رو 2:12 ولا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم
وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ.
+++
تفسير القديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير القمص متى المسكين
2:12 «ولا تُشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة».
والآن بحسب فكر ق . بولس في مضاهاة ترتيب العبادة الجديدة في المسيح على ترتيب العبادة الـقـديمة، يبدأ بعمليات التخصص للعبادة، أي تقديس الأشياء بتخصيص الذبائح اللائقة للذبيحة وتطهيرها وغسلها، وتطهير الأواني وغسلها ورش دم الذبيحة التي للتطهير على الأواني وحتى كتب الـقـراءة ليتطهر الكل فيتخصص للعبادة : «لأن موسى بعد ما كلم الشعب بكل وصية بحسب الـنـامـوس أخذ دم الـعـجـول والـتـيـوس مع ماء وصـوفـاً قرمزياً وزوفا ورش الكتاب نفسه وجميع الشعب … والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة … » (عب9: 19و21). وهذه العمليات كلها أولية لضمان أن تكون كل الأشياء قد تخصصت للخدمة للعبادة. والآن ماذا يقابلها في العهد الجديد عند ق. بولس ؟ يقابلها تخصص المؤمنين أنفسهم ، بمعنى تغيير شكلهم من شكل العالم ليأخذوا شكل المسيح حتى يصيروا لائقين لعبادة مقدسة .
« ولا تُشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم »:
«تشاکلوا »، «تغيّروا عن شكلكم » اللغة العربية قصرت في التفريق بين الكلمتين ، فمع أن الفارق بينهما في اللفظ في العربية متقارب إلا أن المعنى يختلف باختلاف جذر كل منهما.
والآن فـالـكـلـمـة السلبية «لا تشاكلوا » تفيد ضرورة تغيير البيئة القديمة التي للعالم والتكيف على البيئة الجـديـدة ـ والـكـلمة هنا بالإنجليزية واضحة أكثر adaptation ـ أي إلى البيئة أو الشكل الذي للقديسين . أما كلمة «تغيروا عن شكلكم » وهي كلمة واحدة باليونانية فهي تعني التغيير الداخلي أي في الطبيعة، الأمر الذي لا يمكن فهمه أو تنفيذه إلا بالمعمودية ، حيث فيها يتم خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد الذي يتجدد بالنعمة «حسب صورة خالقه » (يو۱۰:۳)، بل هي تعني أيضاً خلع روح هذا الزمان الحاضر ولبس روح الدهر الآتي، روح الحياة في المسيح يسوع . فالكلمة الأولى «لا تـشـاكـلـوا» تختص بالسلوك والأخلاق ، بينما الكلمة «تغيروا عن شکلـكـم » فتختص بصميم التجديد بالميلاد الثاني لنوال الطبيعة الجديدة الروحية ، التي انفتحت لـنـا أبـوابـهـا بـالإيمان والمعمودية ولبس المسيح وأكل جسده وشرب دمه. هذا هو معنى ومضمون وجوهر « تغيروا عن شكلكم » .
ولـكـن للأسف هناك صعوبة في اللغة العربية في التفريق بين شكل وشكل : وللقديس يوحنا ذهبي الـفـم شـرح يوضح مدى اللبس والبلبلة التي وقعنا فيها بسبب الترجمة العربية في ترجمتها للكلمتين بمعنى الشكل: «لا تشاكلوا » و «تغيروا عن شكلكم »، يقول ذهبي الفم :
[ق. بولس لا يقول «تغير عن شكلك » ( هنا يقصد السكيما ) بل يقول «تغير عن طبيعتك » لكي يثبت أن طرق العالم هي شكلية، ولـكـن الـفـضـيلة ليست شكلاً ولكنها كيان حقيقي له جماله حسب طبيعته الخاصة ولا يحتاج إلى التزويق أو الغش وتغيير الشكل الخارجي للأمور، الذي حتماً سينكشف و ينتهي إلى زوال . لأن هذه الأمور كلها حتى وقبل أن تنكشف بالنور تذوب وتتلاشي . فإذا ألقيت بالشكليات جانباً فإنك بسرعة تبلغ إلى الكيان الحقيقي].
«بل تغيروا عن شكلكم » :
المعنى هنا منصب على الكيان الداخلي، على الطبيعة ذاتها وليس مجرد أشكال العالم. فالتغيير هنا، ولو أن ق. بولس يراه في إمكاننا وبإرادتنا، ولكنه في الحقيقة عمل يفوق إمكانياتنا وإرادتنا . فصحيح نـحـن نتقدم للمعمودية بإرادتنا، ولكن ما يحدث فيها هو عمل فائق من الله يتدخل فيه الروح القدس لكي يكمل بالسر ما لا يدركه العقل، إذ نخلع إنساننا العتيق فنموت عن جسد الخطية، لتلبس الإنسان الجديد، بل نلبس المسيح ، نخلع شکل آدميتنا لنلبس شكل المسيح .
ومـا تـم في السر المـقـدس يظهر في العمل والسلوك والحياة حيث ينال الإنسان مؤازرة من روح الله للسلوك بحسب الروح وليس حسب الجسد بعد ، ، ليكون لنا فكر المسيح في القداسة والبر عوض فكر هذا الدهر في النجاسة والشر. والآن، وإن كنا قد قبلنا معموديتنا في الصغر حيث لم يكن إدراك ولا وعي، إلا أن الروح الذي أخذناه ومسحنا به لا يحجزه الزمن عنا ولا يمسحه الدهر منا ، فهو خـتـم إلهـي أبـدي يـرافـقنا حتى يوم ا الفداء. حينما ندعوه نجده ، نطلبه يعمل ويؤازر، حينما نتكل عليه يثبت أنه حاضر ومرافق : «الرب معكم ما كنتم معه وإن طلبتموه يوجد لكم وإن تركتموه يترككم » ( ٢ أي ١٥ : ٢). هذا يقوله النبي عزريا بن عوديد .
لذلك حينما يقول ق. بولس : «تغيروا عن شكلكم»، وكأنه يطلب بشبه أمر، فإنه يعتمد على ذخـيـرة حـيـة مـوجـودة في كياننا الداخلي الروحي ومستعدة للعمل. وهكذا إن أردنا أن نتغير عن شكلنا فالروح قائم مستعد . ولماذا لا يكون الآن؟
ويلاحظ القارىء مدى اعتماد ق. بولس على هذا الروح والقوة والنعمة والختم الذي تحمله حينما يقول أولاً : «لا تشاكلوا هذا الدهر»، فالقوة على الاعتزال عن شكل العالم الشرير هي قائمة في قوله : «تغيروا عن شكلكم » وهو أمر في حقيقته فائق لإمكانياتنا الضعيفة، ولكنه واقع في مجال إرادتنا إن طلبنا الله عن وعي وصدق وأمانة لنقدم له من حياتنا وسلوكنا المجد والكرامة ، والعبادة حسب مسرته ورضاه .
«بتجديد أذهانكم » :
لقد عثر العلماء في هذا القول للقديس بولس واعتبروه مجرد تكرار لما قال بنوع من التهرب دون أن يأتي بـكـيـف نتغير. ولكن في الحقيقة ق. بولس يقصد أن يقول إن التغيير الجذري في الكيان والـطـبـيـعـة الذي يعمل الروح في المعمودية، وإن كان سرياً وغير منظور ولا حتى محسوساً، إلا أن الذي ينتج عن هذا التغيير له مقابل في الذهن أي « الوعي الروحي»، وهو التعبير الصحيح عن مفهوم عمل العقل للإنسان الروحي. فالتجديد الخلقي في المعمودية بالسر يرافقه ويمتد منه تجديد في الوعي الروحي = الذهن = العقل، فينتقل الإنسان من مستويات فكرية كانت على مستوى العالم الحاضر إلى مستويات فكرية روحية ( = في الوعي الروحي) عالية على مستوى الروح، وهذا هو في الحقيقة المقصود بحالة «التجديد الذهني». ولكن لا يزال لهذا التجديد الذهني الحادث والمرافق للتغيير الداخلي الذي يتم بالروح في سر العماد والإيمان ، لا يزال له بالتالي دور جديد في أنه هو الآخر قادر أن يحول ويغير ويجدد في صميم الكيان الداخلي، أي في طبيعة الإنسان. كيف ؟
نقول إن الإنسان الذي نال الاستنارة في سر العماد وانفتح ذهنه باسم الآب والابن والروح القدس ليفهم الكتب ويدرك أسرار الروح فيها ، حينما يقرأ ويدرس ويعي ويتأمل، فالذي يحدث له هو تجديد الذهن بمعنى حصوله كل مرة على حالة ارتقاء ذهني يدخل فيها الذهن في مجالات جديدة، ونقول جديدة بالحق !! ، فيها يدرك الإنسان أن ما يكون قد أدركه سابقاً يجده لا يقاس بما حصـل عـلـيـه كـل مرة، هذا هو تجديد الذهن . وتجديد الذهن هو تحوله من ذهن جسدي إلى ذهن روحي باستمرار، فهو بالتالي تجديد للروح والنفس والكيان الداخلي للإنسان .
لذلك يتضح الآن بقوة، قول ق. بولس : «تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » !! لذلك فإن القراءة بذهن مفتوح هي حالة تجديد للمعمودية بالسر للذهن، حيث يتجدد بالكلمة ، وهذا هو نص ما يقوله بطرس الرسول : «مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد» (۱بط ۱ : ۲۳). فالكلمة لها قوة تعميد الذهن بسر يفوق العقل .
« لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة » :
تختبروا
هنا ينقسم العلماء في فهم هذه الكلمة وتفسيرها ، فهي بحسب القواميس الدقيقة تعني ثلاثة معان : الأول يحقق to prove ، والثاني يختبر to test ، والثالث يستحسن to approve . وبعض العلماء مـثـل هـودج يـفـضـل المعنى الثاني ومعه كثير من العلماء مثل ليون موريس وكايسمان وهدلام ومعهم القديس ذهبي الفم ، ولكن ينفرد كرانفيلد ويشترك براون بالمعنى الأول ” يحقق “. وحيثيات الحكم بأنها تعني الاختبار هي أن تجديد الذهن يجعله يدرك أسرار الإنجيل والروح والحياة فيختبر أن إرادة الله صالحة ومرضية وكاملة : « وأما ( الإنسان) الروحي فيحكم في كل شيء ولا يحكم فيه من أحد» (١كو٢ : ١٥). وأما حيثيات حـكـم كـرانفيلد فهي أن الذهن المتجدد يحقق في حياته إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ويكرز بها وهذا منتهى مطلب ق. بولس بل والله أيضاً : «فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعـمـالـكـم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات » (مت 5 : 16). هنا تحقيق الإرادة الصالحة بين الناس وهو مقصد الخدمة والبشارة ومجمل العبادة .
أما رأينا نحن فيصعب أن ننحاز لأي من الرأيين ونرى أن نأخذهما معاً !! فالذهن المتجدد يختبر حتماً، ويحقق حتماً، ولا يمكن فصل عمل الذهن في اختباره لصلاح إرادة الله من تحقيقها في الحياة، وهو يحققها لأنه يستحسنها .
«تختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة » :
هنا ينتقل ق. بولس نقلة أخرى في مضاهاة العبادة القديمة حسب الناموس على العبادة الجديدة التي في المسيح يسوع وذلك من جهة التعليم : من الذي يعلم؟ معروف أن التعليم في ناموس موسی اختص به الكتبة والفريسيون الذين يسمون أيضاً ” الناموسيون “، أي كتبة الناموس ومعلموه للشعب، حيث كان للتعليم الموسوي أصوله الدقيقة جداً سواء في كتابته تحت قيود ومحظورات لا عدد لها، ثم حفظه، ثم تدريسه . فحينما يعلم الفريسي، فإن عليه أن يفصح عن مصدر تعليمه وعن الفريسي الذي استلم منه.
