نش 6:3 من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان
مَنْ هَذِهِ ٱلطَّالِعَةُ مِنَ ٱلْبَرِّيَّةِ كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ، مُعَطَّرَةً بِٱلْمُرِّ وَٱللُّبَانِ وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ ٱلتَّاجِرِ؟ (نش 6:3)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
انتهى الحلم المزعج وتبددت الظلمة بقيامة الرب، فتعرفنا عليه وتمتعنا بالاتحاد به، وصار لنا سمة “قيامته”، لهذا وقفت الملائكة كأصدقاء العريس القائم من الأموات تترنم ممتدحة العروس القائمة مع عريسها، قائلين:
“مَنْ هَذِهِ الصَّاعِدَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ،
كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ،
مُعَطَّرَةً بِالْمُرِّ وَاللُّبَانِ وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ؟” [٦].
يلاحظ أن هذا الحديث لا يمكن أن ينطبق على الحب الجسداني، وإلا ما وجه الارتباط بينه وبين الحديث السابق له، ففي أول الأصحاح نرى العروس مسترخية على فراشها تطلب عريسها ولا تجده، وبعد الجهد التقت به ودخلت به إلى بيت أمها، والآن نراها فجأة توصف أنها صاعدة من البرية معطرة بالمر وباللبان ومزينة بكل أدوات التجميل (الأذرة) المشتراة من التاجر… فهل تدخل به إلى بيت أمها وتتركه لتخرج بالعطور والزينة؟! لكنه حديث روحي رائع فإن العروس وقد التقت بعريسها القائم من الأموات الصاعد إلى سمواته قد أدخلته إلى قلبها… وكانت الثمرة الطبيعية لهذا العمل أن صعدت به ومعه إلى سمواته، كقول الرسول بولس: “أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات”. دخوله إلى أعماقها رفعها عن برية هذه الحياة، فصارت تُناجيه: “ليّ اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل” (في ١: ٢٣).
لعل هذه الكلمات “مَنْ هَذِهِ الصَّاعِدَةُ …؟” تصدر عن العريس نفسه الذي يسندها ويشجعها مؤكدًا لها أنه يراها صاعدة إلى السموات بالرغم وجودها الآن على الأرض، إنها وهي بعد في الجسد صارت كالدخان الحامل رائحة الصلاة الذكية، فيه نسمات العريس نفسه. ولعلها كلمات السمائيين الذين تطلعوا إلى البشريين الترابيين وقد أنفتح أمامهم باب الفردوس وانطلقوا بالسيد المسيح الساكن فيهم مرتفعين من يوم إلى يوم نحو السمويات ولعلها أيضًا كلمات بنات أورشليم هؤلاء اللواتي كن قبلًا يعيرون الكنيسة بسوادها كما سبق فرأينا بسبب عدم انتسابها للآباء والأنبياء… إذ هي من الأمم، لكنها تظهر الآن خلال اتحادها بالمسيا المخلص جميلة وبهية، تصعد من مجد إلى مجد.!
صعود من البرية:
في القديم تاه شعب إسرائيل أربعين عامًا في البرية، تعرضوا فيها للدغات الحيات القاتلة بسبب عصيانهم وتذمرهم، وارتبط الأمم ببرية العالم وتدنسوا بالشرور… أما الآن فقد اتحد المؤمنون بالمسيا الذي وحده يقدر أن يخرج بالإنسان من برية هذا العالم إلى حرية الملكوت السماوي، وكما يقول الرب نفسه: “ليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو ٣: ١٣). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[107]: [نحن الذين كنا قبلًا غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السموات، وندخل السموات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي].
أعمدة من دخان معطرة:
في القديم كان الله ينزل على جبل سيناء فيدخن علامة بهاء مجده وقدرته (خر ١٩: ١٨؛ ٢٠: ١٨؛ مز ١٠٤: ٣٢؛ ١٤٤: ٥)، وإذ كان مجده ينزل في بيته المقدس، سواء الخيمة أو الهيكل، كان الموضع يمتلئ دخانًا (إش ٦: ٤؛ راجع رؤ ١٥: ٨). أما وقد أنفتح قلب المؤمن للرب صارت حياته نفسها مجدًا لله، صارت دخانًا طيبًا صاعدًا من برية هذا العالم ومرتفعًا نحو السماء.
كان الدخان يُشير إلى حلول الله وحضرته ليعطي وعدًا لأحبائه كما فعل مع إبرام حين شق الذبائح الدموية من الوسط ودخل الرب معه في وعود حية، إذ بتنور دخان ومصباح نار يجوز بين القطع (تك ١٥: ١٧)، أما الآن فقد حلّ الرب في قلب شعبه وانطلق بهم كالدخان لا ليسمعوا وعودًا من الله إنما لينعموا بالله نفسه نصيبهم وميراثهم.
وكان الدخان أيضًا يُشير إلى حضرة الرب لتقديس شعبه كقول النبي إشعياء: “إِذَا غَسَلَ السَّيِّدُ قَذَرَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ وَنَقَّى دَمَ أُورُشَلِيمَ مِنْ وَسَطِهَا بِرُوحِ الْقَضَاءِ وَبِرُوحِ الإِحْرَاقِ، يَخْلُقُ الرَّبُّ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ مِنْ جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَعَلَى مَحْفَلِهَا سَحَابَةً نَهَارًا وَدُخَانًا وَلَمَعَانَ نَارٍ مُلْتَهِبَةٍ لَيْلًا” (إش ٤: ٤-٥)، أما الآن وقد تقدست الكنيسة في دم المسيح واغتلست في مياه المعمودية ألهبها نار الروح القدس فصارت دخانًا مقدسًا يرتفع إلى حيث المسيح جالس.
ويُشير الدخان إلى حياة الصلاة كقول القديس يوحنا اللاهوتي: “فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله” (رؤ ٨: ٤)… لهذا جاء في سفر النشيد أن الصاعدة كأعمدة من بخور معطرة بالمر واللبان… لأن اللبان رمز لحياة الصلاة.
على أي الأحوال، إنها ليست دخانًا يملأ الدنيا اختناقًا علامة غضب الله (تث ٢٩: ٢٠؛ إش ٣٤: ١٠؛ رؤ ٩: ٢، ١٤: ١١، ١٨: ٩، ١٨؛ ١٩: ٣)، فتكون كسدوم وعمورة حيث صار دخان الأرض يصعد كدخان الأتون (تك ١٩: 2٨). كذلك لا يحمل علامة الضعف والموت إذ يقول النبي: “السموات كالدخان تضمحل” (إش ٥١: ٦)، وقول المرتل: “لأن أيامي قد فنيت في دخان” (مز ١٠٢)، ولا علامة الشر والكسل اللذين يفسدان البصيرة الداخلية كقول الحكيم: “كالدخان للعينين كذلك الكسلان للذين أرسلوه” (أم ١٠: ٢٦).
هذا الدخان خانق للنفس ومفسد للعينين، أما العروس فأعمدة دخان معطرة تُفرح السماء وتُبهجها، أما مواد عطارتها فهي:
- المر، لأنها دفنت مع المسيح يسوع الذي كُفن بالمر والأطايب، فإنه إن لم تُدفن معه لا تقدر أن تنعم بالحياة الجديدة المقامة والمرتفعة نحو السموات، إذ يقول الرسول:“دُفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة” (رو ٦: ٤).نُدفن في المعمودية، فيموت إنساننا العتيق، ونولد ميلادًا جديدًا روحيًا حتى نقدر بالروح القدس أن نرتفع إلى أبينا السماوي.
في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[108]: [ليس بأم وأب، ليس باضطجاع بشر، ولا بآلام المخاض نولد ثانية، ولكن من الروح القدس تُصنع أنسجتنا الجديدة، وفي الماء تُشكل، ومن الماء نُولد سرًا كما من الرحم… الرحم يحتاج إلى زمن كثير ليتشكل فيه الجسد، أما الماء والروح فمنهما تتشكل حياة الروح في لحظة في طرفة عين! المولود من الجسد هو الجسد والمولود من الروح هو روح (يو ٣: ٦)].
ويقول أيضًا[109]: [حين تغطس الرأس تحت الماء كأنه قبر، فيه تدفق كل إنسانيتنا القديمة… وإذ تخرج بعدئذ، فإنه يطفو ويخرج إنساننا جديدًا. وكما أنه يسهل علينا أن نغطس ثم نطفو، هكذا يسهل على الله أن يدفن الإنسانية القديمة ويلبسنا الإنسان الجديد].
- اللبان، فإن رائحة بخور صلواتها تصعد نحو الرب… بل تردد مع المرتل: “أما أنا فصلاة”. في اتحادها بالقائم من الأموات تتعرف على حياة العبادة الحقيقية أو “الصلاةالدائمة“.
