يو 1:1 في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله
“فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ”. (يو1: 1)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“في البدء كان الكلمة،
والكلمة كان عند اللَّه،
كان الكلمة اللَّه” (1).
جاءت هذه العبارة في ثلاثة مقاطع موزونة موسيقيًا في اللغة العبرية، حيث يتكرر في الثلاثة الاسم “الكلمة” والفعل “كان“. هنا الفعل يدل على الكينونة الدائمة القائمة في البدء لا على الزمن. في هذه المقاطع: كان الكلمة في البدء، وكان مع الله، وكان هو الله.
“في البدء”: بدأ سفر التكوين بعبارة “في البدء خلق اللَّه”، أي أنه يتكلم عن بداية المخلوقات، أي بدء الزمن بالخلقة. أما البدء في إنجيل يوحنا فهو ما قبل الخلق والزمن والتاريخ، حيث لم يوجد سوي الله الكائن بذاته. يبدأ ببداية الكينونة “في البدء كان الكلمة” أي أن الكلمة أزلي هو بدأ بما لا بداية له. وقد كرر الرسول هذا الفكر حين قال الرب لليهود: “أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به” (يو 25:8)، أي أنا الكائن المتكلم في الأصل أو منذ الأزل. جاء أيضًا في بداية رسالته الأولى: “الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا” (1 يو 1:1). وقد قال أيضًا للجموع: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يري يومي فرأي وفرح… قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (56:8، 58).
قدم العلامة أوريجينوس معانً كثيرة لكلمة “البدء“، كما ميز بين البدء في علاقته بالخالق، والبدء في علاقته بالخليقة. إنه البدء بكونه حكمة الله وقوة الله (١ كو ١: ٢٤).
يؤكد الرسول أن الكلمة هو “في البدء“، ليس فقط قبل التجسد بل قبل كل الأزمنة. جاء العالم إلى الوجود بخلقه من البدء، أما الكلمة فكان موجودًا في البدء، أي قبل الأزمنة. لقد عبر المرتل عن أزلية اللَّه أنه قبل وجود الجبال (مز 2:90؛ أم 23:8).
إنه مع اللَّه، فلا يظن أحد أن الإيمان بالكلمة يسحبه عن اللَّه، وكان الكلمة عند اللَّه إذ لا ينفصل عنه قط، من ذات جوهره (عب 3:1). وهو موضوع سروره (يو 5:17)، ابن محبته (أم30:8).
يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم لماذا لم يبدأ الإنجيلي بالحديث عن الآب، بل بدأه بالابن الوحيد الجنس، ولماذا لم يبدأ بدعوته الابن الوحيد الجنس بل الكلمة. ويجيب على ذلك بأنه بدأ بالإعلان عن شخص السيد المسيح بكونه “الكلمة” المتجسد، ليتحدث بفيض فيما بعد أنه “ابن اللَّه”. لقب “الكلمة” يؤكد الوحدة، ولقب “الابن الوحيد الجنس” يؤكد التمايز، لذا فاللقبان مكملان لبعضهما البعض. ويقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفمتبريرًا لذلك بقوله أن الإنسان غالبًا ما يفصل بين الأب والابن. فيظن أن بميلاد الابن حدث في الله تغيير، فصار الآب، ولم يكن قبل الولادة هكذا، إذ نظن أن الولادة حسية مثلما يحدث في الخليقة، وأنها لم تتم أزليًا. فلو أن الإنجيلي بدأ بالحديث عنه أنه “ابن اللَّه” لدخل الشك لدى البعض أنهما إلهان منفصلان. لذا بدأ باللقب “الكلمة” الذي لا يتخيل الإنسان أنه منفصل عن اللَّه.
v يدعوه “الكلمة” لأنه يستعد للتعليم بأن هذا الكلمة هو ابن اللَّه الوحيد، فلا يظن أحد أنه ولادته حسّية. فبإعطائه لقب “الكلمة” ينزع مقدمًا ما يتعرض له الشخص من وهمٍ شرير ويزيله عنه. لقد أظهر أن الابن من الآب، وأنه ولد دون ألم (تغيير).
v لئلا يظن أحد عند سماعه “في البدء” أنه ليس بمولود أيضًا، عالج هذا في الحال بقوله أنه كان “عند اللَّه” قبل أن يعلن أنه هو اللَّه. وهو يمنع أي أحد من افتراض أن الكلمة بسيطة كما لو كانت مجرد كلمة منطوقة أو مدركة، مضيفًا إليها أداة التعريف… إنه لم يقل “كان في اللَّه” بل “عند اللَّه” معلنًا سرمديته كأقنوم. بعد ذلك يعلن عنها بأكثر وضوح مضيفًا أيضًا “والكلمة كان اللَّه“.
v لم يدعه “كلمة” بل أضاف أداة التعرف ليميزه عن البقية (كلمة الإنسان).
v هذا التعبير “في البدء كان” لا يعلن سوى الوجود being الدائم، وأنه وجود مطلق.
v “كان اللوغوس” لأن كلمة “وجود being ” تستخدم للإنسان لتمييز الوقت الحاضر وحده، وأما بخصوص الله فتشير إلى السرمدية. لذلك عندما يستخدم “كان” بخصوص طبيعتنا تعني الماضي، وعندما تستخدم بخصوص الله تعلن عن السرمدية.
v هذا (الكلمة) هو جوهر إلهي حاصل في أقنوم بارز من أبيه خالٍ من انقسام عارض. وحتى لا تظن أن لاهوت الابن أدنى، وضع للحال الدلائل المُعرفة للاهوته فقال: “وكان الكلمة الله“.
v إذ هو مولود فبسببٍ حسنٍ لم يجزم يوحنا أو غيره، سواء كان رسولاً أو نبيًا، أنه مخلوق. فإن هذا الذي تحدث عن نفسه بتواضع هكذا خلال تنازله لم يرد أن يقف صامتًا في هذا الأمر… لقد نطق بكلمات متواضعة (يو 5: 30؛ 12: 49)… لكنه لو كان مخلوقًا لتحدث قائلاً: “لا تظنوا إني مولود من الآب، بل أنا مخلوق غير مولود، ولست شريكًا في جوهره”. لكن إذ هذا أمره، فعلى العكس نطق بكلمات تلزم البشر حتى بغير إرادتهم أو رغبتهم أن يقبلوا الفكر الآخر. كقوله: “أنا في الآب والآب فيّ” (يو 14: 11)، “أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 9)، وأيضًا: “لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب” (يو 5: 23)، “لأنه كما أن الآب يقيم الموتى ويحيي، كذلك الابن أيضًا يحي من يشاء” (يو 5: 21). “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو 5: 17). “كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب” (يو 10: 15). “وأنا والآب واحد” (يو 10: 30).
v أصابت الدهشة إشعياء النبي عندما قال: “وميلاده من يخبر به؟ لأن حياته رُفعت من الأرض” (إش 8:53). حقًا لقد رفع من الأرض تمامًا كل آثار الميلاد الأزلي، لأنه يفوق الإدراك. وإذا كان فوق الإدراك فكيف يمكن أن نقول أنه مخلوق، لأننا نستطيع أن نحدد بوضوح زمن بداية المخلوقات وكيفية وجودها، أما البدء فنعجز عن تحديد زمن بدايته.
v في هذا “البدء Archi” الذي هو فوق الكل وعلى الكل “كان الكلمة“، ليس من الطبائع المخلوقة التي تحت قدمي البدء، وإنما عاليًا عنها جميعًا، لأنه “في البدء“، أي من ذات الطبيعة والكائن دائمًا مع الآب له طبيعة الذي ولده… منه ومعه له السيادة archi على الكل.
v بالقول “في البدء كان“، وليس “بعد البدء” يعني أنه لم يكن بدء بدون اللوغوس، وبإعلانه ” كان اللوغوس عند الله” يعني غياب أية شائبة في علاقة الابن بالآب، لأن اللوغوس يفكر فيه ككل مع كيان الله ككل.
v خشي الإنجيلي من أذهاننا التي ينقصها التمرن، ولا يثق في آذاننا ليقدم لقب “الآب”، لئلا يتصور الجسداني في فكرة وجود أم أيضًا. ولم يذكر في إعلانه “الابن” حتى لا يجعل أحد اللاهوت بشريًا بنوعٍ من الهوى. لهذا دعاه اللوغوس، فكما أن كلمتك تصدر عن ذهنك دون تدخل لهوى، هكذا أيضًا عند سماعك “الكلمة” لا تفهم ذلك عن شيءٍ صدر بهوى.
v أولئك الذين يقدمون لنا أية أفكار صالحة عن مثل هذه الأسرار، هم غير قادرين حقًا على التعبير عن الطبيعة الإلهية.
أنهم يتكلمون بالأحرى عن بهاء مجد اللّه ورسم جوهره (عب 3:1)، صورة اللّه، وفي البدء كان الكلمة والكلمة كان اللّه (يو1:1). كل هذه التعبيرات تبدو لنا نحن الذين لم نرَ الطبيعة الإلهية مثل الذهب من هذا الكنز. ولكن بالنسبة لهؤلاء القادرين على رؤية الحقيقة، فإنها شبه الذهب وليست ذهبًا لامعًا، إنها ذهب مع جمان من فضة (نش 1: 11). إن الفضة كما يقول الكتاب: “لسان الصديق فضة مختارة (أم 20:10)”.
هنا نتكشف أن الطبيعة الإلهية تتجاوز كل مفهوم نحاول أن ندركه.
فهمنا للطبيعة الإلهية يشبه ما نهدف إليه. إن أحدًا ما لم يرها ولا يستطيع أن يراها، ولكن خلال مرآة ولغز (1 كو 12:13).
إنها تعطينا انعكاسًا لما نفكر فيه، أي انعكاس موجود في الروح بصورة معينة.
كل كلمة تمثل هذه المفاهيم تشبه نقطة ينقصها أن تمتد، حيث إنها قاصرة عن التعبير عما في العقل…
وكل كلمة تقال كمحاولة للتعبير عن اللّه تبدو مثل نقطة صغيرة غير قادرة للامتداد لتتناسب مع الغرض، إذ تقاد خلال مثل هذه المفاهيم لإدراك ما لا يمكن إدراكه سوى خلال الإيمان بها أن تقيم ذاتيًا طبيعة تفوق كل ذكاء.
v يُدعى الكلمة والابن وقوة اللَّه وحكمة اللَّه. الكلمة لأنه بلا عيب، والقوة لأنه كامل، والابنلأنه مولود من الآب، والحكمة لأنه واحد مع الآب في السرمدية، واحد في اللاهوت. ليس أن الآب أقنوم واحد مع الابن. إذ يوجد تمايز واضح بين الآب والابن يأتي من الولادة، هكذا المسيح هو إله من إله، خالد من خالد، كامل من كامل.
v يوجد الله الواحد الذي أعلن عن نفسه بيسوع المسيح ابنه، الذي هو كلمته (اللوغوس)، ليس منطوقا به بل جوهري. لأنه ليس صوتًا لأداة نطق بل أقنوم مولود بالقوة الإلهية.
القديس أغناطيوس
كانت كلمة “لوغوس” معروفة لدي اليهود والأمم، عرفها هيرقليتس Heracllitus حوالي 500 ق.م بأنها العقل الجامع الذي يحكم العالم ويخترقه، وقد تبناه الرواقيون وأشاعوه. وفي اليهودية الهلينية “اللوغوس” هو أقنوم مستقل، تطورت فكرته ليكون مصاحبًا للحكمة (صوفيا) (الحكمة 9: 1، 2؛ 18: 15). إذ ربط فيلون السكندري بين تعبيرات فلسفية ومفاهيم كتابية قال أن اللوغوس هو نموذج إلهي جاء العالم صورة له.
v “لوغوس” في اليونانية لها معان كثيرة. فهي تعني الكلمة والعقل والتقدير وعلة الأشياء الفردية التي عليها تقوم. بكل هذه جميعًا نحن نعلن عن المسيح.
v لكننا نعلم أن المسيح لم يُولد كمثل كلمة منطوق بها، بل هو الكلمة الكائن الجوهري الحي، لا يُنطق بشفتين ولا ينتشر متبددًا، بل هو مولود من الآب أبديًا، لا يُوصف في الجوهر. إذ” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند اللَّه، وكان الكلمة اللَّه“. إنه جالس عن يمين اللَّه، الكلمة يفهم إرادة الآب، خالد، كل الأشياء كائنة بأمره.
الكلمة نزل وصعد، أما الكلمة التي ننطق نحن بها فإنها تنزل ولا تصعد.
ينطق “الكلمة” قائلاً: “أنا أتكلم بما رأيت عند أبي” (يو 38:8).
للكلمة سلطان، يملك على كل شيء، إذ أعطى الآب كل شيء للابن (مت 27:11، يو 22:5).
v إن كان قد وُجد وقت لم يكن فيه الابن، يكون الأب نورًا قاتمًا. فإنه كيف لا يكون نورًا قاتمًا إن كان ليس له بهاء؟ فالآب موجود دائمًا، والابن موجود دائًمًا… البهاء يتولد من النور، ومع ذلك فالبهاء أزلي مع النور الذي يلده. النور دائم والبهاء دائم. النور يولد بهاءه، لكن هل وُجد بدون بهائه؟… لتقبلوا أن الله يلد ابنه السرمدي.
يفهم “عند” هنا “معه أزليا”، أي أن الكلمة مع الآب شريك معه في أزليته دون انفصال.
v “والكلمة كان عند الله“؛ لهذا فهو أزلي كالآب نفسه، لأنه لم يكن الآب بدون الكلمة، بل كان الله (الكلمة) مع الله، كل في أقنومه الخاص.
يؤكد القديس أمبروسيوس مساواة الكلمة للآب من أن الإنجيلي أورد الكلمة قبل الآب، ولو أن الآب أعظم من جهة طبيعة اللاهوت لما تجاسر وفعل هذا. وأيضًا بولس الرسول ذكر نعمة المسيح قبل محبة الآب (2 كو 4:13). [ترتيب الكلمات (الخاصة بالثالوث) غالبًا ما تتغير لذا لاق ألا تتساءل عن الترتيب والدرجات. ففي اللَّه الآب والابن ولا يوجد فصل في وحدة اللاهوت.
عالج القديس يوحنا الذهبي الفم اعتراض الأريوسيين على مساواة الابن أو الكلمة للآب بدعوى أنه جاءت الكلمة “اللَّه” هنا بدون أداة التعريف: “وكان الكلمة إلهًا“. وهو ذات الفكر الذي يقتبسه شهود يهوه حاليًا. وقد فنّد القديس هذه الحجة موضحًا أن الكتاب المقدس أشار أحيانًا إلى الآب والروح القدس دون ربط اسميهما بأداة التعريف، بل وأحيانًا أشار إلى الابن والكلمة أنه اللَّه مرتبطًا بأداة التعريف. هذا وأنه في ذات الموضع هنا ينسب للكلمة سمات خاصة باللَّه بكونه الأزلي، والخالق وواهب الحياة والإنارة. فلو أنه أقل من اللَّه لكان قد تحدث صراحة عن ذلك حتى لا يحدث لبس.
v إنه لم يستخدم تعبيرًا يشير إلى وجود حدود إذ لم يقل: “له بداية” بل “في البدء“. بفعل “كان” يحملكم إلى فكرة أن الابن بلا بداية. ربما يقول أحد: “لاحظ أن الآب قد أضيف إليه أداة التعرف (اللَّه)، أما الابن فبدونها “إله”. ماذا إذن عندما يقول الرسول: “الإله العظيم ومخلصنا يسوع” (تي 2: 13). مرة أخرى: “الذي فوق الكل إله (الله)” (رو9: 5)؟
حقًا إنه يشير هنا إلى الابن دون أداة التعريف، لكنه يفعل نفس الشيء مع الآب أيضًا، على الأقل في الرسالة إلى أهل فيلبي (2: 6) حيث يقول: “الذي في شكل إله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلاً للَّه”، وأيضًا في الرسالة إلى أهل رومية: (نعمة لكم وسلام من اللَّه (دون التعريف) أبينا والرب يسوع المسيح” (رو 1: 7)… وأيضًا عند الحديث عن الآب يقول: اللَّه (إله) هو روح” (يو 4: 24)، فليس لأن أداة التعريف لم ترتبط بكلمة “روح” ننفي طبيعة اللَّه الروحية. هكذا هنا وإن كانت أداة التعريف لم تلحق بالابن، فالابن بسبب هذا ليس بأقل من اللَّه.
تفسير الأب متى المسكين
1:1 “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله”
يفتتح القديس يوحنا إنجيله بهذه الآية ذات الثلاث وصلات، المتناسقة والموزونة على موسيقى الشعر العبري. وهي تعطينا صورة عن طابع إنجيل القديس يوحنا بل وعن القديس يوحنا نفسه. ويُلاحظ أن في الثلاث الجمل يتكرر الفاعل (الأسم) “الكلمة” كما يتكرر الفعل “كان” الدال على الكينونة وليس على الزمن, وتترابط الجمل بحرف عطف لتنضغط إلى أقل حيز ممكن. ومن هذا التركيب القوي المقصود قصداً، يظهر مقدار الجهد الفكري الذي يبلغ أقصى حدود الإجهاد لإبراز أفخم المعاني التي يمكن أن يبلغها الإتساع الفكري البشري، وذلك للتعرف على أسس طبيعة “الكلمة” في علاقته بالزمن, وفي كيانه الذاتي بالله وفي جوهره الإلهي.
كان في البدء، كان مع الله، كان هو الله.
وعندما نستمر في قراءة الأصحاح الأول نجد أن هذه الجمل الثلاث التي تزدحم بها هذه الآية الاولى، جاءت لترد في النهاية وتتوازن مع ثلاث جمل جاءت في الآية 14 لحظة التجسد:
“وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا”
فالكلمة الذي “كان” (في كينونة دائمة أزلية خارج الزمن) “صار” أي دخل الزمن، والكلمة الذي كان الله (أي في طبيعة الله) “صار جسداً” أي في طبيعة الإنسان، والكلمة الذي كان “عند الله” (حال فى الله) حل بيننا.
وبهذه الآية الاولى وما احتوته من استعلان كامل عن “الكلمة” يكون القديس يوحنا قد وضع أساس إنجيله، وبالتالى دستور الإيمان المسيحي فيما يخص شخص السيد المسيح باعتباره الكلمة المتجسد:
فالسيد المسيح “الكلمة” لم يتخذ شخصيته بالميلاد الجسدي ولا حتى لحظة الخلق. أي أنه ليس مخلوقاً ولا محدثاً, بل كان في البدء قائماً منذ الأزل.
والسيد المسيح “الكلمة” لا ينفرد بوجوده من دون الله؛ بل هو كائن في الله.
والسيد المسيح “الكلمة” بظهوره في الجسد لم يكن مجرد إنسان أو نبي. بل هو بطبيعة الله وجوهره, قد تجسد.
وبهذه المؤهلات صار للكلمة المتجسد، أي السيد المسيح، القدرة والسلطان أن يستعلن كل حقائق الله.
«فِي الْبَدْءِ»:
يتجه القديس يوحنا بهذه اللفظة التى تُنطق بالعبرية «براشيت» إلى الأسم التقليدى عند اليهود لسفر التكوين الذي يبدأ بهذه الكلمة «فى البدء خلق الله» وهذا هو الأسلوب السرى “المستيكى” للقديس يوحنا, أما القصد فواضح، فهو سيتكلم بإنجيله عن الخليقة الجديدة. وبدء الخليقة الجديدة عند القديس يوحنا هو السيد المسيح: «انا هو .. البداية والنهاية»، «انا هو الأول والآخر», «انا هو الألف والياء» (رؤ 8:1 و 8:2). وبحسب القديس كيرلس الكبير فهو البدء الذى بلا بدء.
و”البدء” فى إنجيل يوحنا ليس هو البدء فى سفر التكوين, لأن بدء سفر التكوين هو الخلق, أى بدء الزمن, أما البدء فى إنجيل يوحنا فهو ما قبل الخلق والزمن والتاريخ والأدراك, وليس قبل الخلق إلا الله.
ولكن القديس يوحنا لم يكتب فى البدء كان الله, لأنه لم يكن بصدد الحديث أو الإعلان عن الله, بل قال “فى البدء كان الكلمة” لأنه سيتكلم حالاً عن الخلق الذى تم “بكلمة” الله, ولكن لن يتوقف عن الخلق, كسفر التكوين, بل سيتجاوزه حالاً الى الخلاص الذى تم بتجسد “الكلمة”. من هنا كان هم القديس يوحنا أن يعرفنا بالكلمة قبل أن يتجسد, ليستعلن لنا قيمة وجلال التجسد وعظمة وقوة الخلاص الذى تم. ولكن من أين أتى القديس يوحنا بمفهوم هذا البدء اللازمنى قبل الخليقة.
قطعا ذلك لم يكن من العهد القديم؛ فالعهد القديم وإن كان سجل بدء الخلق, لكنه لم يتعرض لما قبل الخلق. والعهد القديم أضطلع بعمل الكلمة ولم يضطلع بطبيعة الكلمة, ولما تعرض لكلمة الله لم يتعرض لها بوصفها الاقنومي الذاتى المطلق بل كفعل قوة في حدوث الحدث الزمنى، إذ كان “الكلمة” الذاتي المطلق غائبأ غياباً كاملاً عن الوعي اليهودى. أشعياء النبي أحس بهذا الغياب إحساسا مؤلماً فقال “حَقّاً أَنْتَ إِلَهٌ مُحتجب يا إِلَهُ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصُ”( إش 15:45).
لذلك نحن نرى, وبالتأكيد, أن تأثير السيد المسيح بجلال مقولاته كان هو المصدر الأساسى فى تكوين فكر القديس يوحنا اللاهوتى, سواء من جهة أقنومية الكلمة الأزلى، أو من جهة مفهوم وجوده قبل الزمن “فى البدء”. وإنه من واقع إستعلان السيد المسيح لنفسه أستعلن القديس يوحنا الكلمة, فمرر آيتين ظاهرتين وبارزتين فى أقوال السيد المسيح يتضح أصل ومفهوم “البدء” اللازمنى ليكمله فى إنجيل يوحنا:
الآية الأولى: “وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.” (يو 5:17)
الآية الثانية: أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ. (يو 24:17).
«كان الكلمة»:
كان هنا لا تدل على فعل زمني بل على الكينونة الدائمة وهي تخص الوجود اللازمني، وتستخدم للدلالة على الأمور المطلقة أى غير المخلوقة.
فعندما نقول «في البدء كان الكلمة» يعني أن للكلمة كينونة أو كياناً قائماً فى البدء أى فى الأزل. وهنا يتجه الفكر مباشرة إلى التعريف الذى عرّف الله به نفسه لموسى لما سأله هذا عن أسمه, فكان الرد « أهيه الذى أهيه»، وتفسيره حسب ما جاء في طبعة الكتاب المقدس (أكون الذى أكون) والقصد من هذا التعبير واضح غاية الوضوح وهو «أنا الكائن بذاتى» أو كما فى الترجمة الإنجليزية (I am the being) أى أنا الكينونة.
فـ «فى البدء كان الكلمة» تعني أن الكلمة كائن منذ الأزل, وهذا يسلمنا مباشرة إلى التعريف الى القول إنه لم يكن بمفرده, بل «كان عند الله». ويلاحظ هنا أنها جاءت «كان» وليس «كانت» لتناسب مونث الكلمة العربية لغوياً. وهذا قصور وخلل في الترجمة العربية لأن «الكلمة» أصلاً فى اللغة العبرية مذكرة = «قول» وتُرجمت باليونانية وهي مذكر ايضاً .
«الكلمة»: اللوغس
«فى البدء كان الكلمة» هذا الإصطلاح العميق المختصر من اين اتى به القديس يوحنا؟
لقد لجأ الشُراح في ذلك إلى عدة مصادر, ولكن من المصادر الواضحة امامنا التى مهدت لهذا القديس الرائي نسميته للمسيح «بالكلمة»» مصدرين:
أولاً: سفر الرؤيا, اذ سمع باذنيه ما يقوله الروح واصفاً المسيح وهو متجند للحرب, راكبا على فرس أبيض, دلالة على المقاصد السلامية، وعلى رأسه تيجان كثيرة. رمزاً للنصرة المتعددة المكاسب لحساب الانسان, وعيناه كلهيب نار تذيب القلوب الصخرية، «وله أسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو, وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويُدعى اسمه “كلمة الله”» (رؤ12:19-13)
وهنا يظهر أن أسم «الكلمة» متعاظم الشأن لدى السمائيين, فهو صفة السيد المسيح المحاربة والديَّانة المتسلطة والقائدة, لأنه يقول فى بقية الآية: «وَكَانَ الأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ يَتْبَعُونَهُ رَاكِبِينَ خُيُولاً بَيْضَاءَ، وَلاَبِسِينَ كَتَّاناً نَقِيّاً نَاصِعَ الْبَيَاضِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ سَيْفٌ حَادٌّ لِيَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ وَيَحْكُمَهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَيَدُوسَهُمْ فِي مَعْصَرَةِ شِدَّةِ غَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ كُتِبَ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ: مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ» (رؤ 14:19-16). وهذه الصورة تمثل واقع «الكلمة» لدى السمائيين, والثوب المغموس بالدم علامة أبدية لأنهزام وقهر العدو لأنها تذكار الصليب. فهى شهادة لغلبته على العالم «ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يو 33:16) و «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ.» (رؤ 11:12)
ولكن يُلاحظ هنا أن أسمه «كلمة الله» يٌعبر عن حالة خروج من الله وإرسال للإعلان عن مشيئة الله وتتميمها بقوة واقتدار, فهو اسم «الكلمة» بعد أن أضطلع بالعمل والرسالة, لذلك جاء أسمه «كلمة الله».
أما أسم «الكلمة» فقط الذى كتبه القديس يوحنا فى إنجيله بوحى الروح فهو يعبر عن ما قبل الخروج والأرسال والإعلان عن الله, فهو أسم له كفاءة واستحقاق ذاتى لكل ملء اللاهوت خلوا من عمل أو رسالة.
ثانيا: والمصدر الثانى الأكثر أثراً فى تكوين الفكر اللاهوتى للقديس يوحنا بخصوص «الكلمة اللوغس» فهو تشديد المسيح بصور متكررة أنه كلمة الله بصورة ذاتية وشخصية, وأن كلامه الذى يقوله هو «روح وحياة». وبالرجوع للآيات فى نصها اليونانى يظهر بوضوح أن السيد المسيح يعتبر كل ما يقوله هو «اللوغس», وأنه هو اللوغس أى «الكلمة».
وسنعيد كتابة الآيات فى نصها اليونانى لنرى مدى وضوح حقيقية اللوغس عند السيد المسيح, لأن الترجمة العربية اخطأت وتجاوزت لفظ «اللوغس» المفرد = «كلمة» وجعلته بالجمع «كلام», فاختفى المعنى.
علاقة اللوغس بالسيد المسيح من واقع كلامه:
+ « مَنْ يَسْمَعُ (كلاَمِي) كلمتى وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يو 24:5)
المعنى ينصب هنا على أن الذى يقبل اللوغس السيد المسيح ويؤمن بالله الذى ارسله يكون له الحياة الأبدية. ومعروف أن الذى يقبل «كلمة» أو لوغس السيد المسيح فهذا يعنى أنه يقبل السيد المسيح. هنا السيد المسيح واللوغس على التساوى.
+ «أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ (الْكلاَمِ) الكلمة = اللوغس الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ.» (يو 3:15)
مجرد سماع الكلمة اللوغس هنا وإدراكه فهذا ينقى القلب, حيث أن المعنى يتمحور حول قبول السيد المسيح والإيمان به.
+ «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ (كلاَمِي) كلمتى فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ». (يو 51:8).
ومعروف أن الذى بؤمن بالسيد المسيح فهو الذى لن يرى الموت. فاللوغس والسيد المسيح هنا على التساوي.
+« فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي (كلاَمِي) كلمتى فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلاَمِيذِي, وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». (يو 31:7-32).
هنا الثبات فى كلمة السيد المسيح أى اللوغس يكشف عن التلمذة الحقيقية للمسيح, أى أن التلمذة لكلمة المسيح هى التلمذة بعينها.
ومعروف من آيات أخرى كثيرة أن الثبوت فى كلمة المسيح هو الثبوت فى السيد المسيح نفسه (يو 15 :7)
+ الَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي. (وَالْكلاَمُ) الكلمة الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.
يوضح السيد المسيح هنا أن كلمته أى اللوغس ليس منفرداً من دون الله فهو اللوغس الذى أرسله الله سواء شخصه أو كلمته واحد!!
+أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ (كلمتك) وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. (يو 14:17)
ومعروف أن العالم أبغض السيد المسيح وبالتالى أبغض الذين قبلوا كلمة الله اى اللوغس. هنا السيد المسيح ولوغس الله على التساوي.
+ قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. (كلاَمُكَ) كلمتك هُوَ حَقٌّ. (يو17:17)
ومعروف أن السيد المسيح أعلن بكل قوة ووضوح «أنا هو ….الحق»(يو 6:14). وهنا اللوغس والمسيح والحق على التساوي المطلق, بل يظهر أن السيد المسيح هو اللوغس مباشرة.
ومعروف أن المسيح أعطى الحق أى اللوغس فى كلامه عموماً, أى أن حديثه كان يحوى سر «الكلمة», سر «اللوغس», سر «المسيح» وهذا يتضح من الآية الآتية:
+ لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا (قَوْلِي) كلمتى . (يو 43:8)
واضح هنا أن كلمة السيد المسيح شىء و(الكلمة) أى اللوغس الكائن فى كلام السيد المسيح شىء آخر. فالكلمة اللوغس هو سر الله وهو السيد المسيح وهو الحق المخفى فى الكلام. فالذى يسمع لصوت الله وسره, أى الحق, من وسط الكلام يفهم كل الكلام فى الحال.
ومن هنا نستخلص أن “الكلمة” اللوغس هو محور كل تعاليم السيد المسيح وهو القلب النابض فى إنجيل القديس يوحنا وعليه يقوم الإنجيل كله, ولذلك وإن كان يتهيأ لجميع الشراح أن القديس يوحنا لم يستخدم أصطلاح “الكلمة” إلا فى موضعين فى مقدمة إنجيله فى الإصحاح الأول, إلا أن الواقع والحقيقة أن اللوغس هو محور إنجيل القديس يوحنا وملخص قكره اللاهوتى.
فكما أن كلمة الله اللوغس, وبالعبرية «قول إلوهيم»، جاء في الأسفار المقدسة قديما منطوقاً بفم الأنبياء وكان يحمل الحياة للذين يثبتون فيه، فقد جاء الكلمة اللوغس بنفسه في شخص يسوع المسيح معلنأ الحق ومعطيأ الحياة. ولكن يظل هناك فارق بين الكلام المقول واللوغس المحتوى داخله: “وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ, وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ, فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي “( يو 37:5-39)
المسيح هنا يتسعلن نفسه بمنتهى الحذق الإلهي أنه هو اللوغس, فهو يوضح أن كلمة الله اللوغس التي يفتشون عليها في الكتب (الأسفار) لكي تعطيهم حياة أبدية أخطاوا إليها فأخطاوها، ولم ينتبهوا إليها حينما استعلنها المسيح في نفسه لما جاء بنفسه إليهم: «إلى خاصته جاء»، فلم يأتوا هم إليه، مع أنه بصفته اللوغس الذي يبحثون عنه قادر ان يعطيهم الحياة الآبدية!!
لذلك، فجوهر الإستعلان في إنجيل يوحنا محكوم بمستوى السماع الروحي للكلمة «اللوغس» وهو الحق المثبت في كلام المسيح، على أن هذا «اللوغس» هو سر الإنجيل وسر الله وسر المسيح، وهو لا يوجد جامداً أو ساكناً, بل على الدوام ينطق من بين السطور والكلمات, كومضات من نور أو دفقات حياة تنطلق بلا توقف.
وبهذا نرى أن اللوغس في إنجيل يوحنا لا يحتاج إلى شرح أو تعريف أو فهم، فهو هو المسيح، والروح واقف عل استعداد أن يأخذ ما للمسيح «اللوغس» ويخبركم. والمسيح لا يعطي كلام الحق ليُفهم، بل هو يًعطى الحق ليُعاش؛ ولا يعطى كلاماً يصلح للحياة بل يعطى الحياة. فهذا هو سر كلامه: « روح وحياة»، وهذا يوصلنا إلى مقدمة الإنجيل بكل هدوء, فالميسح هو «الكلمة اللوغس».
فإذ كان القديس يوحنا قد أعطى للمسيح اسم «الكلمة» اللوغس فهو فعل ذلك من واقع استعلان المسيح لنفسه من خلال تعليمه. على أن قدرة القديس يوحنا عل استشفاف هذا الاسم وطرحه في مستهل إنجيله, ليس على أنه «كلمة الله», بل على أنه «الكلمة» اللوغس يعتبر إلهاماً إلهياً وعلى مستوى المساهمة العظمى للاهوت المسيحي، وهي جرأة يستحيل أن يأتيها عقل بشر؛ فهي جرأة من رأى وعاين أن «يسوع المسيح هو الكلمة»: «هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.» (يو 24:21)
وهذه المعلومة البسيطة في مظهرها صارت هي الحقيقة الإلهية العظمى في تاريخ معرفة الإنسان لله!
فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ:
قلنا أن «في البدء» تفيد ما قبل الخلق، وبالتالي ما قبل الزمن، فتكون بالتحديد هي الآزلية، وقلنا أن (كان) لا تفيد فعل الزمن الماضي الناقص ولكن تفيد الكينونة الدائمة للمطلق. أي أن الكلمة اللوغس هو«كائن أزلي». فمن أين أتى القديس يوحنا بهذا التوصيف الخطير للمسيح.
أمامنا مصدران واضحان استثف منهما القديس يوحنا وصف المسيح بالكينونة الآزلية:
الاول: قول المسيح صراحة لليهود: «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ», فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو 56:8-58)
قول المسيح «أنا كائن» كشف عن كينونته اللازمنية الآزلية. لأنه لوكان قد قال: «أنا كنت» لدخل المعنى في إطار الزمن وأصبح مجرد أسبقية زمنية، ولكن بقوله: «أنا كائن» أصبحت المقارنة بين إبراهيم والمسيح شاسعة جداً وبلا قياس، فهي مقارنة بين مخلوق وغير مخلوق, بين زمني وأزلى, إذن، فهو كائن قبل كل الآباء والأنبياء وكل الخليقة.
هذا القول الذي قاله المسيح «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» انطبع في قلب القديس يوحنا وأخذ الآولوية على كل ما عداه من الأوصاف التي استعلنها المسيح في ذاته.
الثاني: أما الموضع الثاني الذي عزز صورة المسيح في ذهن يوحنا وإيمانه بصفته الكائن الآزلي، فهو قوله المملوء سراً وجلالاً ورهبة: «إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ» (يو 24:8)
هنا نرجو القارىء الرجوع لشرح سر التسمية “أَنَا هُوَ” في كتاب “المدخل لشرح إنجيل يوحنا” ص 218-246 ويكفي هنا أن نقول أن هذا هو نفسه اسم الله الشخصي الذي قاله لموسى في مستهل سفر الخروج 13:3-14:
“فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: «هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلَهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟». فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ».
وهذا الاسم صار توضيحه في هامش الكتاب المقدس هكذا: “أكون الذى أكون” وترجتها بالإنجليزية I am the being وتفهم بالعربية «أنا الكائن بذاتي» = هذا هو اسم الله.
ويلاحظ في هذا الشرط الخطير الذي قدمه المسيح لليهود لكي تغفر خطاياهم أنه يتحتم أن يؤمنوا بأنه يقدم لهم في منظوره الشخصي الله غير المنظور ذا الجلال والعظمة، وأن وجوده المنظور أمامهم يجمع كل الكيان اللامحدود والمحدود، المنظور وغير المنظور، وإلا فإنهم يموتون في خطاياهم. لماذا؟ لأنه هو الذي سيحمل كفارة خطاياهم, ولأنه هو هو “الله ظهر فى الجسد”(1تى 16:3)
وفي رد المسيح التالي على اليهود يتضح أكثر تأكيد المسيح على استعلان شخصيته الأزلية: فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ». (يو 25:8 ). ويشرحها القديس أغسطينوس باختصار هكذا: “صدقونى أنني أنا البداية لأني قلت لكم هذا”.
كما يلاحظ أنه قبل أن يستعلن المسيح وجوده الأزلي بقوله “أنا هو” = “أنا الكائن بذاتي” فى الآية 24:8 قدم لهذا القول بالأية: قَالَ لَهُمْ: « أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. (يو 23:8). هذا كله يعزز استعلانه لذاته أنه كائن بذاته منذ البدء.
لقد انطبع هذا الاستعلان أيضأ في ذهن القديس يوحنا وأدرك بيقين أن شخصية المسيح تحمل الكيان الإلهي الأزلى، وأنه يحمل اسم ذات الله بكل جلاله وأنه منذ البدء وبلا بداية. لذلك استهل القديس يوحنا إنجيله بقوله: «في البدء كان الكلمة» . وكان هذا حصيلة معرفته اليقينية بالمسيح عن قرب، إذ لم يكن عن إملاء من الروح نفسه.
«كان الكلمة»:
لماذا لم يكتب القديس يوحنا «كلمة الله» كما هي معروفة في جميع الأسفار القديمة؟
يلاحظ القارئ أن القديس يوحنا يقدم المسيح قبل التجسد، وقبل إبراهيم: “أنا كائن”، ويقدمه قبل “كل شيء به كان” أي قبل الخليقة جميعها في الأرض وفي السموات، أي قبل الزمن: “في البدء”, الأزلى. قبل التاريخ، قبل الفهم والإدراك عموماً, وذلك لأنه لم يكن بعد للكلمة إرسالية خارج الله، فهو يصفه في كيانه أو كينونته في الذات الإلهية وحسب. ولأنه, أي “الكلمة” لم يبدأ في استعلان الله أو يخبر عن الله أو عما عند الله، إذ لم تكن توجد خليقة ما تسمع أو تفهم. لذلك فلا يجوز أن يوصف بأنه الكلمة المرسلة أو كلمة الله الخارجة لتعمل لحساب الله. بل كان «الكلمة» مكتفياً بالوجود المطلق في الله.
وبمجرد أن بدأ الخلق، بدأ عمل الكلمة في العالم المخلوق يشهد لإرادة الله بالقوة التي فيه، وهذا يصفه القديس يوحنا بـ “النور”. بدأ الكلمة عمله في العالم المخلوق كنور وحياة, وهذا هو الاستعلان الثاني «للكلمة».
+ وجاءت خلقة الإنسان على صورة الله، فهيمأ وناطقاً وسامعاً، وهنا بدأ عمل “الكلمة” في الإنسان (العهد القديم بكل أسفار) باعتباره “كلمة الله” المرسلة المسموعة والمفهومة, وهذا هو الاستعلان الثالث «للكلمة».
+ وقد جاء كلمة الله إلى خاصته، أي شعب إسرائيل، متكلماً في الأنبياء، فلما لم يقبلوه “تجسد الكلمة” – وهذا هو الاستعلان الرابع للكلمة- وذلك ليعلن ويخبر عن الله جهاراً وعلانية دون وسيط, لا كلمة الله المجردة المرسلة المسموعة والمفهومة فقط أي قوة غير مشخصة – ولكن الله الكلمة الشخص المسموع والمنظور والملموس أيضاً. “الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ”االذي راني فقد رأى الآب” (يو 9:14)
لذلك حينما قال القديس يوحنا «في البدء كان الكلمة»، فهو يقول عن شخص «الكلمة» اللوغس في ذاته وفي البدء، وليس في عمله بعد!, معُرفال با “ال” ولكن ليس معرفاً بعمل.
«والكلمة كان عند الله»:
كلمة «عند» كما يرى العلماء في اللغة وشراح الكتاب المقدس, لا تفيد مجرد الوجود معأ كإثنين يعيشان في شركة، ولا حتى تعني اتحاداً بالمفهوم العام, أو وجوداً مكانيأ بأية علاقة كانت. ولكن هي تفيد علاقة متصلة، يشرحها المسيح نفسه في موضح آخر بعد التجسد بقوله: «الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظرا الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك.» (يو 19:5)
وهذا يفيد في نظر العالم Westcott أن الوجود الشخصي لكلمة كان يتحقق في اتصال فعال دائم وشركة كاملة`مع الله، وهذه هي حقيقة “الكلمة” عند الله قبل أن يبدأ يستعلن الله.
وقد ورد هذا الاصطلاح: «عند» في موضع مماثل يعتبر بحد ذاته أقدم وأوضح شرح لمعنى «والكلمة كان عند الله»، وذلك في الأية التي كتبها القديس يوحنا في رسالته الاولى عن الحياة الأبدية التي “كانت عند الآب” و”أُظهرت”. وها يتضح أن الحياة الآبدية التي كانت عند الآب كانت تحقق ذاتها في علائق الاتصال الداخلي بالله. وهذا هو بعينه الذي يعنيه الروح بقول الإنجيل: “والكلمة كان عند الله”.
ويقول العالم شناكنبرج: “إن “عند” لا تفيد هنا الحركة تجاه هدف ما بل إنها تأتي مُعادلة وبالتبادل أحياناً مع ( ) كما قالها المسيح في صلاته: «والأن مجدني أنت أيها الأب عند ذاتك ( ) بالمجد الذي كان لى عندك ( ) قبل كون العالم» (يو 5:17)
ويقول شناكنبرج: (إن هذا المجد الذي كان له عند الآب هو هو اتصاله الوثيق بالله وهو قائم باتصال الحياة الأبدية المعطاة بالحب (يو 24:17). لذلك فإن في هذه المقدمة يتأكد أن كينونة اللوغس, بالأصل, هو وجود فعال بالحب، له مل حياة الله والمجد معه.
ويشرحها القديس يوحنا ذهبي الفم قائلاً: [ إن الكلمة هو وجود شخصي جوهري صادر بدون تألم من الآب نفسه, فهذا كما سبق وأن أشرت هو اصطلاح «الكلمة». وأيضاً قوله «في البدء كان الكلمة» هذا يوضح أزليته. كذلك أيضأ «والكلمة كان عند الله» يكون بذلك قد أعلن لنا أنه معه في الأزلية حتى إذا سمعتم أنه ««في البدء كان الكلمة» لا تخطئون في تصوركم أن حياة الأب عنه (عن الكلمة) بأي مسافة زمنية أو أي امتداد، فيتحدد بذلك خطأ بدء خاص للابن الوحيد، ولذلك أردف يقول: “والكلمة كان عند الله”. ولهذا فهو أزلي كالأب نفسه لأن «الأب» لم يكن أبدأ بدون «الكلمة» بل كان الله مع الله، كل في أقنومه الخاص.]
ومن هذا الشرح لذهبي الفم نفهم أن “عند” تساوي مفهوم “المعية الآزلية”، أي أن الكلمة كان مع الأب في الآزل دون افتراق.
ومن هذه الشروحات على قول القديس يوحنا “والكلمة كان عند الله (الآب)” قيما قبل الخلق وقبل حركة الكلمة في الإعلان عن الله سواء في الخليقة عامة أو في الإنسان؛ نرى أن لا الله ولا الكلمة كان في حاجة إلى خلقة العالم, وانما الخلقة جائت كإرادة حب “هكذا أحب الله العالم” (يو 16:3) لأن كل منهما كان في اكتفا كلي بالآخر، شركة المجد المتصل، وشركة الفهم والإدراك المتبادل، وشركة الحياة المتصلة، وشركة الآزلية الدائمة، جعلت «الله والكلمة» كُلاً واحداً كي المجد، مُدرك كامل كلي الحياة، وهو نفس مستوى الآب والابن كما سنرى, فيما بعد, كون طبيعة الحب المتفجرة والمتبادلة بين الابوة والبنوة جعلت ذات الله المتكاملة كلية الاكتفاء وكلية الحب والكرامة والمجد.
“والكلمة كان عند الله” تعطينا تصوراً أن الكلمة, اللوغس, قبل الخليقة يمثل القوة المدركة لكل مشيئة الله والقائمة الدائمة على أتم استعداد لتنفيذ هذه المشيئة.
أو يمكن أن نرى اللوغس قبل الخليقة أيضأ، القائم الدائم المؤتمن على كل خطط الله الأزلية، وهو على أتم استعداد لإخراجها للوجود عندما يحين ميعادها.
كذلك يمكن, من قول بولس الرسول, أن نرى اللوغس قبل تأسيس العالم وهو قائم عند الله, يحمل صوراً وقوائم بأسماء كل الذين اختارهم الله ليمارس دوره معهم وفيهم بكل وسائل التقديس, ليقفوا أمام الله يوماً ما بلا لوم حسب سخاء محبته: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة.” (أف 3:1-4)
بهذا يتضح أمامنا أنه حتى وقبل خلقة السموات والآرض وقبل كل الدهور, وقبل أذ يًرسل ليعلن مشيئة الله, كان “للكلمة” اللوغس عمل خاص من جهة الخلاص، واهتمام بالمفديين، وتدبير الخطط مع الله لتكميل مسرة حب الله: “حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته لنكون لمدح مجده، نحن الذين قد سبق رجاؤنإ في المسيح” (أف 11:1-12)
وعلى أساس هذه الصلات الجوهرية والوثيقة بين (الكلمة _ اللوغس) والله، والتي هي على مستوى الوحدة الخصبة ذات الفعالية، أصبح “للكلمة” اللوغس, حينها أُرسل بعد ذلك ليعلن الله ومشيئته, أن يقول: “الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يو 18:1). هذه الآية تشرح, على المستوى الشخصي والعاطفي, مركز اللوغس عند الله, فهو وجود ملتحم ودائم ولكن متميز وشخصي.
وكان الكلمة الله:
هنا كلمة “الله” جاءت في الأصل اليوناني غير معرفة بـ ألـ بعكس الجملة الجملة السابقة «والكلمة كان عند الله»، حيث كلمة الله معرفة بـ الـ. ففي الجملة الاولى “والكلمة كان عند الله” نجد أن «الكلمة» مُعرفه بـ الـ و”الله” معرف بـ الـ توضيحاً أن لكل منهما وجوده الشخصي، وحيث «الله» المعرف بـ الـ يحمل معنى الذات الكلية. أما في الجملة الثانية فالقصد من قوله «وكان الكلمة الله» هو تعيين الجوهر اي طبيعة «الكلمة» أنها إلهية، ولا يقصد تعريف الكلمة أنه هو الله من جهة الذات.
وهنا يحذر أن نقرأ “الله” معرفا بـ الـ في “وكان الكلمة الله” وإلا يكون لا فرق بين الكلمة والله، وبالتالي لا فرق بين الآب والابن، وهذه هي بدعة سابليوس الذي قال أنها مجرد أسماء، في حين أن الإيمان المسيحي يقول أن الآقانيم في الله مميزة: فالآب ليس هو الابن ولا الابن هو الآب، وكل أقنوم له اختصاصة الإلهي. كذلك فالله ليس هو الكلمة, ليس هو الله (الكلي).
وها يقابلنا قصور مكشوف في اللغة العربية، فلا توجد كلمة «الله» بدون التعريف بـ الـ .
وقد يتراءى للبعض أنه يمكن أذ يقال «وكان الكلمة إلهاً»، وهذا أيضاً أنحراف لأن الكلمة اللوغس (أو الابن) ليس إلهاً «آخر» أو«ثان» غير الله الواحد، كما أن الله ليس فيه آلهة, بالثنى أوالجمع, فالله إله واحد آب وابن وروح قدس.
والمعنى يكون أن الكلمة اللوغس ليس بمفرده الذات الكلية لله، ولكن الله والكلمة هو “الله”. وكما نقول ان الابن والله الأب الله. يمكن أن نقول «الله الكلمة» أو “الكلمة االله” لتعريف ماهية الكلمة، وذلك بقصد التفريق بين طبيعة الخليقة سواء في السماء أو الأرض أو الإنسان وبين طبيعة «الكلمة» اللوغسى. فالكلمة كان الله ولم يكن العالم أو الخليقة أو الإنسان. لأنه يجدر بنا هنا أن نوجه نظر القارىء أنه في أيام القديس يوحنا كانت هذه الثلاث البدع موجودة. فكان هناك من ينادي بأن “الكلمة اللوغس هو العالم”، ومن يقول أنه “كان رئيس ملائكة”، ومن يقول أنه “كان إنساناً”. وبهذا يتضح جداً المعنى والقصد من قول القديس يوحنا: “وكان الكلمة الله”.
ولينتبه القارىء، لأن طبيعة الله ليست كطبيعة أعلى المخلوقات مهما غلت وسمت هذه المخلوقات، فطبيعة الملائكة والإنسان فيها الفرد والجمع, فيها الملاك وربوات الملائكة، وفيها الإنسان وملايين الناس. أما طبيعة الله فهي طبيعة مطلقة لا تقبل المفرد ولا المثنى ولا الجمع العددي، فهي منزهة عن العددية، طبيعة بسيطة غير مركبة، وهي واحدة لأنها وحيدة لواحد مطلق. والكلمة فيها متحد بالله اتحاداً مطلقأ, فالله والكلمة هو الله الواحد الأحد.
مقارنة بين كلمة الله وكلمة الإنسان.
* “الكلمة” في الإنسان تصور شخصية الإنسان تصويراً جزئياً، وقد تخطئ فتبقى كلمة الإنسان شيئاُ ويبقى الإنسان شيئتً آخر.
أما “كلمة الله” فهي صورة كاملة لله كمالاً مطلقاً، حيث التطابق بين الله وكلمته يفوق حد التساوي في المفهوم البشري, لأن التطابق في المطلق, أي الله, غير المحدود هو أعلى مفهوم للتساوي الذي هو الوحدة عينها، لأنه لا توجد ثنائية قط في المطلقات وبالضرورة في الله.
لذلك فالتطابق بين إرادة الله وفعل كلمته يبغ من التساوي حد التطابق المطلق. فالكلمة يقول ويعمل بحسب مشيئة الله بالتمام والكمال، وهذا نسمعه في وصف المسيح لنفسه باستمرار: «لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ» (يو 49:12-50). هذا من جهة الكلام» كذلك من جهة العمل: “فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: «لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ». هنا تطابق كلي في القول والعمل, ومن هنا الوحدة الطلقة الكلية: «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ.» (يو 10:14)
* وكلمة الإنسان مهما بلغت في تعبيرها عن حالة الإنسان ومداخله، فهي في طبيعتها مجرد ظاهرة أو مظهر مسموع أو مكتوب أومعمول لا يمل طبيعة الإنسان تمثيلاً كلياً؛ ولكن كلمة الله, اللوغس, يحمل طبيعة الله يعبر عن ذاته تعبيراً كلياً مطلقاً، فإذا خرج اللوغس من لدن الله فهو خروج غير زمي وغير محدود، وهو يظل قائماً في الله ويعمل خارج الله، فهويل الحضرة الإلهية بكل طبيعتها وقوتها وجلالها، يعمل اسم الله وسلطانه كذات الله.
وهكذا فكون «كلمة الله» هو أقنوم (شخص) _عند الله وفي الله_ بحد ذاته، فهذا امتياز لطبيعة الله الفائقة عن طبيعتنا. لذلك فالفارق يفوق تصورنا جداً, لأنه ليس له مثيل في طبيعتنا. وهذا أيضاً أحد كمالات الله وخصائصه واتساع قدراته التي تزيد كثيراغً من تصورنا.
* كذلك، إذا كانت كلمة الإنسان كريمة عند نفسه وعزيزة لديه, وهو يطالب بكرامتها وحتمية تنفيذها لأنها تعتبر عن ذاته؛ فكم بالحرى تكون كلمة الله؟
وهذا نسمعه تماماً في تعاليم المسيح عن نفسه, باعتباره «الكلمة» والابن المرسل: «لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ. لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ.» (يو 20:5-23) & «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. والَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي.» (يو 44:12-45) & «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو30:10) & «الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يو 9:14).
والآن، أنظر أيها القارىء، وأعد النظ على ضوء ما قلناه في قول القديس يوحنا: “وكان الكلمة الله”
أما إذا تبادر إلى ذهنك: ولماذا بدأ الإنجيل بـ “الكلمة” ولم يبدأ بوصف “الابن”؟ فالجواب هو أن القديس يوحنا يتتبع المسيح قبل التجسد وقبل الأنبياء وقبل الخليقة ليجعلك تراه في حقيقة شخصه قبل الخلق وهو قائم في الأزلية عند الله, تمهيداً لاستعلان بنوته.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (1): “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله.”
هذه الآية تحمل طابع الإملاء الإلهي وليست من وضع بشر (ذهبي الفم) أغسطينوس وهذه الآية من 3 مقاطع يتكرر فيها اسم الكلمة وفعل كان الدال على الكينونة وليس على الزمن. والثلاث مقاطع في هذه الآية تحدثنا عن الابن الكلمة في أزليته وبمقارنتها بالآية (14) والكلمة صار جسدًا وحل بيننا نجد مقابل لكل مقطع من المقاطع الثلاث ولكنها تشير لتجسده.
* في البدء كان الكلمة | – والكلمة كان عند الله | # وكان الكلمة الله |
= كينونة أزلية دائمة والبدء يشير للأزل كان = تشير للكينونة | = الكلمة حالٌ في الله لكن في تمايز. كل له عمله وشخصيته لكنهم واحد | |
* صار | – حل بيننا | # صار جسدًا |
= أي دخل الزمن في ملء الزمان | = حل وسط الناس | = صار في طبيعة الإنسان دون أن يترك طبيعته الإلهية. |
هذه الآية تشير لأن المسيح هو الله وهو موجود منذ الأزل ولا ينفرد بوجوده من دون الله، بل هو كائن في الله، كما يوجد العقل في الإنسان، وكما توجد الكلمة في عقل الإنسان. إذن هو ليس مخلوقًا. ولذلك حين ظهرت الكلمة إلى الوجود (أو ظهر الكلمة إلى الوجود بالتجسد) كان المسيح يستعلن الله لنا.
في البَدْءِ = الديباجة التي بدأ بها يوحنا إنجيله تذكرنا بديباجة سفر التكوين فبينهما أوجه تشابه وأوجه تباين.
ومن أوجه التشابه أن الديباجتين تبدآن بكلمة واحدة “في البدء” وفي العدد الثالث من كل منهما تتجلى لنا علة الخلق “قال الله” (تك3:1). كل شيء به كان (أي بالكلمة) (يو3:1) وقال الله أي قال بكلمته الذي خلق كل شيء. وفي (تك2:1-3) نسمع عن الحياة والنور وهكذا في (يو4:1).
وأما عن أوجه التباين فإن موسى ويوحنا التقيا معاً عند كلمة في البدء ثم إنحدر موسى متمشياً مع التاريخ حتى حدثنا عن المخلوقات. وإرتقى يوحنا صاعداً حتى أرانا من هو علة الخلق. مثلهما مثل شخصين التقيا عند نقطة في نهر، ثم إنفصلا. فمضى أولهما متتبعاً مجرى النهر حتى بلغ مصبه وارتقى ثانيهما إلى أعالي النهر حتى اكتشف منبعه.
لذلك فهم البعض أن كل منهما، موسى ويوحنا، قصد شيئاً مختلفاً بكلمة “في البدء” فالبدء في مفهوم موسى هو بدء الخليقة ولكن البدء عند يوحنا هو البدء المطلق الذي عنده يتوقف فكر الإنسان، هو البدء السابق للزمن قبل كون العالم (يو5:17+24) في البدء هنا هو الأزل أي الذي لا بداية له ، وباليونانية أرشي αρχή أي ما قبل الزمن. ففي بدء أي بداية أي شيء وأي زمن كان المسيح كائن. البدء في إنجيل يوحنا هو ما قبل الخلق وما قبل الزمن، وليس قبل الخلق إلا الله. أما البدء في سفر التكوين فهو بدء الزمن. وبداية إنجيل يوحنا تتشابه مع بداية سفر التكوين، لأن سفر التكوين يتحدث عن الخليقة الأولى، وإنجيل يوحنا يتكلم عن الخليقة الجديدة. لذلك يذكر هنا أنه به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان، فبه وفيه ستكون الخليقة الجديدة. والمسيح هو بدء الخليقة الجديدة. فالعهد القديم يبدأ بالخليقة الجسدية، والعهد الجديد يبدأ بالتجسد والخليقة الجديدة. العهد القديم يقدم صورة العالم المادي، والعهد الجديد يقدم ما سوف يصير إليه العالم الروحي من سماء جديدة وأرض جديدة حيث تعمل النعمة في الطبيعة البشرية. لذلك لم يقل يوحنا في البدء كان الله، لأنه يقصد الحديث عن الكلمة الذي بتجسده صار الخلاص والخليقة الجديدة. من هذا البدء ارتفع يوحنا بجناحي النسر، فرأى المسيح موضوع بشارته ورآه في أزليته في حضن أبيه، أما متى ولوقا اللذان رجعا بتاريخ المسيح لآدم وإبراهيم ليثبتوا أن ابن الله صار إبناً للإنسان وتجسد ليرفع الإنسان فيصير ابناً لله. لذلك ينهي لوقا سلسلة نسب المسيح بقوله ابن آدم ابن الله. وفي سفر التكوين حين قال موسى في البدء فهو لا يعنى زمناً معيناً، إذ لم يكن الزمن قد أوجد بعد، فلم تكن الكواكب والشمس قد تكونت بنظمها الدقيقة. لكنه يعني أن العالم المادي له بداية وليس كما إدعى بعض الفلاسفة أنه أزلي، يشارك الله أزليته. ولكن تعبير في البدء هنا يعني حركة أولى لا كماً زمنياً وذلك كالقول “بدء الحكمة مخافة الله” (أم10:9).
ويأخذ كثير من الآباء بجانب هذا التفسير الحرفي أو التاريخي، التفسير الرمزي والروحي فيرون أن “في البدء” = في المسيح يسوع أو “في كلمة الله الأزلي” وتصير الآية (تك1:1) “في المسيح يسوع كلمة الله خلق الله السموات والأرض”. وأغسطينوس يقول أن الابن نفسه هو البدء. فعندما سأله اليهود من أنت أجابهم أنا من البدء أو أنا هو من البدء (يو24:8-25) فالمسيح هو بكر كل خليقة أو هو خالق كل شيء وبهذا يتفق يوحنا وموسى في أن المسيح هو الذي “في البدء” وأنه خالق كل شيء. وهذا التفسير الروحي الرمزي يرى البدء أنها لا تحمل معنى زمني بل معنى العلة. وبنفس المفهوم بدأ يوحنا رسالته بقوله الذي كان من البدء= (الكلمة- الأزلي) الذي سمعناه…. = (تجسد).
ونلاحظ أن اسم الأسفار المقدسة بالعبرية هو أول كلمة في السفر. لذلك يسمى اليهود سفر التكوين “في البدء” وحينما تُرجم إلى اليونانية أسموه التكوين GENESIS. وهنا نلاحظ أن الاسمين لهما إشارة للمسيح. الاسم العبري لسفر التكوين أي في البدء يشير للمسيح الابن الكلمة الأزلي. والاسم اليوناني للسفر وهو التكوين GENESIS يشير للمسيح الذي تجسد وصار ابنًا للإنسان. ولذلك فإنجيل متى الذي بدأ بقوله كتاب ميلاد وبالإنجليزية THE BOOK OF THE GENERATION OF JESUS CHRIST وكلمة GENERATION هي من نفس أصل كلمة GENESIS.
وإثبات لاهوت المسيح اهتم به يوحنا وإثبات تجسد المسيح اهتم به متى.
كَانَ = حينما سأل موسى الله عن اسمه، قال الله إن اسمه “أهية الذي أهية” أي أكون الذي أكون، أي أنا الكائن بذاتي أو أنا الكينونة وبهذا نرى أن كان تشير لكيان المسيح الإلهي القائم منذ الأزل. ولغويًا كان المفروض أن يقال في البدء كانت الكلمة، ولكن الترجمة هنا جاءت “في البدء كان اللوجوس (عقل الله) واللوغوس مذكر. هو الكلمة مشخصًا، فالكلمة هنا لا تعني اللفظ بل هو شخص. والمسيح سُمِّي الكلمة لأن به وفيه تكلم الله غير المنظور (عب1:1-2) فاللوغوس هو العقل الإلهي ظاهرًا في الوجود، فقبل الكلمة أي اللفظ يوجد العقل أو الفكر الذي يلد الكلمة.
ونلاحظ في (56:8-58) أن المسيح يقول عن نفسه “أنا كائن” فهو ليس فقط موجود قبل إبراهيم بل هو كائن. فالمقارنة هنا بين المسيح وبين إبراهيم هي مقارنة بين الخالق والمخلوق، بين الأزلي والزمني لذلك لم يقل المسيح أنا كنت قبل إبراهيم بل كائن قبل إبراهيم.
الكَلِمَةُ = كما رأينا فإن الكلمة = اللوغوس (هكذا هي الآية في الأصل اليوناني في البدء كان اللوغوس) لها أصول يهودية ويونانية فهي كلمة معروفة تشير للعقل الإلهي. ولكن أيضًا نلاحظ في (مز6:33) قول المرتل “بكلمة الرب صنعت السموات..” فتعبير الكلمة الخالقة ليس جديدًا على اليهود ولا على اليونانيين. فاللوجوس يشير للفكر. والكلمة هي تعبير عن الفكر. وكان العبرانيون يعبرون عن الفكر بأنه الكلام في القلب والباطن. والعرب يقولون “من بنات أفكاره” وفي (رؤ12:19-13) نسمع فيها أن اسم المسيح هو كلمة الله وأن ثوبه مغموس بدم وهذه علامة أبدية لانهزام وقهر العدو إبليس (رؤ11:12). ولكن نلاحظ أن الاسم كلمة الله يشير لحالة خروج من الله وإرسال للإعلان عن مشيئة الله وتتميمها، فالاسم كلمة الله هو اسم المسيح بعد أن اضطلع بالعمل والرسالة. أما اسم الكلمة فقط كما جاء في هذه الآية فهو يعبر عما قبل الخروج والإرسال والإعلان عن الله. هو اسمه الذاتي وليس صفة عمل. ولذلك فحينما أُرْسِلَ الكلمة ليعلن الله ومشيئته قال الكتاب الابن الوحيد.. هو خَبَّر (يو18:1).
وكثير من الآيات في إنجيل يوحنا أتت بلفظة لوغوس وترجمتها الترجمة العربية “كلامي” مثل (24:5+ 3:15)+ (31:8-32+51)+(24:14+ 14:17). ويصير المعنى ليس كلاماً عادياً. فإذا كان اللوغوس هو المسيح كلمة الله، فمن يقبل اللوغوس (كلامي) يقبل المسيح فتكون له حياة أبدية. ومن يثبت في اللوجوس (كلامي) يثبت في المسيح (يو15 : 7). لذلك قال المسيح عن نفسه أنا هو الحق (يو6:14) وقال كلامك حق (17:17) ونلاحظ في آية (43:8) أن هناك فرقاً واضحاً بين الكلام العادي واللوغوس (الكلمة).
“لماذا لا تفهمون كلامي. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي“.
“لماذا لا تفهمون (كلامي العادي). لأنكم لا تقدرون أن (تسمعوا اللوغوس) أي تقبلوني ككلمة الله.
والمعنى أنتم لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقبلونني. والمترجم للعربية استخدم هنا كلمة (قولي) لأن لوغوس بالعبرية هي قول.
ونلاحظ أن الكتاب المقدس هو كلمة الله والمسيح هو كلمة الله وهذا كما فسره الآباء أن من يتأمل في الكتاب المقدس يكتشف شخص المسيح كلمة الله، يرى صورة واضحة للمسيح، فالمسيح هو الحق المخفي في كلامه وفي الكتاب المقدس كلمة الله، هو ينطق بين السطور كومضات نور أو دفقات حياة تنطلق بلا توقف، فالمسيح لا يعطي كلام يصلح للحياة، بل هو يعطي الحياة، فكلامه روح وحياة. ” كلمة الله حيَّة وفعالة…” (عب 4: 12).
وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ= كلمة “عند” باليونانية (πρὸς بروس) وتترجم أيضًا “مع”. وتشير لعلاقة متصلة كما في “لا يقدر الابن أن يعمل شيئا من ذاته إلا ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك” (يو19:5) فهناك فهناك اتصال دائم فعال وشركة كاملة مع الله الآب، وبنفس المعني “الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خَبَّر” (يو 1: 18). وأيضًا نرى في (1يو2:1) نرى الحياة عند الآب بمعنى الاتصال وكذلك في (يو24:17) فالمسيح كائن في الآب متصل به له ملء حياة الله وله المجد معه. ولكن قوله عند الله تفيد أيضًا تمايز الأقانيم فالآب ليس هو الابن والابن ليس هو الآب. وقوله عند الله تفيد أيضًا أزلية المسيح فالآب لم يكن أبدًا بدون الكلمة (العقل) ولم يكن أيضًا بدون قوة. فالكلمة هو قوة الله التي كانت مستعدة دائمًا أن تخلق. إذًا كلمة عند تفهم عن أن الابن شريك للآب أزليًا بدون انفصال.
وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ= قوله وكان الكلمة عند الله تفيد التمايز بين الأقانيم وقوله وكان الكلمة الله تشير للوحدانية الإلهية. وفكرة ألوهية المسيا المخلص لم تكن غائبة عن أذهان من يقرأ العهد القديم بفكر وقلب مفتوح (هو7:1+ أر6:23). ونلاحظ في الآية السابقة وكان الكلمة عند الله أن الكلمة والله جاءتا في اليونانية معرفتين بـ”ألـ” توضيحًا أن لكل منهما وجوده الشخصي. والعكس في هذه الآية فالله جاءت بدون أداة التعريف “الـ” وهذا يشير إلى:
1- أن طبيعة جوهر الكلمة هي طبيعة إلهية.
2- لو ذُكِرَ هنا الله مُعَّرف بالـ يصبح لا تمايز بين الأقانيم، أي يكون الله هو الكلمة وبالتالي لا فرق بين الآب والابن. وهذه بدعة سابيليوس الذي قال أنها مجرد أسماء وقال أن الله كان فترة آب ولما نزل للأرض صار ابن ولما صعد صار معنا باسم روح قدس. والمعنى أن الكلمة اللوغوس ليس بمفرده هو الذات الكلية لله، ولكن الله والكلمة (طبعاً والروح القدس) هو الله.
مقارنة بين كلمة الله وكلمة الإنسان
الكلمة في الإنسان تُصوِّر شخصية الإنسان تصويراً جزئياً، وقد تخطئ فتبقى كلمة الإنسان شيئاً ويبقى الإنسان شيئاً أخر.
أما كلمة الله فهو صورة كاملة لله كمالاً مطلقاً، هناك تطابق بين الله وكلمته ، وهناك تساوي ووحدة، ولا توجد ثنائية قط.
ولذلك فهناك تطابق بين إرادة الله وفعل كلمته، فالكلمة يقول ويعمل بحسب مشيئة الله بالتمام والكمال (يو49:12-50). ونفس الكلام يقال عن الأعمال التي عملها المسيح (يو19:5+10:14). الآب هو أقنوم الإرادة والابن والروح القدس أقنومى التنفيذ.
إذاً كلمة الله، اللوغوس، يحمل طبيعة الله ويُعبِّر عن ذاته تعبيراً كلياً مطلقاً وولادة الكلمة من الله هي ولادة مستمرة أزلية أبدية، ومع هذا يظل قائماً في الله يمثل الحضرة الإلهية بكل طبيعتها وقوتها وجلالها. وهذا نفسه ما حدث بعد أن تجسد إذ هو دائماً يحمل اسم الله وسلطانه كذات الله “من رآني فقد رأى الآب”.
“أنا في الآب والآب فيَّ” راجع (يو20:5-23+ 44:12-45+ 30:10+ 9:14).
في هذه الآية رأينا:
1) متى كان المسيح…… منذ الأزل/ لا بداية له/ هو بداية كل خليقة.
2) أين كان………..هو عند الله.
3) من هو………… هو الله/ هو عقل الله (اللوجوس).
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للقمص تادرس يعقوب
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للأب متى المسكين
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للقمص أنطونيوس فكري