يو5:3 …أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله
“1كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. 2هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ». 3أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ». 4قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ:«كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» 5أَجَابَ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. 6اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. 7لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».” (يو3: 1-8)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“أجاب يسوع:
الحق الحق اقول لك،
إن كان أحد لا يولد من الماء والروح،
لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه”. (5)
عاد السيد وكرر ما سبق أن أكده، ليعلن أن هذا الحق لا يمكن التهاون فيه. فإن كلمة الله ليست نعم ولا، بل هي نعم وآمين. فمع عدم إدراك نيقوديموس للميلاد الجديد يصر السيد المسيح على ضرورته. ليس من طريق آخر لمعاينة ملكوت الله والدخول فيه سوى الولادة الثانية.
لماذا يستخدم الماء؟ إشارة إلى عمل الغسل الداخلي للنفس (تي ٣: ٥؛ ١ كو ٦: ١١؛ حز ٣٦: ٥٢). هذا الغسل يتحقق بالروح القدس القادر وحده أن يغسل أعماق النفس ويطهرها ويجددها. كما حول السيد المسيح الماء إلى خمرٍ يفرح أهل العرس والحاضرين فيه، هكذا يقدم لنا الماء لا لتطهير الجسد خارجيًا، بل تطهير الأعماق بالروح. هذا هو الماء الذي وعد به السيد في حديثه مع السامرية، أن من يشرب منه لا يعطش. إنه ليس كماء بئر يعقوب التي شرب منها هو وبنوه والماشية إنما هي مياه حية.
والماء ضروري في الميلاد الجديد، إذ يتم العماد بالتغطيس كقبول للموت والدفن مع المسيح للتمتع بالحياة المقامة الجديدة. وكما يقول الرسول بولس: “أم تجهلون إننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؛ فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الأب، هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة” (رو 6: 4) فالميلاد من الماء والروح هو موت عن حياة جسدية، ودفن لإعمال الإنسان القديم، وقبول شركة مع المسيح في حياته المقامة، أو قبول حياة جديدة مخلوقه بالروح القدس، الذي هو روح القيامة. إنها عملية خلق داخلي جديد، فنموت عن الفساد لنحمل طبيعة جديدة على صورة الخالق.
v الآن حتى الموعوظ يؤمن بصليب الرب يسوع المسيح الذي به أيضًا يُرشم، لكنه ما لم يعتمد باسم الآب والابن والروح القدس لا يقدر أن يتقبل غفران الخطايا، ولا يقتني عطية النعمة الروحية.
v أخيراً يمكنهم أن يتقدسوا بالتمام ويصيروا أبناء الله إن ولدوا من السرّ، كما هو مكتوب: “إن لم يولد الإنسان من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله”.
v فإن قلت: ما هو معنى هذا القول الذي قاله المسيح لنيقوديموس؟ أجبتك: “أراد المسيح أن يبعده عن التخيل الذي في الولادة الجسدية، وكأن المسيح يقول له يا نيقوديموس، إنما أقول أنا عن ولادة أخرى، فما بالك تسحب قولي إلى الأرض؟ لماذا تخضع هذا الفعل تحت ضرورة الطبيعة؟ فهذا الميلاد هو أعلى سموًا من مخاض الطلق التي هذه حالها، ابعد نفسك عن ما هو عام وشائع، فإنني أُدخل إلى العالم ولادة أخرى، وأشاء أن يولد الناس من جديد بطريقٍ آخر. لقد جئت لأجلب وسيلة جديدة للخلقة. لقد خلقت الإنسان من أرض وماء، ولكن ما قد تشكل ليس بنافع، فقد انحرف الإناء عن هدفه. لست أعود أشكله بتراب وماء بل بالماء والروح.
فإن سأل سائل: كيف يُخلق الله الإنسان من ماء؟ وأنا أسأله: وكيف خلقه من أرض؟ وكيف تقسم الطين إلى أجزاء مختلفة؟ من أين تكونت عظام الإنسان وأعصابه وشرايينه وأوردته؟ من أين أغشيته وأطرافه الآلية وغضاريفه وكبده وطحاله وقلبه؟ من أين تكوَّن جلده ودمه ولعابه وصفراه ومرارته؟ من أين أفعاله الجزيل تقديرها؟ من أين ألوانه المختلفة، لأن هذه الأجزاء ليست أجزاء أرض، ولا أجزاء طين.
وكيف إذا قبلت البذور الأرض تنبتها، وإذا قبل جسمنا البذور يعفنها؟
كيف تغذي الأرض البذور التي تُطرح فيها وجسمنا يتغذى على هذه البذور؟
تتقبل الأرض الماء فتجعله خمرًا، وجسمنا يقبل الخمر فيجعله ماءً. فلست أقدر أن أتحقق بفكري من أن هذه الأصناف جاءت من الأرض، إذ أن الأرض تضاد جسدنا بهذه الأصناف المذكورة، إلا أننى بتصديقي وإيماني بالله وحده أقبل أنها من الأرض.
فإن كانت تلك الأصناف المكونة كل يوم والملموسة تحتاج إلى تصديق وإيمان، فالأصناف الروحانية أولى وأليق أن تحتاج إلى تصديق وإيمان. وكما أن الأرض الغير متحركة حين أُيدت بإرادة الله تكونت منها هذه العجائب الجزيل عددها، هكذا إذا حضر الروح في الماء تتكون وأيسر مرام هذه الأفعال البديعة الفائقة على فكرنا…
وإن سأل سائل: وما الحاجة إلى الماء في هذه الولادة؟ أجبته: إن هذه الولادة تعمل وتتمم دلائل إلهية: قبر ودفن وإيمان وحياة وقيامة، وهذه كلها تتكون في المعمودية معًا، لأننا إذا غطسنا رؤوسنا في الماء، كأننا نغطسها في قبر من القبور، يُدفن فيه الإنسان العتيق إلى أسفل ويغرق كله، ثم إذا رفعنا رؤوسنا يطلع الإنسان الجديد أيضًا.
v من هو هذا الذي يولد من الروح ويصير روحًا إلا ذاك الذي يتجدد بالروح في ذهنه (أف 23:4)؟ هذا بالتأكيد هو الذي يُولد من جديد بالماء والروح القدس، إذ نتقبل الرجاء في الحياة الأبدية خلال جرن الميلاد الجديد والتجديد بالروح القدس (تي 5:3). في موضع آخر يقول بطرس الرسول: “ستُعمّدون بالروح القدس” (أع 16:11). فإنه من هذا الذي يعتمد بالروح القدس إلا الذي يُولد مرة أخرى بالماء والروح؟ لذلك يقول الرب عن الروح القدس: الحق الحق أقول لكم إن لم يولد الإنسان ثانية من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه“.
v يخبر ما جاء في سفر أعمال الرسل عن إعلان الروح الذي يعيش في المُعَمَّدْ، حين يمهد الماء الطريق لأولئك الذين يتقدمون بإخلاص. يُسمى العماد “غسْل الميلاد الثاني” (تي 5:3) الذي يتم بتجديد الروح.
v لما كان بسرّ العماد يتم إزالة دنس الميلاد، لذلك يُعمَّد حتى الأطفال. “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه” (يو 5:3).
v تغسلنا المعمودية من كل عيبٍ، وتجعلنا هيكل اللّه المقدس، وتردنا إلى شركة الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس.
القديس اكليمنضس الاسكندري
v بالمعمودية المقدسة ينعتق الإنسان من سلطان إبليس ويصير مولودًا من غير نطفة مثل ناسوت المسيح، لأن الروح القدس يقدسه من ميلاد النطفة، فلا يبقى للشيطان سلطان عليه مادام روح المسيح فيه.
الأنبا ساويرس أسقف الاشمونين
v الذي يعتمد للمسيح لا يولد من اللّه فقط بل يلبس المسيح أيضًا (غلا 27:3). لا نأخذ هذا بالمعنى الأدبي، كأنه عمل من أعمال المحبة، بل هو حقيقة. فالتجسد جعل اتحادنا بالمسيح وشركتنا في الألوهة أمرًا واقعًا.
يربط القديس جيروم بين الحيات المحرقة والعقارب وبين العطش حيث لا يوجد ماء، فكتب في رسالته إلى أوشانيوسOceanus أحد النبلاء الرومان الغيورين على الإيمان متحدثًا عن بركات المياه والمعمودية، جاء فيها:
v في البدء، أثناء الخلقة، كان روح اللَّه يرف على وجـه المياه كقائد مركبة (تك 2:1)، وأخرج منها العالم الصغير، رمزًا للطفل المسيحي الذي يُغطس في مياه المعمودية.
v إن كلمة سماء في العبرية shamyim تعني “الخارج من المياه”.
v إن كائنات الحية السماوية التي رأها حزقيال النبي في رؤياه على رؤوسها شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشر على رؤوسها (حز 22:1)، وأنها مياه مضغوطة جدًا.
v في جنة عدن وُجد نهر في وسطها له أربعة رؤوس يسقى الجنة (تك 10:2).
v في رؤيا حزقيال عن بيت الرب الجديد، رأى مياه تخرج من عتبة البيت نحو المشرق، والمياه تُشفي، وتهب حياة للأنفس الميتة (حز 1:47-9).
v عندما سقط العالم في الخطية لم يكن ممكنًا تطهيره إلا بالطوفان، وبعد أن خرج الطائر الدنس، عادت حمامة الروح القدس إلى نوح، جاءت بعد ذلك إلى السيد المسيح في نهر الأردن، وحملت الغصن المبشر بالسلام للعالم كله في منقارها.
v غرق في مياه البحر الأحمر فرعون وجنوده الذين رفضوا السماح لشعب اللَّه أن يتركوا مصر، بهذا صار البحر رمزًا لمعموديتنا. وقد وُصف هلاك فرعون في سفر المزامير: “أنت شققت البحر بالفضائل بقوتك؛ كسرت رؤوس التنانين في المياه. أنت رضضت رؤوس لوياثان إلى قطعٍ” (مز 13:74، 14 LXX).
v كما أن الخشبة جعلت مياه مارة حلوة، لتروي بمجاريها سبعين نخلة، هكذا جعل الصليب مياه الشريعة واهبة الحياة للسبعين رسل المسيح (خر 23:15-27؛ لو 1:10).
v حفر إبراهيم واسحق آبارًا بينما حاول الفلسطينيون منعهما (تك 15:26، 18).
v بئر سبع، مدينة القسم (تك 31:21) وجيحون موضع تجليس سليمان ملكًا، حملا أسميهما من الينابيع (1 مل 38:1؛ 2 أي 30:32).
v وجد اليعازر رفقة بجوار بئر (تك 15:24، 16).
v راحيل إذ كانت تسحب ماء من البئر نالت قبلة هناك (تك 11:29) بواسطة يعقوب.
v إذ كانت بنات كاهن مديان في طريقهن ليبلغن إلى البئر وكن في ضيقة، فتح موسى لهن الطريق، وخلصهن من الطاردين لهن (خر 16:2، 17).
v سابق الرب – يوحنا المعمدان – في ساليم (أي السلام) هيأ الشعب للمسيح بينبوع ماء (يو 23:3).
v المخلص نفسه لم يبشر بملكوت السماوات إلا بعد أن طهّر الأردن بعماده بالتغطيس (مت 13:3، 14).
v قال لنيقوديموس بطريقة سرية: “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه” (يو 5:3).
v كما بدأت خدمة المسيح بالماء انتهت أيضًا به، إذ ضُرب جنبه بالحربة ففاض منه دم وماء، رمزان للعماد والاستشهاد (يو 34:9).
v بعد قيامته عندما أرسل رسله للأمم أمرهم أن يعمدوهم بسرّ الثالوث القدوس (مت 19:28).
v إذ تاب اليهود عن شرورهم أرسلهم بطرس ليعتمدوا (أع 38:2).
v بولس مضطهد الكنيسة، الذئب الثائر الخارج من بنيامين (تك 27:49) أحني رأسه أمام حنانيا، واحد من قطيع المسيح، ونال بصيرته فقط عندما تقبل دواء المعمودية (أع 17:9، 18).
v بقراءة إشعياء النبي تهيأ خصي كنداكة ملك أثيوبيا لمعمودية المسيح (أع 27:8، 38).
v “صوت الرب على المياه… الرب على المياه كثيرة” (مز 3:29، 10). “أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متئم، وليس فيهن عقيم” (نش 2:4).
v أشار ميخا النبي إلى نعمة المعمودية، “يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميع خطاياكم” (مي 19:7).
تفسير الأب متى المسكين
5:3- أَجَابَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ.
سؤال نيقوديموس هو كيف يولد؟ هل من بطن أمه؟ هنا إجابة المسيح جاءت مباشرة على السؤال, فالميلاد ليس جسدياً بل هو ميلاد روحاني للنفس، ووسائله ليست لحمية لا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله: من الماء والروح. هو ميلاد غير منظور, سماوي.
والمسيح يستخدم حرف «من» الذي ترجمه القديس يوحنا في إنجيله باليونانية ( ) أو ( ), ويفيد «من داخل»، أي يدخل الإنسان الماء ويغشاه الروح ويقوم أو يخرج مولوداً جديداً. هنا الروح هو العنصر السماوي الأساسي المختص بـ «فوق»، المعتبر كينبوع أو مصدر الحياة العليا، وهنا تتركز النقلة الكبرى الجديدة للانسان. والأن لماذا الماء؟ فالروح معروف أنه عامل الخلق والتجديد، فما هو دور الماء؟ وحتماً الماء هنا ليس هو ماء المعمدان، بل ماء المسيح الذي مضمونه السري والسرائري هو روح هو سماوي؛ لأننا نعلم تماماً في مفهوم الماء حتى في أوائل معرفة الإنسان والخلق أنه يوجد نوعان من المياه: مياه فوق الجلّد (السماء) ومياه تحت الجلد وهو البحار والأنهار: «وقال الله ليكن جلد (أي سماء) في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك. ودعا الله الجلد سماء.» (تك6:1-8)
فالمياه التي حولها المسيح في عرس قانا، حولها من مياه تخدم الأغراض الوقتية إلى خمر يخدم الأغراض الروحانية, أي نقل مفهوم مياه تطهر الجسد إلى مياه تختص بالروح. كذلك في مياه بئر يعقوب نرى المياه التي تخدم الأغراض الجسدية التي أعطاها الانجيل صورة الأغراض الحيوانية الخالصة إذ أضاف على الذين شربوا منها بعد يعقوب وبنيه الماشية أيضاً، إمعاناً في أنها مياه أرضية محضة ليس فيها ما يختص بالبركة ولا بالروح. ولكن هنا يرفع المسيح من مستوى المياه إلى ما فوق الجلد أي ليست مياه أرضية, وهذا يتم بحلول الروح القدس عليها وتقديسها. فتصير مصدراً لانبعاث حياة جديدة ليست أرضية بل روحانية.
معروف أن المعمودية ثلاث خطوات أو مراحل: الاول اعتراف بالخطايا، الخطوة الثانية قبول الغفران, الثالثة تغطيس في الماء. هنا تكمل المعمودية كختم توبة. فالتغطيس في الماء هو بمثابة قبول أو الدخول في الموت عن الحياة السالفة، حيث الماء هنا هو بعنصره الأصلي الأرضي أولاً للموت ثم بعنصره الروحي التقديسي السماوي للتقديس، ثم الخروج من الماء استعدادا لحياة جديدة. هنا تكون قد انتهت معمودية الماء ليبدأ عمل الروح القدس وهو إعطاء حياة جديدة للنفس كنسمة حياة من فم الله, تؤهلها للدخول في الحياة الآبدية, أي ملكوت الله, والترائي أمامه. هذا بالإضافة إلى أن بصلاة التقديس على الماء يتقدس الماء ويقدس الجسد حسب قول القديس كيرلس الكبير: [لأنه بما أن الإنسان مكون من جسد ونفس عاقلة، فإنه يحتاج إلى عمليتي شفاء ليصير له ميلاد جديد، لأنه بالروح يتقدس روح الإنسان وبالماء الذي تقدس يتقدس الجسد. لأن الماء بعمل الروح يتحول معدنه إلى مؤثر إلهي غير منطوق به ويقدس كل من يحل فوقهم.]
إذن, الميلاد من الماء والروح هو عملية موت عن حياة جسدية سالفة, وتقديس، ثم قبول حياة جديدة مخلوقة بالروح القدس، لتؤهل النفس للحياة مع الله في ملكوته. وليس أبدأ أن معمودية الماء هي عملية تختص بالخارج أو أنها عملية خارجية ظاهرية، بل هي الأساس العميق الذي عليه يعمل الروح القدس في الخلق، لأنه يستحيل أن الفاسد يلبس عدم فساد. فلابد أن تجري أولاً عملية الموت الارادي وبمؤازرة النعمة أيضاً, وذلك في المعمودية , عن حياة جسدية سالفة, بالنية الكاملة والضمير الطاهر؛ وهكذا يمكن التقديس حتى يتمكن الروح القدس بعدها أن يخلق في النفس حياة جديدة بالروح.
وبالنسبة لنيقوديموس، فالميلاد من الماء والروح, أمر ليس غريباً ولا جديدا على مسامح نيقوديموس, فكل الذين اعتمدوا على يد يوحنا المعمدان سمعوا من المعمدان أن المسيح سيعمدهم بالروح القدس, وأن معموديته إنما هي التمهيد الالهي, حسب إرسالية الله له, لكي يهيى، العمل لمعمودية المسيح بالروح القدس. فقول المسيح أن تولدوا من الماء والروح هو رنين مسموع في كل أنحاء اليهودية.
ولكن للأسف فإن الفريسيين رفضوا معمودية يوحنا: «وأما الفريسيون والناموسيون فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم غير معتمدين منه» (لو30:7). وهكذا قطعوا على أنفسهم فرصة عمل الروح القدس بالتالي.
ومعروف أنه بعد قيامة المسيح صارت معمودية الماء والروح تتمان معاً في جرن المعمودية: «لا بأعمال في بر عملناها نحن, بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني, وتجديد الروح القدس.»» (تيطس 5:3)
وهكذا أصبح الميلاد الثاني من الماء والروح بالسر هو نفسه الميلاد من الله بالوعد.
وأخيراً يلزمنا أن نعي تماماً أن المسيح حينما قال هنا بالولادة من الماء والروح إنما يقولها بصورة نبوية إلى حد ما، فمعمودية الروح القدس لم تكن قد بدأت بعد. حتى أن المسيح لم يذكر كلمة «المعمودية» لأن تركيزه كان على الخلقة الجديدة بالروح كنتيجة.
«يدخل ملكوت الله»: هنا انتقل المسيح من حالة الرؤية الفكرية أو التعرف على ماهية هذا الملكوت, إلى الدخول فيه، وهو اصطلاح قريب جداً لذهن نيقوديموس، لأن الدخول إلى أرض الموعد: كنعان الأرضية، كصورة مصغرة توضيحية, كانت ماثلة أمام نيقوديموس؛ فكما هو مواطن في أرض الميعاد؛ مطلوب منه أن يكون مواطناً في ملكوت الله. وكما كان للدخول إلى أرض الموعد شروط جسدية (الختانة)؛ هكذا للدخول إلى ملكوت الله شروط روحية (المعمودية).
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (5): “أجاب يسوع الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.”
المسيح يشرح له أن الميلاد المقصود هو من الروح، ميلاد روحاني للنفس هو ميلاد غير منظور. يولد من= وترجمتها من داخل، أي يدخل الإنسان للماء ليخرج مولوداً جديداً من الروح. (والمقصود بالولادة من فوق هو الروح). والروح يقدس الماء في المعمودية ليكون لها قوة على الميلاد الثاني الروحاني. كما يقول القديس كيرلس الكبير.. الميلاد من الماء والروح هو موت عن حياة جسدية سالفة وتقديس ثم قبول حياة جديدة مخلوقة بالروح القدس لتؤهل النفس للحياة مع الله في ملكوته. لذلك يسبق المعمودية توبة وإعتراف فهي بداية جديدة. والمعمودية هي موت مع المسيح عن حياتنا السالفة لقبول حياة جديدة من عمل الروح القدس هي من حياة المسيح. والميلاد من الروح ومن الماء كان في ذلك الوقت ليس غريباً عن نيقوديموس، فكان المعمدان يقول هذا عن المسيح الذي سيعمد بالروح القدس ونار.
يدخل ملكوت الله= كما كان الختان شرط أن يكون الشخص من شعب الله في العهد القديم، هكذا في العهد الجديد فالمعمودية شرط لدخول ملكوت الله.