وق. بولس هنا يبطل هذا المنهج من أوله إلى آخره ويجعل المؤمن هو نفسه الذي يعرف ويختبر ويستحسن تعاليم المسيح وينادي بها من واقع عبادته الناطقة بذبيحة نفسه في القداسة وتجديد ذهنه، وهو في ذلك يستند إلى النبوة القائلة : « ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً … هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب : أجـعـل شـريـعـتـي في داخلهم [ « المسيح فيكم رجاء المجد» (كو1: 27) ] وأكتبها على قلوبهم ( عـوض ألواح موسى ) وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعباً ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحـد أخـاه قـائـلين اعـرفـوا الـرب لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم [ «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» (مت 11: 25) ]
إلى كبيرهم ، يقول الرب ، لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد . » (إر31: 31- 34)
«إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة » :
لم يكن من الهين معرفة مشيئة الله في القديم لأنه لا يمكن معرفة اتجاهاتها أو حدودها ، فهي لا تعرف ولـكـن تـسـتـعـلـن لكل واحد كما يريده الله له . ومن شدة صعوبة إدراكها ، تاه اليهود في التمييز ولـم يـعـرفـوا «إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة» التي كانت أمامهم وبين أيديهم وتتحادث معهم وتتوسل إليهم – في شخص يسوع المسيح ابن الله ـ الذي أهانوه ورفضوه وقتلوه . لذلك كانت أول وصية في الصلاة علمها الرب لتلاميذه بعد تقديس اسم العلي وطلب مجيء ملكوته هي «لتكن مشيئتك»، لأن في مشيئة الله يكمن خلاصنا وحياتنا الأبدية، لذلك أردف بها الرب : «كما في السماء كذلك على الأرض»، بمفهوم أن تطابق عملها فينا الآن تماماً كما يریده هي لنا الله هناك في السماء، أي الحياة الأبدية مع الله، أي يتم فينا ما رآه ق. بولس بالروح لنا : «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة » (أف4:1). هذه المشيئة الصالحة المرضية الكاملة بالنسبة لنا وللكنيسة ككل.
ويلاحظ أن ق. بولس وهو الفريسي المتعلم على كل أصول علم الله بحسب الناموس لم يكن يعرف ما هي مشيئة الله !! وذلك وضح حينما أعلن له الله عن مشيئته : « : «إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه» (أع ٢٢: ١٤). وما هي المشيئة الإلهية التي كان يجهلها ق. بولس وقد عرفها من فم المسيح ؟ إلا دعوة الأمم للدخول في الإيمان المسيحي، ونوال وعد الله في إبـراهـيـم، وحصولهم على شركة الميراث وعضوية الجسد ـ أي الكنيسة، وذلك بدون ناموس ولا ختان ولا سبت ولا عوايد قديمة لليهود ، بل يكون لهم كل شيء جديداً ويقبلون الميلاد الثاني من الماء والروح ويـصـيـرون أولاد الله بالتبني، هذه هي مشيئة الله الصالحة والمرضية والكاملة .
أما أنها إرادة صالحة فهي فعلاً صالحة جداً لأنها قبلتنا ونحن بعد خطاة أشرار.
أما كونها مرضية فهي ليست مرضية عنده فقط بل إن فيها منتهى مسرته : « أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، « هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد . … » (يو16:3).
أما أنها كاملة فواضح كمالها في قول المسيح على الصليب : «قد أكمل» (يو۱۹ : ۳۰)، بمعنى أن مشيئة الله بلغت كمالها النهائي باستعلان المسيح وتكميل فداء الإنسان لقبول الصلح والتبني .
ولـكـن يلاحظ أن ق. بولس يضع هذه الثلاث الصفات لإرادة الله الصالحة، والمرضية، والـكـامـلـة في مقابل الثلاث الصفات التي كانت مختبئة في الناموس دون عمل: «إذا الناموس مقدس والـوصـيـة مـقـدسة، وعادلة، وصالحة» (رو۱۲:۷). والفارق شاسع، فصفات الناموس والـوصـيـة بـقـيـت «مقدسة وعادلة وصالحة» في ذاتها ولم يستطع الإنسان أن ينال شيئاً منها ، أما إرادة الله في شخص يسوع المسيح فاستُعلنت استعلاناً وظهرت ظهوراً «أنها صالحة ومرضية وكاملة»، وأصبحت في متناول كل ذهن يتجدد من داخل مواهب الله المجانية ويقبلها وتعمل هي له وفيه: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك. » (لو۲۱:۱۰)
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“ولا تشاركوا هذا الدهر،
بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم،
لتخبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضيّة الكاملة” [2].
لكن نقدّم حياتنا ذبيحة حب، يلزم أن نقدّمها مقدّسة للرب، فلا تكون حياتنا على شاكلة أهل العالم الحاضر الذي يعيشون لحساب الجسد، ويطلبون الكرامات الزمنيّة، وإنما يلزم تجديد الذهن الداخلي لنحمل لا إرادتنا الذاتية، بل إرادة الله الصالحة المرضيّة الكاملة. تجديد القلب والنفس على صورة خالقنا يهبنا إرادته عاملة فينا، فتكون تصرفاتنا الخارجية أو سلوكنا الظاهر يمثّل النقاوة الداخليّة.
يقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [كيف تقدرون أن تُطيعوا بولس الذي يحثّكم على تقديم أعضائكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة إن كنتم تمتثلون بهذا العالم ولا تتشكّلون بتجديد أذهانكم، عندما لا تسلكون في جدة الحياة بل تبقون سالكين في روتين الإنسان العتيق؟]
في دراستنا للتجديد – في كتاب: “الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر” ميّزنا بين التجديد الذي نناله في مياه المعموديّة حيث يُصلب الإنسان العتيق وننعم بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا يحمل قوّة القيامة فيه، وبين التجديد الذهني المستمر خلال نموّنا الدائم بنعمة الله الدائمة الحركة فينا، ترفعنا من قوّة إلى قوّة، ومن مجد إلى مجد. خلال هذا التجديد المستمر بعمل النعمة الدائم نمارس الحياة المقدّسة كذبيحة حب لله لا تتوقف. لذا يقول الشهيد كبريانوس: [إنكم تقدّمون هذه الذبيحة للَّه، وتحتفلون بها بغير توقّف، نهارًا وليلاً، إذ صرتم ذبائح الله، مظهرين أنفسكم كتقدمات مقدّسة بلا عيب.]
يقارن القدّيس يوحنا الذهبي الفم بين الذين يشاكلون هذا العالم أو يحملون هيئته أو “شكله” وبين الذين يتغيّرون داخليًا بتجديد أذهانهم، فيرى في الأولين أنهم يحملون شكل العالم الزائل خلال الأمور الظاهرة الوقتيّة، بينما الآخيرون يحملون الحق الأبدي في داخلهم، إذ يقول:
[شكل (هيئة) هذا العالم حقير وزهيد ووقتي، ليس فيه سموّ ولا استمرارية ولا استقامة، إنما هو فاسد تمامًا. فإن أردت السلوك باستقامة لا تشكّل نفسك حسب شاكلة هذه الحياة الحاضرة، إذ لا يوجد فيها شيء باقٍ أو مستقر. لهذا يقول “شاكلة (هذا الدهر)” وفي موضع آخر يقول: “لأن هيئة (أو شكل) هذا العالم تزول“ (1 كو 7: 31)…
إن تحدثت عن الغني أو المجد أو جمال إنسان أو ترف أو ما يشبه ذلك من الأمور العظيمة التي تريدها تجدها “شكلاً مجرّدًا” وليست حقيقة. إنها مجرّد عرض وقناع وليست كيانًا دائمًا.
“لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم”، لم يقل “بتغيير شكله” بل “تغيّروا” مظهرًا أن طرق العالم هي “شكل” أمّا طريق الفضيلة فليس شكلاً بل كيان حقيقي يحمل جمالاً طبيعيًا خاصًا به لا يحتاج إلى خداعات أو أشكال خارجية تزول…
ليس شيء أضعف من الرذيلة، ولا ما يشيخ سريعًا مثلها… هل تخطيء كل يوم؟ هل تجعل نفسك تشيخ؟ لا تيأس ولا تخر، بل تجدد بالتوبة والدموع مع الاعتراف وعمل الصلاح!]
هكذا يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن من يحمل شكل العالم الحاضر يحمل طبيعته الفانية الزائلة، أمّا من يتجدد كل يوم بالتوبة فيلتقي بالحق الأبدي، عِوض الظلال الفانية، بمعنى آخر من يرتبط بالخطيّة إنما تشيخ نفسه وتهلك، ومن يرتبط بالتوبة يتجدّد مثل النسر شبابه الداخلي (مز 103: 5)، فيحمل فيه إرادة الله الصالحة المرضيّة الكاملة.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (2): “ولا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة.”
هناك صورة لأولاد الله، يكونون فيها شكل المسيح في محبته وقداسته ووداعته … يكونون نوراً للعالم. وهناك صورة لأولاد العالم الذين كل همهم البهرجة والموضة والعنف والشهوة…هم في ظلمة.
لا تشاكلوا هذا الدهر:أكبر عدو للتغيير إلي صورة الله، هو أن نتشبه بالعالم وصورة أولاده، فالعالم زائل زائف، ومن يأخذ شكله يصير فانيا مثله.
تشاكلوا = تتشبهوا وتقلدوا. من الخطأ أن نقول “كل الناس بتعمل كده” لسبب بسيط أننى لست ناس، بل أنا إبن لله، لقد أصبحنا بعد المعمودية مخلوقات سماوية ومواطنين سماويين ونصلي لأبينا الذي فى السموات، والله يسكن فينا، فإمّا أن نتخلي عن كل هذا الذي حصلنا عليه ونصير شكل العالم، أو نترك شكل العالم ونتغير = بل تغيروا = كلمة تغيروا تشير للخليقة الجديدة والولادة الجديدة بالمعمودية التى لها قوة تعين علي ذلك، هى تعيننا علي أن نتغير إلي تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح 2كو 18:3. وبولس يطلب أن نترك الشكل القديم معتمدين علي ما حصلنا علية في داخلنا من قوة مؤازرة من الروح القدس. وبقدر ما نتغير عن شكل هذا الدهر تتشكل كأبناء لله، فنحمل شكل المسيح. من له شكل العالم يصير فانيا مثله، ومن يحمل شكل المسيح سيكون في مجد أبدي مثله. وكيف يتم هذا التغيير؟
بتجديد أذهانكم = بالمعمودية صار لنا إدراك روحي، وهذا يتفتح بإستمرار مع الدراسة والتأمل والقراءة، ومع الوقت يحدث تجديد الذهن. ففي كل مرة يحدث حالة إرتقاء ذهني ويتحول الذهن الجسدي إلى ذهن روحي.(1بط23:1). ومع تفتح الذهن يبدأ الإنسان في الإهتمام بأن يوجد مع الله تاركاً أماكن الشر، ويوماً وراء يوم يجد نفسه وقد إنصرف تماما عنها.
في البداية تجده متذبذباً بين هذه وتلك، ربما يضغط علي نفسه ليذهب للكنيسة، ولكنه يسعد بأماكن اللهو، ومع الوقت لا يجد لذته سوي في الكنيسة. ويوماً وراء يوم تتغير مبادئه، في شكله الأول كان يهتم بالنوادي…. والآن صار اهتمامه فقط بتسبيح الله، وهذا يحدث بتأثير الروح القدس الذي يعطيه الإقناع العقلي. كلما قدم جسده ذبيحة حية كلما إستنار أكثر بالروح القدس الذي يعطيه تغييراً وتجديداً لذهنه. بل ما كان يفرح به في الماضي لا يعود يفرحه الآن. زمان كان يفرح بالمال وإقتنائه والآن ما عاد يفرحه سوي عشرة الله. لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة = كلما إقترب المؤمن من شكل أولاد الله يمتلئ من الروح القدس والروح يعطيه إستنارة بأن إرادة الله دائماً صالحة فيرضي عنها إذ هي دائماً كاملة فيسلَّم حياته لله تسليماً كاملا، وتصير نفسه في صفاء كامل لا يزعزعها أو يزعجها شئ، مثل هذا الإنسان سينفذ إرادة الله في حياته إذ هو يستحسنها. ولا يعود هذا الشخص يتساءل أريد أن أعرف إرادة الله في هذا الموضوع أو ذاك الموضوع، فالروح يعطي إستنارة كاملة فيعرف طريقه. وإن كانت الأمور عكس إرادته نجده يقول هي للصالح طالما هي إرادة الله، فالله لا يخطئ أبداً.
تفسير المتنيح الأنبا اثناسيوس مطران بني سويف
أطلب اليكم ايهـا الأخوة برأفة الله
ما أحلى التعليم بتواضع ، النابع من الله والمنسوب له
في بداية الرسالة قال لهم أنه مزمع أنه يذهب إليـهـم ليـمنحهم هبة روحية لثباتهم ، وفسرها بانهم يتعزون سوياً. وفي رسالته إلى أهل كورنثوس « انا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة »(1کو2: 3) وايضـا « اطلب إليكم بوداعـة المسـيح وحلمـه انا نفسى بولس الذي في الحضرة ذليل بينكم واما في الغيبة فمتجاسر علیکم » (2کو10: 1).
الآيه الثانية تؤكد ما ورد في الأولى . فالأولى تنادى بمقاومة الجسد أي الطبيعة القديمة وربط العقل بالرب ، والثانية تقول لا تشاكلوا هذا الدهر وتغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم . فبداية الكلام عن السلوك المسيحى هو أن الله أراد لنا حياة صالحة كاملة ولذا نرفض ميول الشر الساكن في الطبيعة الجسدية ونعبده بكل ما فينا بفكر وعواطف ، كما نرفض نداءات الشر الساكن في العالم ونجدد افكارنا دائما . وليست العبادة العقلية هنا هي في وقفة الصلاة فقط ، بل في الفكر الجديد بالنعمة ، دائم التجديد.
تفسير د/ موريس تاوضروس
ولإتشاكلوا هذا الدهر بـل تـغـيـروا عن شكلكم بـتـجـديـد أذهانكم لـتـخـتـبـروا ماهي ارادة الله الصالحة المرضية الكاملة
عبارة لا تشاكلوا هذا الدهر، تعني: لا تتشبهوا في حياتكم ، بحياة هؤلاء الماديين الذين ينصرفون إلى الاهتمام بهـذا الـعـالـم ، أي أننا من أجل أن ننجح في تقديم أجسادنا ذبائح روحية مرضية علينا أن لا نتشبه بهذا الدهر ولا نتشكل بشكله .
– بل تغيروا عن شكلكم بتـجـديـد أذهانكم : تغير الشكل يتم عن طريق تجديد الفكر أي باستبدال الأفكار القديمة البالية ، افكار الانسان العتيق ، بالأفكار المسيحية والاهتمامات الروحية. أن ما يحدث ليس هو تغير العقل في طبيعته بل في خصائصه . ومن الملاحظ ان الرسول في العدد السابق تكلم عن تجديد الأجساد وذلك بتكريسها ، وهنا أيضا يتكلم عن تجديد العـقـول . العقل في حالته الطبيعية خارجا عن الايمان يكون ذهنا جسديا ( کو2: 18) ، ولكي يتجدد العقل يحتاج الي استنارة الروح القدس ،وفي هذه الاستنارة سيعرف ما هو الصالح الروح القدس ينير البصيرة ويطهر الدوافع ويقدس الغايات ويجدد القلب ، ويضع كل قوي الانسان تحت أرشـاده وتوجيهه فلا يكون الانسان كمـا كـان أولا بل نكون أزاء انسان جديد ، وكل شي يصير مع هذا الانسان جديدا .
لتختبروا ماهي ارادة الله الصالحة المرضية الكاملة :
أي لتعرفوا وتميزوا ما يتفق ومشيئة الله ، وهي المشيئة الصالحة التي تقود الانسان الي الكمال الأخلاقي ( أنظر في1: 10). إن عقولنا المتجددة ستكشف ما هي ارادة الله ،وبذلك سنكتشف صلاح الله وكمال مشيئته، وبهذا نته، كن من السير في طريق الكمال الروحي والأخلاقي و تتغير الي تلك الصورة عينها من مجد الي مسنده ( 2کو3: 18) ، وتتجددوا بروح ذهنكم وتلبسوا الانسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق : ( أف4: 22، 23).
اذن ان كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة ، الأشياء العتيقة قد مضت ، هوذا الكل قد صار جديدا ، (2کو5: 17) ، مشيئة الله توصف بأنها صالحة، ومرضية (عنده) ، وكاملة
- تفسير رسالة رومية 12 – القديس يوحنا ذهبي الفم
- تفسير رسالة رومية 12 – القمص تادرس يعقوب ملطي
- تفسير رسالة رومية 12 – القمص متى المسكين
- تفسير رسالة رومية 12 – القمص أنطونيوس فكري
- تفسير رسالة رومية 12 – الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف
- تفسير رسالة رومية 12 – د/ موريس تاوضروس
- تفسير رسالة رومية 12 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة