بوضوح : ” ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتُ  بیدهم لأخرجهم من أرض مصر، لأنهم نقضوا عهدى وأنا رفضتهم يقول الرب” (إر 31: 31 -32). لذلك فهو يَعِدُ بعهد جديد، وكما يكتب بولس الحكيم جدًّا ” فاذ قال جديدًا جعل الأول عتيقا، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال (عب 8: 13). وحيث إن العهد السابق قد شاخ كان يلزم أن يحلُّ ما هو جديد محله، وهذا تم ليس بواسطة أحد الأنبياء القديسين، بل بالأحرى بواسطة من هو رب الأنبياء.

فلماذا تتذمر أيها الفريسي عندما ترى الكتاب الموحى به من الله يتحقق، وترى تلك الأشياء التي قالها الأنبياء القديسون في القديم تبلغ كمالها. إذن، فعندما سألوه بأي سلطان تفعل هذا، أجابهم المخلّص ” وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة، فقولوا لي معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟ فتآمروا فيما بينهم إن قلنا من السماء يقول فلماذا لم تؤمنوا به وإن قلنا من الناس فجميع الشعب يرجموننا لأنهم واثقون بأن يوحنا نبي، فأجابوا أنهم لا يعلمون من أين فقال لهم يسوع ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا. انظروا خبث الفريسيين العظيم، إنهم يهربون من الحق ويرفضون النور ولا يرتعبون من اقتراف الخطية، لأن الله الآب أرسل المعمدان الطوباوي كسابق للمسيح يصرخ قائلاً ” أعدوا طريق الرب اجعلوا طرق الهنا مستقيمة (إش 40: 3 س). كما كتب عنه أيضا الإنجيلى الحكيم يوحنا ” كان إنسان مرسل من الله اسمه يوحنا، هذا جاء للشهادة ليشهد للنور، لم يكن هو النور بل ليشهد للنور” (يو 1: 6 -8) – أي للمسيح. كما شهد هو نفسه (المعمدان) قائلاً: ” الذي أرسلني لأعمد بالماء ذلك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقرا عليه فهذا هو الذي يُعمد بالروح القدس، وأنا قد رأيتُ وشهدت أنَّ هذا هو ابن الله” (يو 1: 33 و34). لذلك فالمعمدان الطوباوي لكونه عظيم جدا وباهر، فهو شخص جدير بأن نقبله ليقودنا إلى الإيمان بالمسيح، وليكون شاهدا للمسيح. لكن إذ كان من عادة اليهود أن يفتروا بخفة على القدّيسين وأن يدعوهم متكلمين كذبة وأن يقولوا عنهم إنهم لم يُرسلوا من الله بل يدعون كذبًا معرفة النبوة من عندياتهم، فإن المسيح سألهم ما هو رأيهم في المعمدان؟ هل هو شخص جاء من فوق من عند الله هل أكرموه لكونه مرسل يعمد بحسب مشيئة الله؟ أم بحسب عادتهم وبدافع من رغبات بشرية أنكروا أنه جاء لهذا الغرض؟ لقد كانوا في الواقع يخشون أن يقولوا الحق لأنهم كانوا يخافون أن يُقال لهم فلماذا لم تؤمنوا به؟ لذلك فإنهم لم يوجهوا اتهاما ليوحنا السابق، ليس بدافع خوفهم من الله بل بدافع خوفهم من الجموع، لذلك فإنهم أخفوا الحق وقالوا لا نعرف. فإذ هم غير مستحقين أن يتعلموا الحق وأن يبصروا الطريق الذي يؤدي مباشرة إلى كل عمل صالح، فإن المسيح :أجابهم ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا. لذلك فإن اليهود لم يعرفوا الحق لأنهم لم يكونوا متعلمين من الله، أي من المسيح. أما لنا نحن المؤمنون به فإن المسيح يُظهر الحق لنا حتى إذا ما قبلنا في ذهننا وقلبنا سره الإلهى المكرم جدًّا، أو بالحري معرفة السر، وإذا ما حرصنا على إتمام الأمور التي ترضيه، فإننا سوف نملك معه، هذا الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.

عظة 134 مثل الكرم والكرامين (لو20: 9-18):

وَابْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هذَا الْمَثَلَ:«إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْمًا وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَانًا طَوِيلاً. وَفِي الْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ عَبْدًا لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ، فَجَلَدَهُ الْكَرَّامُونَ، وَأَرْسَلُوهُ فَارِغًا. فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْدًا آخَرَ، فَجَلَدُوا ذلِكَ أَيْضًا وَأَهَانُوهُ، وَأَرْسَلُوهُ فَارِغًا. ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثًا، فَجَرَّحُوا هذَا أَيْضًا وَأَخْرَجُوهُ. فَقَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ابْنِي الْحَبِيبَ، لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ! فَلَمَّا رَآهُ الْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا الْمِيرَاثُ! فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ هؤُلاَءِ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ لآخَرِينَ». فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا:«حَاشَا!» فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ:«إِذًا مَا هُوَ هذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ!»”

 

يقول المسيح في موضع ما يشبه ملكوت السموات كنزا مخفيًا في حقل (مت 13: 44)، وليس شيء أكثر تأكيدًا من أن أولئك المحبون للربح ويبحثون عن الكنوز، لا يجدون هذه الأشياء في متناول اليد، ولا أيضا موضوعة على سطح الأرض، ولكن يجدونها بالحرى مخفية ومدفونة بعيدًا عن الأنظار، وبواسطة الحفر الشاق فقط يجدونها، وبصعوبة يحصلون عليها تعالوا إذن وهيا بنا نبحث عن معرفة دروس الإنجيل مثلما نبحث عن كنز، هلم نفتِّش بعمق عن الأفكار التي تحويها؛ وعندئذ سوف نعثر على ضالتنا المنشودة بمعونة المسيح الذي سوف يعلن لنا هذا لأن فيه مذخر جميع كنوز الحكمة وأمور المعرفة الخفية (انظر كو 2: 3)، فهو واهب الحكمة والفهم لكل الخليقة العاقلة.

ماذا يقول المسيح إذن لرؤساء اليهود عندما يطرح أمامهم تلك الأشياء النافعة للخلاص؟ ” إنسان غرس كرما وسلّمه إلى كرامين وسافر زمانا طويلاً “. إذا فحص أى شخص عن معنى ما قيل هنا بعين الذهن الثاقبة، فإنه سوف يجد كل تاريخ بني إسرائيل ملخصا باختصار في ثنايا هذه الكلمات، لأن المرنم يوضح من هو الذي غرس الكرم، وما الذى يُفهم بالحقيقة عن الكرم المغروس، عندما يقول للمسيح مخلص الجميع عن الإسرائيليين: “كرمة نقلت من مصر، طردت أممًا وغرستها هيأت طريقا قدامها، وغرست جذورها حتى ملأت “الأرض” (مز 79: 8 و9 س). وأيضا يُعلن النبي المبارك إشعياء نفس الشيء ويقول: “كان لحبيبى كرم على أكمة في مكان خصيب” (إش 5: 1 س). ويضيف بعد ذلك ليشرح معنى ما قد قيل سابقا بشكل غامض: ” إِن كَرْم رب الجنود هو رجال يهوذا، غرس جديد ومحبوب (إش 5: 7 س). فالذي غرس الكرم إذن هو الله، وهو نفسه الذي سافر بعيدًا لزمان طويل. ولكن إن كان الله يملأ كل الأشياء، ولا يمكن أن يكون غائبًا عن الموجودات بأي حال، فكيف إذن يذهب صاحب الكرم بعيدًا لزمان طويل؟ هذا يعنى أنه بعدما ظهر لهم في شكل نار عند نزوله على جبل سيناء في أيام موسى هذا الذي أعطاهم الناموس كوسيط – فإنه لم ينعم عليهم مرة أخرى بحضوره في صورة مرئية ولكنه كان يستخدم تشبيها مستعاراً من الأمور البشرية، ليبين أن علاقته بهم كانت مثل واحد قد سافر لزمان طويل.

وكما سبق أن قلت إنه سافر ، ولكن من الواضح أنه كان يعتنى بكرمه، وكان يفكر فيه باستمرار، لأنه أرسل خدامًا أمناء في ثلاث أوقات مختلفة لكي يتسلموا المحصول، أى الثمر من الكرامين، فلم تكن هناك مناسبة في هذه الفترة لم يرسل الله في أثنائها أنبياء وصديقين لينذروا بني إسرائيل، ويحثوهم ليعطوا أثمارًا توافق الحياة المجيدة اللائقة التى حسب الناموس، أما أشرارا وعصاة وعنيدين وتقسى قلبهم ضد التحذير، فلم يصغوا بأي طريقة للكلمة التى كان يمكن أن تنفعهم لأنه حتى النبى إشعياء كواحد كان – كأنه مغشيا عليه من الأتعاب والمعاناة بدون فائدة – يقول: ” يا رب مَن صَدَّق خبرنا؟” (إش 53: 1س). لذلك فباستخفافهم بأولئك الذين قد أرسلوا إليهم، فإنهم قد أرسلوهم فارغين بمعنى أنه لا يوجد شيء حسن يقولونه عنهم الله الذي أرسلهم. وأيضا فإن النبي إرميا يلوم الشعب اليهودى وحكامه بسبب عجرفتهم الزائدة بقوله: “لمن أتكلم وأشهد حتى يسمع؟ ها إن آذانهم غير مختونة فلا يقدرون أن يسمعوا ها إن كلمة الرب قد صارت لهم عارا، ولا يقبلونها ” (إر 6: 10 س). ويتكلم في موضع آخر عن أورشليم هكذا: “داوينا بابل فلم تشف، فلنتركها ولنذهب كل واحد إلى أرضه، لأن دينونتها بلغت السماء ” (إر ٩:٥١س). وكما قلت سابقا إنه يدعو أورشليم بابل لأنها تختلف عن فارس في عدم طاعتها وارتدادها، ولأنها لم تخضع نفسها للوصايا المقدسة، وربما لأنها قد حسبت مثل من لا معرفة له بالله لأنها اختارت أن تعبد المخلوق بدلاً . الخالق وتسجد لأعمال يديها، لأن بنى إسرائيل كانوا مذنبين بتهمة الارتداد وعبادة الأوثان. فهذه هي إذن الطريقة التي طردوا بها بخزي أولئك الذين من أرسلوا إليهم.

أما رب الكرم فإنه يتفكر في نفسه ويقول: “ماذا أعمل؟ يجب علينا أن نتمعن جيدًا بأي معنى يقول هذا هل يستخدم صاحب الكرم هذه الكلمات لأن ليس لديه مزيد من الخدام؟ بالتأكيد لا، لأنه لا ينقصه خدام آخرون يتممون إرادته المقدسة، ولكن كما يقول طبيب عن شخص مريض، ماذا أعمل؟ إننا نفهم أنه يقصد أنه جَرَّب معه كل وسائل المهارة الطبية ولكن بلا جدوى. وهكذا نحن نؤكد أيضا أنَّ رب الكرم بعدما أظهر كل لطف وعناية بكرمه ولكن بدون أى نفع، فهو يقول: ماذا أعمل؟ وماذا كانت النتيجة؟ ها هو لا يزال يتقدم بطرق أخرى أعظم فيقول : أرسل ابنى الحبيب لعلهم يهابونه. لاحظ في هذا القول إنه أرسل الابن بعد الخدام، ولكن ليس كواحد محسوب ضمن الخدام، بل كابن حقيقى ولذلك فهو الرب. لأنه حتى وإن كان قد أخذ شكل العبد لأجل التدبير، إلا أنه لا يزال إلها والابن الحقيقى الله الآب ويملك السلطان الطبيعي، هل كرموا حينئذ هذا الذى أرسل كابن ورب، وكمن يملك بالميراث كل ما الله الآب؟ هم لم يكرموه، لأنهم ذبحوه خارج الكرم بعد أن خططوا في أنفسهم هدفًا غبيًّا يدل على الجهل، ومملوء بكل خبث؛ لأنهم قالوا: ” هلموا نقتله لكي يصير لنا الميراث”. ولكن أخبرني أنت كيف تصورت هذا؟ فهل أنت أيضا ابن الله الآب هل ينحدر إليك الميراث كحق طبيعي؟ وإذا أنت طرحت الوارث خارج الطريق، فكيف تصير سيدا لهذا الميراث الذي اشتهيته؟ وبالأكثر كيف لا يكون افتراضك هذا سخيفا، لأن الرب هو بالحقيقة ابن ووارث لسلطان الله الآب بحق جوهره، فإنه عندما صار إنسانًا دعا أولئك الذين آمنوا به إلى مشاركته في ملكوته. أما هؤلاء الناس فأرادوا أن يأخذوا المملكة لأنفسهم وحدهم، دون أن يسمحوا للابن بأي مشاركة له معهم في الميراث، مغتصبين لأنفسهم وحدهم الميراث الرباني. ولكن هدفهم هذا كان مملوء جهالة ويستحيل تحقيقه، لذلك يقول داود المبارك عنهم في المزامير: ” الساكن في السماء يضحك بهم، والرب يستهزئ بهم” (مز 2: 4 س).

لذلك فإن رؤساء المجمع اليهودي قد طرحوا خارجا بسبب مقاومتهم لمشيئة الرب، إذ جعلوا الكرم الذي استؤمنوا عليه بلا ثمر، لأن الله قد قال في موضع ما: ” رعاة كثيرون أفسدوا كرمي، داسوا نصيبي، جعلوا ميراثي المشتهى برية خربة، جعلوه خرابًا مهجورا” (إر 12: 10 و11س). وقيل أيضا بصوت إشعياء: “قد انتصب الرب للتو للمحاكمة الرب نفسه سيدخل في المحاكمة شيوخ ورؤساء الشعب، وأنتم لماذا أحرقتم “كرمي؟ ” (إش١٣:٣ و ١٤س). وأولئك مثل الذين جعلوا الأرض عقيمة، لكونهم أشرار ، فإنهم هلكوا بالشرور لأنه من العدل والعدل جدًّا، بما أنهم كسالى وقاتلون للرب فإنهم يكونون فريسة مع لتعاسات شديدة جدًّا.

وقد أعطى الكرم إلى كرامين آخرين من يكون هؤلاء الكرامون؟ إنني أجيب أنهم جماعة الرسل القديسين الكارزين بوصايا الإنجيل، وخُدَّام العهد الجديد الذين هم معلّمون للعبادة الروحية، والذين عرفوا كيف يُوجهون الناس توجيها صحيحا غير ملوم، ويقودوهم بطريقة ممتازة جدا نحو كل ما يرضي الله ويسره. وهذا أنت تتعلمه مما يقوله الرب بصوت إشعياء النبي إلى أم اليهود، وهو المجمع : ” وأرد يدى عليك، وأمحصك لأنقيك، وسوف أهدم الذين لا يطيعون، وسوف أنزع منك جميع فاعلي الإثم، وسوف أخفض كل من يتشامخ، وأقيم قضاتك كما في الأول، ومشيريك كما في البداءة” (إش 1: 25 و 26 س). ويشير بهؤلاء كما قلت إلى كارزي العهد الجديد، الذين يقول عنهم الرب بفم إشعياء في موضع ما وتُدعون كهنة الرب وخدام الله” (إش 61: 6س). أما بخصوص أنَّ الكرم قد أعطى إلى كرامين آخرين، فهذا لا يعني فقط الرسل القديسين، ولكن يُقصد أيضا الذين أتوا بعدهم حتى ولو لم يكونوا من نسل إسرائيل، وهذا ما يعلنه الله بوضوح حيث يقول بفم إشعياء لكنيسة الأمم ولبقية إسرائيل: ويأتي الغرباء في الجنس ويرعون غنمكم والغرباء في العشيرة سوف يكونون حراثين وكرامين” (إش 61: 6 س). لأنه في الواقع قد دعي كثيرون من الأمم وقديسون كثيرون منهم قد أحصوا ضمن من صاروا معلمين ومرشدين، بل وإلى وقتنا هذا يوجد رجال من جنس الأمم يشغلون أمكنة عالية في الكنائس، وهم يزرعون بذار التقوى في المسيح في قلوب المؤمنين، ويجعلون الأمم الذين يقومون برعايتهم مثل كروم جميلة في نظر الله.

وماذا قال الكتبة والفريسيون – إذن – لما سمعوا المثل. قالوا: حاشا ومن هذا يمكن أن نلاحظ أنهم قد فهموا المغزى العميق له فإنهم دفعوا عن أنفسهم الأهوال الوشيكة أن تحدث، وكانوا خائفين من الخطر الآتي، ولكنهم مع لم يفلتوا منه، لأنهم لم يتخلوا عن عصيانهم، ولم يخضعوا لكي يؤمنوا ذلك بالمسيح.

 ويستمر الإنجيل قائلاً: إن المسيح ” نظر إليهم وقال: إذن ما ما هو هذا المكتوب، الحجر الذى رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، كل من يسقط على هذا الحجر يترضض ، ومن سقط هو عليه يسحقه”. لأنه، رغم أنَّ المخلص كان حجرًا مختارا، إلا أنه قد رفض من أولئك الذين كان واجبهم هو أن يبنوا مجمع اليهود بكل ما كان نافعا للبناء، إلا أنه . ذلك قد صار رأس الزاوية والكتاب المقدس يقارن جمع الشعبين معا أي إسرائيل والأمم وربطهما معا، بالزاوية التي تربط جدارين. لأن المخلّص قد خلق الشعبين إنسانًا واحدًا جديدًا صانعا سلامًا وصالح الاثنين في جسد واحد مع الآب (انظر أف 2: 15 و 16). وهكذا فإن العمل يشبه الزاوية التي تربط حائطين، أي تمسكهما معا. وهذه الزاوية نفسها، أو جمع الشعبين معا إلى واحد، هذا ما تعجب منه المغبوط داود وقال: “الحجر الذى رنله البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب صار هذا وهو عجيب في أعيننا” (مز 117: 22 س) لأن المسيح – كما قلت – قد ربط الشعبين معا بربط المحبة وباتحاد المشاعر ووحدة – الإيمان.

فالحجر يكون إذن أمانًا للزاوية التى تُصنع منه، ولكنه يكون هدما وتدميرا لأولئك الذين ظلوا منفصلين عن هذا الاتحاد العقلي والروحي. لأن المسيح يقول: ” إن من يسقط على هذا الحجر يترضض ولكن من يقع هو عليه يسحقه “. فجموع اليهود عندما عثروا في المسيح وسقطوا عليه فإنهم ترضضوا، لأنهم لم يسمعوا صوت إشعياء القائل: “قدّسوا الرب نفسه فيكون خوفكم، ولا تصطدموا به مثل صخرة عثرة أو حجر صدمة” (إش 8: 13 و14س). لذلك فإن الذين لم يؤمنوا انكسروا، أما نحن الذين آمنا به، فإنه قد باركنا، هذا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 135 دفع الجزية لقيصر (لو20: 19-26):

فَطَلَبَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا الأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَلكِنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ هذَا الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ الْوَالِي وَسُلْطَانِهِ. فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «يَامُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ بِالاسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ، وَلاَ تَقْبَلُ الْوُجُوهَ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» فَشَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ أَرُونِي دِينَارًا. لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا وَقَالوُا:«لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ:«أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ للهِ». فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ الشَّعْبِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا.

 

ها مرة أخرى تشتعل عُصبة الفريسيين بغضب غير مكبوح، وهم يُصوّبون قوس حسدهم ويُصرون بأسنانهم على هذا الذي يدعوهم إلى الحياة، وهاهم يهاجمون بوحشية هذا الذي يسعى أن يُخلِّص، والذي أخلى نفسه من مجد الألوهية العالي جدا ونزل إلى حالتنا وها هم يتآمرون على موته، هذا الذي صار إنسانًا لكي يُبطل الموت. والسبب الوحيد الذي منع جسارتهم الوقحة يُوضحه لنا الإنجيلي الحكيم بقوله: إنهم خافوا الشعب”. لقد فهم أنه لا توجد عندهم أى مشاعر تقوى نحو الله يمكن أن تضبطهم. والوصية التي أُعطيت بواسطة موسى والتي تقول بوضوح:” لا تقتل البريء والبار ” (خر 23: 3) لا تضع لجاما يمنع عنفهم، إذ هم يراعون مخافة الناس أكثر من مخافة الله.

ولكن ما هو السبب الذي جعلهم يفسحون مجالاً لمثل هذا الغضب الشديد والعنيف؟ يقول (الكتاب): ” إنهم عرفوا أنه قال هذا المثل عليهم. وما هو المثل؟ واضح أنه المثل الذي أظهر فيه أنهم بسبب كونهم كرامين أشرار وغير أمناء، فإنهم استهزءوا بالأنبياء القديسين وذبحوهم، هؤلاء الذين أرسلوا إليهم من الله لكي يحلُّوهم على إكرامه بأن يعطوا ثمارًا روحية وافرة، وبالمثل فإنهم هكذا عملوا بالابن نفسه رب الكرم، لأنهم قتلوه أيضا قائلين: ” هذا هو الوارث هلموا نقتله لكي يصير لنا الميراث”. ولكنهم أخطئوا وأثاروا غضب الله عليهم، وقاوموا الشرائع التي من فوق وجلبوا على أنفسهم الغضب الإلهى، وبسبب أنهم أشرار ، فقد هلكوا هلاكًا رديًّا ورفضوا من أن يكونوا كرامين، وأُعطى الكرم لآخرين. كان هذا هو السبب الذي من أجله تذمروا ضد المسيح، ومع ذلك، ألم يكن من واجبهم أن يهربوا من الغضب وأن يتجنبوا شراكه، بعد أن عرفهم المسيح بما سوف يحدث؟ 

لقد كان الطريق أمامهم ممهدًا وسهلاً لكي يفعلوا هذا. كان عليهم أن يقبلوا الذي يدعوهم إلى الخلاص، وأن يكرموا بالإيمان ذاك الذى يُبرّر الفاجر، الذي يغفر ويحل من كل إثم، وبنعمته التي لا تذكر الشر، يُخلِّص أولئك الواقعين في شراك الخطايا.

أما هؤلاء القوم المجترئون القساة، إذ كانوا متأهّبين للشر فقط، فلم يبدوا أية رغبة نحو التوبة والرجوع، ولكن بذهنهم المملوء بمكر الشيطان، لجأوا إلى المكائد الشريرة. لقد أخذوا يحيكون شراكا للمسيح ويخترعون مصيدة ليجدوا علة ضده، ويجمعون حججا ليتهموه كذبًا، وفى مرارة حقدهم بدأوا يُجهزون الكلمات الكاذبة التي نطقوها ضده أمام بيلاطس.

هؤلاء الناس ينتحلون لأنفسهم سمعة الصلاح ويتظاهرون بأنهم أبرار، كمن يستعير قناعا، بينما هم في الحقيقة أشرار عادمو ،الأخلاق، وقلبهم ممتلئ من المرارة والإثم وكل كلام كذب. لقد تظاهروا بأنهم أبرار ولطفاء، وتخيلوا أنه يمكنهم أن يخدعوا هذا الذي يعرف الأسرار والخفايا، وذلك عندما أضمروا هدفًا معيَّنا في الفكر والقلب، بينما هم ينطقون بكلمات مخالفة تمامًا لقصدهم، كلمات تخفى وراءها مكرهم الشرير. ربما يكونون قد نسوا الله الذى يقول : ” من ذا الذي يخفى قصده ويغلق على كلماته في قلبه ويظن أنه يخبأها عني؟ ” (أى 42: 3 س). كما يقول سليمان: ” الهاوية والهلاك مكشوفان أمام الرب، كم بالحري أفكار “الناس” (أم 15: 11 س). ولكنك تقترب من المسيح . مخلّص الجميع كما لو كان مجرد إنسان عادي، لذلك فإنك تظن أنك يمكنك أن تخدعه، كان هذا هو سبب تصرفك الأحمق ، لكن كان من الأفضل أن تفكر مليا أن الكلمة وهو الله  قد صار في هيئة بشرية مثلنا، وقد تبرهن بالمعجزات الإلهية والفائقة الوصف وبواسطة مجده الإلهي أنه ليس مجرد إنسان فقط مثلك بل هو إله، كما أظهرت ذلك أعماله المجيدة. لقد كان في المظهر إنسانا مثلنا، ولكنه وهب النظر للعميان، أقام الموتى من قبورهم، وأمر أولئك الذين قد اضمحلوا (بالموت) أن يسرعوا إلى الحياة. لقد انتهر البحار وظهر للتلاميذ ماشيًا على الأمواج حينما كانوا يبحرون في بحيرة طبرية، لقد كان في مقدورهم أن يروا من الحقائق الفعلية أنه لم يكن مجرد إنسان، بل بالأحرى هو إله كما أنه إنسان أيضا.

ولكنهم لم يقبلوا هذا (الإيمان) في قلوبهم، كيف يمكنهم هذا؟ بل إنهم اقتربوا منه . وجربوه مخفين عنه غرضهم المخادع. وهاهم يخاطبونه بكلمات رقيقة، وهم مثل وحوش كاسرة في ثياب حملان إن مثل هؤلاء هم الذين يوبخهم داود النبي بقوله: كلماتهم ألين من الزيت وهى سيوف مسلولة (مز 54: 21 س)، وأيضا ” لسانهم يخترق مثل طرف سهم حاد كلمات فمهم ،خادعة، يتكلم بالسلام لقريبه وفي قلبه يضمر عداوة” (إر 9: 8 س) ولكن ماذا يقولون؟ ” يا مُعلِّم، نعلم أنك بالاستقامة تتكلم وتعلم ولا تقبل الوجوه، بل بالحق تُعلم طريق الله، أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟” آه من مكرهم الدنس لأن إله الجميع أراد لبني إسرائيل أن يُعفوا من تسلُّط البشر عليهم، ولكن لأنهم داسوا تحت أقدامهم الوصايا الإلهية، واحتقروا تماما الأوامر التي أُعطيت لهم، ولجأوا إلى المكائد والحيل، فإنهم سقطوا تحت يد أولئك الذين تسلطوا عليهم في ذلك الوقت الذين فرضوا عليهم الجزية والضريبة ونير العبودية القاسي. وإن النبي إرميا يرثى أورشليم كما لو كانت بالفعل قد عانت من هذا المصير بقوله: ” كيف جلست المدينة الكثيرة الشعب وحيدة السيدة في البلدان صارت تحت الجزية (مراثی1: 1 س).

لذلك فقد كان هدفهم من هذا كما يقول الإنجيل)، ” أن يُسلِّموه إلى حكم الوالي”، لأنهم توقعوا أن يسمعوه يقول: ” بالتأكيد إنه لا يجوز أن تُعطى جزية لقيصر”. ولكن كيف تغلَّب المسيح على مكرهم؟ قال لهم: “أرونى ديناراً”، ولما أروه إياه سأل أيضا: لمن الصورة والكتابة التى عليه؟ فأجابوا وقالوا: “لقيصر”، وبماذا أجاب المسيح على ذلك؟ ” قال لهم، أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما الله الله، لأن الحُكّام القائمين على حكم الشعوب من عملهم أن يفرضوا ضريبة من المال على رعاياهم، أما الله فلا يبغى شيئًا من الأشياء القابلة للفساد ،الزائلة ولكن يريد بالأحرى، الطاعة والخضوع، يريد الإيمان والمحبة والرائحة الحلوة التى للأعمال الحسنة. كان من الواجب على بني إسرائيل أن يُقدِّموا هذه الأشياء للرب، ولكنهم كانوا مهملين ويزدرون بهذه الأمور ويحتقرونها، كما كانوا مستعدين أن يذهبوا بأنفسهم إلى كل ما هو وضيع.

 لذلك فقد تعجبوا من إجابته ، وكان هذا أمام جميع الشعب، أي أمام شهود كثيرين، ومع ذلك – وكأنهم قد تناسوا هذه الأمور فعندما قادوا يسوع إلى بيلاطس فإنهم أتوا بنفس هذا الاتهام عليه، لأنهم قالوا: ” وجدنا هذا الرجل يُفسد الأمة ويمنع أو ان تعطى جزية لقيصر” (لو 23: 2). إنك تتعجب من إجابته، ولا يمكنك أن تخدعه، لقد رجعت خازيًا، وكيف جعلت شرك نفسه نقطة اتهام ضده؟ ماذا قال المُخلِّص عنهم بصوت المرنم ” لأنهم بلا سبب أخفوا لي هلاك شبكتهم، بلا سبب عيروا نفسي، لتأتهم التهلكة وهم لا يعلمون ولتمسكهم الشبكة التى أخفوها لي وليقعوا في فخهم نفسه” (مز 34: 7 و8 س). إنهم حقًّا سقطوا، إذ لما سلموا يسوع إلى بيلاطس فإنهم هم أنفسهم سلموا أنفسهم للهلاك، وأهلكهم العدو الرومانى بالنار والسيف وأحرق كل أرضهم، حتى الهيكل المجيد الذى كان بينهم صار خرابا).

كان هذا مجازاة تصرفهم الأثيم نـ نحو المسيح، فلنتحاش بحرص هذه الخطايا، وأن تكرم بالإيمان كلمة الله، الذي من أجلنا صار إنسانا، وأن نكون مجتهدين في تعظيمه بتسابيح لا تنقطع، الذى به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 136 حديث الرب مع الصدوقيين بخصوص قيامة الأموات (لو 20: 27-38):

وَحَضَرَ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ، الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ الْقِيَامَةِ، وَسَأَلُوهُ، قَائِلِيِنَ:«يَامُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ، وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، يَأْخُذُ أَخُوهُ الْمَرْأَةَ وَيُقِيمُ نَسْلاً لأَخِيهِ. فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. وَأَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، فَأَخَذَ الثَّانِي الْمَرْأَةَ وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا الثَّالِثُ، وَهكَذَا السَّبْعَةُ. وَلَمْ يَتْرُكُوا وَلَدًا وَمَاتُوا. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضًا. فَفِي الْقِيَامَةِ، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ!» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«أَبْنَاءُ هذَا الدَّهْرِ يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ، وَلكِنَّ الَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذلِكَ الدَّهْرِ وَالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضًا، لأَنَّهُمْ مِثْلُ الْمَلاَئِكَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا أَنَّ الْمَوْتَى يَقُومُونَ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضًا فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: اَلرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ. وَلَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ، لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ». 

الجهالة يصحبها التهور عادة، وهى تؤدى بالناس إلى أن يُعلِّقوا أهمية كبرى على أوهامهم البائسة، وهكذا فإن أولئك الذين هم ضحايا لهذا الداء، عندهم فكرة عظيمة عن أنفسهم ويتصورون أنهم يملكون معرفة لا يستطيع أحد أن يُنكرها. ويبدو أنهم قد نسوا قول سليمان: ” لا تكن حكيما في عيني نفسك” (لم٧:٣) ، أي بحسب حكمك الشخصي، وأيضا إن الحكمة التي لا تمحص تضل الطريق. فإنه ليس بالضرورة أن تكون آراؤنا صحيحة عن كل تعليم نعتقد به، إذ ربما يحدث أن نحيد عن الطريق الصحيح فنخطئ، ونسقط في ما هو غير مناسب، ولكن أظن أنه من الصواب إذا مارسنا حكمًا نزيها وبلا تحيز، وبغير استسلام لاندفاع العواطف، فإننا يجب أن نحب الحق ونسعى إليه باشتياق.

 أما الصدوقيون الأغبياء، فإنهم لا يعطون احتراما لمثل هذه الأفكار. كان الصدوقيون شيعة من اليهود، وقد أوضح لنا لوقا ما هو رأيهم الذي كانوا يفكرون به من جهة قيامة الأموات، فيكتب في أعمال الرسل: ” لأن الصدوقبين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح، وأما الفريسيون فيقرون بكل ذلك” (أع 23: 8). لذلك، قد حضر قوم منهم إلى المسيح مخلصنا جميعًا . الذي هو الحياة والقيامة – وحاولوا أن يدحضوا (عقيدة القيامة؛ ولأنهم قوم ممتلئون بالخزى وغير مؤمنين فإنهم اخترعوا قصة مفعمة بالجهالة ومملوءة بالافتراضات السخيفة، محاولين بخبث أن يلغوا رجاء العالم كله. إننا نؤكد أنَّ رجاء العالم كله هو القيامة من الأموات، الذين صار المسيح هو البكر والباكورة بالنسبة لهم، ولذلك فإن الحكيم بولس أيضا إذ يجعل قيامتنا معتمدة على قيامته فإنه يقول : ” إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون المسيح قد قام” (1کو 15: 16)، ثم يضيف إلى ذلك أيضا، كما لو كان يمتد بالفكر المضاد إلى نهايته: ” إن كان المسيح قد قام من الأموات، فكيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة من الأموات؟” (1كو 15: 12)، والذين يقولون هذا كانوا هم الصدوقيون الذين نتكلم عنهم الآن.

ولكن دعنا نفحص – إن أردتم – هذه الرواية المزيفة التي بلا معنى التي صاغوها. يقولون كان سبعة إخوة وصاروا على التوالى أزواجا لامرأة واحدة بحسب متطلبات ناموس موسى، ثم ماتت هي أيضا بدون أولاد، ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة؟ إن السؤال الذي يطرحونه، هو بلا معنى، كما أنه لا يتوافق بأي حال مع الكتب الموحى بها، وإجابة مخلصنا فيها تكفي تماما لإثبات حماقة روايتهم. وتجعلنا نرفض خيالهم المزيف، كما نرفض الفكرة التي تأسس عليها.

وأظن أنه من الصواب أن نتهمهم بأنهم يقاومون – بغباء، الكتب الموحى بها، وأن توضح أنهم قد جانبوا الصواب تماما وابتعدوا عن المعنى الذي تعلمه الكتب المقدسة تعالوا ودعونا نرى ماذا قالت جماعة الأنبياء القديسين أما بخصوص بخصوص هذا الموضوع، وما هي التصريحات التي أعلنها رب الجنود بواسطتهم. إنه يقول عن أولئك الراقدين من يد الهاوية أخلصهم، من الموت أفديهم، أين قوتك يا موت؟ أين شوكتك يا هاوية” (هو 13: 14 س). المقصود بقوة الموت وبشوكته أيضا، فإن المبارك بولس قد علمه لنا بقوله: “أما شوكة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس ” ( 1كو 15: 56)، لأنه يقارن الموت بالعقرب، الذي شوكته هي الخطية، لأنه بسمه يقتل النفس، ويقول إن الناموس هو قوة الخطية. ويتعرض القديس بولس هو نفسه ثانية في موضع آخر ويقول: “لم أعرف الخطية إلا بالناموس (رو 7: 7) ، ” إذ حيث ليس ناموس ليس أيضا تعد (رو 4: 15). ولهذا السبب فإن المسيح أخرج أولئك الذين يؤمنون به من تحت سيادة الناموس الذى يدين، وقد أبطل أيضا شوكة الموت، أي الخطية، وإذ قد أبطل الخطية، فإن الموت بالتالي – كنتيجة حتمية – قد بطل، لأنه نتج عنها وبسببها دخل الموت إلى العالم.

وكما إن الله قد أعطى الوعد : أخلصهم من يد الهاوية ومن الموت أفديهم”، هكذا أيضا فإن الأنبياء القديسين يتوافقون مع الأحكام الصادرة من فوق، لأنهم يكلموننا، ليس ” برؤيا قلبهم ولا من مشيئة إنسان، ولكن من فم الله” (انظر إر 23: 26) كما هو مكتوب، طالما أنَّ الروح القدس هو الذي يتكلم فيهم (انظر 2بط 1: 21) هو الذى يُعلن في كل أمر ما هو حكم الله وما هي مشيئته المقتدرة وغير القابلة للتغيير. لذلك يقول لنا إشعياء النبي: “تحيا أمواتك، وأولئك الذين في القبر سيقومون، والذين في الأرض سيبتهجون، لأن طلك هو شفاء لهم” (إش 26: 19 س). وأنا أعتقد أنَّ النبي يقصد بالطلٍّ قوة الروح القدس المحيية، وذلك التأثير الذى يلاشي الموت، لأنه قوَّة الله وقوة الحياة. 

ويقول أيضا داود المبارك في موضع ما في المزامير عن كل ما على الأرض: تنزع روحهم فيموتون وإلى ترابهم يعودون، ترسل روحك فيُخلقون وتجدد وجه الأرض” (مز 103: 29 س). هل تسمع أنَّ نعمة الروح القدس العاملة والمحيية سوف تُجدّد وجه الأرض، ويقصد بوجه الأرض جمالها، ويُفهم بذلك أن جمال الطبيعة البشرية سوف يكون على غير فساد، لأنه مكتوب: “يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد، يُزرع في ضعف ويُقام في قوة، يُزرع في هوان . ويقام في مجد” ( 1كو 15: 42 و43) . ومرة أخرى فإن النبى إشعياء يؤكد لنا أنَّ الموت الذي دخل بسبب الخطية لا يحتفظ بقوته على ساكني الأرض إلى الأبد، ولكنه يتلاشى بقيامة المسيح من بين الأموات وهو الذي يُجدّد العالم ويعيد تشكيله إلى ما كان عليه في البداءة، كما هو مكتوب: ” لأن الله خلق جميع الأشياء لعدم “فساد” (حكمة 1: 14). فالنبي إشعياء يقول: ” يبلع الموت بعد أن قوى جدا، ويمسح الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار الشعب عن كل الأرض” (إش 25: 8 س). والآن هو يُسمّي الخطية عار الشعب، وهذه عندما تبطل، فإن الموت أيضا يُبطل معها، والفساد يتلاشى، وإذ يأتى به إلى نهاية، فإنه ينزع الدموع من الجميع، والنوح أيضا ينتهي، فلا يكون للناس سبب فيما بعد يجعلهم يبكون وينوحون.

 هذا يكفي لبحثنا بخصوص تفنيد كفر اليهود ولكن دعنا نرى أيضا ماذا قال المسيح لهم أبناء هذا الدهر يُزوِّجون ويُزوجون، أما أولئك الذين عاشوا حياة كريمة ومختارة وممتلئة من كل سمو، وقد حسبوا أهلاً أن يبلغوا قيامة مجيدة ورائعة، فهم بالضرورة يرتفعون فوق الحياة التي يحياها أبناء هذا الدهر، لأنهم سيعيشون كما يليق بقديسين قريبين الله، فهم يكونون مثل الملائكة وهم أبناء الله. وحيث إنه يكون قد انتزع منهم كل شهوة جسدية، ولم يعد يوجد موضع باق فيهم للذة الجسدية، فإنهم يشبهون الملائكة القديسين، وهم يكملون خدمة روحانية وليست مادية . كما يليق بالأرواح المقدسة، وفي نفس الوقت يكونون مستحقين لمثل هذا المجد الذي تتنعم به الملائكة.

وقد أظهر المخلّص أيضا جهل الصدوقيين العظيم بأن استشهد لهم بمعلم أقداسهم موسى الذى كان مطلعا جيدًا على أمر القيامة من الأموات. فإنه يضع أمامنا الله الذى يقول من العليقة: ” أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب” (خر 3: 6). ولكن لمن يكون إلها إذا كان بحسب ادعائهم إنَّ هؤلاء لم يعودوا أحياء؟ فهو إله أحياء. لذلك فبالتأكيد – وبكل ما في الكلمة من معنى سوف يقومون عندما تقيمهم يمينه المقتدرة، وليس هم فقط، بل أيضا جميع الذين على الأرض.

أما القوم الذين لا يؤمنون بأن هذا سوف يحدث، فإنه يليق بهم جهالة الصدوقيين، وهم لا يستحقون على الإطلاق أن يُحسبوا ضمن أولئك الذين يُحبون المسيح. أما نحن فنؤمن بالقائل: “أنا هو القيامة والحياة” (يو 11: 25). لأنه سوف يقيم الأموات في لحظة، في طرفة عين، عند البوق الأخير، فإنه سيبوق، والأموات في المسيح سوف يقومون في عدم فساد، ونحن نتغير” (1کو 15: 52)، لأن المسيح مخلصنا جميعًا سوف ينقلنا إلى عدم فساد وإلى مجد وإلى حياة غير مضمحلة، هذا الذى به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 137
أ) المسيح وداود
ب) التحذير من معلمي الناموس
 (لو 20: 41-47) :

وَقَالَ لَهُمْ:«كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ وَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ الْمَزَامِيرِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَإِذًا دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا. فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟». وَفِيمَا كَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَسْمَعُونَ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «احْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!».

أولئك الذين يحبون التعلم ويميلون للاستماع، يقبلون بفرح كلمة الله النافعة، ويحفظونها ويخبئونها في خزانة قلبهم مثل بذرة حياة وما هي نتيجة فعلهم هذا؟ إنَّ النور الإلهي يشرق عليهم، ويحظون بمعرفة صحيحة لا تخطئ للوصايا المقدسة وهذه تسرع بهم إلى الحياة، كما يعلّمنا الابن نفسه حيث يقول الله الآب السماوي: وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ” (يو 17: 3).

= لذلك، أقول لكم، أنظروا إلى ذاك الذي هو المانح لنا كل حكمة وفهم، أي المسيح، وهو يحاول أن يغرس هذه البركة العظيمة التى لا تُقدَّر في أولئك الذين – قبل كل شيء – هم رؤساء اليهود، أقصد الكتبة والفريسيين، لأنه كان من الصواب ـ إذ هم رعاة ومعلمو وقادة الشعب – أن لا يخفى عليهم سره، الذى أعلنه ناموس موسى . القديم، وهو يصفه (السر) بالرمز وبالظل بطرق متعددة، والذى علمه جماعة الأنبياء القديسين العظماء الأماجد. لأجل هذا السبب فإن المسيح يُدعى مكمل الناموس منذ والأنبياء (انظر رو 10: 4).

لهذا السبب، فإن المخلّص سألهم قائلاً: “كيف يقولون إن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطنا لقدميك. فإذن داود يدعوه ربًّا، فكيف يكون ابنه ؟ ” إن الإيمان هو بدء الفهم، لأنه يقول: ” إن لم تؤمنوا فلن تفهموا ” (إش 7: 9 س) ، ولكن فحص الحقائق الهامة يؤدي إلى الخلاص. إننا نعترف بأن عمانوئيل هو ابن داود وهو ربّه أيضا، إن كان أحد يريد أن يتعلم ما هي الطريقة التي يفهم بها هذا الإيمان، فإنه يجب عليه بالضرورة أن يلجأ إلى فحص سر المسيح، فحصا دقيقا وبلا لوم هذا) (السر) الذي كان مكتومًا منذ تأسيس العالم ولكن أظهر في الأزمنة الأخيرة (انظر رو 16: 25 و26؛ و 1بط 1: 20).

لم يجب الفريسيون على سؤال المسيح ؛ وقد فعلوا هذا بخبث، أو بالأحرى ضد أنفسهم، لئلا إذا ما نخسهم السؤال تشرق عليهم كلمة الخلاص، لأنهم لم يكونوا يريدون أن يعرفوا الحق، ولكن إذ كانوا يريدون بشرهم أن يستولوا لأنفسهم على ميراث الرب، فإنهم أنكروا الوارث، أو بالأحرى قتلوه بشرهم. لأنه بسبب حب السلطة والطمع في المال، وبسبب أرباحهم الدنيئة، فإنهم رفضوا الإيمان، لأنهم في إحدى المرات تناولوا حجارة ليرجموه، وعندما سألهم عن سبب عنفهم أجابوا بحماقة: ” لسنا نرجمك لأجل عمل ،حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك الها” (يو 10: 33). وفى مناسبة أخرى دعوه سامريا وشريب خمر وسكيرا وابن النجار، وهم يقصدون بهذه الأوصاف أنه شخص حقير ووضيع المولد. ولا تتعجب من هذا، فإنهم تجاسروا أن يُشنّعوا بميلاده بالجسد من العذراء القديسة بقولهم بصورة غامضة ولكن بمرارة: نحن لم نولد من زنا” (يو 8: 41).

ولكي ينزع المسيح منهم عادة التفكير والكلام عليه بازدراء واحتقار فإنه سألهم قائلاً: ” كيف يقولون إن المسيح ابن داود؟ ولكنهم كما نوهت لكم للتو، التزموا الصمت بدوافع ماكرة، وبهذا حكموا على أنفسهم بأنهم غير مستحقين للحياة الأبدية ولا لمعرفة الحق.

ونحن أيضا نضع أمام فريسيي الأيام الأخيرة سؤالاً مشابها، دع هؤلاء – الذين ينكرون أنَّ هذا الذي ولد من العذراء القديسة هو الابن الحقيقي الله الآب وهو نفسه الله، ويقسمون المسيح الواحد إلى ابنين؛ أقول دعهم يشرحون لنا بأي طريقة يكون ابن داود هو ربه، وكيف أنه وهو إنسان تَكُون ربوبيته ،إلهية، لأن الجلوس عن يمين الآب هو تأكيد للمجد الفائق وعربون له، لأن الذين يشاركون نفس العرش هم متساوون في الكرامة، والذين يُتوجون بكرامات متساوية يُفهم طبعا أن يكونوا متساوين في الطبيعة. فالجلوس مع الله لا يمكن أن يعني شيئًا آخر سوى السلطان المهيمن، كما أنَّ العرش يكشف لنا أنَّ له السلطان على كل شئ وأيضا له الرفعة الكاملة بحق جوهره. كيف إذن يكون ابن داود هو رب داود ويجلس أيضا عن يمين الله الآب وعلى عرش الألوهة؟ أليس هذا هو بحسب كلمة السر الحقيقية: أي إن الكلمة وهو الله، ومولود من نفس جوهر الله الآب، وهو مماثل له ومساو له؛ صار جسدًا، أي صار إنسانا كاملاً، لكن بدون أن يترك الامتياز الذي لا يُقارن الخاص بالكرامات الإلهية، وهو لا يزال مستمرا بالحري في الحالة التي كان فيها منذ الأزل، وهو لا يزال إلها مع أنه صار جسدًا وفي الشكل مثلنا. لذلك فهو رب داود بحسب مجده الإلهي وبحسب طبيعته وربوبيته الكاملة؛ ولكنه ابن داود بحسب الجسد.

لذلك أقول إنه كان من واجب رؤساء اليهود الذين يفتخرون كثيرا بمعرفتهم بالشرائع الإلهية، ألا يدعوا كلمات الأنبياء القديسين تفوت عليهم، لأن المبارك إشعياء يقول: ” ها العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا” (إش 7: 14س مت 1: 23 ). أما الكلمة فكان معنا كإله عندما أخذ شبهنا، ولم يحتقر الحالة الوضيعة التي للجنس البشرى، كى يخلص جميع من هم تحت السماء. ومكتوب أيضا وأنت يا بيت لحم بيت أفراته لست الصغرى بين ألوف يهوذا، لأن منك يخرج الذي يكون رأسا (متسلّطًا) على إسرائيل” (مى 5:2 س)، لأن بيت لحم كانت صغيرة بالفعل ومن جهة كثافة اليهود فيها، فقد كان سكانها قليلين جدًّا، ومع ذلك خرج منها المسيح – لما ولد فيها من العذراء القديسة – لا كمن هو خاضع لظلال الناموس، بل بالحري كسيد للناموس والأنبياء.

لذلك فنحن لم نتبع جهالة الناس ولا حداثة كلامهم الأحمق؛ لئلا نسقط معهم في ذهن مرفوض، بل نُشرك أنفسنا بالحري في التعاليم النقية التي للرسل القديسين والبشيرين الذين أوضحوا لنا في كل مكان، أنَّ المسيح مخلص الكل هو في نفس الوقت ابن داود وربه بالطريقة التي وصفتها لكم منذ قليل.

لذلك فإنه يوجد رب ،واحد إيمان واحد معمودية واحدة (أف 4: 5)، رب واحد قد اشترانا، ” لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب، بل بدم نفسه كما هو مكتوب (1بط 1: 18)، حتى نعبده، وبه ومعه نعبد الله الآب لأن لنا فيه وبواسطته قدومًا إلى الآب (انظر أف 2: 18).

ولكن كما قلت لكم فإن رؤساء اليهود لم يراعوا الحق على الإطلاق، وإذا أراد أحد أن يعرف ما هو سبب كرههم الفظيع للتعلم، فليسمع السبب مني: إنه تصميمهم ألا يتخلوا عن محبة المديح المغروسة فيهم، ولا أن يهجروا شهوتهم الملعونة للربح. والمخلص نفسه وبخهم مرة بقوله: كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض، والمجد الذى من الإله الواحد لستم تطلبونه ” (يو 5: 44). لقد كان من واجبهم أن يطلبوا المجد الذي من الله لا المجد الذي من الناس، لأن مجد الناس وقتي ويتلاشى مثل الحلم.

ولذلك، فللفائدة، من أجل أن يحفظ جماعة التلاميذ القديسين أنقياء من مثل هذه الأخطاء الشائنة، فإنه يشهد لهم قائلاً: “احذروا من الكتبة والفريسيين”. أي لا تعرضوا أنفسكم لأن تكونوا فريسة لرذائلهم، ولا أن تكونوا شركاءهم في استخفافهم بالله. فماذا كانت عادتهم؟ فقد كانوا يسيرون في الطرق وهم متزينون حسنًا، ويجلبون لأنفسهم كرامة طنانة، حتى ينالوا مديح أولئك الذين ينظرونهم. وبينما هــم أشرار وقلبهم ممتلئ من عدم الاستقامة، فإنهم ينسبون لأنفسهم – كذبا – سمعة التقوى والأخلاق الحسنة التي لا وجود لها فيهم في الواقع فإنهم يجتهدون أن يطيلوا صلواتهم بكلمات كثيرة مفترضين أنه ربما لو لم يستعملوا كلمات كثيرة، فإن الله لن يعلم ما هي طلباتهم. وأما مخلّص الجميع، فإنه لم يسمح للذين يعبدونه أن يفعلوا مثل ذلك، فيقول: ” حينما تصلون لا تُكرّروا الكلام باطلاً كالأمم، لأنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم ” (مت 6: 7) ، ولكنه أوصاهم أن يكونوا متواضعين غير محبين للافتخار، وأن لا يعطوا أي اعتبار لحب المجد الباطل، ولكن أن يطلبوا بالأحرى الكرامة التى تأتي من فوق من الله. وبهذا فإنه يودع فيهم معرفة سره؛ وهكذا فإنـه يُجهز الذين سوف يُرشدون الآخرين لأن يحوزوا معرفة صحيحة وبلا لوم للتعاليم المقدسة، وهكذا فهو يجعلهم يعرفون كيف أنَّ ابن داود هو أيضا رب داود، الذين معهم (مع الرسل) نحن نضع أنفسنا أيضا، إذ يضئ علينا الله الآب بنور إلهي في المسيح، الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان لله الآب مع الروح القدس إلى دهر آمین. الدهور.

زر الذهاب إلى الأعلى