القديس هيلاري اسقف بواتيه
يلقب القديس هيلاري “بأثناسيوس الغرب”. وقد كان معاصراً لبطريرك الإسكندرية العظيم القديس أثناسيوس الرسولي (حوالي ۳۲۸-۳۷۳م).
نشأته
وُلد وتنيح في بواتييه في فرنسا، وُلد حوالي سنة 315م في أسرة وثنية ثرية اهتمت بتثقيفه في الفلسفة والأدب اليوناني والروماني.
تحول إلى المسيحية في شبابه المبكر عندما قرأ الكتاب المقدس. وبالأخص تأثر بمدخل إنجيل يوحنا بحسب ما ذكر هو نفسه عن إحساسه عند قراءته: “وللحال تجاوز عقلي حدوده وتعلم عن الله أكثر مما كنت أرجو… وفهمت أن الكلمة صار جسداً حتى يستطيع الجسد بواسطته أن يرتفع إلى الله. فالجسد الذي أخذه هو جسدنا، وعندنا يسكن! حينئذ امتلأت نفسي فرحا عذباً، إذ أني بالجسد اقتربت من الله، وبالإيمان دعيت إلى ولادة جديدة… هذه الحقيقة أن كلمة الله كان في البدء عند الله، وأن الكلمة صار جسداً وسكن فيما بيننا، آمنت بها بكل كياني. وذلك ليس لأني فهمتها، بل لأني اعتقدت أني سأفهمها حالما أؤمن بها.” (في الثالوث ۱،۱۰،۱۱ ).
نشأ هيلاري في الدوائر الأدبية في ولاية أكويتانيا (غربي فرنسا الحالية)، وأصبح ضليعاً في كل من اليونانية واللاتينية، وكان فكره منغمساً في الأفلاطونية الحديثة قبل أن يتحول إلى دراسة الكتاب المقدس. عندما شعر أنه غير مقتنع بالوثنية، رجع إلى موسى والأنبياء ومن ثم إلى مدخل إنجيل يوحنا ورسائل القديس بولس.
تذكر سيرة هيلاري التي كتبها فينانسيوس فورتوناتوس (الذي توفي بعد 600م بقليل)، أنه تزوج وله ابنة اسمها أبرا. غير أن معظم الدارسين يعتقدون أنه لا يمكن الوثوق بكل ما أتي في هذه السيرة تاريخياً، بينما يرى آخرون أن هذا الجزء منسوب إلى السيرة خطأ.
رسامته
انتُخب أسقفاً لبواتييه وسط تهليل الشعب في حوالي 353م. فبدأ الدفاع عن عقيدة الثالوث التي أُعلنت في مجمع نيقية 325م ضد الآريوسيين.
أسفر مجمع بيزييه Beziers – الذي دعا إليه ساتورنينوس أسقف آرل Arles في 356م (الذي سعى لفرض الآريوسية على كنيسة غاليا أو فرنسا كلها) كرد فعل لمقاومة هيلاري للآريوسية في الغرب مثل مقاومة القديس أثناسيوس لها في الشرق – عن قرار الإمبراطور بنفي هيلاري الذي انبرى يدافع عن القديس أثناسيوس ورفض إدانته.
و على ما يبدو أن هيلاري لم يحضر المجمعين الآريوسيين السابقين: مجمع آرل 353م ومجمع میلان 355م الذي حكم على أثناسيوس.
نُفي إلى فريجيا ( في تركيا حاليا) وقد سمح له بحرية الحركة وهو ما لم يتمتع به باقي الأساقفة الذين نفوا معه، واستمر نفيه من 356- 361م، وأثناء نفيه ألف كتابين “في الثالوث” و”في المجامع”.
ويصف حاله أثناء نفيه فيقول:
بالنسبة إلي لا يمكنني التشكي من هذا الوقت الذي أقضيه في السجن، أتكلم بواسطة هذه الكتب! أفرح لأن الظلم سوف ينكشف من خلال نفيي، الشر الذي لا يستطيع احتمال الحقيقة، ينفي كهنة العقيدة الصحيحة ويختار لنفسه معلمين على هواه. إني مسرور في سجني، أنا أتهلل في الرب! (في الثالوث 4، 10)
وفي سبتمبر 359م حضر مجمع سلوقيا، حيث نادي بعقيدته الأرثوذكسية في الثالوث. وفي هذا المجمع سادت بلبلة الأفكار ورفض البعض تعبير أوموأوسيوس ” له نفس الجوهر” على أنه غير كتابي. ولما سأل القديس هيلاري أحد الأساقفة عن إيمانه ذُهل عندما سمع ما قاله إذ قال “إن الابن غير شبيه بالله ولم يولد من جوهره ولكنه شبيه بالأب لأنه ابن مشيئته” ويضيف هيلاري الذي يذكر هذا المثل: فذهلت لسماعي هذا القول”. وإذ بأساقفة الغرب ينضمون إلى أساقفة الشرق لإرضاء القسطنطينية (الإمبراطور) و اتفقوا بتعبير هيلاري علي “الوصول إلى الوحدة في الكفر” وانتصرت الآريوسية انتصاراً كاملاً.
وفي مجمع ريميني Rimini 359 م، أجبر الإمبراطور قسطنتيوس الأساقفة الأرثوذكسيين على التوقيع على ما يسمى قانون إيمان ريميني (الآريوسي).
فلما علم هيلاري بذلك قدم إلى الإمبراطور طلباً بالسماح له بعقد مناظرة علنية بينه وبين ساتورنينوس أسقف آرل لكن رفض الإمبراطور طلبه.
بعد ذلك أُرسل القديس هيلاري مرة أخرى إلى الغال (فرنسا) لاعتباره مثيراً للمتاعب ومشجعاً على الشقاق في الشرق ودعوه “المقلق للشرق” ولكن لم يُطلب منه التوقيع على قانون الإيمان الآريوسي ولم يُعتبر إبعاده لاغياً.
كتب سلبيسيوس ساويرس في كتاب “يوميات” (45 , Chron.II ) أن القديس هيلاري عاد إلى وطنه ولكنه لم يعد إلى كرسيه الأسقفي.
فعاد ليعمل بكل قوته من أجل إثبات عقيدة وحدة الثالوث، أولاً في فرنسا ثم في إيطاليا أيضاً.
في ميلان في 364م، حاول مع يوسابيوس أسقف فيرسيلي أن يبعدوا الأسقف الآريوسي أوكسينتيوس من كرسي ميلان ولكنهما لم ينجحا في ذلك. وأُمر هيلاري بالعودة إلى فرنسا.
ظل بعد عودته إلى فرنسا يسعى في رد الأساقفة الذين سقطوا في الآريوسية ورضخوا للامبراطور. وظل حاملاً مشعل الإيمان الأرثوذكسي القويم في الغرب إلى أن تنيح بسلام، قبل أن يرى عودة العالم المسيحي كله إلى الإيمان المستقيم.
وصفة القديس أغسطينوس بأنه من ألمع آباء الكنيسة وقد استعان به في مقاومة هرطقة بيلاجيوس.
ذكر عنه جيروم أنه كان بليغاً وأنه صوت اللاتين العالي ضد الآريوسيين، وقال عنه وعن القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة: لقد غرس الرب شجرتي صنوبر جميلتين خارج العالم داخل الكنيسة.
يقول هيلاري عن حياة الكنيسة في زمنه وزمن القديس أثناسيوس: العليقة تلتهب تحت ناظري موسى من دون أن تحترق، هكذا الكنيسة تلهبها نيران الاضطهادات وتجارب الخطأة… نيران كل المأثم هائجة علينا من دون أن تحرقنا”( في الأسرار۱:۳۰).
شخصيته
كان هيلاري أمينا لعقيدته ولكنه لم يكن متصلباً مع الناس، بل عمل على نشر عقيدته المستقيمة باللطف والتفاهم.
كان هادئا في طبعه يحترم الآخرين ويسعى إلى المسالمة، وأما الشدة. التي تظهر أحيانا في بعض صفحات كتاباته فهي تشهد على ضراوة وخطورة الصراع الدائر في زمانه بين الإيمان القويم والآريوسية. فعندما يتعلق الأمر بالإيمان لابد من فضح الهراطقة والدفاع عن الإيمان المستقيم، مهما كلفه الأمر.
عندما قوبل طلبه المواجهة مع ساتورنينوس أسقف آرل الآريوسي من قسطنتیوس – في الرسالة إلى قسطنتیوس – ليس فقط بالرفض بل بإعادته إلى غاليا (فرنسا) كعقاب جديد له، كتب هو في ” الرد علي قسطنتيوس” ما يلي: “یا قسطنتيوس، إنك تعلن نفسك فجأة معلماً للكنيسة بدلاً من تلميذاً لها! تعطي كنائسنا ثروات تنتزعها من الآلهة الوثنيين، ولكن ما الجدوى إذا كنت تدعونا إلى خيانة المسيح؟ لماذا تدعنا على قيد الحياة فيما ترسل نفسنا إلى الموت.(1: 7).
كتب في كتابه ضد أوكسينتيوس” رداً على أمر الإمبراطور فالنتينيان الأول بالتوقف عن كل نقاش ديني والخضوع لأوكسينتيوس: “لا يمكنني أن أتمني السلام إلا مع الذين يتمسكون بإيمان أبائنا ومعموديتهم، ويحرمون الآريوسيين ويعلنون أن المسيح هو إله حقيقي”.
أعماله اللاهوتية
في الثالوث:
- هو عمله الرئيسي ويتكون من ۱۲ كتابا، كتب الثلاثة الأولى منه قبل 356م، أما التسعة الأخيرة فأثناء نفيه في فريجيا. وهو لا يعد فقط أول مبادرة لمعالجة شاملة للموضوع باللغة اللاتينية، ولكنه أيضا مليء بأمور هامة وبراهين شرعية.
- الكتاب الأول: تمهيدي، ويشرح فيه سمو الطبيعة الإلهية عن الفهم البشري، وفيه سيرته الذاتية الروحية.
- الكتاب الثاني: يحوي مقدمة عامة عن العلاقة بين الأب والابن والطبيعة الإلهية للابن. ويؤكد على حقيقة وأزلية ميلاد الإبن الإلهي ويتحدث كذلك عن الروح القدس.
- الكتاب الثالث: لدحض ادعاءات الآريوسيين بأن الابن أقل من الأب. يختمه بحديث طويل عن قصور وعجز الحكمة البشرية. لا يستطيع أي إنسان أن يدرك الحقائق الإلهية بدون أن يجاهد من أجل نقاوة قلبه والطهارة والنسك. فاللاهوت ليس مجرد نتيجة لجهد العقل. وهو يعتبر أن معرفة الله هبة روحية ومعرفة محبة وشركة وتقديس، فلا فرق بين طريق المحبة وطريق المعرفة. اللاهوتي الحقيقي هو من له شركة مع الله.
- الكتاب الرابع: يقدم الاعتراف الإيماني المنحرف الذي أرسله آریوس إلى البابا ألكسندروس بطريرك الإسكندرية، ثم يبدأ في تفنيده من أول جمله فيه، محاولا بالاستعانة بأمثلة كثيرة أغلبها من سفر التكوين (ظهورات الابن) ومن الأنبياء أن يثبت أن العهد القديم يشهد ويعلم بوجود الابن كإله مع الأب.
- الكتاب الخامس: تفنيد الجملة الثانية من اعتراف الإيمان الآريوسي. ويوضح هيلاري من خلال دراسته للعهد الجديد أن الابن ليس فقط إلها ثانيا.
- الكتاب السادس: نفس الموضوع في ض وء العهد الجديد ويخلص إلى أن المسيح هو حقا ابن الله.
- الكتاب السابع: يثبت بآيات أيضا من العهد الجديد أن المسيح إله حق من إله حق وهو من جوهر الآب وواحد معه.
- الكتاب الثامن إلى الكتاب الثاني عشر: دحض وتفنيد للعقيدة الآريوسية الخاطئة في بنودها المختلفة.
في المجامع:
كتبه في أوائل عام ۳۵۹م، في فريجيا أثناء نفيه، بعد أن رفض التوقيع على قرار مجمع ميلان. وفيه يشرح سبب عدم قبول تعبير (أومو أوسيوس- له نفس الجوهر) الموجود في قانون إيمان نيقية لدى إكليروس الشرق. مقدماً استشهادات و تفاسير لإعلانات الإيمان الشرقية.
وكان يهدف به إلى توحيد جهود المتمسكين بإيمان نيقية مع أنصاف الآريوسيين، شارحاً مصطلحات قانون الإيمان النيقاوي مؤكدا على الوحدة والتميز في الثالوث القدوس.
ويسمى هذا الكتاب أيضا “المصالحة الإيرينيكون Eirenicon.
أعماله التاريخية:
الرسالة الأولى إلى قسطنتیوس: يروي فيها الإجراءات ة التي اتخذها مجمع میلان ۳۵۰م ضد البابا أثناسيوس وضد يوسابيوس أسقف فيرسيللي. وكتبه بعد الأحداث مباشرة في 356م وقبل نفيه.
هناك نص آخر تحت نفس العنوان، هو رسالة أرسلها الأساقفة الغربيون المجتمعون في مجمع سرديكا 343م إلى الإمبراطور يطلبون منه أن يضع حداً للاضطهادات التي ينالها مؤيدو قانون الإيمان النيقاوي.
الرسالة الثانية إلى قسطنتيوس: كتبت ۳۵۹م وفيها يطلب القديس هيلاري – الذي ذهب إلى القسطنطينية بعد مجمع سلوقيا (۳۵۹م) – من الإمبراطور أن يسمح بعقد مناظرة علنية بينه وبين ساتورنينوس أسقف آرل الآريوسي الذي كان السبب في إدانة هيلاري الظالمة في مجمع بيزييه Beziers (356م والذي كان في القسطنطينية في ذلك الوقت.
أرفق بها دعوة لرفض التعريف الإيماني الجديد (الآريوسي) الذي وضعه مجمع ریمینی (۳۵۹م) والعودة إلى قانون إيمان نيقية، ولكن هذه الرسالة لم تأت بنتيجة.
الرسالة ضد قسطنتیوس: تألم هيلاري جداً من أحداث مجمع ريميني Rimini ۳۵۹م، ومن اتجاهات الإمبراطور الآريوسية ومن مجمع القسطنطينية المكاني 360 م، فكتب رأيه في الإمبراطور بوضوح وتفصيل في هذه الرسالة مدافعاً عن القديس أثناسيوس، ومقارنا بين الإمبراطور وبين أشر الذين اضطهدوا الكنيسة مثل نيرون وداكيوس وغيرهم.
بل ذكر أن الإمبراطور أردأ منهم لأنهم كانوا أعداء واضحين أما هو فخائن لطيف بحسب الظاهر. ويتضح أنه كتبها في المنفي وكان الإمبراطور لازال حيا.
ضد أوكسينتيوس: كتبه 364م بعد محاولة فاشلة قام بها مع يوسابيوس أسقف فيرسيللي لطرد الأسقف الآريوسي أوكسينتيوس من كرسي ميلان. ويروي فيها الأحداث التي وقعت في ميلان وخداع أوكسينتيوس.
شذرات تاريخية: مجموعة من الوثائق تخص الجدال الآريوسي، ولها قيمتها في معرفة ظروف وتطورات هذا الجدال. وأيضا وثائق قيمة ليس لها مصدر آخر في الفترة ما بين 343م و 366م في الغرب.
أعماله التفسيرية:
تفسير إنجيل متى: وهو يستخدم التفسير الرمزي ويضيف بعض التعليقات. كتبه قبل النفي 356م.
تفسير المزامير: كتبه بعد عودته من المنفى. تأثر فيه بأوريجانوس ونقل عنه الكثير من الصور المجازية.
في الأسرار: ذكره القديس جيروم في كتابه “مشاهير الرجال”. يذكر فيه هيلاري أن الكتاب المقدس کله يعلن تجسد المسيح. ولابد من استخدام المنهج الرمزي في العهد القديم.
التسابيح:
يعد أول كاتب غربي شُهد لنشاطه في كتابة التسابيح. ولم تخل أشعاره والتسابيح التي كتبها من الإشارة إلى الجدل الآريوسي، واستخدمها في نشر التعليم المستقيم. ويعتبر هيلاري أول مؤلف رسمي للألحان اللاتينية. ولاتزال الكنيسة اللاتينية تذكره.
الأعمال المفقودة:
عملان ذكرهما جيروم: لنصل إلى الكمال أو ضد ديسقوروس”. و تأملات في أيوب” حفظت شذرات منه فقط.
الكنيسة الجامعة | |||
الآباء الغربيون قبل وبعد نيقية |
|||
تاريخ الكنيسة |