كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس اسقف ورئيس دير أنبا مقار

ملء الزمان

 

“وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ.” ( غل4:4-5 )

“لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت » ( جا3: 1) ، هكذا يقرر سليمان الحكيم في سفر الجامعة . إذ يرى أن « للولادة وقت وللموت وقت » ، وأن الله « صنع الكل حسناً في وقته » ( جا 3: 2، 11) . ويتكلم الملاك جبرائیل مع دانيال النبي عن خطة الله وتدبيره في تعيين الأوقات وتحديد الأزمنة ، إذ يخبره عن الوقت الذي حدده الله لمجيء الرب يسوع فيقول : “سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ. ” ( دا 9 :24).

وهكذا نرى الرب يسوع ، بعد أن اعتمد في نهر الأردن ، يبدأ خدمته قائلا : « قد گمل الزمان » ( مر 1 : 15) . والقديس بولس الرسول يؤكد على اكتمال الزمان هكذا قائلاً : « ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة » ( غل 4:4).

ولكن ما معنى عبارة « قد كمل الزمان » ؟ أو ما هو قصد القديس بولس من عبارة « ملء الزمان» ؟ هل يقصد تاريخاً عشوائياً؟ أم أنه كان يری ، بالأحرى ، أن العالم قد أصبح الآن مهيئاً أكثر من أي وقت مضى لتدخل الله ومجيء المسيَّا المنتظر؟

قد يكون من العسير أن نحیط إحاطة كاملة بما يقصده بولس الرسول من « ملء الزمان» . ولكننا إذا حاولنا دراسة أحوال العالم وقت ولادة الطفل يسوع ، والأمور التي أدت إلى سرعة انتشار الإنجيل ، أمكننا معرفة بعض المعاني التي كانت تراود فكر الرسول بولس .

الحالة الروحية :

كان الشعب اليهودي يحلم منذ قرون عديدة بالملك الذي من نسل داود ، الذي سيأتي ويعيد إليهم مجدهم الضائع . ولكن بسبب خضوع اليهود المرة تلو الأخرى للغزو العسكري من الشعوب المجاورة ، تبدَّد الأمل في مجيء هذا الملك الأرضي . لذلك تولد عندهم أمل آخر في مجيء ملك له صفات إلهية ، كما برهم إشعياء النبي : 
+ « لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً ، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعی اسمه عجيباً ، مشيراً إلهاً قډيراً، أباً أبدياً ، رئيس السلام . لنمو ریاسته ، وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر ، من الآن إلى الأبد » ( إش 6:9 و 7).

هذا الملك سوف يأتي في ” يوم الرب” ، ويدين أعداء إسرائيل ، ويحقق السلام والعدل بين شعبه إسرائيل :
+ “لِذلِكَ يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ عَزِيزُ إِسْرَائِيلَ: «آهِ! إِنِّي أَسْتَرِيحُ مِنْ خُصَمَائِي وَأَنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِي، وَأَرُدُّ يَدِي عَلَيْكِ، وَأُنَقِّي زَغَلَكِ كَأَنَّهُ بِالْبَوْرَقِ، وَأَنْزِعُ كُلَّ قَصْدِيرِكِ، وَأُعِيدُ قُضَاتَكِ كَمَا فِي الأَوَّلِ، وَمُشِيرِيكِ كَمَا فِي الْبَدَاءَةِ. بَعْدَ ذلِكَ تُدْعَيْنَ مَدِينَةَ الْعَدْلِ، الْقَرْيَةَ الأَمِينَةَ».” ( إش1: 24-26 ).

ولم يكن إشعياء النبي فقط هو الذي بعث فيهم هذا الأمل ، فقد تنبأ لهم حزقيال النبي أيضا الله يخبر فيها الشعب أن الله سینزل بنفسه ليرعی شعبه إسرائيل :
+ ”
وَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: «يَا ابْنَ آدَمَ، تَنَبَّأْ عَلَى رُعَاةِ إِسْرَائِيلَ، تَنَبَّأْ وَقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِلرُّعَاةِ: وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْعَوْنَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ الْغَنَمَ؟ تَأْكُلُونَ الشَّحْمَ، وَتَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَتَذْبَحُونَ السَّمِينَ، وَلاَ تَرْعَوْنَ الْغَنَمَ. الْمَرِيضُ لَمْ تُقَوُّوهُ، وَالْمَجْرُوحُ لَمْ تَعْصِبُوهُ، وَالْمَكْسُورُ لَمْ تَجْبُرُوهُ، وَالْمَطْرُودُ لَمْ تَسْتَرِدُّوهُ، وَالضَّالُّ لَمْ تَطْلُبُوهُ، بَلْ بِشِدَّةٍ وَبِعُنْفٍ تَسَلَّطْتُمْ عَلَيْهِمْ. فَتَشَتَّتَتْ بِلاَ رَاعٍ وَصَارَتْ مَأْكَلاً لِجَمِيعِ وُحُوشِ الْحَقْلِ، وَتَشَتَّتَتْ. ضَلَّتْ غَنَمِي فِي كُلِّ الْجِبَالِ، وَعَلَى كُلِّ تَلّ عَال، وَعَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ. تَشَتَّتَتْ غَنَمِي وَلَمْ يَكُنْ مَنْ يَسْأَلُ أَوْ يُفَتِّشُ.

«فَلِذلِكَ أَيُّهَا الرُّعَاةُ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ: حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ غَنَمِي صَارَتْ غَنِيمَةً وَ صَارَتْ غَنَمِي مَأْكَلاً لِكُلِّ وَحْشِ الْحَقْلِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ رَاعٍ وَلاَ سَأَلَ رُعَاتِي عَنْ غَنَمِي، وَرَعَى الرُّعَاةُ أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يَرْعَوْا غَنَمِي، فَلِذلِكَ أَيُّهَا الرُّعَاةُ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا عَلَى الرُّعَاةِ وَأَطْلُبُ غَنَمِي مِنْ يَدِهِمْ، وَأَكُفُّهُمْ عَنْ رَعْيِ الْغَنَمِ، وَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ أَنْفُسَهُمْ بَعْدُ، فَأُخَلِّصُ غَنَمِي مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَلاَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْكَلاً. لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَسْأَلُ عَنْ غَنَمِي وَأَفْتَقِدُهَا. كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسْطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ، هكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالضَّبَابِ. وَأُخْرِجُهَا مِنَ الشُّعُوبِ وَأَجْمَعُهَا مِنَ الأَرَاضِي، وَآتِي بِهَا إِلَى أَرْضِهَا وَأَرْعَاهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ وَفِي الأَوْدِيَةِ وَفِي جَمِيعِ مَسَاكِنِ الأَرْضِ. أَرْعَاهَا فِي مَرْعًى جَيِّدٍ، وَيَكُونُ مَرَاحُهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ الْعَالِيَةِ. هُنَالِكَ تَرْبُضُ فِي مَرَاحٍ حَسَنٍ، وَفِي مَرْعًى دَسِمٍ يَرْعَوْنَ عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ. أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ.” (حزقيال 34: 1-15)

وحتى وقت میلاد المسيح كان هذا الأمل نفسه قد خفت، على الأقل في الأوساط الكهنوتية التي لم يكن يعنيها من الدين سوى تتمیم الفرائض الطقسية والتمسك بتقليدات الشيوخ البالية. ولم يعش هذا الأمل إلا في النفوس التقية التي كانت تنتظر مجيء المسيا وتحيا كل يوم بهذا الرجاء. وخير مثال على هذه الفئة المتيقظة لمواعيد الرب، سمعان الشيخ الذي «كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ،». فبعد أن أخذ الطفل يسوع على ذراعيه، بارك الله وقال: «عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ». ( لو2: 25-32) . وهذه امرأة أخرى تقية وهي حنة بنت فنوئیل ، التي عاشت على هذا الرجاء ، عندما علمت بمجيء الرب : «وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ.» ( لو2: 36-38) . أما الكهنة الذين كانت مهمتهم دراسة الشريعة ومعرفة الأزمنة والأوقات فكانوا منشغلين باهتماماتهم الخاصة ، لذلك فاتهم إدراك ملء الزمان الذي حدده الله لافتقاد شعبه.

بيد أن الأمل في مجيء المسيا كان له مفهوم آخر عند البعض ، فالله سيأتي في الزمان الذي حدده ، ليس لكي يفتقد شعبه وينجيه من أيدي أعدائه فقط ، بل ليصب غضبه على الأشرار وينتقم من فاعلي الإثم . وها هو يوحنا المعمدان الذي أتى ليعد طريق الرب ، والذي كان مجيئه وظهوره في البراري إحدى الخطوات التي مهدت لاكتمال الزمان ، ها نراه يحذر الشعب أن مجيء المسا هو للانتقام من فاعلي الشر : 
+«يَاأَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ…أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي،… هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ» ( مت 3 : 7-12).

لقد جاء يوحنا المعمدان لكي يمهد الطريق لمجيء المسيا ، لكن المستوى الذي وصل إليه حال الشعب ، وخاصة الكهنة وقادة الشعب ، حتم عليه أن يبشرهم بسرعة مجيء الرب للانتقام . فالناموس أو التوراة التي كانت تمثل حجر الزاوية في حياة كل الشعب اليهودي ، صارت أداة في يد الكهنة والفريسيين ليحكموا بها الشعب حسب مصلحتهم الخاصة وأهوائهم الشخصية . والشريعة التي نزلت لتكون خادمة للشعب تعينه على الخلاص ، صارت سیداً قاسياً لا يرحم . وبدلاً من أن تكون منهجاً للتوجيه والإرشاد في الطريق الروحي ، صارت هي في حد ذاتها الطريق الذي به نظن أننا نترضى وجه الله.

لقد حوَّل الفريسيون الشريعة إلى حمل ثقيل أرهقوا به كاهل الشعب ، ونصبوا أنفسهم رقباء على الشعب ليجبروهم على تتميم الشريعة واحترام التقاليد والتفاسير والشروحات التي فرضوها عليهم. وهكذا سلبت الشريعة بهجة الحياة ، وخلقت في الشعب الإحساس بالخطيئة والذنب لعدم إمكانية تتميم متطلباتها القاسية . الأمر الذي وبَّخ عليه يسوع الفريسيين عندما قال لهم : “فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ،” (مت23: 4) . وقد كتب بولس الرسول إلى أهل غلاطية يذكَّرهم أن الناموس “لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ.” ، وأنه قبل نزول الناموس بأربعمائة وثلاثين سنة عاش إبراهيم في سلام مع الله بالإيمان . وأن الناموس بهذه الطريقة التي مارسها الفريسيون لم يحقق للشعب سوى الوقوع تحت اللعنة والدينونة ( غل3: 6-21 ) .

إن صراخ الشعب وأنينه نتيجة ثقل الناموس ونيره القاسي وعدم جدوى التوجيه الروحي لقادة الشعب ، كان من العوامل الهامة التي مهدت لاكتمال الزمان ولسرعة مجيء المخلص ، تماماً كما كان صراخ الشعب من أجل مسخريهم في مصر سبباً في اكتمال الزمان لتدبير خلاصهم وإخراجهم من أرض مصر وإرسال موسى النبي لإنقاذهم ( خر3: 7-10).

الواقع السياسي والثقافي

من المحتمل أن الرسول بولس كان يقصد أيضا “بملء الزمان “ ، الوضع السياسي والثقافي الذي كان عليه العالم وقتئذ . فقد كان العالم ثقافياً مُمهداً لظهور المسيا . فاللغة اليونانية أصبحت هي لغة الثقافة السائدة في العالم المتحضر المعروف آنذاك ، أي داخل حدود الإمبراطورية الرومانية . وقد ساعدت اللغة اليونانية الرسل والكارزين في سرعة انتشار الكرازة بالإنجيل ، وذلك في مقابل اللغة العبرانية والآرامية التي لم تكن معروفة إلا في حدود أرض فلسطين .

أما عن الوضع السياسي فقد ساد السلام الروماني أرجاء العالم ، وأصبحت طرق الاتصال ممهدة ومتيسرة ، بل ومأمونة أيضاً. وقد سهل ذلك على الرسل الانتقال براً وبحراً داخل حدود الإمبراطورية ، بل والذهاب إلى روما نفسها لتبشيرها بالمسيح. لأنه بالرغم من الاضطهادات التي واجهها الرسل ، فإن الدولة الرومانية كانت مستعدة لتقبل أية ديانة جديدة. بل إن الفلاسفة اليونان أنفسهم كانوا قد مهدوا بتعاليمهم لاستقبال الدين الجديد الذي سيحقق لهم السلام ويمتعهم بالحياة في المدينة الفاضلة التي كانوا ينادون بها.

أما الوضع السياسي داخل حدود الدولة اليهودية فكان يعاني من المخاض ، وكان في أشد الاحتياج لظهور المسيا . فقد وُلد المسيح في أيام الملك هيرودس الكبير ، هذا الملك الذي كان يمثل الشر بعينه . فقد كان يستخدم سلطانه لسحق أي تمرد سواء كان حقيقياً أو حسب تخيلاته. وقد أراق دماء خمسة وأربعين من أعضاء المجمع اليهودي ( السنهدريم ) في بداية حكمه ، كما أنه قتل زوجته وحماته وثلاثة من أشقائه بدافع الغيرة . حتى في موته كان قد أمر بقتل مجموعة من أعيان الشعب ليضمن أنه سيكون هناك مناحة كبيرة في المدينة يوم وفاته.

ولا ننسى الإجراءات التي اتخذها بعد عودة المجوس الذين حضروا للسجود لطفل المزود ، فقد أمر بقتل جميع أطفال بيت لحم حتى يتأكد من القضاء على هذا الطفل الملك الذي أعلمه المجوس- بل والكهنة أيضاً- أنه سيولد في بيت لحم . لقد كان هيرودس يمثل بالحقيقة رئيس هذا العالم ، الذي شحذ كل قواته لقتل طفل المزود البريء . وفيه تحقق قول يوحنا الإنجيلي أن النور جاء إلى العالم وأنه أضاء في الظلمة والظلمة لم تدرکه . إنه في حكم هيرودس كان ” ملء الزمان” قد اقترب ليظهر الله قوته ويعلن حضوره .

التلاميذ والرسل:

يمكننا أيضا أن نقول إن الله كان يهيئ لنفسه آنية سبق فأعدها ليكون لها دور في ملء الزمان ، كما يوضح لنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية : «وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ،» ( غل 1: 15و 16) . لقد كانت الكرازة بالمسيح تحتاج إلى أشخاص مثل بطرس وأندراوس ، ويعقوب ويوحنا ، وأكيلا وبريسكلا ، لكي تُنشر كلمة الخلاص وتُبشر الشعب بمجيء المسيا . وبالأحرى كانت تحتاج إلى شخص مثل بولس الرسول ، الذي نادراً ما يجود الزمان بمثله ، الذي فيه اجتمعت الديانة اليهودية والثقافة اليونانية والمواطنة الرومانية ، حتى يحمل الإنجيل بلا عائق ويجول في جميع أرجاء المسكونة ينادي لهم ببشرى الخلاص . لقد وجد الله في شاول الطرسوسي ، الذي صار بولس الرسول ، إناءً مختاراً ليحمل اسمه أمام أمم وملوك وبني إسرائيل ( أع 9: 10) .

أخيراً وليس آخراً، كان الله لنفسه في ملء الزمان ، فتاة عذراء قديسة ، تكون أهلاً لأن يتجسد في أحشائها وتكون أمينة على سر التجسد . هذه العذراء التي سبق فرآها إشعياء النبي قبل التجسد بسبعمائة عام ، وتنبأ قائلا : « ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل » ( إش7: 14) ، والتي رآها حزقيال النبي في الرؤيا وقال : « هذا الباب يكون مغلقاً ( نبوة عن بتولية العذراء ) ، لا يفتح ولا يدخل منه إنسان ، لأن الرب إلة إسرائيل دخل منه فيكون مغلقاً » ( حز2: 44 ) .

قد يكون هذا هو ما دار بفكر القديس بولس عندما كتب لأهل غلاطية عن ” ملء الزمان ، وبالأولى بفكر الرب يسوع عندما أعلن أنه “قد كمل الزمان”. لكننا نؤمن أنه عندما وجد الله الوقت قد حان ، وأنه هذا هو الميعاد المناسب والوقت المقبول ، أرسل الله ابنه إلى العالم ليفتدي الذين في العالم لننال التبني.

البوق الأخير كتب أنبا إبيفانيوس غصن من أصل يسَّى
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى