يو10: 17 لهذا يحبني الآب، لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا

 

“لِهذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا.” (يو10: 17)

+++

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

 

لهذا يحبني الآب،

لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا”. (17)

يخطئ البعض حين يظنون في الآب العدالة الإلهية والابن الرحمة الإلهية. هؤلاء يتصورون أن الابن مملوء حبًا نحو البشر، وقد قدم ذاته ذبيحة حب ليرفع غضب الآب. وقد اعتقد بعض الغنوسيين في القرن الثاني أن إله العهد الجديد (الابن) جاء يخلص العالم من إله العهد القديم لأنه غضوب! هنا يؤكد القديس يوحنا أن ذبيحة المسيح هي موضوع حب الآب لنا، وأنها ثمرة الحب المتبادل بين الآب والابن. فالحب الإلهي هو سمة الثالوث القدوس وليس خاصًا باقنوم دون آخر.

الابن الوحيد الجنس موضع حب الآب أزليًا، أما وقد تجسد وصار بالحقيقة إنسانًا، فإنه يتمتع بحب الآب كابن البشر حيث يقدم حياته مبذولة عن البشرية. لقد صار بإرادته خادمًا باذلاً من أجل العالم ليقتنيه لحساب الله أبيه. وقد جاء في أناشيد العبد الأمين المتألم: “هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرت به نفسي، وضعت روحي عليه، فيُخرج الحق للأمم” (إش ٤٢: ١).

بهذا التدبير الإلهي قدم نفسه لنا “الطريق”، فإننا إذ ندخل فيه نشاركه سمة الحب الباذل العملي والأمانة، فنشتهي أن نشاركه صلبه وموته لنصير فيه موضع سرور أبيه. ببذله فدى البشرية وقدمها لأبيه، وباتحادنا به ننعم بمجد البذل والصلب معه.

يتحدث السيد عن موته “أضع نفسي” وعن قيامته “آخذها“. إنه صاحب سلطان ما كان يمكن لكل قوات الظلمة أن تتصرف هكذا بدون إذنه؛ في سلطانه أن يضع نفسه ويأخذها. هكذا يقدم الموت والقيامة بأسلوب بسيط، بلا انزعاج أمام الموت، ولا دهشة أمام قيامته.

v “لأني أضع نفسي“. ليت اليهود لا يفتخرون بعد، هم يهيجون لكنهم بلا سلطان. ليثوروا كيفما شاءوا فإن كنت غير راغب أن أضع نفسي، ماذا يفعل هياجهم هذا؟…

لا يفتخر اليهود كمن غلبوا، فإنه هو الذي وضع حياته بنفسه…

أنتم تعرفون المزمور: “أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت (قمت)، لأن الرب عضدني” (مز ٣: ٥)…

إنها مسرتي أن أفعل هذا…

لكنه يجب أن يعطي المجد للآب لكي يحثنا على تمجيد خالقنا. فباضافته: “أنا استيقظت لأن الرب عضدني” أتظنون أنه قد حمل هنا نوعًا من الحرمان من سلطانه، حتى أنه في سلطانه أن يموت، وليس في سلطانه أن يقوم؟ حقًا تبدو الكلمات هكذا إن لم تُدرك كما ينبغي… اسمعوا عبارة أخرى في الإنجيل إذ يقول: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه”، ويضيف الإنجيلي: “وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده” (يو ٢: ١٩، ٢٠).

v يضع الجسد نفسه بقوة الكلمة، ويأخذ الجسد مرة أخرى بذات قوة الكلمة.

v “هذه الوصية قبلتها من أبي” (١٥). لم يقبل الكلمة الوصية في كلمات، وإنما في الابن الوحيد كلمة الآب تقوم كل وصية. ولكن حين يُقال أن الابن يقبل من الآب ما لديه جوهريًا فيه، إنما يعطيه الحياة في ذاته (يو ٥: ٢٦)، بينما الابن هو نفسه الحياة فلا ينقصه شيء من السلطان لم يعطه مولده.

فإن الآب لم يضف مواهب كما لو كان الابن غير كامل في مولده، بل الذي ولده كماله مطلق، يحمل كل العطايا بمولده. في هذا أعطاه المساواة معه ولم يلده قط في عدم مساواة له.

القديس أغسطينوس

v أي شيء يكون أكثر ملئًا من السمات البشرية عن هذا القول، إن كنا نحسب ربنا محبوبًا لأنه يموت من أجلنا؟ ماذا إذن؟ أخبروني ألم يكن محبوبًا قبل ذلك؟ هل بدأ الآب يحبه وكنا نحن السبب في حب الآب له؟ ألا ترون كيف يستخدم التنازل؟ لكن ماذا يريد أن يؤكد هنا؟ لأنهم قالوا إنه كان غريبًا عن الآب ومخادعًا وجاء ليهلك ويدمر، لذلك قال لهم: “هذا لو لم يوجد ما يدفعني أن أحبكم، بمعنى أنكم محبوبون من الآب، وأنا أيضًا محبوب منه، لأني أموت من أجلكم”. بجانب هذا يرغب في البرهنة على نقطة أخرى أنه لم يأتِ ليفعل شيئًا بغير إرادته، فإنه لو كان الأمر هكذا فكيف يكون عملي هذا سببًا في الحب؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

تفسير القمص متى المسكين

 

17:10- 18 «لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لِآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي».
‏هنا يلتفت المسيح نحو الآب ليقدم له ذبيحته، التي هي في الواقع ذبيحة حب، لتجد عند الآب ما يساويها. وإن كان هو يقدمها بحرية إرادته، إلا أنها أيضأ مقدمة في الطاعة المطلقة للآب، لأنها في الأصل هي استجابة لوصية الآب.
‏ولكن لكي يبرز المسيح العنصر الإلهي في تقديم نفسه ذبيحة حسب الطاعة لوصية الآب، عاد وأوضح أنه لا يقدم نفسه جزافاً, كمن يضيعها أو يفقدها برجاء التعويض، ولكنه قدمها قصداً ليعبر بها الموت بكل أهواله وآلامه، وهو عالم أنه سيقيمها من الموت بسلطانه وبتأكيد الآب. فالذبيحة ليست ذبيحة للموت وحسب، بل هي ذبيحة «موت وقيامة» بحسب مضمون وصية الآب، أو بحسب اتفاق الآب والابن معاً، كخطة أزلية. لأن الابن وُضع عليه أن يخوض الموت بالجسد من أجل افتتاح طريق القيامة من الأموات ليقيم من الموت كل ذي جسد.
‏هنا لا ينبغي أن يغيب عن بالنا صورة المثل الذي وضعه المسيح من جهة الراعي والخراف والمرعى. فهنا يبلغ المسيح بنفسه حد التفوق المطلق على مفهوم الراعي والرعية والمرعى. فالراعي في مفهوم المسيح هو القادر بإرادته وسلطانه وحده أن يموت من أجل الخراف, ويقوم من الأموات، ليقيم الرعية من الموت ويعطيها المرعى الذي بتذوقه لا تذوق الموت أبداً… هذا هو راعي الخلاص الأبدي.
بهذا ينتقل المسيح, من داخل المثل الذي قاله, من عورة الراعي إلى حقيقته الأزلية أنه المخلص القادر أن يذهب وراء خروفه الضال حتى إلى أعماق الموت والهاوية ، ليقيمه حياً، وليحيا أمامه إلى الأبد. ولتأكيد معنى اهتمام هذا الراعي العجيب بكل خروف على حدة يقول بولس الرسول: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة, يسوع, نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت لكي يذوق, بنعمة الله, الموت لأجل «كل واحد» (عب9:2)
‏إن الموت الذي كان يمثله الذئب, والذى كان يرعب قلب الراعي والخراف معا. لا يوجد له مكان في قلب المسيح . لقد افترس المسيح الموت والذئب معاً، واعطى خرافة صك الخلاص من موت ووهبهم حق الحياة الأبدية: «فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم, اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت, أى إبليس, ويعتق أولئك الذين خوفا من الموت كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية.» (عب14:2-15)
«ليس أحد يأخذها مني, بل أضعها أنا من ذاتى, لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً, هذه الوصية قبلتها من أبي»: عجيب حقاً أن يضع المسيح هذه المعادلة الصعبة في صورتها البسيطة المتناهية في البساطة. فهو يستعلن لنا سلطانه المطلق على الموت والحياة معاً, ثم يضع هذا السلطان في توافق مطلق أيضأ مع الآب. هنا جوهر اللاهوت حي ومتلألئ أمام عيوننا وقلوبنا. فالآبن متساو مع الآب في المفاعيل الذاتية للجوهر الإلهي، أي السلطان والقوة والمجد، لأن الآب والابن واحد في هذا الجوهر الإلهي المطلق، فكل ما للآب هو للابن، وما هو للابن هو للآب، ليس على وجه التساوي بالمفهوم الحسابي الذي يفهم الثنائية في الجوهر, بل على وجه الوحدة المطلقة التي تلغي الثنائية في جوهر الله.
‏على ضوء هذه الحقيقة اللاهوتية، يقول المسيح ويعلن عن سلطانه الفائق بالتالى على كل بشر وكل سلطان بني البشر: «ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي… ». المسيح هنا يتحدى كل قوى الظلمة وكل قوى البشر المتعاقده مع الظلام، المسيح يضع «أنا» إزاء أي أحد.
المسيح هنا يجعل موته «أضع حياتي» فعلا إلهياً, يفوق أي تطاول شيطاني أو بشري. وقد عزز المسيح تأكيده هذا في مواقف عدة: «فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه, وقال لم: من تطلبون, أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو» (يو4:18-5). وحينما جازف بيلاطس ليعلن سلطانه أمام المسيح بموته أو بإطلاقه، أنكر عليه المسيح هذا السلطان واستعلن هو سلطانه السامي الذي له أن يلغي أي سلطان آخر: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟ أجاب يسوع: لم يكن لك علي سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق» (يو10:19-11). وبهذا القول استعلن المسيح حريته المطلقة في اختيار الموت حسب مشورة الآب الأزلية. لذلك لم يكن صعبا عليه ولا ثقيلا أن يحمل صليب العار والموت على كتفه: «فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع…» (يو17:19). وفي اللحظة الحاسمة لاقتراب الموت، استقبله المسيح كمن ينتظره وعلى رأسه إكليل الحياة والمجد: «فلما أخذ يسوع الخل قال قد أكمل، ونكس رأسه، وأسلم الروح» (يو30:19). قالها وهو فاتح ذراعيه يسلم الروح في يد الآب إلى حين…
‏«لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتها من أبي»: لم يكن كافيا لعقول السامعين أن يعلن المسيح عن سلطانه في «أن أضعها من ذاتي»، لذلك أردف هذا السلطان, أي سلطان الموت الإرادي الذي يمكن أن يكون عل مستوى البشر, بسلطان آخر ليس في طاقة البشر قط، وهو سلطان الإقامة من الموت! هنا يعزز المسيح موته كفعل إرادة إلهي غير منظور بفعل إرادة إلهي منظور ومحسوس، وهو القيامة, ليستعلن موته أنه فعل فداء وخلاص، وليبرىء موته من مفهوم الاضطرار أو الانهزام لقوى الظلام.
‏فقول الرب: «لى سلطان أن آخذها أيضاً», الأمر الذي حققه بالفعل, يستعلن فيه سلطانه على الموت، بمعنى أنه يأخذ الموت لنفسه عندما يشاء ويلقيه عنه كما يشاء. وهذا بعينه هو «سلطان عدم الموت» القائم والدائم في طبيعة الابن وجوهره الإلهي.
‏وإذا تعمقنا قليلا في هذه الطبيعة الفائقة التي فيها يتساوى سلطان حرية الموت مع سلطان حرية القيامة من الموت، لأدركنا أن فعل الموت والقيامة هما حاضران معاً, كحدث واحد, في تدبير المسيح بدون اهتزاز ولا افتراق. هذا السلطان على الموت والقيامة من الموت قبله المسيح من الآب كوصية للتنفيذ لينفذه في ذاته لتكميل تدبير خطة الآب لخلاص العالم. ومن هذا «السلطان» عينه على الموت والإقامة من الموت, الذي نقذه المسيح الكلمة المتجسد في ذاته، حسب وصية الآب من أجل الإنسان, صار بالتالي للمسيح نفس «هذا السلطان» على إعطاء عبور الموت والقيامة, أي الميلاد الجديد السماوي, لكل من يؤمن به، «وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولادالله أي المؤمنون باسمه، الذين وُلدوا… من الله» (يو12:1-13). أي أنه نفذ هذا «السلطان» في نفسه ليعطيه للآخرين, إنما من خلال إخضاعه الموت والقيامة لنفسه أولاً!!
«فسلطان» المسيح عل إعطاء الحياة الأبدية للإنسان يستمده من طبيعته ومن وصية الآب, ومن فعل ذبيحته التي جاز بها الموت وظفر بالحياة بالقيامة من الموت: «تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد آتت الساعة، مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.» (يو1:17-2)
‏أما بعد قيامته من الأموات، بعد أن داس الموت وأبطل سلطانه وأخضع كل سلاطين الظملة تحت قدميه، أعلن لتلاميذه عن سلطانه المطلق هكذا: «فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دُفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض.» (مت18:28)
‏ولكن لم يكن المسيح أبداً بدون هذا السطان حتى قبل موته وقيامته، لأن هذا السلطان في طبيعته, فقد أعلن بالقول والفعل عن سلطانه على مغفرة الخطايا (مت6:9) وسلطانه على الدينونة (يو27:5) وسلطانه على إعطاء الحياة (يو2:17) وسلطانه على القيامة من الموت (يو18:10). لذلك، فإعلانه عن سلطانه المطلق في السماء وعلى الأرض لتلاميذه بعد القيامة (مت18:28)، لم يكن إلا استعلاناً وتحقيقاً فعليا لما كان ولما هو موجود ولكل ما سمعوه ورأوه من أقواله وأعماله، ولإعطائهم هذا «السلطان باسمه» على مغفرة الخطايا وإجراء المعمودية لقبول الميلاد الجديد.
‏وهنا يلزمنا أن نصالح بين الزمني والأبدي في أفعال المسيح من جهة موته وقيامته. فكل ما صار إليه المسيح تحت الزمن والناموس، كان قائما في العلم والمشيئة والإرادة الإلهية قبل إنشاء العالم. فكل النبوات أعلنت ما سيكون قبل أن يكون، خاصة عن موته الخلاصي وقيامته المحيية. اسمع ما يقوله بولس الرسول حينها رفع عينيه فرأى ما هو قائم في نص الخطة الأزلية من جهة أسمائنا المكتوبة بين المخلصين قبل تأسيس العالم! «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة» (أف3:1-4)
‏أما القديس يوحنا فقد اطلع على السفر المكتوب فيه أسماء الخراف الناطقة المعينين للحياة الأبدية: «فسيسجد له (للوحش) جميع الساكنين على الأرض، الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذُبح» (رؤ8:13)
‏كذلك، حينما خاطب المسيح الآب، فإنما كان يخاطبه كابن ليُسمعنا نحن عن سر علاقته الأزلية بالآب، التي لم تتغير ولم تنقص ولم تزد إلا بما استلزمته مظاهر التجسد التي قبلها الابن لحسابنا. فالمجد والحب وكل شيء بين الآب والابن انحجبت قليلا بالتجسد، لتعود كما كانت بالقيامة من الأموات: «والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يو5:17)، «كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي…» (يو10:17)، «… لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو24:17‏). والمسيح ألمح إلى ذلك في لفتة سريعة، إنما ذات عمق لانهائي بقوله: «فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً…» (يو62:6) هنا يكشف المسيح عن سر كينونته الدائمة والأزلية مع الآب منذ البدء، عابراً على فعل تجسده وموته وقيامته على أنها إرسالية زمنية عابرة لغربة على الأرض، أكمل واجباتها حسب الوصية دون أن تحتجز أو تنتقص شيئاً من كيانه.
‏وسفر الرؤيا يعلن ذلك في اختصار شديد ورتابة مبدعة: «نعمة لكم وسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي…» (رؤ4:1)، «أنا هو الألف والياء, البداية والنهاية, يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي القادر على كل شيء.» (رؤ8:1)
‏وهكذا يتبين لنا من كل هذه الأقوال والنبوات، أن أعمال الله تقطع فراسخ الزمن في ومضة البرق وتطوي الأماكن والأجيال والخلائق وكل ما كان وما سيكون، في كلمة: «أنا هو الأف والياء البداية والنهاية». والمسيح جاء ليكمل بالفعل الزمني ما كان كائناً وكاملاً في الحق الأبدي. أو باختصار أشد: إن كل أعمال الكلمة الابن المتجسد كانت جاهزة وحاضرة، بل ومكملة أيضاً، لحظة مجيئه وظهوره، وذلك واضح في قوله: «لى سلطان…». وإن هذا السلطان هو «وصية قبلتها من أبي», وهي قائمة بالنبوة في انتظاره، «لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لى جسداً… ثم قلت هأنذا أجيء, في درج الكتاب مكتوب عني, لأفعل مشيتك يا الله.» (عب5:10و7)

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

 

الآيات (17،18): “لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً هذه الوصية قبلتها من أبي.”

المسيح ببذل نفسه، فرح الآب= لهذا يحبني الآب= لأنه جعل محبة الآب للإنسان محسوسة.

لهذا يحبني الآب= هنا ذبيحة المسيح هي موضع فرح الآب ومحبته للإبن كإنسان أطاع حتى الموت ليفدى البشر. الإبن موضع حب الآب أزلياً لكنه هنا يعلن فرحة الآب بعودة البشر لأحضانه بعمل المسيح الفدائي. بهذا الآية يعلن [1] حب الآب لنا [2] علاقته بالآب فلا يتشككوا فيه [3] سلطانه المطلق إذ هو في محبته أسلم نفسه لأجلنا [4] الفداء موت وقيامة= أضع نفسي لآخذها= فهو لن يرى فساداً. هنا الراعي لا يموت فقط لأجل الخراف بل يقوم ليقيمها معه. هنا نرى سلطان المسيح وأنه يبذل ذاته بإرادته حباً للآب ولرعيته. قيمة ذبيحة المسيح أنها طوعية. هو الراعي الذي أتى ليفتش على خروفه الضال ليرده، أتى إليه حتى أعماق الموت ليقيمه حياً، لقد صار الراعي هنا ذبيحة. الموت هو الذئب الذي كان يخافه الرعاة السابقون. ولكن الراعي الصالح أتي ليفترس هذا الذئب أو ليميت الموت (عب14:2،15). وهنا يلتفت المسيح نحو الآب ليقدم له ذبيحته التي هي ذبيحة حب وطاعة للآب فهي إستجابة لوصية الآب. ونرى هنا سلطان المسيح على الموت والحياة معاً. والمسيح يضع هذا السلطان في توافق مع الآب= هذه الوصية قبلتها من أبي= الوصية هي الموت عن العالم في حب للعالم وبذل نفس عن العالم. وهنا نرى التساوي والوحدة بين الآب والإبن فلأنهما واحد فما يريده الآب يريده الإبن= لي سلطان أن.. فالإنسان العادي له سلطان أن يضع نفسه للموت ولكن ليس لإنسان أن يقيم نفسه. ولكن للمسيح هذا السلطان فكل ما هو للآب هو للإبن. في هذه الآية نرى موت المسيح وقيامته بسلطانه وإرادته. فهو يريد أيضاً أن يموت عن العالم. لكن الآب يريد والإبن ينفذ.

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى