أف 10،9:1 إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه
9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ[3]، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ،
حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ،
لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ“ [9-10].
إن كان الغنوسيون يعتزون بالمعرفة “gnosis” حتى احتلت في فكرهم عوض الإيمان، وحسبوا أنهم بعقولهم وحدها قادرون على التمتع بالخلاص، فإن الرسول بولس يصحح الوضع معلنًا أن المسيحي الحقيقي “صاحب معرفة“، لكن على مستوى فائق، فإن الله لا يهبه فقط غفران خطاياه، وإنما يرفعه كابن لله إلي السماويات ليعلن له سرّ معرفته. ينال المعرفة gnosis كهبة إلهية وكإعلان سماوي حسب مسرة الله الذي له مقاصده التي تتحقق في ملء الأزمنة.
لعل الرسول يقصد هنا بالسرّ الذي يعلنه للمؤمنين هو على وجه الخصوص تحقيق خطة الله في ملء الأزمنة، حيث يعمل بكمال سلطانه وملئها لخلق جماعة مسكونية من المؤمنين في المسيح، مقدسة فيه.
في دراستنا لمدرسة الإسكندرية رأينا كثير من آبائها الأولين كانوا يتطلعون إلي “المعرفة الإلهية” كأثمن ما يقدمه المسيح للنفس البشرية، فإذ تتحد به كعروس مع عريسها يقدم لها ذاته فتتعرف على أسراره في حجاله السماوي. لذا يقول القديس إكليمنضس السكندري وتلميذه العلامة أوريجينوس أن هذه المعرفة هي هبة الله للكاملين.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عجبًا! أية صداقة هذه؟! إذ يخبرنا بخفاياه، إذ يقول “بسرّ مشيئته“، لأن أحدًا يقول بأنه عرّفنا بالأشياء التي في قلبه. هنا حقًا السرّ المملوء حكمة وفطنة. فأية حكمة مثل هذه؟ الذين كانوا لا يساوون شيئًا رفعهم في لحظة إلي الغنى والفيض. أي تدبير حكيم هكذا؟! الذي كان عدوًا ومُبغضًا في لحظة ارتفع إلي العلا… هذا تم في الوقت المعين؛ إنه عمل الحكمة، تحقق بواسطة الصليب.]
ثالثًا: أن يجمع الكل فيه، قائلاً:
“لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ،
لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ،
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ“ [10].
جاءت كلمة “أزمنة” هنا Kairos لا تحمل المعنى البسيط المزمن مثل كلمة Chronos، وإنما تشير إلي حقبة جديدة يعمل الله فيها بكل سلطانه ليجمع كل شيء في المسيح، كما تحت رأس واحد.
يُسر المؤمن ليس فقط بتحريره من خطاياه، وتمتعه بالبنوة الإلهية، وإدراكه سرّ مشيئة الله، أي نواله المعرفة، وإنما أيضًا بنظره أن الكل يجتمع معًا – على مستوى الأرضيين والسمائيين – تحت قيادة الرأس المسيح. هذا هو ما يفرح قلب المؤمنين، أن تتحقق مشيئة الله خلال إتحاد الخليقة العاقلة المؤمنة، لتعيش كلها معًا بروح الوحدة تنعم بالحضرة الإلهية. فالمؤمن بثبوته في المسيح يفقد الأنانية والفردية ليتسع قلبه بالحب للجماعة كلها دون أن يفقده علاقته الشخصية بمسيحه.
يفرح المؤمن الحقيقي إذ يرى في مسيحه أنه لا يضمه وحده إليه لكنه يجمع مختاريه الأرضيين ليقيمهم شعبًا سماويًا، يشاركون العلويين حياتهم الفائقة.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عانى السمائيون من الأرضيين، ولم يعد لهم رأس واحد. إلي ذلك الوقت كان نظام الخلقة هو أن إلهًا واحدًا فوق الجميع هو للكل، لكن انتهى نظام “البيت الواحد” حيث انتشر خطأ الأمم وسقطوا في العصيان… الآن أقام رأسًا واحدًا بعينه على الكل، أي المسيح حسب الجسد، فوق الملائكة والبشر. بمعنى آخر جعل للملائكة والبشر مملكة واحدة… جمع الكل تحت رأس واحد بعينه مقيمًا رباط الوحدة من فوق.]
يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم في نفس العظة تفسيرًا آخر لمعنى” لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ“، إذ يقول: [جمع المسيح في نفسه التدابير التي استغرقت فترة طويلة (منذ السقوط حتى مجيئه متجسدًا) قاطعًا إياها.] بمعنى أن بمجيئه تحققت الوعود والعهود والنبوات التي طال انتظار تحقيقها.
رابعًا: الآن إذ يعلن الرسول بولس عن نعمة الله التي جمعت السمائيين مع الأرضيين كما في جسد واحد للرأس الواحد السماوي، وفيه تحققت النبوات والمواعيد التي طال انتظار تحقيقها، أراد أن يثير الأمم بالغيرة ليدركوا غنى هذه النعمة متمسكين بها كعربون للميراث الأبدي أو النصيب السماوي، إذ يؤكد أنه كيهودي قد نال بالمسيح النصيب المعين الذي سبق اليهود الأولون فترجوه، هذا النصيب بعينه يناله الأمم خلال كلمة الحق إنجيل الخلاص. فما ناله اليهود بعد انتظار طويل عبر الآباء والأنبياء لم يُحرم منه الأمم خلال قبولهم الإنجيل. هذا ما عناه الرسول بقوله:
“الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا (نحن اليهود) نَصِيباً،
مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ،
لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ،
نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ.
الَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ (الذين من أصل أممي)،
إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ،
الَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِنتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ،
الَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ“ [11-14].
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية 9: إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه.
إذ عرفنا: إذ أعطانا الحكمة والفطنة بهما نعرف مقاصد الله، وما يجب أن نفعله، ونفهم أعمال الله من ناحيتنا. فالله يرفع أبنائه للسماويات ويهبهم سر معرفته كهبة إلهية وكإعلان سماوى. يعلن ذاته للنفس البشرية فتتعرف على أسراره. سر مشيئته: الفداء كان أمراً مخفياً منذ الأزل وصار مستعلناً على الصليب.
آية10: لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ في المسيح ما في السماوات وما على الارض في ذاك.
لتدبير: الله يدبر أمور العالم وأمور كنيسته كما يرتب إنسان أمور بيته. وبالنسبة للكنيسة فالله يستخدم إناساً يختارهم لترتيبها (1بط10:4) + (تى5:1-7). ملء الأزمنة: تعنى أن الأحداث نضجت والظروف صارت مستعدة والعالم مستعداً ليأتى المسيح وينفذ خطته. وحينما يأتى الوقت المحدد من الله والمسمى هنا ملء الأزمنة. عمل الله يبلغ كماله على مستوى الفعل المنظور وتتضح خطة الله أمامنا. وكانت خطة الله الخاصة بنهاية الأزمنة، وهدف الله النهائى أن يجمع كل شىء ما فى السماء وما على الأرض تحت رأس واحد هو المسيح = فى ذاك: أى فى المسيح وقارن مع (كو19:1، 20). فنرى أن المسيح سوف يجمع كل أجزاء الخليقة فى وحدة، بعدما خلفته الخطية من انقسام وشقاق وتفتت، وسيصنع صلحاً بعد أن أثمرت الخطية عداوة. بل سيصنع صلحاً ووحدة بين السمائيين والأرضيين. وسيعيد الصلح بين الله والإنسان حينما تكون الخليقة بنفس فكر الله، وذلك سيكون عن طريق الوحدة بين المسيح والإنسان (1كو28:15).