كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين

قيمة التقليد في الكنيسة

نضوج الحاسة الإيمانية للكنيسة
وتحديد قانون الأسفار المقدسة

لقد ابتدأت الكنيسة بتجميع الأسفار المقدسة منذ أيام الرسل إذ نستشف من قول القديس بطرس الرسول عن رسائل القديس بولس الرسول : « كما في الرسائل كلها أيضاً متكلماً فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم» (2بط 3: 16) . ومن هذا الكلام يتضح أن الكنيسة كانت قد جمعت كل رسائل بولس الرسول معاً ؛ كما يفيد أيضاً أنها جمعت بقية الكتب، أي الأناجيل التي كانت مكتوبة. 

ولكن بظهور هرطقات «الإيبونيم » و « الغنوستيين» ، انهمر على الكنيسة سيل من الكتب المزورة التي تحمل أسماء رسل وتلاميذ، يقدرها القديس إير ينيئوس بالآلاف.

ولم يكن لدى الكنيسة أي مقياس تقيس عليه الأسفار الصحيحة بالنسبة إلى المزورة، إلا الـتـقـلـيـد الرسولي نفسه بالإضافة إلى حاسة الإيمان Sensus Fidelium الموثوق بها التي نضجت في الكنيسة على ممر الزمن بفعل النمو في المعرفة والإلهام في حدود التقليد.

بهذه الحاسة الكنسية العامة، استطاعت الكنيسة أن تنفض عنها آلاف الكتب المزورة التي كتبت لحساب الهراطقة والتي ألفها بعض الكتاب المسيحيين لتسد اشتياقاتهم في معرفة الأمور التي أمسك الإنجيل عن ذكرها ، مثل حياة العذراء مريم قبل البشارة، وحياة المسيح قبل الخدمة وكثير من الرسائل المدسوسة التي الفت لمجرد إشباع الحوار القصصي، وكثير من الرؤى للرد على الأسئلة الحائرة بخصوص المستقبل . كل هذه الكتب لم تتهاون الكنيسة في قطعها جملة واحدة.

ولكن لم تستطع الكنيسة أن تستقر بخصوص تحديد الأسفار المقدسة تحديداً نهائياً إلا في نهاية القرن الرابع ، لأن بعض الرسائل كانت محل تردد . وأخيراً، فمنها ما حذف ومنها ما استقر عليه نهائياً في القانون .

وآخر تقنين للأسفار المقدسة تم في مجمعين بشمال أفريقيا : واحد في مدينة هيپو عام 393 م ؛ والآخر في قرطاجنة سنة 397 م بحضور القديس أغسطينوس ، حيث صار الكتاب المقدس بصورته التي لا يزال عليها حتى اليوم.

وأول من أطلق على أسفار الإنجيل اسم العهد الجديد هو العلامة ترتليانس. والعهد الجديد مقسم في التقليد الكنسي إلى قسمين: الأول «الأناجيل»، والثاني يسمى «الرسائل ». ولا يزال يُقرأ في الكنيسة على هذا الأساس، حيث تُقسم الرسائل أيضاً إلى «البولس » و« الكاثوليكون » أي يسمى «الجامعة».

قيمة التقليد التفسيري في الصراع ضد الهرطقات

لا يمكن فهم الدور العظيم الذي قام به التقليد في حفظ الإيمان كما لا يمكن فهم الكتابات الآبائية باتجاهاتها المتنوعة في اللاهوت والتفسير والطقس ، إلا إذا فهمنا ولو بصورة مختصرة جداً الدور الخطير الذي لعبته الهرطقات المتعددة في مهاجمة الإيمان المسيحي.

كان الصدام تلو الصدام الذي يحدث بين الهراطقة والكنيسة، هذا الذي كان دائماً ينتهي بنصرة الكنيسة، كان يمثل في الواقع الصراع بين الروح الفردية ضد روح الجماعة التي تمثلها الكنيسة ؛ كما كان يمثل التنازع بين الجديد المستحدث بالعقل في الإيمان وبين القديم الثابت الملهم.

أو بمعنى آخر، فإن الصراع ضد الهرطقات كان يمثل أكبر امتحان دخله التقليد التفسيري حيث أثبت حيويته وقدرته على النضال والغلبة الفائقة.

و بالرغم مما جلبه هذا الصراع الطويل المرير على الكنيسة من آلام وتمزق ، إلا أنه كان عاملاً فعالاً في تثبيت الإيمان وتفجر طاقات الإلهام والمعرفة وتجدد حاسة الحق والتعمق في الرؤيا والكشف، مما أفاض على روح الكنيسة وإيمانها وعقيدتها بركات لا تحصى ولا تُعد.

وقد وقف قانون الإيمان الرسولي في هذا النضال العنيف كسيف واضح بتار ذي ثلاثة حدود (آب) وأبن وروح قدس كل من وقع عليه من أي حد صرعه . فكان قانون الإيمان في يد الرسل والكنيسة ضمين النصرة، ضد كافة أنواع الهرطقات التي شنها الشيطان بواسطة عقل الإنسان ، وأضرم بها حول الكنيسة دائرة من جهنم . ولكن تم القول أن: « أبواب الجحيم لن تقوى عليها . » (مت 16: 18) وسوف نعرض هنا لأصول الهرطقات فقط تاركين التفاصيل لفصل آخر.

الهرطقات في العصر الرسولي

أيها الأحباء إذ كنت أصنع كل الجهد لأكتب إليكم عن الخلاص المشترك ، اضطررت أن أكتب إليكم واعظاً أن تجتهدوا لأجل الإيمان المسلم مرة للقديسين ، لأنه دخل خلسة أناس قد كتبوا منذ القديم لهذه الدينونة ، فجار، يحولون نعمة إلهنا إلى الدعارة و ينكرون السيد الوحيد الله وربنا يسوع المسيح . » (يه 3 و4 )

كانت الهرطقات التي قامت في أيام الرسل تمثل صورة كاملة لكافة أنواع الهرطقات التي ستواجهها الكنيسة بعد ذلك في جميع العصور حتى عصرنا هذا، لأن أصل السم واحد ورأس الحية الذي يصنع التجديف واحد.

وتنقسم هرطقات العصر الرسولي عموماً إلى نوعين : هرطقات يهودية ، و هرطقات وثنية غنوستية .

أما الهرطقات اليهودية فبحسب طبيعتها في التمسك بوحدانية الله اتجهت ضد لاهوت المسيح لتهدم العمود الأوسط في قانون الإيمان، وبالتالي لتهدم عقيدة الثالوث .

وأما الهرطقات الوثنية فاتجهت ضد وحدانية الله منجذبة بطبيعتها الأولى إلى تعدد الآلهة .

وقد اختفت هذه الهرطقات بنوعيها في ثوب المسيحية نفسه، فوقفت الكنيسة بين خطر التهود وخطر الرجوع للوثنية .

وقد تقبل هؤلاء الهراطقة معمودية المسيحية مزيفة بالماء فقط ، وليس بالروح والنار الإيمانية.

1- الهرطقات اليهودية

وكانت على ثلاث فئات، وكل فئة تخصصت في سلاح من أسلحة الهدم : أولاً : الإيبونيون Ebionites وتنطق بالعبرية «إيبونيم » ، وهو اسم استهزاء يعني «فقراء المسيا»، وقد أطلقه عليهم بقية اليهود. هؤلاء انضموا إلى المسيحية وعاشوا في فلسطين وسوريا وآسيا الصغرى وكونوا داخل المسيحية قوقعة يهودية ذات مدرسة فكرية خاصة، وقد حاولوا تطبيق فرائض الناموس والوصايا القديمة بالقوة على بقية المسيحيين، لأن روح الفريسيين كانت متأصلة فيهم . وقد قاوموا تعاليم القديس بولس الرسول ولم يعتبروه رسولاً ، لذلك كتب للكنائس لينفي إدعاءاتهم مؤكداً أنه رسول وأنه عاين الرب وأن علامات الرسالة عُملت بينهم . وقد هاجمهم القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية باعتبار أنهم يحرفون كتابات القديس بولس الرسول « لهلاك أنفسهم » (2بط 3: 16) . وقد رفضوا رسائل بولس الرسول واعتبروه هرطوقياً وحرفوا لأنفسهم إنجيل متى وسموه «إنجيل العبرانيين».

وأول من ذكر هذه الشيعة القديس إغناطيوس ، ثم القديس إيرينيئوس الذي أوضح أنهم رفضوا لاهوت المسيح، وقالوا بالحكم الألفي . والعلامة أوريجانس يذكر أنهم كانوا فريقين، والمؤرخ يوسابيوس يذكر أن الفرق بين الفريقين كان بالنسبة لإعتبارهم لشخص المسيح : فالفريق الأول اعتبره مجرد إنسان نبي مولود ولادة طبيعية، والفريق الآخر كان يؤمن بميلاده الفائق ، ولكنهم رفضوا الإيمان بأزليته ووجوده السابق على الميلاد (مساواته للآب). وهؤلاء حفظوا السبت جداً، ولكنهم كانوا يكرمون يوم الرب وتمسكوا بكافة الفرائض والناموس.

ويُظن أن المجمع الذي عقده الرسل في أورشليم المذكور في سفر الأعمال كان ضدهم (أع 15).

والقديس بولس الرسول يقاوم تعاليمهم بوضوح في رسائله، وخصوصاً في الرسالة إلى أهل غلاطية وغيرها فيما يختص بالختان والفرائض والعوائد العجائزية.

وقد ذكرهم العلامة چيروم أنهم تشتتوا في أيامه وانحلوا، فلم ينفعوا أن يكونوا مسيحيين ولا يهوداً .

ثانياً: الكيرنثيون : و «كيرنثوس » هو أحد الإيبونيين، ولكنه لنبوغه انفصل عنهم وكون مدرسته الخاصة التي مزج فيها اليهودية بالغنوستية العلمية، وفسر التجسد بأنه إتحاد ظاهري تم بين يسوع المولود ولادة طبيعية والمسيا غير المنظور، وأن هذا الإتحاد انفك بعد تأديته رسالته . كما اعتمد كيرنثوس في شرح التعاليم المسيحية على الغنـوسـتـيـة فـشـوه كل ما يختص باتجاهها الخلاصي وجعلها مجرد تعاليم ، ورفض الإيمان بالقيامة التي قامها المسيح وقال إنها لم تأتِ بعد، ورفض كل الأناجيل ما عدا إنجيل متى .

وقد انتشرت تعاليمه في أيام القديس يوحنا الرسول . وفي هذا يقول القديس إيـريـنيئوس : [ و يوحنا تلميذ الرب نادى بهذا التعليم (الإيمان بالثالوث الآب والإبن والروح القدس). وقد عنى بإنجيله أن يلاشي المعاثر التي انتشرت بين الناس بواسطة كيرنثوس وبواسطة نيقولاوس وشيعته الذين كانوا قبل كيرنثوس بمدة طويلة، وهم أصحاب العلم الكاذب الإسم Gnosis ، وقد أراد به (أي بالإنجيل) أن يربكهم ويحيرهم و يقنعهم أنه يوجد إله واحد وهو الذي صنع كل شيء «بالكلمة»… فتلميذ الرب أراد أن يضع حداً لمثل هذه التعاليم ( الكاذبة ) ، * و يدعم «قانون الحق» في الكنيسة أنه يوجد : إله واحد ضابط الكل الذي خلق كل شيء بكلمته ، ما يُرى وما لا يُرى، مبيناً أن الكلمة الذي خلق الخليقة هو هو في نفس الوقت الذي أنعم بالخلاص على الإنسان الذي هو ضمن الخليقة. وهكذا بدأ إنجيله: «في البدء كان الكلمة . والكلمة كان عند الله . وكان الكلمة الله . هذا كان منذ الأزل عند الله . .. به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه» . ] القديس إيرينيئوس

وهنا يوضح القديس إير ينيئوس أن القديس يوحنا الرسول كتب إنجيله ـ بوحي من الروح القدس – لتثبيت قانون الحق أي «قانون الإيمان» في الكنيسة !! وذلك رداً على الهجوم الذي شنه العدو بواسطة الهراطقة اليهود والغنوستيين لزعزعة قانون الإيمان في الكنيسة بالله الآب والابن والروح القدس.

[لا يضلكم أحد بتعاليم غريبة وخرافات عتيقة لا طائل منها ، لأننا إن كنا سنعيش ، ناموس اليهود فنحن نعترف بذلك أننا لم ننل نعمة.] القديس إغناطيوس

[والذين يدعون بإسم الإيبونيين Ebionites يوافقون على أن الله هو الذي خلق العالم، ولكن مبادئهم عن الرب هي مثل كيرنثوس ـــ ( أحد زعمائهم ومثل كاربوكرات (غنوستي) – وهم يستخدمون إنجيل متى فقط ، و يرفضون القديس بولس الرسول، و يقولون عنه إنه مرتد عن الناموس. يحفظون الختان وكل العوائد المذكورة في الشريعة، فهم يهود في حياتهم ، و يبجلون أورشليم كأنها بيت الله ] القديس إيرينيئوس

[يوجد أيضاً من سمعوا من پولیکارپ ان یوحنا ( الرسول ) تلميذ الرب ذهب مرة ليستحم في حمامات أفسس ، وإذ لمح كيرنثوس في الداخل، خرج من ج مسرعاً من الحمام دون أن يستحم قائلاً : لننطلق بسرعة لئلا يسقط علينا الحمام لأن كيرنثوس عدو الحق في الداخل . ] القديس إيرينيئوس

ثالثاً: الأسينيون المتنصّرون : وهم جماعة اليهود الأسينيين الذين كانوا يستوطنون وادي القمران على ضفاف البحر الميت، وهاجروا من موطنهم وتشتتوا في البلاد كلها. وقد قبلوا المسيح بصفته نبياً ومعلماً الحق وسيد الملائكة، ولكنهم اعتبروا لاهوتـه خـيـالاً ووهماً ( عكس الأوطاخيين فيما بعد)، وتمسكوا بعوائدهم النسكية من عدم أكل اللحم والتطهيرات الكثيرة والمنع عن الزواج وعبادة الملائكة. وقد فسروا ظهور المسيح كانبثاق يتكرر في العالم لتطهيره كما فسروا تعاليم المسيح بالمبدأ الباطني. وقد قاوموا تعاليم بولس الرسول ، وقد عرج عليهم القديس بولس الرسول في رسالته مهاجماً عقيدتهم عندما هاجم عبادة الملائكة والتواضع الكاذب وقهر الجسد وبقية التمسك بالتطهيرات والغسولات التي هي نوافل العبادة التي لم تشبع روح البشرية (كو 2: 3) . كما هاجمهم أيضاً في رسالته الأولى إلى تيموثاوس باعتبارهم أنهم هم الذين قيل عنهم إنهم سيأتون في الأزمنة الأخيرة ( لليهودية) و يرتدون عن الإيمان « تابعين أرواحاً مُضلة وتعاليم شياطين في رياء أقوال كاذبة موسومة ضمائرهم مانعين عن الزواج وآمرين أن يُمتنع عن أطعمة قد خلقها الله للتناول بالشكر.» ( 1تى 4: 1-3).

ويلاحظ أن القديس بولس الرسول كان ينصح بعدم الزواج و بالأصوام والتقشف ولكن باعتبار أن الزواج طاهر والأطعمة كلها طاهرة. ولكن هذه الشيعة اليهودية اعتبرت أن الزواج نجس وبعض الأطعمة نجسة، لذلك يكمل القديس بولس الرسول أقواله عنهم « وأما الخرافات الدنسة العجائزية فارفضها » باعتبار أنها تعاليم شياطين» .

وواضح أن هذه الشيعة لم تنظر إلى المسيح كاله وكمخلص وفاد، بل كمعلم للحق والنسك والتطهيرات .

ومهما كان تنوع الهرطقات اليهودية – كما رأينا – فقد تآزرت كلها معاً لإنكار الحقيقة الأساسية في الإنجيل وزعزعة قانون الإيمان من أساسه وركزت هجومها على لاهوت المسيح وتجسده لخلاص العالم ، وذلك تارة بخفض المسيح إلى مجرد نبي وتارة برفعه إلى درجة روحانية عقلية مجردة وأخرى بجعله معلماً للنسك . وقد رفضت الهرطقات اليهودية كلها مبدأ التجسد الإلهي ، أي إتحاد الإلهي بالبشري، الذي هو الأساس في ظهور المسيا بالجسد. وهكذا وقعوا في المحظور إذ تمت عليهم المواصفات التي ذكرها القديس يوحنا الرسول كعلامة للكشف عن من «ضد المسيح» وفضحه ؟!

– «منا خرجوا (أي أنهم يهود) لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعاً منا … من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح (المسيا). هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن، كل من ينكر الإبن ليس له الآب أيضاً. ومن يعترف بالإبن فله الآب أيضاً . » (1یو 2: 19 و 22و 23)

وهنا ينبه القديس يوحنا الرسول ذهننا بكلمات غاية في الإحكام والتوجيه أن هذه الهرطقات اليهودية جميعها كانت مصوّبة ضد قانون الإيمان لفصل الإبن عن الآب: «كل من ينكر الإبن ليس له الآب أيضاً»، لأن إنكار الإبن هو هدم للثالوث وبالتالي لقانون الإيمان المسيحي كله القائم على إرسالية الآب للإبن لتكميل الفداء بواسطة العمل المشترك للثالوث.

إذن، لولا وجود «قانون الإيمان الرسولي» واضحاً ومحدداً بالآب والابن والروح القدس كإله واحد، لاستطاعت الهرطقات اليهودية أن تنفذ إلى الإيمان المسيحي في الرسل وتهوّده لترده إلى الوحدانية المنحجبة التي في ذهنية العهد القديم الخالية من أحشاء رحمة الآب والعادمة من محبة الإبن الفدائية والغريبة عن إمكانية الخليقة الجديدة بالروح القدس. عصر

2 – الهرطقات الوثنية

وأما الهرطقات الوثنية فكانت العكس المباشر للهرطقات اليهودية، ويمكن تلخيصها كلها في مدرسة فكرية واحدة هي الغنوستية . فبقدر ما كانت الهرطقات اليهودية تحفظية سالبية رجعية في مسيحيتها الكاذبة، كانت الغنوستية خلقية متطورة تقدمية. لذلك كان الخطر الغنوستي على المسيحية الأصيلة شيئاً مهماً وكبيراً وخطيراً، فقد عانت منه الكنيسة أتعاباً وواجهت منه بدعاً تلو البدع.

فكل اتجاه وضعه بولس الرسول للفصل بين المسيحية واليهودية، أخذته الـغـنـوسـتـيـة وتمادت فيه وضخمته حتى فصلت المسيحية عن جذرها السليم الذي انبثقت منه ؛ وركزت على لاهوت المسيح العقلي حتى لاشت ناسوته وجعلته خيالاً ووهماً ؛ وتـمـادت في الحرية التي وهبتها المسيحية للمربوطين بناموس موسى حتى جعلت هذه الحرية ستاراً غير شريف للإنحلال مع أنها (أي الغنوستية) تنادي بمنتهى الصراحة بالنسك باعتبار أن المادة كلها نجسة. و يكفي أن نعرف أن أب الغنوستية في العالم هو سمعان الساحر المذكور في سفر الأعمال 8: 9-22. وقد ذكره القديس إير ينيئوس :
[
سمعان الساحر المذكور في سفر الأعمال … كان في أيام كلوديوس قيصر، وقد كرمه الإمبراطور وعمل له تمثالاً بسبب قوته الساحرة ، وقد كرمه كثيرون (من الوثنيين ) باعتباره إلها … هذا السامري خرجت منه كل أنواع الهرطقات.] 

وقد كان لسمعان الساحر معرفة ودراية كبيرة بالعلوم الوثنية : « وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير قائلين هذا هو قوة الله العظيمة» (أع 8: 10). لأنه كان يدعي أنه مصدر القوة المنبعثة من الله ( أو نظرية الإنبعاث في الغنوستية) وأعطى نفسه ألقاباً إلهية. ويقول سفر الأعمال عنه إنه قبل المسيحية واعتمد في سبيل الإزدياد في قدراته على صنع الآيات ، لذلك رآه القديس بطرس الرسول أنه قد ربط نفسه برباط الظلمة وقد تهيأ للمرارة العظيمة.

وقد استمر سمعان يزيف التعاليم المسيحية و يغش ممارساتها بأعمال سحرية  ووثنية، وتكونت له شيعة بتلاميذها سُميت بـ «السيمونية» أولاً ثم بـ «الغنوستية» بعد ذلك . وقد انقسمت إلى إتجاهين : إتجاه نسكي متشدد ، وتزعمه رؤساء الغنوستية في الجيل الثاني للمسيحية مارسيون (مارقيان) وساتورنينوس وتاتيان، والمانيون بعد ذلك . واتجاه منحل متسفل أخلاقياً باعتبارهم أن الجسد منحط بطبيعته ، فكلما أذللنا الجسد بالممارسات النجسة نكون بذلك قد رفعنا قيمة الروح ، فلم يتورعوا عن ارتكاب الفحشاء علانية . وواضح أن هذا الإتجاه شيطاني. وقد تزعمه نيقولاوس ) في آسيا الصغرى) المذكور في سفر الرؤيا، وأوفيتس، وكار بوكرات بعد ذلك في مصر، وماركوس الساحر الذي أضل نساء كثيرات وأفسد سيرتهن.

على إنه كان لكل واحد من هؤلاء الشياطين المبتدعين اتجاه فلسفي ومدرسة وممارسات سحرية. غير أن الذي يعنينا في العصر الرسولي هو نيقولاوس رأس الأفعى الغنوسية. ويذكره القديس إير ينيئوس بقوله :
[والنيقولاويون هم أتباع نيقولاوس، وقد عاشوا عيشة منحلة أخلاقياً وذكرت أخلاقهم بوضوح في سفر الرؤيا الذي ليوحنا بصفتهم كانوا يعلمون أن ارتكاب الزنا أمر ليس ذا بال.] القديس إير ينيئوس

وقد عاصر القديس يوحنا الرسول : ولكن عندي عليك قليل أن عندك هناك ( في آسيا الصغرى) قوماً متمسكين بتعليم بلعام الذي يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان ويزنوا . هكذا عندك أيضاً قوم متمسكين بتعاليم النيقولاويين الذي أبغضه … ولكن عندك هذا أيضاً أنك تبغض أعمال النيقولا و بين التي أبغضها أنا . » (رؤ 2: 14 و15 و 16).

هؤلاء عينهم يذكرهم القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية: «معلمون كذبة الذين يدسون بدع هلاك. وإذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم يجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً وسيتبع كثيرون تهلكاتهم . الذين بسببهم يجدف على طريق الحق. وهم في الطمع يتّجرون بكم بأقوال مصنّعة (ليست حسب التقليد)… ولا سيا الذين يذهبون وراء الجسد في شهوة النجاسة و يستهينون بالسيادة. جسورون معجبون بأنفسهم. لا يرتعبون من أن يفتروا على ذوي الأمجاد… لهم عيون مملوءة فسقاً لا تكف عن الخطية خادعون النفوس غير الثابتة… قد تركوا الطريق المستقيم ( تقليد الرسل) فضلوا تابعين طريق بلعام بن بصور الذي أحب أجرة الإثم … هؤلاء هم آبار بلا ماء، غيوم يسوقها النوء. الذين قد حفظ لهم قتام الظلام إلى الأبد (نفس الكلمات التي قالها بطرس الرسول لسمعان الساحر) لأنهم إذ ينطقون بعظائم باطلة يخدعون بشهوات الجسد في الدعارة من هرب قليلاً من الذين يسيرون في الضلال واعدين إياهم بالحرية وهم أنفسهم عبيد الفساد.» (2بط 2)

وهذه الأوصاف التي اعتنى القديس بطرس الرسول بسردها بدقة تمثل في الحقيقة أخلاقيات الغنوستيين في العصر الرسولي وما بعده.

وأوضح ما في تعاليم هذه الشيعة هو «إنكار الرب» آتياً بالجسد، والحرية المفسدة للأخلاق . وهذا يوضحه القديس يوحنا الرسول في رسالته قد دخل إلى العالم مضلون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسيح آتياً في الجسد. هذا هو المضل والضد للمسيح. أنظروا إلى أنفسكم لئلا نضيع ما عملناه… كل من تعدى ولم يثبت في تعليم المسيح فليس له الله . ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والإبن جميعاً.» (2يو7-9)

وهكذا، و بوعي الرسل الشديد وبسهرهم على التعليم الذي استلموه من الرب الذي الخصه لهم في «قانون الإيمان» ليكون لهم معياراً ثابتاً ومفيداً لهم في صدامهم مع العالم، استطاعوا أن يواجهوا عواصف الغنوستية في مبدئها والتي جاهدت باستماتة لجذب المسيحية إلى الوثنية. وكان هذا الإحساس بالخطر واضحاً في ذهن الرسل وبالأخص لدى القديس يوحنا الرسول حينما قال : انظروا إلى أنفسكم لئلا نضيع ما عملناه…» «إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم (قانون الإيمان) فلا تقبلوه في الـبـيـت ولا تـقـولـوا لـه سلام، لأن من يسلّم عليه يشترك في أعماله الشريرة . » ( 2یو 8 و 10و 11)

وحينما رقـد الـقـديـس يوحنا الرسول ، ختم على العصر الرسولي كله بل ختم على القرن الأول للمسيحية، وانطلق إلى صدر من أحبه، يحمل له أخباراً سارة عن نصرة الكنيسة في جهادها ضد العالم كما سلمها الرب لهم.

التقليد و نمو الحاسة الايمانية العامة في الكنيسة

كتب القمص متى المسكين

نمو التقليد التفسيري بعد عصر الرسل

كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى