لماذا العقيدة
? هل وقفت يوماً تتأمل نهر وضفافه ؟
? هل تساءلت يوما ماذا لو لم يكن للنيل ضفاف ؟
? هل كان يمكن للنهر أن يحتفظ بالماء إذ لم يكن له ضفاف ؟!
بالطبع لن يستطع النهر الحفاظ على الماء بدون ضفاف .. فالضفاف هي الحامي للمياه من الضياع.
مثال : عقيدة الإيمان بتآزر عمل النعمة مع الجهاد :
– الذي يؤمن بالجهاد فقط يركز على الدور الإنساني وينكر دور نعمة الله ، فيتكبر بنجاحه أو ينتحر عند الفشل .
– الذي يؤمن بالنعمة فقط يركز على عمل الله ، وينكر دور الإنسان فيصير إنسانا تواكلياً كسولاً.
– الكنيسة تعلمنا أن نسلك بتوازن : جهاد قوي ( دون تكبر أو يأس ) ، لأنه مسنود بالنعمة الإلهية .. والا لماذا أعطانا الله الوصية لنسلك بها إن كان الخلاص بالنعمة فقط ؟!
فالعقيدة عندما تكون واضحة فإنها ترسم لنا حدوداً ومعالم واضحة في الطريق الروحي.
أولا : معنى العقيدة
العقيدة هي ما تنعقد عليه الحياة، وهي الإتجاهات التي تحدد السلوك ، وهي القناعات والمبادئ التي تقوم عليها العلاقة مع الله، ومن ثم العلاقة بالآخرين ، وتسمى ” دوجما ” ( Dogma )، وهي كلمة يونانية تعني المبدأ أو القرار ، واستخدمت قبل الميلاد لتدل على القوانين التي لا تقبل النقاش ، “لأجل ذلك غضب الملك واغتاظ جدا وأمر بإبادة كل حكماء بابل . فخرج الأمر ( dogma ) ( دا 13،12:2 ) .
ويطلق على العقائد المسيحية أيضا مصطلح ” اللاهوت العقيدى ” ، ويهتم اللاهوت العقيدي بدراسة الحقائق الإيمانية وعرضها بشكل علمي ، لذلك يطلق على اللاهوت العقائدي أيضا تعبيرات مثل : اللاهوت الإيماني أو النظرى أو التعليمي ، ويسمى أحيانا بالتعليم فقط ، كما يسمى أيضا ” علم العلوم” .
إن العقيدة أيضا تصيغ حقائق الإيمان في مسلمات ، إذا كانت كلمة ” آمن” فقط هي كلمة محورية يتعلق عليها خلاص الإنسان فدعنا نسأل بماذا أؤمن؟ وبمن أؤمن ؟ وما هي تفاصيل هذا الإيمان ؟ وكيف أميز بين إيمان مقبول أمام الله ، وإيمان مرفوض كايمان الشياطين ؟ “الشياطين يؤمنون ويقشعرون (يع19:2).
لم يتركنا الكتاب المقدس في حيرة من جهة العقيدة والفكر السليم، بل شرح لنا كل تفاصيل الإيمان، وليس من حق أي إنسان أن يدّعى أنه أكثر حكمة وذكاء وروحانية من الكتاب المقدس وواضعه الله، ويُقرر بسطحية أنه لا داعي لشرح العقيدة، وأن كل الطرق تُوصّل إلى الله، وأنه يجب قبول الآخر حتى ولو كان فكره منحرفًا ومنهجه غير سليم.
إن الإيمان الحقيقي ليس هو أن تُصدق فقط أن الله موجود، وأنه تجسد ومات وقام… بل أيضًا أن تؤمن بكل ما قاله وعلّم به في الكتاب المقدس.
فمثلًا مَنْ يرفض الإيمان بالمعمودية أو بالتناول، أو مَنْ لا يؤمن بضرورة الأعمال الصالحة للخلاص، أو أي انحراف في الإيمان بالعقيدة المسيحية… يَفقد صاحبه صفة أنه مؤمن… المؤمن يجب أن يؤمن بكل ما علَّم به السيد المسيح.
ثانياً: أهمية دراسة العقيدة
مع بداية ظهور البدع والهرطقات ، كان المجال مفتوحا للاجتهاد والتفسير، هنا انبرت الكنيسة الجامعة لتصيغ الحقائق اللاهوتية في معانی محددة لا يجوز لشخص ما أن يتجاوزها معتمداً على فكره الخاص أو قناعاته الشخصية بعيدا عن فكر الكنيسة ، لذلك يسمى قانون الإيمان ( creed ) ، وهي كلمة تعنى مسطرة أو مقياس ” ، بحيث يقيس المرء إيمانه وحتى تعبيراته على هذا القانون حتى لا تظهر الأفكار والبدع وتهدد سلامة الإيمان والتعليم.
ومن هنا فإن دراسة العقيدة تفيدنا في عدم الخلط بين عقائد الطوائف والديانات والحركات الحديثة حيث المجال مفتوحاً للإجتهاد ، فحفاظا على تراث كنيستنا وأصالة إيماننا نتمسك بمبادئ وعقائد إيماننا الأرثوذكسی.
إن كل كنيسة ، بل وكل جماعة دينية أو سياسية أو علمية لها عقائدها التي تستند عليها أو دساتيرها ، مثلما نقرأ عن شريعة مادی و فارس وكيف لم يكن ممكنا مخالفتها ( دا 8:6-15 ) ، وإلى تلك القوانين ترجع الجماعة .
اللاطائفية ببساطة هي “مسح العقيدة ” ، فيصير الإنسان غير أرثوذكسی ( Non – orthodox ) ، وليس ضد الأرثوذكسية ” أي ( Anti – orthodox ) . أي أنك تجده لا يهاجم العقيدة الأرثوذكسية ولكنه يمسحها تماماً، وهذا أخطر طبعاً، إذ سينساها الناس ، ولا يعيشون بمقتضاها .
ثالثا : مصادر العقيدة
إذن الآباء لم يخترعوا العقيدة أو المبادئ اللاهوتية ، وإنما فقط صاغوها بعناية مستدين على الأسفار المقدسة والتقليد الرسولي الذي هو تعليم السيد المسيح للرسل ، تلك التعاليم كانت عبارة عن تفاصيل تسلمها الآباء الرسل شفهياً، ويؤخذ في الإعتبار أن كل واحد منهما يضبط الآخر : فقد تسلمنا الأسفار المقدسة من خلال التقليد المقدس ، كما أن الكتاب المقدس يضبط التقليد ، بمعنى أن كل تقليد لا يوافق التعليم الكتابي لا يُقبل ، وبالتالي لا تقبل أية عقيدة ما لم تكن موافقة للكتاب المقدس.
وكل تقليد يجب العودة به إلى الوراء تدريجيا للتأكد من رسوليته ( أي أنه يرجع إلى عصر الرسل ) ، ولكي لا يترك المجال لكل شخص يتصور يدعي أن المسيح سلم تعاليم شفاهية أو أن مثل هذه التعاليم الرسولية هي مجرد تفاصيل يمكن التفاهم فيها أصرت الكنسية على إجماع الآباء على التقليد الرسولي ، وكان صمام الأمان في ذلك هو المجامع المقدسة .
رابعا : السيد المسيح والعقيدة
نادى البعض – ولا سيما أصحاب فكرة اللاطائفية – بأنه لا ضرورة كبيرة للرجوع دائما إلى العقائد الكنسية ، بل ليكن التركيز على المحبة وقبول الآخر ، ورغم هذا الفكر فإن اللاطائفية في حد ذاتها حركة لها فكر ومبادئ وعقيدة ، وكل من ينتقد الطقس والعقيدة لو دقق في ممارساته سيجد أنه هو أيضا لديه عقيدة وطقوس يتمسك بها في عبادته .
وقد ناقش السيد المسيح التلاميذ واليهود كثيراً في الحقائق اللاهوتية ، ولم يتجاهل , الأسئلة حولها ، ولم يصرح بالتركيز على المحبة فقط دون العقيدة ، بل حتى التلميذ الذي تكلم وعلم بالمحبة لآخر لحظة في حياته ، هو ذاته الذي حذر من الهراطقة ليس مناقشتهم فحسب بل حتى من قبولهم في البيوت أو حتى مجرد السلام عليهم : “إن كان أحد يأتيكم ، ولا يجيء بهذا التعليم ، فلا تقبلوه في الييت ، ولا تقولوا له سلام” (2يو10:1) .
سر الاعتراف : اهتم السيد المسيح أن يعلن السلطان الكهنوتي في الحل والربط ، إذ قال لتلاميذه القديسين : “الحق أقول لكم : كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء ، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء (مت18:18).
وهي عقيدة أساسية في الفكر الأرثوذكسي ، ينبوعها النقي هو قول السيد المسيح نفسه ، فكيف نتجاهل ما علم به السيد المسيح ! وفي معجزة شفاء الأبرص … لم يتجاهل السيد المسيح النظام الكنسي ، ودور الكاهن ، وممارسة الطقس … فقال للأبرص الذي شفي : “اذهب أر نفسك للكاهن ، وقدم القربان الذي أمر به موسی شهادة لهم ” ( مت4:8) .
الصوم:
كذلك عندما تساءل تلاميذ يوحنا : “لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيراً، وأما تلاميذك فلا يصومون ؟ ” ( مت 14:9 ) .. لم يترك الرب يسوع الأمر بدون شرح واهتمام ، ولم يقل إن الصوم متروك لحرية كل شخص … كما ينادى البعض … بل قال : ” ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم ، فحينئذ يصومون ” ( مت 15:9 ) .
تعاليم السيد المسيح في اللاهوتيات :
“ولما جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيلبس سال تلاميذه قائلا : من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان ؟ ” ( مت 13:16 ) … هل هذا السؤال يهم ربنا يسوع ؟ هل يهتم السيد المسيح بإدراك الناس للاهوته ، ومعرفة أنه ابن الله بالحقيقة ؟
بالتأكيد كان السيد المسيح ينتظر أن ينطق بطرس بهذا الاعتراف المقدس ، الذي هو صخرة الإيمان المسيحي … “أنت هو المسيح ابن الله الحي ! ” ( مت 16:16).
وقد سأل السيد المسيح الفريسيين سؤالا لاهوتياً، أحتاروا في إجابته : “«مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ:«ابْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبًّا؟ قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً.” ( مت 42:22-46 ) .وكأن الرب يسوع بسؤاله هذا ينبه ذهن الفريسيين أنهم لم يدركوا بعد حقائق اللاهوت .. وكذلك ينبه به ذهننا أننا يجب أن نفهم أسرار لاهوته . .
خامساً: العقيدة والسلوك
العقيدة ليست مجرد سفسطة أو تعصب أو عرقية، كما أنها ليست مجرد نظريات ميتافيزيقية، كذلك فإن الحياة الروحية ليست مجرد عاطفة خالية من الإيمان، وإنما هناك علاقة وطيدة ما بين معتقدات الإنسان وسلوكه، ورغم أن غاية الحياة المسيحية هي الفضيلة إلا أنه بدون عقيدة سليمة لن توجد هناك فضيلة ، أذ أن هناك فرقا بين المبدأ الاجتماعي أو الأخلاقي والفضيلة ، على أن الفضيلة ، هي أروع وأرقى أشكال ومستويات المبادئ والسلوكيات ، كما أن العقيدة تحدد الاتجاهات ، والتي تحدد بدورها سلوكيات الإنسان.
ولنأخذ على سبيل المثال عقيدة الفداء ، وكيف يظهر الإنسان مهماً عند الله حتى أنه مات لأجله، بل أعلن أن لذته في بني البشر ، هذا يجعل الإنسان يتمسك بالحياة الأبدية ، ويشعر كم هو محبوب عند الله ، بخلاف ما نادى به الوجوديون مثل سارتر الذي صرخ بأن الإنسان ما هو إلا فحم في قاطرة التاريخ !! وهو تصريح إذا تحول إلى عقيدة فمن شأنها أن تدفع الإنسان إلى أن يحيا لذاته وللذاته ولا يتحسب لمستقبله الأبدي ، بل ويقوده ذلك حتما إلى اليأس والضياع ، إنها نفس الفلسفة الأبيقورية التي نادت : لنأكل ونشرب اليوم لأننا غداً نموت ” ، حتى أولئك الذين يصنعون الخير وينتهجون اللطف والنظام والأمانة وهم ليسوا مسيحيين ، فإن سلوكهم لا تستنده عقيدة كتابية ، ومن هنا فهو معرض للتفاوض فيه أو تغييره ، ولنأخذ مثلا في الفرق بين عطاء الشخص العادي وعطاء المسيحي ، فعطاء المسيحي مبنى على تعليم كتابي : ” “من سألك فأعطه” (مت42:5) بينما الآخر قد يرى أن مساعدة الفقراء يجب أن تتم من خلال الضرائب التي تدفع للحكومة . وإذا تعلق الأمر بالتعليق على أخطاء الآخرين نادي بأنه يجوز مصارحة المخطئ بخطأه مواجهة ، في حين تعلم المسيحية أن “المحبة تستر كثرة من الخطايا ” (1بط8:4) ، إذاً فهي ليست أعمالنا نحن بل عمل الروح القدس فينا “لا بأعمال في بر عملناها نحن” ( تی5:3) ، بدليل أن كرنيليوس وهو بار يصنع الصدقات ويصلي ويصوم لم تخلصه هذه الأعمال وإنما احتاج إلى الإيمان والمعمودية (أع10).
بشكل عام فإن عنوان المسيحية هو الإيمان والأعمال أو الإيمان العامل (المتفعل) بالمحبة ، أي أن المسيحية هي عقيدة وسلوك .
? ولنأخذ مثالا آخر وهو التعليم الإسخاطولوجی ، (الإسخاطولوجي هو علم الحياة الأبدية) والذي من شأنه أن يجعل الناس يتوبون ويهتمون بالحياة الاتية ، وهذا رادع كاف لاقتراف الشرور ، التجسد والفداء نتعلم منه حب الآخرين والبذل لأجلهم ، كذلك التعليم بعقيدة الثالوث من شأنه أن يعلمنا الحوار والحب والمشاركة والتكامل .
في المقابل فإن النسطورية تهدم عقيدة الفداء ، لأنه وبحسب تعليمها يكون الذي مات مجرد إنسان فقط وليس الإله المتجسد، ومثلها الأوطاخية التي تلغي الدور البشرى فلا نشترك مع الله في العمل ولا نجاهد ، وربما أسهم هذا الفكر في اللجوء إلى الغيبيات. إذا فالعقيدة ليست مجرد ترف فكری !، فقد قال أحد الآباء : ” إن العقيدة والسلوك مثل المجرى والماء .
? إيماننا المسيحي يعلمنا أن نسلك بمبادئ واحدة وشخصية واحدة الله وأمام الناس ۔
? أما النسطورية التي تؤمن بأن ربنا يسوع كان إنساناً بالجسد يصاحبه الله بطبيعة أخرى هي اللاهوت .. وتؤثر هذه العقيدة في سلوك المؤمن بها أن يسلك بروحانية : مريضة ( الدروشة ) تؤدي بدورها إلى إزدواج في الشخصية ( إنفصام ) فيسلك في أوقات وأماكن العبادة بشكل ، وفي العالم يسلك بشكل آخر : ( ساعة لقلبك وساعة لربك ) ، (هذه نقرة وتلك تقرة أخرى).
? إيماننا المسيحي يعلمنا التضحية من أجل الآخرين حتى بذل الذات ، “ليس لأحد حب أعظم من هذا : أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه ” ( يو 13:15).
? يعلمنا خدمة المجتمع والناس من منطلق لاهوتی : “يسوع الذي من الناصرة .. الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس ” ( أع 38:10)
? يعلمنا الإهتمام بخلاص الآخرين : – “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” ( يو16:3)
– “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون ” ( 1تي4:2) .
– “أما أنا وبيتي فنعبد الرب” ( يش 15:24 ) .
من كتاب ثبت أساس الكنيسة لنيافة الأنبا رافائيل الأسقف العام