- كل أذرة تاجر، وهي أدوات التجميل التي تشتريها النفس من المسيح نفسه “التاجر” الذي وحده يقدر أن يزين النفس ويجملها عروسًا له.
هكذا تحتاج النفس أن تتعطر بالمعمودية وتستند على الروح القدس، تعيش حياتها صلاة دائمة، وترتمي في أحضان عريسها لكي يزينها… بهذا تستحق أن تُمنح كعروس مزينة لرجلها (رؤ ٢١: ٢).
تأملات للبابا شنوده الثالث
مَنْ هذه الطالعة من البرية؟! (نش 8: 5؛ 3: 6)
موضوع تأملنا اليوم في سفر النشيد، هو عبارة قالها الرب عن كنيسته، وردت مرتين في السفر في (نش 3: 6) (نش 8: 5):
* “مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).
* “مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها” (نش 8: 5) إنه تأمل في جمال الكنيسة، وفي جمال النفس البشرية المحبة لله. وكيف أنها طالعة من البرية، وطالعة في جمال، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر، كأعمدة من دخان صاعدة من المجمرة.
وسوف نتناول هذا الوصف: كأغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم، وكأغنية تُنشد للكنيسة المنتصرة، أو كأغنية تُنشد لقديسي البرية.
1- أغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم:
يمكن أن تؤخذ عبارة “الطالِعة من البرية” على كنيسة العهد القديم، التي طلعت من برية سيناء، واتجهت إلى كنعان، مستندة على ذراع حبيبها.
مسيرة الكنيسة في البرية، كانت مسيرة عجيبة حقًا إذ خرج الشعب بلا طعام ولا شراب، ولا ملابس كافية لتلك الرحلة الطويلة، ولا باقي الاحتياجات اللازمة، مجرد خروج على أسم الله بالإيمان وليس أكثر.
وضعوا أرجلهم في البحر، مستندين على زراع حبيبهم، الذي سندهم في عبورهم، سند المياه من هنا، وسندها من هناك. ومشت الكنيسة في البحر، مستندة على حبيبها، وعاشت في البرية.
* عاشت بالإيمان، الذي يرى ما لا يُرى..
وفي قلب كل واحد رن قول الرب “وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر. وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك. ثيابك لم تبل عليك، ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة ” لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (تث 8: 2 – 4).
حقًا إن الإنسان الذي يحيا في الإيمان، مستندًا على الله حبيبه، يمكن أن يختبر عجائب في عمل الله معه..
يمكن أن يفجَر له الله ماء من الصخرة (خر 17: 6)، ويمكن أن يحول له الماء المر إلى ماء حلو (خر 15: 23 – 25). ويمكن أن يشق له في البحر طريقًا (خر 14: 21، 22) ويمكن لهذا المؤمن أن يختبر محبة الله له: يظلله السحاب بالنهار، ويضئ له عمود النار بالليل (خر 13: 21، 22) ويمكن أن يحميه الرب من جميع أعدائه.
وهذا كله حدث لتلك الطالعة من البرية. وانهزم أمامها سيحون ملك الأموريين (عد 21: 23 – 26)، كما انهزم أمامهم عوج ملك باشان (عدد 21: 33- 35).. حتى لكان شعوب الأرض يتأملون كل هذا ويقولون في عجب: ” مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟!
أيضًا النفس المستندة على حبيبها، يسقط عن يسارها ألوف، وعن يمينها ربوات، وبعينها تنظر وتتأمل مجازاة الأشرار (مز 91: 7، 8) الرب يظلل على يدها اليمنى، فلا تضربه الشمس بالنهار، ولا القمر بالليل (مز 121: 5، 6).
مشكلتنا في الحياة أننا لا نستند على حبيبنا!! قد تستند على مواهبنا، على قوتنا وذكائنا، على غنانا! ونستند على زراع بشري، وعلى حكمة بشرية! وربما نستند على الشيطان وكل حيله!!
وقد ننجح نجاحًا مؤقتًا، الهزيمة أفضل منه! وقد نفشل..
أما الذي يستند على الله الذي يحبه، فيمكنه -كالثلاثة فتية- أن يمشي في أتون النار ولا يحترق.. كانت النار تحيط بهم، ولم تكن لها قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق. حدث ذلك لأنهم كانوا مستندين على حبيبهم، الذي كان ماشيًا معهم في وسط النار، وكان شبيهًا بابن الآلهة (دا 3: 25، 27).
لعل الملائكة في ذلك الوقت كانوا ينظرون إلى نفوس هؤلاء الفتية في النار، وهم يُغَنّون “مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها”؟! لقد طلعوا من النار، وكأنهم خارجون من أحد البساتين وإحدى الفراديس!
داود النبي جرب الاستناد على ذراع حبيبه حينما قال ” الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام علىّ قتال، ففي هذا أنا مطمئن” (مز 27: 3). وحينما قال “الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، وإلى ماء الراحة يوردني.. أيضًا إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا (مز 23). ولماذا لا أخاف؟ لأنك أنت معي نفسي مستندة على ذراع حبيبها.
وهكذا أيضًا الكنيسة في العالم، تعيش مستندة على ذراع حبيبها. لاحظوا أنه قال “مستندة على حبيبها ولم يقل مستندة على القوي الجبار.. حقًا أن حبيبها قوي جبار. ولكن عبارة حبيبها هنا لها عمقها العاطفي، ولها قوتها أيضًا، إذ يُقال في نفس النشيد “المحبة قوية كالموت. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش 8: 6، 7) ولأنه يحب هذه النفس، ويحب هذه الكنيسة، لذلك يفعل كل شيء لأجلها، وبقوة النفس التي تستند على حبيبها، تعيش مطمئنة، في سلام..
تغني قائلة: وإن قام علىّ قتال، فأنا مطمئنة (مز 27: 3). ولماذا أنت مطمئنة أيتها النفس؟ ولماذا كانت الكنيسة كلها مطمئنة؟ لأنها مستندة على حبيبها. “شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني” (نش 2: 6 ). رحمته تحيط بي من كل ناحية. إنها مطمئنة لأنها في حضن الله. فمهما صادمتها المشاكل والعقبات والحروب، لا تهتز ولا تضطرب. وإنما تقول في ثقة المستند على حبيبه “إن كان الله معنا، فَمَنْ علينا”..؟
هذا النشيد أيضًا هو أغنية للكنيسة المنتصرة..
2- أغنية للكنيسة المنتصرة:
يمكن أن يقال هذا النشيد في السماء، في استقبال الكنيسة التي جاهدت على الأرض وغلبت. الكنيسة التي عاشت في هذا العالم، في البرية القفرة.. في تعب وشقاء في الطريق الكرب، ودخلت إلى الفردوس من الباب الضيق (مت 7: 14) ولذلك يستقبلها الملائكة قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية.. ؟!
العالم بالنسبة إليها كان برية، أقفرت من تنعمُّات العالم وملاذه، ومن لهوه وعبثه وضجيجه. لأنها أطاعت قول الكتاب “لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم.. إن العالم يمضي وشهوته معه” (1 يو 2: 15، 17). أما هي فأجابت الرب يقول المزمور لكي يزهر لك جسدي في أرض مقفرة، ومكان بلا ماء وموضع غير مسلوك (مز 63: 1).
هذه الكنيسة طالعة من البرية، لكي يختطفها الرب على السحاب، وتكون مع الرب كل حين (1تس 4: 17).
نعم: مَن هذه الطالعة من البرية، التي لم تعش في فراديس وفي جنات، كما عاش سليمان وهو يعزي نفسه بخيرات العالم قائلًا “بنيت لنفسي بيوتًا، وغرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت لنفسي عبيدًا وجواري.. جمعت لنفسي فضة وذهبًا. اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعُمات بني البشر.. ومهما اشتهته عيني لم أمسكه عنهما” (جا 2: 4-10).
أما الكنيسة فرفضت أن تستوفي خيراتها على الأرض (لو 16: 25).
إنما تعبت على الأرض، لكي تتمتع في السماء. عاشت على الأرض في طقس لعازر المسكين عاشت فقيرة، ولكن مستندة على حبيبها. كما قال بولس الرسول ” مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين..” (2 كو 4: 8، 9).. “كحزانى ونحن دائمًا فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء” (2 كو 6: 10).
هذا النشيد يمكن أيضًا يصلح لقديسي البرية، فهو:
3- أغنية تُنشد لقديسي البرية:
هؤلاء القديسون يسبحون الرب في كل يوم تسبحه جديدة. وفي كل يوم يهمس الملائكة في آذانهم قائلين: “ها باركوا الرب يا عبيد الرب، القائمين في بيت الرب في ديار بيت إلهنا. في الليالي أرفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب” (مز 134: 1، 2).
يستمع الملائكة إلى هذه الصلوات ” الطالعة من البرية، ويقولون للرب ” طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد (مز 84: 4).
أهل العالم – حتى إن دخلوا الكنيسة – قد يسرحون في أمور العالم أثناء الصلاة. أما هؤلاء القديسون -فحتى إن شغلوهم بشيء من أمور العالم- فإنهم أثناءها يسرحون في الله. عاشوا في البرية القفرة، بدون أي معونة، مستندين على حبيبهم واستطاعوا أن يقدسوا البرية بصلواتهم وبحياتهم. حتى تحولت البرية إلى سماء ثانية. واجتذبت إليها طالبي الروح من أقصاء الأرض كلها..
عاشوا في طقس الصلاة الدائمة. ولقّبوهم بملائكة أرضيين وبشر سمائيين. فعندما تصعد أرواح هؤلاء القديسين إلى السماء. فلاشك ستجري الملائكة لاستقبال أرواحهم الطاهرة بهذا الهتاف “مَن هذه الطالعة من البرية”.
سليمان الحكيم -كاتب سفر النشيد- أتراه في حلم ورؤيا – أبصر جماعات السواح والمتوحدين والرهبان طالعة من البرية، فاستقبلها بهذا النشيد “مَن هذه الطالعة من البرية؟!”
يوحنا كاسيان حينما زار براري مصر، قال إن المسافر من الإسكندرية إلى طيبة (الأقصر)، لم يكن صوت التسبيح والألحان والصلوات ينقطع من أذنيه طول الطريق وذلك لكثرة الأديرة والقلالي والمغارات المنتشرة في كل مكان في البرية، يسكنها أولئك القديسون الذين أحبوا الرب فأحبوا الوحدة. وعاشوا كملائكة الله على الأرض.. كل شبر من تلك الأرض المقدسة، قد باركه القديسون ودشنوه بصلواتهم ومزاميرهم. حبّات الرمال تقدست، إذ وطئتها أقدامهم الطاهرة.
هذه الحياة المقدسة الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، صاعدة إلى عرش الله، يهتف لها سكان السماء قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية؟!
إن الحياة التي شهدها العالم في براري مصر، في القرنين الرابع والخامس، كانت كأنها الحلم! نسمع عنها الآن، وكأنها قصة.. ! كيف عملت النعمة في نفوس أولئك القديسين بكل تلك القوة وبكل ذلك العمق؟! وكيف كانت أرواحهم في كل يوم، كأنها على سلم يعقوب صاعدة إلى السماء ونازلة منها.. وفي كل درجة تصعدها على ذلك السلم الروحاني، يصرخ السمائيون في عجب وإعجاب “مَن هذه الطالعة من البرية”؟!
إنه منظر عجيب حقًا، حينما نرى ملائكة نازلة من السماء إلى الأرض. ولكن الأعجب منه أن نرى بشرًا لهم صورة الملائكة صاعدين من الأرض إلى السماء.. ! وليس فقط فرادى قلائل، وإنما جماعات عديدة لها نفس الصورة، نفس القداسة والبر والشفافية، نفس الزهد والعفة. فيصرخ الجميع لمرآها “مَن هذه الطالعة من البرية؟!” ووجه العجب الكبير أن هؤلاء الصاعدين كالملائكة، لهم أجساد مادية، وقد سكنوا في هذا العالم في وسط شهوته. هم بشر تحت الآلام مثلنا (يع 5: 17) ولكنهم عاشوا صورة لله ومثاله.
هل دخلوا النار كالثلاثة فتية، ولم يحترقوا. أم هم قد صعدوا من النار كأعمدة من دخان، معطرة بالمُر واللبان.
هذه هي الكنيسة طالعة من البرية. الأشرار يهبطون إلى أسفل، أما الأبرار فيطلعون إلى فوق. دائمًا الكنيسة طالعة إلى فوق.
مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).
مَنْ هذه الطالعة من البرية؟ كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبان (نش 8: 5؛ 3: 6)
كأعمدة من دخان:
هنا يتأمل الرب كنيسته في برها, وفي عبادتها، وفي آلامها من اجله. فيقول: من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان؟!
لا شك أن عبارة “أعمدة من دخان” لا يمكن أن تعني ذلك الغزل الرخيص الذي يتهمون به سفر النشيد. فلا يمكن أن تقبل امرأة من حبيبها هذا الوصف! ثم هل يتفق هذا التعبير من قوله عن عروس أنها “جميله كالقمر, مشرقة كالشمس” (نش 6: 10).
نعم، المعنيان يتفقان في المفهوم الروحي..
إن عبارة “كأعمدة من دخان” تحمل معنى روحيًا جميلًا يليق بالنفس العابدة، في علاقتها مع الله. فكيف يكون هذا؟
تصور انك أمام المجمرة (الشورية). واتيت بحفنة من البخور وضعتها فيها. فما الذي يحدث؟ يحترق البخور من لهيب النار، ويصعد كأعمدة من دخان زكية الرائحة، وهكذا الكنيسة.
نعم تصور معي هذا المنظر الجميل: مجمرة مملوءة من النار المقدسة، التي هي الحب الإلهي. والمحبة تشبهها سفر النشيد فيقول: ” مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش 8: 7).
هذه المجمرة وضعت فيها حبات من البخور، هي شخصيات القديسين.
حبة اسمها القديس انطونيوس الكبير، وحبة اسمها آبا مقار الكبير. وحبة اسمها الأنبا بيشوي, وأربعة اسمها القديس أثناسيوس الرسولي. وخامسة اسمها الشهيد مارجرجس..
وحبات أخرى كثيرة من السواح والمتوحدين والشهداء والبطاركة والأساقفة، والأبرار في كل جيل..
هذه الحبات اشتعلت بالحب، وطلعت إلى فوق كأعمدة من دخان، كرائحة بخور، تتسم منها الله رائحة الرضا (تك 8: 21).
وتنسمها الملائكة، فأعجبت برائحتها الزكية، وغنت في فرح “من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان؟!”
مُعطرة بالمرّ واللبان:
كان المرّ من العطور التي تدخل في تركيب الدهن المقدس الذي كان يُستخدم في المسحة المقدسة في العهد القديم. تلك التي مُسحت بها خيمة الاجتماع وتابوت العهد، وكل أواني الخدمة ز كما مسَحَ بها هرون رئيس الكهنة وبنوه (خر 30: 23-30).
كما كان المر واللبان من تقدمات المجوس للمسيح.
اللبان كان يرمز إلى الكهنوت.
والمر كان يرمز الآلام، وإلى رائحة الحياة الطيبة.
وبكل هذا تعطرت الكنيسة، وتعطرت النفس البشرية التي تحب المسيح.
ومن العطور المقدسة الميعة والسليخة. لذلك فإن المرتل قال للكنيسة في المزمور “المرّ والميعة والسليخة من ثيابك” (مز 45: 8).
لذلك لم يكتفِ سفر النشيد بأن يجعل العروس معطرة بالمر واللبان ْ فقط، وإنما أضاف “وبكل أذرة التاجر”، بكل العطور جميعها..
وكل أذرة التاجر:
وأنت أيها الابن المبارك -بعد عمر طويل- عندما تصعد روحك إلى فوق: هل تكون زكية الرائحة ” معطرة باللبانْ وبكل أذرة التاجر”؟ أم تفوح منها رائحة الخطية البشعة , لا سمح الله..
لأن بعض الناس حينما يموتون، تمتلئ حجراتهم برائحة بخور. وآخرون تتعفن أجسادهم بسرعة. ويحاول أقرباؤهم أن يدفنوهم قبل أن تفوح الرائحة!
والآن نسأل: ما هي أذرة التاجر التي تتعطر بها الروح؟
هي ثمار الروح التي قال عنها الرسول “وأما ثمر الروح: فهو محبة، فرح, سلام, طول أناة، لطف, صلاح, إيمان، وداعة، تعفف” (غل 5: 22، 23).. هي الطهارة والنقاوة والقداسة، وحرارة الروح، والشوق إلى الله. هي زيت العذارى الحكيمات، وشركة الروح القدس، وهي البذل والعطاء، والجهاد.. هي ثمر الإيمان، وثمر التوبة..
وَتُرَى مَنْ هو التاجِر؟
هو الذي قال عنه الرب “يُشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها” (متى 13: 15، 16).
هو التاجر الذي يقول الرب في اليوم الأخير ” يا سيد، خمس وزنات سلمتَني. هوذا خمس وزنات أُخر ربحتها فوقها” (متى 25: 20).
وأيضا التاجر هو كل خادم للرب يقدم للناس الروحيات، ويقول مع القديس بولص الرسول “صرت لكل شيء، لأخلص على كل حالٍ قومًا” (1 كو 9: 22).
هؤلاء التجار الحكماء ملأوا الكنيسة عطرًا ولبانًا ومرًّا، وميعة وسليخة، وقرفة وعودًا وقصب ذريرة” (خر 30: 23-25).. وكل أذرة التاجر.. كل فضيلة وبر من كل نوع..
أعمدة من دخان:
وهكذا ارتفعت الكنيسة إلى الرب ” أعمدة من دخان ” وهو:
دخان الذبائح والمحرقات:
كانت الذبائح والمحرقات توضع على المذبح، وتوقد النار فترتفع أعمدة من دخان. وقد طلب إلينا القديس بولس الرسول أن نتشبه بتلك الذبائح عندما قال “أطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو 12: 1).
فيا ليتنا نعيش على الأرض كذبيحة، كمحرقة على الذبح تلتهمها النار المقدسة.
وتصعد كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر.
وتقديم النفس كذبيحة أمر واضح في صلواتنا: يقول المرتل “فلتستقم صلاتي كالبخور قدامك. وليكن رفع يديّ ذبيحة مسائية” (مز 63: 4، 5). فلتستقم صلاتي كالبخور، أي كأعمدة من دخان، كذبيحة مسائية. وكما قال المرتل أيضًا “باسمك ارفع يديّ، فتشبع نفسي كما من لحم ودسم”.
أبعد هذا يقول إنسان إن سفر النشيد يعثرني!!
بل تعثرك يا أخي أفكارك الجسدانية، التي لم ترتفع بعد عن هذا المستوى الجسداني.
ولم تصعد إلى فوق، كأعمدة من دخان.
الطالعة من البرية:
عبارة ” الطالعة من البرية coming out of the wilderness قد تطلق على كنيسة العهد القديم، كما تطلق أيضا على كنيسة العد الجديد، المزينة بالفضائل، التي يعمل فيها الروح القدس بكل مواهبه، بكل أذرة التاجر.
فأنه قيل ” بالروح يعطى لواحد كلام حكمة، ولآخر كلام عِلم، ولآخر مواهب شفاء، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز أرواح، ولآخر ترجمة ألسنة.. هذه كلها يعملها الروح الواحد، قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء (1 كو 12: 8-11).. هذه كلها من أذرة التاجر.
وعبارة الطالعة من البرية، ربما تقصد بها الصلوات.
الكنيسة ليلًا ونهارًا تصعد منها صلوات وألحان وتسابيح.. كلها تصعد إلى فوق.
فتستقبلها الملائكة بهذا النشيد “الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر.. صلوات معطرة بالحرارة، والإيمان والخشوع، والفهم, والتأمل، والشكر.. وكل أذرة التاجر..
فهل كنيستنا اليوم لا تزال -كما كانت في القديم- كنيسة صلاة؟
هل كل نفس فيها، ترتفع منها كل يوم صلوات وتسابيح، وتراتيل، ومزامير، وأغاني روحية (كو 3: 16؛ أف 5:19). أم ان الملائكة ينتظرونها بلا جدوى، وكأنها في عطلة وغفوة!! لا مرّ ولا لبان، ولا شيء من أذرة التاجر! هل كل بيت من بيوتنا تصعد منه أعمدة دخان المقدسة، كأعمدة الهيكل، معطرة بالمسحة المقدسة، بالمر واللبان..
ما أجمل أن يقول الملائكة بعضهم لبعض: هلم ننظر مصانع الروحيات في هذا البلد المقدس، تطلع منها أعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، يكملون بعضهم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبهم للرب ” شاكرين كل حين على كل شيء (أف 5: 19، 20).
هناك أشياء مهما حاولت أن تكتمل لا تستطيع.
روائح عطرة جميلة لا يمكن أن تخفيها. لا يمكن أن تخفي مدينة كائنة على جبل (مت 5: 14). ولا يمكن أن تكتم روائح بستان مملوء بالورد والفل والريحان.. هكذا الكنيسة – العالم الآخر يتأمل جمالها العجيب، في قدسيتها وطهرها، في حرارتها وعبادتها, في محبتها لله والناس، في كل ما فيها من أذرة التاجر..
تصوروا أن الكنيسة أصبحت موضع دهشة الملائكة..
أصبحت موضع دهشة السماء، بل موضع دهشة العالم كله. ينظر إليها فينذهل: ما هذا الجمال؟ ما هذا السمو والعلو؟ ما هذا الصبر في الجهاد؟ ما هذه المثالية؟ لم نرى قبل مثل هذا.. من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة دخان، معطرة بالمرّ واللبان. مثلما دخل المسيح أورشليم، فقالوا من هذا.. ؟! (متى 21: 10) “وارتجت المدينة كلها”.
موقف روحي يتميز به عمل ما، فينظر إليه الكل في دهشة:
ويقولون: قد رأينا اليوم إنسانًا عجيبًا، شخصية من نوع فريد! من هذا الإنسان؟ في أمانته، في دقته؟ في رقته، في أدبه، في محبته، في فهمه..؟ تُرى من تكون هذه الشخصية؟ من هذه الطالعة من البرية، معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر.
عبارة كل أذرة التاجر, تشير إلى كمال الكنيسة:
ليست متحلية بفضيلة واحده فقط، وإنما بالكل أذرة التاجر.. بكل بركات النعمة، بكل ثمر الروح..
كنيسة “جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان” (2 تي 4: 7). جمعت كل الخير، جمعت الإيمان والأعمال “تعبت من أجل الرب ولم تكلّ” (رؤ 2: 3).
أما نحن فقد دخلنا على ما لم نتعب فيه. آخرون تعبوا ونحن دخلنا على تعبهم.
أننا ننظر إلى الكنيسة الآباء في إعجاب شديد، وهي معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر، مستندة على حبيبها، ونقول من هذه التي طلعت من البرية؟ وكيف وصلت إلى هذه الدرجة؟!
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (6): “من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر.”
بعد أن تقابلت النفس مع الحبيب طلبت ما هو فوق، فاصبحت سماوية، وهذه ثمرة علاقتها مع المسيح “الذي أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات” وصارت تشتهي أن تنطلق وتكون معه فذاك أفضل في نظرها. والعريس في فرحه بها يقول من هذه الطالعة ليشجعها فإذا هي بعد على الأرض صارت تشتاق للسماء، بل تحيا حياة سماوية. وقد تكون عبارة من هذه الطالعة= هي فرحة السمائيين بتوبتها، عموماً ففرحة السمائيين بالنفس التائبة هي ترديد لفرحة العريس بها. وهي طالعة من البرية= البرية تشير لهذا العالم. وهناك من يصعد من البرية فيحيا في السماويات مثل هذه العروس وهنا من يشتهي حياة الخطية السابقة (قدور اللحم في مصر..) فيموت في البرية ولا يطلع منها بسبب عصيانه وتذمره. ولكن هذه النفس داست العالم بأرجلها محتقرة إياه. وفي طلوعها لم تكن ضعيفة بل كأعمدة من دخان= داخلها نار تلتهب بروح الأحراق (إش4:4،5) تحرق خطاياها داخلها فيخرج دخان، والنار هي نار الروح القدس. فالنفس التي تابت لم يعد الروح مطفئاً في داخلها، فالتوبة أضرمته، بل الروح أشعل الحب في هذه النفس فصارت صلواتها وتسابيحها طالعة كالبخور، وحينها قدمت نفسها ذبيحة حية وأطاعت وصايا عريسها، صار دخان حريقها يلذذ الرب ويتنسم بهذا رائحة الرضا (تك21:8) ولاحظ أنهم كانوا يحرقون الدخان المعطر والبخور أمام مواكب الملوك. والعطور هنا هي:
المر= احتملت النفس الصلب والألم مع المسيح، فأصبحت رائحة المسيح الزكية. والمر كان من ضمن أكفان المسيح، فهذه النفس قبلت أن تصلب مع المسيح وتدفن معه لتقوم معه.
واللبان= وهذا يشير للصلاة. ومنه يصنع البخور. وهذا يشير للصلاة الصاعدة إلى فوق أي الصلاة المقبولة. أذرة التاجر= أي الفضائل التي تحلَّت بها النفس التي تعلمت الصلاة وقبلت صليب المسيح. وأذرة التاجر هي كل الأصناف المعطرة من عند العطار إشارة لتنوع الفضائل (محبة، وداعة، تواضع، تسليم .. ). لقد كان الأنبا أنطونيوس ومارجرجس.. هم حبات بخور توضع في المجمرة ويشتم الله رائحتهم ويفرح وتفرح بهم ملائكته أما رائحة الخطية فتزكم الأنوف (إش13:1+ أر20:6).