كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

أعطوا ما لقيصر لقيصر

في يوم الأحد المعروف بأحد الشعانين، دخل الرب يسوع أورشليم، وطرد الباعة من الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. أغضب هذا التصرف الكتبة والفريسيين ورؤساء الشعب، فتقدموا إليه قائلين: «بأي سلطان تفعل هذا، ومن أعطاك هذا السلطان؟» (مت 21: 23) فأجاب يسوع على سؤالهم هذا بسؤال آخر عن معمودية يوحنا، هل كانت من السماء أم من الناس؟ فلما امتنعوا عن الإجابة، بدأ توبيخهم ببعض الأمثال مِثل مَثَل الابنين (مت 21: 28-38)، ومثل الكرامين الذي قتلوا المرسلين إليهم ثم قتلوا الابن الوريث (مت 21: 33-44)، ومثل عُرس ابن الملك (مت 22: 1-13).

فانسحب الفريسيون من الساحة وبدأوا في التشاور فيما بينهم كيف يصطادونه بكلمة. وأرسلوا إليه جواسيس «يتراءون أنهم أبرار لكي يمسكوه بكلمة، حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه» (لو 20: 2). وابتدروه بمقدمة طويلة تحوي بعض عبارات المديح، ثم ألقوا عليه سؤالهم: «يا معلم، نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، بل بالحق تُعلم طريق الله. أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ نعطي أم لا نعطي؟» (مر 12: 14).

واضح أن السؤال كان مباشراً، ومن ثم يحتاج إلى إجابة مباشرة ولكن لماذا كل هذه المقدمة إلا إذا كان السؤال يخفي في طياته فخاً، ويحمل في داخله أمراً خطيراً؟

كان الجواسيس الذين تقدموا بالسؤال يتكونون من فئتين متضادتين: الأولى، فئة تلاميذ الفريسيين، وهم فئة اللاهوتيين المتمرسين عل تعاليم الناموس وأحكامه، والذين لا يؤمنون إلا بحكم الله، ويرفضون أي حكم أجنبي، وهؤلاء طبعاً كانوا يرفضون مبدأ دفع الجزية لقيصر.

والفئة الثانية، هي فئة الهيرودسيين المتشيعين لحكم بيت هيرودس، وهؤلاء بالرغم من ولائهم للأسرة الحاكمة، إلا أنهم أيضاً كانوا لا يشجعون دفع الجزية لقيصر. وكان من تلاميذ المسيح أنفسهم واحد على الأقل من شيعة الغيورين وهو سمعان الغيور – وكانت هذه الشيعة من أكثر الفئات اليهودية تعصباً ضد الاحتلال الروماني، والتي ترفض بشدة دفع أية ضرائب لروما. والرب يسوع نفسه كان من الجليل، من بلدة يهوذا الجليل الذي قاد ثورة مسلحة ضد الاحتلال الروماني.

كل هذه الظروف جعلت من السؤال امتحاناً عسيراً. فكلا الإجابتين – سواء بالموافقة عل دفع الجزية أو الرفض – تحمل مخاطر لا حصر لها. فإن أجاب الرب يسوع برفض الجزية، يكون قد حقق أمنية الجواسيس ليتسنى لهم تسليمه إلى السلطات الحاكمة بتهمة التحريض على قيام ثورة ضد روما، وهي تهمة عقوبتها الإعدام. وإن أجاب بجواز دفع الجزية يفقد تعاطف كل الشعب معه، ويضع نفسه في مواجهة مع الكتبة والفريسيين والشعب، بل ومع بعض تلاميذه أيضاً. وهكذا أحكم الفريسيون السؤال، وانتظروا الإجابة.

لم ينخدع الرب يسوع بكلمات الإطراء والمديح، لأنه لا ينظر إلى العينين بل إلى القلب (1صم 16: 7)؛”فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ:«لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ»” (مت 22: 18و19). فقدموا له
ديناراً، وهو من العملة التي كانت تدفع بها الجزية، وكان يحمل صورة طيباريوس قيصر واسمه ولقبه. فسألهم:”«لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» قَالُوا لَهُ:«لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ:«أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ». فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا.” (مت 22: 20-22).

ولم يكن يتوقع الفريسيون على الإطلاق هذه الإجابة، بل كانوا يظنونه سيوافق رأيهم على عدم دفع الجزية. وسبب تعجَّب واندهاش الفريسيين وانصرافهم مدحورين دون أدنى تعليق أنهم فهموا قصد الرب من الإجابة. فلم تكن إجابة الرب يسوع مجرد تصريح لهم بدفع الجزية من العملة التي تحمل صورة قيصر، ثم تقديمهم لله حقه من عملة الهيكل (الشيكل اليهودي) الذي لا يحمل صورة قيصر؛ بل كان الرب يري إلى معانٍ أبعد من ذلك بكثير. وإلا لكان من حق أحدهم أن يعترض قائلاً: إن كل ما في أيدينا هو ملك لله، حتى قيصر نفسه هو مملوك لله، فكيف نعطي مما لا نملك لمن لا يستحق؟!

لقد أراد الرب يسوع أن يلفت نظرهم إلى خطأ شائع كان منتشراً في أيامهم في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وقد انتهز الرب هذه الفرصة لكي يصحح لهم هذا الخطأ. فقد ولدت المسيحية في عالم تسوده عبادة قيصر، وكان ينظر إلى قيصر على أنه إله. والإمبراطورية كانت مترامية الأطراف، وكانت تضم شعوباً ذات لغات وديانات وعادات متباينة، وكان سبب ترابط هذه الإمبراطورية ليس فقط الحاميات العسكرية الرومانية التي كانت موزعة على أرجاء البلاد، بل كانت الديانة الواحدة المشتركة التي فرضت على الجميع – وهي عبادة قيصر هي سبب الترابط، وربما بصورة أقوى.

إن الروابط السياسية والعسكرية هامة جداً، أما الروابط الدينية فهي أكثر أهمية. وقد فطنت الدولة الرومانية لذلك فعملت عل نشر عبادة قيصر. لم تحارب روما ديانات الشعوب التي انضوت تحت لوائها طالما وافقت هذه الشعوب على إضافة عبادة الإمبراطور إلى معتقداتهم، لكنها لم تتساهل مع أي شعب رفض الخضوع لمعتقداتها، وعاملته معاملة خاصة، وتوقعت منه الثورات في أي وقت.

إن عبادة قيصر كحقيقة تاريخية تلقي الضوء على كثير من آيات العهد الجديد، ومنها آية: «أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». كما أنها تكثف لنا عن ذلك التوازي الذي كان قائماً بين المسيحية وعبادة الإمبراطور، وشخصية الرب يسوع في الديانة المسيحية وشخصية الإمبراطور في ديانة الدولة، والألقاب التي كان يحملها كل منهما.


لقب الرب “كيريوس” :

كلمة كيريوس اليونانية معناها: “الرب” أو “السيد”، وكان هذا هو أحد الألقاب التي أطلقوها على الإمبراطور. كما أنه كان لقباً رسمياً لربنا يسوع، لأن هذه الكلمة هي التي دخلت في العهد القديم في الترجمة السبعينية كترجمة للفظ الجلالة العبري “يهوه”. لذلك فهو لقب يشير إلى الألوهية وليس مجرد لقب تكريم، خاصة إذا استعمل للدلالة عل الله، أو كما استعمل فيما بعد للإشارة إلى الإمبراطور.

هذه الحقيقة تساعدنا جدا في فهم الآيات التي أوردها بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس:” لأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَا يُسَمَّى آلِهَةً، سِوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ أَوْ عَلَى الأَرْضِ، كَمَا يُوجَدُ آلِهَةٌ كَثِيرُونَ وَأَرْبَابٌ كَثِيرُونَ. لكِنْ لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ.” (1كو 8: 5و6).

هذا التصريح أورده بولس الرسول في معرض حديثه عن أهمية انفصال المؤمنين عن عبادات اليونان الوثنية. فإن كان على مؤمني كورنثوس رفض أي نوع من العبادة تقدم للإمبراطور، فعليهم أيضا أن يبتعدوا عن المشاركة في أي ممارسات طقسية تقدم لآلهة اليونان الوثنية. لأنه إن كان اليونان قد ملأوا السماء بأسماء آلهة كثيرة، والرومان ملأوا الأرض بعبادة ملكهم، فنحن لا نعرف لنا في السماء إلا إلهاً واحداً – الآب – مصدر كل خليقة، والذي لا ننتمي لاخر سواه. ولا نعرف إلا رباً واحداً – يسوع المسيح ابنه الوحيد- الذي به خلق الكل، والذي هو واحد مع الآب .

وقد أشار الرب يسوع إلى عادة تكريم قيصر فوق العادة عندما قال: “ملولك الامم يسودونهم”(لو 22: 25). وكلمة “يسودونهم” لا تعني مجرد أن ملك الأمم (قيصر أو من عل شاكلته) يمارس سيادته على الشعب بحكم منصبه، بل تعني أنه يتصرف بينهم كرب (كيريوس).

وهذ الكلمة نفسها هي التي أُطلقت على الرب يسوع: “لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش، لكي يسود على الأحياء والأموات” (رو14: 9) وقد أوضحها بولس الرسول بقوله عن المسيح: “… المبارك العزيز الوحيد: ملك الملوك (حرفياً: ملك الذين يملكون)، ورب الأرباب (حرفياً: رب الذين يتسيدون)» (1تي 6: 15).

ولم يكن رفض المسيحية لإطلاق لقب “الرب” عل البشر وتخصيصه للرب يسوع وليد ظروف سياسية حتمت ذلك، أو أنه جاء كتعليم جديد في مقابل خطأ شائع؛ بل منذ فجر المسيحية عندما أعلن الملاك البشرى للرعاة بميلاد الطفل يسوع، أخبرهم قائلا: «أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب» (لو 2: 11). فإن كان يوجد على الأرض من يطلقون على أنفسهم: ” أرباباً”، فها أنا ابشركم بميلاد الرب الحقيقي والوحيد.

وبعد قيامة الرب يسوع من بين الأموات كان اعتراف التلاميذ الرئيسي، والذي جاء على لسان توما الرسول، مناداة الرب يسوع بلقب «ربي وإلهي» (يو 20: 27). وكذلك القديس يوحنا عندما رأى الرب يسوع
بعد قيامته على شاطئ بحر طبرية، إذ قال لبطرس الرسول: «هو الرب» (يو 21: 7).

ويظهر الخلط واضحاً بين ما هو لقيصر وما هو لله عند محاكمة بولس الرسول، إذ صرح الوالي فستوس: “ليس لي شيء يقين من جهته لأكتب إلى السيد (الرب)» (أع 25: 26). لقد اعتبر فستوس أن الإمبراطور نيرون هو سيده أو ربه، إذ أطلق عليه لقب الرب أي الإله الذي يجب عليه أن يقدم له فروض العبادة.

وهذا اللقب نفسه هو الذي رفضه القديس الشهيد بوليكاربوس (عام 156م) عندما قدموه للمحاكمة. إذ سأله القائد هيرودس: “أي ضرر إن قلت: الرب قيصر، وقدمت له الذبائح، ونجيت نفسك”؟. وكان نتيجة رفض الخلط بين ما هو لقيصر وما هو لله، أن نال القديس بوليكاربوس إكليل الشهادة.

لذلك يلخص القديس بولس رأي المسيحية في إطلاق لقب الرب بحصر المعنى على الرب يسوع وليس على آخر سواه، قائلا: «لذلك رفعه الله أيضاً، وأعطاة اسماً (= الاسم الذي هو) فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع الميسح هو رب لمجد الله الآب» (في 2: 9-11).

لقب الله (ثيئوس).

ولم يكن لقب الرب فقط هو الذي ألصقه الشعب بالإمبراطور، فقد أطلقوا عليه أيضا لقب إله (ثيئوس). فقد قيل عن أغسطس قيصر إنه “إله من إله”، وأنه الإله قيصر. ودُعي الإمبراطور بصفة عامة أنه حتى إن الشعب تملق الملك هيرودس، وهو ملك اليهود، ولقبوه بهذا اللقب: “فَفِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لَبِسَ هِيرُودُسُ الْحُلَّةَ الْمُلُوكِيَّةَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْمُلْكِ وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ. فَصَرَخَ الشَّعْبُ:«هذَا صَوْتُ إِلهٍ لاَ صَوْتُ إِنْسَانٍ!»” (أع 12: 21و22). وهنا يظهر بوضوح سرقة ما هو لله وإسناده للبشر. لذلك كان تدخل السماء سريعاً: “فَفِي الْحَالِ ضَرَبَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْمَجْدَ للهِ، فَصَارَ يَأْكُلُهُ الدُّودُ وَمَاتَ.” (أع 12: 23).

لقب مخلص (سوتير)

كذلك أطلقوا على الملوك قديماً لقب مخلص (سوتير) باعتبار أن الملك هو الذي يخلص الشعب من ويلات الحروب والمجاعات والمخاطر. وقد حمل الأباطرة هذا اللقب كلقب تأليه وليس لقباً سياسياً. ومن بين أباطرة روما هناك ثمانية على الأقل حملوا لقب: “مخلص العالم”. لذلك أرادت السماء تصحيح  هذا الخطأ، وإعادة ما لله لله، فأعلنت بلسان الملاك المبشر أن المولود في بيت لحم سيُدعى اسمه يسوع “لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” (مت 1: 21). ثم أعلنت للرعاة: «أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص (سوتير) هو المسيح الرب» (لو 2: 11).

ولما بدأ الرب يسوع كرازته، ورأى الشعب آياته ومعجزاته، آمنوا أنه هو المخلص الذي آتى ليخلصهم من خطاياهم واعترفوا به قائلين: «هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم» (يو4: 42).

إذن، أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.

أعطوا لقيصر الضريبة أو الجزية من مال هذا العالم، فهو ملك لكم، والمال وما تحصلونه به من أمور أرضية هو إلى زوال: “فأعطوا الجميع حقوقهم: الجزية لمن له الجزية. الجباية لمن له الجباية. والخوف لمن له الخوف. والإكرام لمن له الإكرام» (رو13: 7). أما الله فأعطوه قلوبكم وأنفسكم وأرواحكم، فهذه ليست ملكاً لكم:”لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله» (1 كو 6: 20).


أعطوا لقيصر الاحترام والتكريم والخضوع والطاعة:”لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ،” (رو 13: 1). أما الله فاعطوه العبادة والسجود “لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ” (مت 4: 10).

أعطوا لقيصر الدينار الذي يحمل صورته، أما الله فأعطوه أنفسكم لأنكم تحملون صورة ابنه (رو 8: 29)

أوصنَّا لابن داود كتب أنبا إبيفانيوس الحية النحاسية
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى