تفسير إنجيل متى أصحاح 5 – كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة
الأَصْحَاحُ الخَامِسُ
العظة على الجبل – التطويبات – استكمال الناموس
(1) مقدمة العظة على الجبل (ع 1-2):
1 وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. 2 فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا:
ع1: تكاثرت الجموع خلف المسيح، فخرج بهم إلى الجبل ليحدثهم بكلامه المحيى.
والجبل يشير روحيا إلى الارتفاع عن الماديات، والقوة والثبات الروحي. وتكلم معهم في خطاب طويل استغرق ثلاثة أصحاحات، ويُعتبر دستورا للمسيحية فيه أهم تعاليمها. وقد اقترب منه تلاميذه لمحبتهم فيه.
“صعد”: كان هناك جموع كثيرة تتبع المسيح، وهي التي ذُكرت في نهاية الأصحاح السابق. وحتى يسمعوه ويروه بوضوح، صعد مسافة صغيرة على الجبل وجلس، واقترب منه تلاميذه. أما باقي الجموع، فجلست أمامه على الأرض في الوادى المتسع؛ وهذا الجبل هو أحد الجبال القريبة من كَفْرَنَاحُومَ في الجليل.
ع2: بدأ المسيح يتكلم ويعلم الجموع بكلام مباشر، وهذه العظة هي من أشهر عظاته. وقد يكون كرر بعض معانيها في مناسبات أخرى، ولكنها -من أهميتها- تُعتبر دستورا للمسيحية. وقد كانت عظته بمثابة تفسير للناموس، مضيفا إليه كمال الحياة المسيحية، فما جاء لينقض الناموس بل ليكمله (ع17).
(2) التطويبات وهي الغبطات أو البركات (ع 3-12):
3 «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 4 طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. 5 طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. 6 طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. 7 طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. 8 طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ. 9 طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ. 10 طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 11 طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. 12 اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ.
ع3: بدأ المسيح حديثه بتشجيع أولاده ومدحهم، ليجاهدوا في حياتهم الروحية، فأظهر لهم المكافأة، ليتحمسوا للعمل الروحي.
وأول مدح كان “المساكين بالروح”، أي المتضعين، لأن الاتضاع هو أساس كل فضيلة، كما أن الكبرياء هو الخطية الأولى التي أسقطت آدم، وأيضا الشيطان. وبالتالي، فالمتضع يضمن ملكوت السماوات الأبدي بحلول الله في قلبه بملكوته الروحي، فيفرح ويتمتع كل حين.
ع4: ثم يمدح الحزانى على خطاياهم، أي التائبين، ومن يحزنون على خطايا الآخرين، فيصلّون لأجلهم، لأن الله يعطيهم سلاما في قلوبهم في هذه الحياة، ثم تعزيات سماوية وأمجاد في الأبدية.
ومن أجل هذا، أحب أولاد الله الدموع والندم على الخطية، ليحيوا في البر بقلوب رقيقة، تشعر بحنان الله وغفرانه، وتشكره كل حين. وهذا الحزن طبعا غير الحزن على فقدان الماديات، أو عدم الحصول عليها، فهذا حزن باطل ينبغي التحرر منه.
ع5: إذ يتحلّى الإنسان بالتوبة، تهدأ نفسه، فيصير وديعا في داخله لا ينفعل لأي مكسب أو خسارة. وعلى قدر قوة علاقة الروح بالله، يهدأ الجسد وتُرَوَّضُ طاقاته؛ وقد قدّم المسيح نفسه مثلا أعلى في الوداعة لنتعلم منه.
ويظن البعض أن الوديع يخسر حقوقه في هذه الحياة، لكن الله يعد الودعاء بوراثة الأرض.
والمقصود بـ “الأرض”، ليس فقط الأرض الجديدة في ملكوت السماوات، بل أيضًا الأرض التي نعيش عليها، إذ أن الوديع يحبه الجميع وتزداد بركات الله له، المادية بالإضافة إلى الروحية، فلا يحتاج لأي شيء مادى.
وترمز الأرض أيضًا للجسد، الذي يخضع للروح، فيصير هيكلا للروح القدس.
وكذلك ترمز الأرض للأشرار، الذين يتحولون عن طبعهم الشرير بمخالطة الودعاء، وبهذا يكسبونهم للمسيح.
ع6: “البر”: هو الصلاح والأعمال الحسنة، وكل حياة في الله. وكمال البر هو المسيح، فالجوع والعطش إليه هو الشعور بالاحتياج المستمر للامتلاء به. وكما كان بنو إسرائيل في البرّية، يشبع الله جوعهم بالمن من السماء ويروى عطشهم بالماء من الصخرة، مانحا إياهم الحياة في البرّية القاحلة، كذلك المسيح هو حياتنا التي لا نستطيع أن نعيشها بدونه. ومن يطلب المسيح، لا بُد أن يشبع ويمتلئ بفرح.
وهذا الجوع والعطش، يدفع الإنسان للنمو في الحياة الروحية بالطموح والاقتراب المتزايد من الله، وانتهاز كل فرصة لمعرفته بالصلاة والقراءة والتأمل، وفوق الكل التمتع بالأسرار المقدسة.
ع7: الرحمة: هى الإحساس بالآخر، ووضع نفسك مكانه، فتعطيه، ليس فقط الاحتياجات المادية أو العاطفية، بل المشاركة، فتأكل وتتحرك وتفكر معه، كما فعل المسيح إذ تجسد، وشاركنا طبيعتنا كلها ما خلا الخطية وحدها. وتذكّر أن المسيح هو من تصنع معه الرحمة، لأنه دعا المحتاجين “إخوته”، وما نفعله معهم كأننا فعلناه معه. ومكافأة الرحمة أننا ننال مراحم الله في حياتنا وخاصة في الضيقة، ثم في النعيم الأبدي (راجع مت 10: 42؛ 25: 34-46).
ع8: “القلب”: يمثل داخل الإنسان وأعماقه ومشاعره ونياته، ونقاوته معناها تجرده من كل شهوة شريرة، وكل انشغال عالمى عن محبة الله، إذ يصير القلب مهيّأً لسكنى الله بالنقاوة، ويستطيع أن يعاين الله ويشعر أنه بداخله ومعه في كل شىء، ليس بالرؤية أو السماع الحسى، بل بالإحساس الروحي، لأنه أعمق من الأمور الحسية، ومشبع للنفس جدا؛ وكل الصفات السابقة تجتمع معا لتؤهل النفس للنقاوة التي بها نعاين الله.
ع9: “السلام”: هو استقرار القلب وراحته وفرحه. وصنع السلام يكون مع النفس فأحيا في سلام، وهذا يستلزم التنازل عن كل ما يقلق من شهوات ردية وأطماع أرضية، بل والاستعداد للتنازل عن جميع الحقوق والاحتفاظ بالحق الأهم، وهو السلام الداخلي.
وإذا اكتسبنا سلامنا، نستطيع أن نصنع سلاما مع الآخرين بالحب والصلوات لأجلهم، ومساعدتهم على الخروج من متاعبهم، حتى وإن احتملناهم كثيرًا لأنهم مساكين فاقدين سلامهم.
والسلام هو الخضوع لله، إله السماء، الذي يمنحه كهبة للذين يحبونه. وقد صنع سلاما بين الأرض والسماء، ومصالحة بينهما، بدمه على الصليب. فإن سعينا في طلب السلام، نكون بالحقيقة أبناء له.
ع10-12: التطويب الثامن والأخير، ينتج من كل الصفات السبعة السابقة، وهو احتمال الاضطهادات من أجل الحياة النقية والأمانة، ومن أجل طاعة المسيح ووصاياه.
ويعدنا الرب، مقابل الآلام المحدودة في هذه الحياة، بأمجاد ملكوت السماوات التي لا تنتهي.
“البر”: أي الصلاح وأعمال الخير والحياة مع الله، وهذا شرط للمكافأة السماوية، لأنه لو أساء الناس إلينا ليس لبرنا، بل لأخطاء صنعناها، فهذا جزاؤنا الطبيعي.
“عيَّروكم”: أي استهزأوا بكم وبمسيحكم وبكل معتقداتكم وسلوككم المستقيم.
“كل كلمة شريرة”: وهى اتهامات باطلة يدعيها الأشرار عليكم، كما فعلوا أيام الاضطهاد الروماني، وفي كل جيل.
“افرحوا وتهللوا”: لأنكم شاركتم المسيح في آلامه، وللأمجاد السماوية التي تنتظركم عوض كل ما احتملتموه.
“عظيم”: ليُظهر مقدار البركات السماوية التي لا يُعَبَّرُ عنها.
ويدعونا للثقة في سلوكنا البار، مهما كانت تشكيكات وادعاءات الأشرار التي نحتملها، عالمين أنها طريقنا لننال أجرنا السمائى، خاصة وأن كل الأنبياء والقديسين احتملوا لأجل الله، فالاحتمال شرط أساسى لنوال الملكوت.
ونصوص هذه التطويبات هي صفات الإنسان المسيحي، التي لا يُستغنَى عن أحدها لنوال المكافآت الثمانية.
وأمامنا مثلنا الأعلى، المسيح، لنجد التطبيق العملى لكل هذه الصفات فيه.
* إن كنت تبغى السعادة، وتشتاق أن تصل إلى الملكوت، فلابد أن تقتنى الفضيلة، وتتعب لتقتنيها، فتفرح بسكنى المسيح فيك.
افحص حياتك، لتعرف الخطية المتكررة التي تعانى منها، واسْعَ لاقتناء الفضيلة المقابلة لخطيتك. فإن كنت تعانى من الكبرياء، تعلم الاتضاع. وإن كنت محاربا بالنجاسة، فأنت محتاج للطهارة… وإرشادات أب اعترافك تفيدك كثيرًا في هذا الأمر.
(3) رسالة المسيحي (ع 13-16):
13 «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. 14 أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، 15 وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. 16 فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
ع13: شبه المسيح أولاده بالملح الذي يملح الأرض، أي البشر الأرضيين المرتبطين بالعالم. ويتميز الملح بذوبانه في الطعام، فيعطى مذاقا أفضل، دون أن يلغى طعمه الأصلى، مثل المسيحي الذي يؤثر في الآخرين فيصيروا في حياة أفضل، ولا يفقدوا شخصياتهم الخاصة.
والملح رخيص ومنتشر في العالم كله بسهولة، مثل المسيحي المتضع الذي تنتشر خدمته لكل إنسان. والملح أبيض اللون، فيرمز للنقاوة والطهارة. ويستخدم أيضًا في حفظ الأطعمة من الفساد، كما أن المسيحي يحفظ نفسه ومَن حوله ويثبتهم في الحياة مع الله.
المشكلة الحقيقية، هي أن يفسد الملح الذي نعتمد عليه في إصلاح الجميع. ومتى يفسد الملح؟
(1) إذا اختلط بمواد غريبة، فيضعف تأثيره، مثل اختلاط المسيحي بالأشرار وتأثره بهم.
(2) دخول رطوبة عليه فتضعف ملوحته، وهذا يرمز للتنعم والتلذذ براحة الجسد، وشهوات الحياة الفاسدة.
(3) إذا اختلط بالماء ومر فيه تيار كهربائى، يتحول إلى مواد ضارة مثل الصودا الكاوية، وهذا يرمز لخضوع المسيحي لقوى العالم الشريرة، مثل التعلق بمحبة المال والشهوات المختلفة، فتملأ قلبه وتغيّره عن طبعه، ويصبح ضارا ومفسدا للمحيطين به الذين يرونه قدوة، فيصبح مُعثرا لهم.
حينئذ تظهر مشكلة، ألا وهي: بماذا نُملّح أو نصلح الآخرين؟ ومن ناحية أخرى: ماذا نصنع بهذا الملح الفاسد؟ إنه فقد عمله وهدف وجوده في الحياة، فلا ينتظره إلا أن يُلقَى خارج الملكوت، ويعانى آلام الدوس، أي العذاب الآبدى، والسحق الذي لا ينتهى.
ع14: يشبّه المسيحي بالنور الذي وظيفته أن ينير للآخرين، وهو يتميز بما يلى:
(1) يرشد الآخرين في طريق حياتهم.
(2) يكشف لهم الشر وكل ما يضرهم ليبتعدوا عنه.
(3) يساعدهم على عمل الخير، فالعمل يكون في النور وليس في الظلمة.
(4) النور قوى، لا يخاف الظلام، أي الشر، بل إن الظلمة تهرب منه.
فلابد أن يكون المسيحي في سمو حياة روحية كمدينة مبنية على جبل، لا يمكن إخفاء نورها، مثل القمر الذي يضىء العالم بنوره العاكس لضوء الشمس التي هي الله، فهو يطالبنا أن ننير العالم كله بحياتتنا الصالحة.
ع15: يشبّه أيضًا حياة المسيحي بسراج (مصباح أو قنديل) في بيت، الهدف منه إنارة هذا البيت، ويوضع على منارة أو مكان مرتفع ليصل نوره إلى كل أرجاء البيت؛ ومن غير المنطقي أن يوضع فوق السراج مكيال ليخفى ضوءه.
“المكيال”: هو وعاء ذو فوهة ضيقة وقاعدة أكبر، يستخدم لتعيين حجم الحبوب عند بيعها، فإذا وُضع فوق السراج يخفى ضوءه تمامًا. وهو يرمز للماديات والقياسات العقلية، وهموم العالم التي تمنع انطلاق النور ’’نور عمل الروح القدس فينا‘‘ ليضىء للآخرين.
ع16: يطالبنا بالقدوة للآخرين في الأعمال الصالحة، فيروا المسيح فينا، وعمل روحه القدّوس، فيمجدوا الله وينجذبوا للحياة معه، ولا يكون غرضنا من الأعمال الصالحة الكبرياء ومديح الناس ومجد أنفسنا، بل نسلك بالبر من أجل الله كقدوة للآخرين، فنجذب القلوب لمحبة الله.
* إن لك دور أساسى في العالم، وهو إظهار المسيح في كلامك وتصرفاتك في كل مكان تذهب إليه أو توجد فيه. فاسأل نفسك في نهاية كل يوم، هل أظهرت المسيح في بيتك وعملك وكل مكان ذهبت إليه؟ حتى تتوب عن خطاياك وتدقق في سلوكك، فتربح نفسك ومن حولك.
(4) تكميل الناموس (ع 17-20):
17 «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18 فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 19 فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. 20 فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ.
ع17-18: المسيح هو الله، واضع الناموس. وبالتالي، من غير المعقول أن ينقض ما وضعه، ولكنه تجسد ليكمله؛ كيف؟
أ) فيه تتم كل الرموز والنبوات في العهد القديم، كما يذكر متى الإنجيلى هذه العبارة: “ليتم ما قيل بالأنبياء…”
ب) يتمم بنفسه كل ناموس عنا، إذ عجزنا نحن عن إتمامه، كما يقول ليوحنا المعمدان: “نكمل كل بر” (ص 3: 15).
حـ) يكمل الناموس في حياتنا بقوة روحه القدّوس، فإن كنا قد عجزنا بقوتنا أن نتممه، فالروح القدس يسندنا ويقوينا.
د) يكمل تفاصيل الوصايا، فيعطى أسبابها وجذورها حتى نتلافاها، فالقتل مثلا بدايته الغضب، والزنا أوله نظرة شريرة.
“الناموس أو الأنبياء”: يقصد بهما كل أسفار العهد القديم.
“الحق”: تعني “آمين”، والمقصود تثبيت وتأكيد ما سيعلنه في الآية.
“السماء والأرض”: تعبير عن أكثر الأمور ثباتا في العالم، لتوضيح ثبات كلام الله في الكتاب المقدس إلى نهاية الدهور.
“حرف واحد أو نقطة واحدة”: أي أن أصغر تعليم لا يمكن أن يتغيّر.
“حتى يكون الكل”: حتى تكمل خطة الله في خلاص أولاده يوم الدينونة، ويكمل تطبيق كل الناموس، بتمجيد أولاد الله وعذاب الأشرار.
ع19-20: كان الكتبة والفرّيسيّون يحفظون الناموس حرفيًّا، لكنهم ينقضونه بأعمالهم. فرغم أهمية الحرف، فإن الأهم هو تنفيذه عمليا. فمن أهمل أصغر وصية، وعلَّم بذلك، يكون أحط وأقل إنسان في ملكوت العهد الجديد، أي الكنيسة، وينبغي أن يتوب سريعا حتى لا يخسر أبديته. لأن من نقض إحدى الوصايا ورفضها عمدا، يكون قد رفض الكل. أما من يخطئ بضعفه، فالتوبة تمسح الخطايا في سر الاعتراف.
ولكن من قَرَنَ تعليمه للوصايا بتنفيذها في حياته، فهذا يدعى عظيما في الكنيسة والملكوت الأبدي.
ثم ينادى المسيح تابعيه أن يزيد برهم عن الكتبة والفرّيسيّين، فلا يكتفوا بحفظ حروف الناموس، بل لا بُد من تطبيق وصاياه عمليا في حياتهم، لأنهم إن لم يطبقوا الناموس لن يدخلوا ملكوت السماوات.
“الوصايا الصغرى”: هى التي تختص بالابتعاد عن شىء، أو التدقيق في شيء صغير. فهي مهمة مثل الوصايا الكبرى كالوصايا العشر.
الكتبة والفريسيين: كان اليهود يظنون أنه لكثرة معلومات هاتين الفئتين، أنهما أعظم مثال للحياة مع الله، فأوضح المسيح ضرورة أن يزيد البر لأي إنسان يريد أن يخلص عن هذا البر النظرى.
* ليتك تطبق ما تقوله للآخرين في حياتك قبل أن تعلّم به غيرك، فتختبره وتنال بركته، ويكون كلامك أكثر تأثيرا في سامعيك. إن كل معرفتك الروحية، الله أعطاها لك أنت أولًا قبل أن تعلّم بها غيرك. فاقبل كل ما تقرأه أو تسمعه للتطبيق العملى، فتخلّص نفسك ومن يسمعونك، إذ يظهر في حياتك سلوك مستقيم يكون قدوة للآخرين دون أن تشعر.
(5) القتل (ع 21-26):
21 «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. 22 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. 23 فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، 24 فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. 25 كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. 26 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!
ع21-22: إن كانت التطويبات قد تكلمت عن الصفات الإيجابية في الإنسان المسيحي ومكافآتها، فيذكر المسيح الآن الخطايا السلبية وكيفية معالجتها، ويأخذ مثلا وصية صعبة، وهي “لا تقتل” فيأتى بجذرها، وهو خطية الغضب، لأنه إن ابتعدنا عن الغضب، فبالطبع لن نقتل أحدا.
وقد كان الكتبة والفرّيسيّون وشيوخ اليهود يعاقبون من يقتل عمدا، أما غير المتعمد فيهرب إلى مدن الملجأ. ولم يعطوا اهتماما بالغضب الداخلي، بل اكتفوا بتنفيذ الغضب خارجيا بالقتل.
ولكيما يوضح المسيح خطورة الغضب، قال: “إن كل من يغضب على أخيه باطلا”، أي بسبب الأمور المادية الباطلة الزائلة، يكون مستوجبا حكم المحاكم الصغيرة التي أقيمت في كل البلاد اليهودية، ويقضى فيها عادة 23 قاضٍ من الشيوخ، وهذا الحكم يمكن استئنافه أو مراجعته في المحاكم العليا، وأكبرها مجمع “السنهدريم” في أورشليم، الذي يتكون من سبعين من كبار شيوخها رؤساء اليهود، لذا يسمى أيضًا مجمع السبعين، وهو المجلس الأعلى وتتبعه كل المجالس الفرعية. كما أنه أكبر سلطة يهودية تأخذ القرارات في أمور اليهود الدينية، وكان كثير من الكتبة أيضًا أعضاء في هذا المجمع.
والمقصود بالغضب هنا، غضب داخلي قلبى، دون إظهار أي تعبير عنه.
أما “من قال لأخيه رَقَا”، وهى كلمة سريانية تعبّر عن الاحتقار المرتبط بالغضب، يستوجب هذا محاكمة المجمع، أي مجمع السنهدريم الذي يتكون من كبار شيوخ أورشليم.
ولكن، إن تطاول الإنسان في غضبه، ووصف أخيه بالحمق والغباء، فيستحق “نار جهنم”.
“جهنم”: مأخوذة من وادي هِنُّومَ الذي كانت تلقى فيه بقايا الذبائح، وكان يسرى فيها الدود، ويحرقونها بالنار، فكانت النار لا تنطفئ في هذا الوادى. ولذا شبّه الله العذاب الأبدي بالنار التي لا تنطفئ، والدود الذي لا يموت، في وادي هِنُّومَ، ولكن بطريقة روحية أكثر عذابا وقسوة.
وهنا، يظهر المسيح رفضه للغضب وخطورته، فحتى الغضب الداخلي يستوجب محاكمة أمام الله، وبالتالي أي تعبير عنه، سيؤدى بالإنسان إلى الهلاك الأبدي.
ع23-24: يعلن المسيح بوضوح أن الصلوات والعطايا المقدمة لله، لا تُقبَل من الإنسان الغضوب، أو المسئ لغيره، أو المخاصم، لأن الله يريد الصلوات المقدمة من القلب النقى المملوء محبة.
فإن قدّم أحد اليهود قربانه كعطية لله، ثم تذكّر وانتبه لوجود مخاصمة بينه وبين أحد، فلا يكمل تقديم قربانه، بل يصطلح أولًا مع أخيه، ثم يعود ويكمل تقديم قربانه، لكيما يُقبَل من الله.
“لأخيك شيئًا عليك”، لم يقل لك عليه شىء، فحاسب نفسك على واجباتك قبل حقوقك.
“اترك”: يوضح أهمية المصالحة وتقديم الحب قبل العبادة، لأنه إن تنقَّى القلب بالمحبة يكون مقبولا من الله، وكذا العبادة التي يقدمها.
“اذهب”: أي اهتم بمصالحة أخيك حتى لو كان مخطئا في حقك، كما يوصى المسيح بنفسه، قائلًا: “إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه” (ص 18: 15).
* يلزم تنقية القلب من كل غضب قبل الصلاة، سواء في مخدع بيتك أو في الكنيسة، وخاصة عند التناول من الأسرار المقدسة، لأن صلواتك غير مقبولة إن لم تُنَقِّ قلبك.
فأسرع لمصالحة الآخرين، حتى لو كانوا مخطئين في حقك، فتكسبهم بالمحبة، ولا تنزعج من كبريائهم أو قسوتهم، بل صَلِّ لأجلهم حتى يُنزَع الغضب من قلوبهم، واهتم بسلامك قبل كل شيء.
ع25-26: إن “خصمك” هو وصايا الله، أو ضميرك الذي يذكّرك بكلام الله، أو الروح القدس الساكن فيك، إذ أنك صرت في خصومة معه بسبب وقوعك في الشر.
“الطريق”: هو هذه الحياة. فإن خضعت لصوت الروح القدس والضمير، وأطعت الوصية، مبتعدا عن الغضب والحقد وكل شر، تُنَجِّى نفسك، وتصطلح مع هذا الخصم، وإن لم تصطلح معه بالخضوع له والتوبة، فإنه يسلمك إلى “القاضي”، وهو الله الديّان العادل في يوم الدينونة، فيحكم عليك بالهلاك الأبدي، ويسلمك إلى “الشرطى”، وهم الملائكة الذين يلقونك في السجن، أي العذاب الأبدي، و”لا تخرج من هناك حتى تُوفِىَ الْفَلْسَ الأخير” (كل ديونك حتى أصغر عملة). ولأن خطيتك غير محدودة، إذ هي موجه لله غير المحدود، فعقابها غير محدود، وبالتالي، تظل في العذاب الأبدي.
ليتك تحترس من خطية الغضب، ولا تعطى لنفسك أعذارا لتتمادى فيها، بل أشفق على الآخرين مهما كانت أخطاؤهم، فتحمى نفسك من نتائج الغضب الشريرة، وتستعيد سلامك، وترجع إلى طريقك الروحي المؤدى إلى الملكوت، وتكسب نفوس من حولك.
(6) الزنا (ع 27-30):
27 «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29 فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30 وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ.
ع27-28: إن الزنا هو النظر بقصد الشهوة، وهذا يولد تلذذ بالشهوة في الفكر، الذي يؤدى إلى السقوط في الفعل بدرجاته المختلفة. لذا، أراد المسيح قطع الخطية من جذورها، وهو النظر، موضحا أنه يعتبر زنا، حتى لا يتهاون أحد في نظرته أو أفكاره أو عواطفه، ويظن هذا شيئًا عاديا، وإلا سيتمادى ويعتبر حتى اللمسات الشريرة عادية. وإن سقط في الزنا الكامل، قد يعذر نفسه، فيُغلق باب التوبة أمامه، لتهاونه وتبريره للخطية.
* أما أنت يا إنسان الله، فاهرب من التطلع بلا داعٍ حتى لا تسقط في المناظر الشريرة، كما يهرب الإنسان من الثعبان أو العقرب.
ع29-30: حيث أن الإنسان، لضعفه، معرض للسقوط بالنظر أو الفعل، يقول المسيح: إن سقطت في نظرة شريرة، فاقلع عينك اليمنى التي أعثرتك وأسقطتك في خطية الزنا. وإن سرقت، فاقطع يدك اليمنى التي أعثرتك.
والمقصود هنا ليس المعنى الحرفي، لأنه، ما الفرق بين العين اليمنى واليسرى؟ إلا أن اليمين يرمز للقوة والأهمية، فيشير بهذا إلى الصديق القريب جدًا أو الشهوة المحببة، أو أي شيء عزيز لديك مثل العين أو اليد، ينبغي الابتعاد عنه، والتنازل عن الارتباط به، حتى لا تسقط في الخطية، ويكون مصيرك العذاب الأبدي.
* افحص يا أخي مصادر سقوطك في الخطية، سواء الزنا أو أية خطية أخرى، وتنازل وابتعد عنها مهما كانت غالية عندك، لتكسب خلاص نفسك وأبديتك.
(7) الطلاق (ع 31-32):
31 «وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق. 32 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي.
ع31-32: “كتاب طلاق”: يجلس الزوج مع أحد الكتبة، ويكتب محضر طلاق، فيعطى حرية للزوجة أن ترتبط بآخر.
كان العالم الوثني يبيح الطلاق لأي سبب، خاصة اليونانيون الذين انتشر عندهم الفجور والزنا في معابدهم. أما عند اليهود، فكان لا بُد أن يراجع نفسه، ويكتب كتاب طلاق، لعله يرجع عن قراره، إذا شعر أن امرأته ستكون لآخر، ويهدأ غضبه وضيقه.
أما المسيح، فيظهر عظمة سر الزيجة أنه اتحاد لا يمكن فصله، إلا اذا ارتبط أحد الطرفين بزنا، فحينئذ يكون قد فصل نفسه عن الآخر وقسم هذا الاتحاد. أما من يطلق امرأته لأي سبب آخر، يجعلها تزنى إذا ارتبطت بآخر، لأنها ما زالت أمام الله زوجته، والزوج الجديد يعتبر زانيا لأنه تزوج بامرأة غيره.
والمسيح هنا يعارض، ليس شريعة موسى المكتوبة في (تث 24: 1) بإباحة الطلاق وكتابة كتاب بذلك، بل يُرجع الأمور إلى أصلها. فإن كان موسى قد اضطر، نتيجة اختلاط شعبه بالمصريين وتعودهم الطلاق، أن يضع حدودا لهم، بأن يراجع الإنسان نفسه ويكتب شهادة بذلك. ولكن، لم يكن هذا قصد الله حين خلق الإنسان ليتحد بالآخر في سر الزيجة، عندما قال: “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا” (تك 2: 24)، ولم يعط سماحا بالطلاق إلا في حالة الزنا، لأنه يفصل بين جسدي الزوجين عندما يرتبط أحدهما بجسد آخر.
* فلنقدّس سر الزيجة، لنرتفع عن أسباب الخلافات، ونحاول حلها بالإرشاد الروحي، والتوبة، والالتصاق بالكنيسة.
(8) القَسَمُ (ع 33-37):
33 «أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. 34 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، 35 وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. 36 وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. 37 بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ.
ع33: سمح الله قديما لشعبه أن يقسِموا (يحلفوا) باسمه، حتى يوجه قلوبهم لعبادته، وعدم القَسَم بالآلهة الوثنية.وما نهاهم عنه هو الحنث، أي القسم كذبا. ومعنى ذلك، تنفيذ ما أقسموا به، مثل النذور التي يجب الوفاء بها إذا ما نطق الإنسان بها، ووعد الله أن يتممها.
وكان الكتبة والفرّيسيّون يعلّمون أن القسم باسم الرب هو الذي ينبغي إيفاءه، أما القسم بأى شيء آخر فيمكن الرجوع فيه. وهذا طبعا تعليم خاطئ يقاومه المسيح هنا، ويصححه في الآيات التالية، مُعلّما بعدم الحلف أو القسم مطلقا.
ع34-37: في العهد الجديد، يكمل الناموس بالنهى عن القسم، لأن اسم الله أسمى من أن يقال لأجل معاملات مادية، بل يذكر للعبادة ومباركة حياتنا.
“كرسىُّ الله”: السماء ترمز لوجود الله نظرا لسموها وارتفاعها، فتناسب سموه.
“موطئ قدميه”: الأرض والأرضيات أدنى من السماء، لذلك دُعيت موطئا لقدمى الله.
ومن ناحية أخرى، نحن لا نملك أي شيء في العالم، بل نحن وكلاء عليه، فكيف نقسم بشيء لا نملكه؟ الله وحده القادر على القسم، لأنه يملك كل شيء.
ويوضح المسيح أننا لا نملك حتى شعرة واحدة من رؤوسنا، وعاجزين عن تغيير لونها. وبالتالي، لا يصح أن نحلف بحياة إنسان أو أي شيء من المخلوقات التي في العالم؛ لذا يطالبنا أن يكون كلامنا بسيطا خاليا من القسم، أي لا نحتاج أن نثبته بالقسم، وتكون إجابتنا على الآخرين، نعم أو لا فقط.
“نعم نعم، لا لا”: أي لا نستخدم القَسَم، ونعلن الحقائق أو موافقتنا على ما يقوله الآخرون بكلمة نعم، أو النهى ورفض ما يناسبنا بكلمة “لا”، دون الحاجة لإثبات ذلك بكلمات القَسَم.
“من الشرير”: أي أن استخدام القَسَم هو من عمل الشيطان الشرير، فهو الذي أوجد الكذب والغش، ويدعو الناس للقَسَم إثباتا لكذبهم.
منع القَسَم يضبط الغضب، حتى لا يتمادى إلى قرارات ملزمة، بل هو سمة للمسيحيين في براءتهم. والقسم ليس دليلا على الصدق، بل يستخدمه الأشرار في الكذب للوصول إلى أغراضهم.
* دقق في كلماتك، فيكون فيها اسم الله للبركة، وابعد عن الكذب، وبالتالي لا تحتاج إلى إثبات أقوالك بالأقسام الباطلة. ولا تستهن باسم الله، أو حياة الناس فتُقسم بها باستهتار لمجرد التعود على ترديدها.
(9) مقابلة الشر بالخير (ع 38-42):
38 «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. 39 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. 40 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. 41 وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. 42 مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ.
ع38: أراد الله في العهد القديم تثبيت فكرة العدل الإلهي، والحاجة إلى الفداء، وإن أخطأ الإنسان يحتاج لإنسان مثله يفديه. فالعين تُفدَى بعين، والسن (مفرد أسنان) يُفدَى بسن مثله. ولأن الخطية غير محدودة، إذ هي في حق الله، احتاجت لفداء غير محدود، أي بموت الله المتجسد، المسيح ألهنا.
وأراد أيضًا بهذه الوصية “عين بعين، وسن بسن”، ألا يرد الإنسان على الشر بشر أعظم منه، بل يكفي أن يرد بشر مثلما أصابه.
هذه هي وصايا العهد القديم، لأن مستوى فهم الشعب لا يحتمل أكثر من هذا.
والإنسان في نضجه الروحي، يتدرج في ست درجات أمام الشر الذي يصيبه:
(1) الاعتداء على الغير بالشر، وهذا هو الأسلوب الهمجى.
(2) مقابلة الشر بشر أعظم، لأن الآخر بدأ بالشر.
(3) مقابلة الشر بشر مثله، وليس أكثر، كما في الشريعة اليهودية.
(4) مقابلة الشر بشر أقل، وهذا فيه ضبط للنفس.
(5) عدم الرد على الشر، بل الصمت، وهذا ضبط كامل للنفس.
(6) مقابلة الشر بالخير، وهذا هو المستوى المسيحي، أعلى الدرجات.
ع39: ينبهنا المسيح إلى عدم اضطراب القلب، فيرد على الشر بشر آخر، لأنه إن امتلأ القلب بالمحبة، يلتمس العذر للآخر، فلا ينزعج من الإساءة الخارجية على الجسد، أي اللطمة.
وليس المقصود المعنى الحرفي في اللطم، لأن الإنسان يُلطَم على خده الأيسر وليس الأيمن، إلا إذا كان الضارب أعسر، أي يستعمل يده اليسرى، فتقع اللطمة على الخد الأيمن. ولكن المقصود المعنى الروحي، وهو التسامح والاحتمال، بل الاستمرار في الاحتمال بقبول لطمة ثانية، أي إساءة ثانية.
ع40: يعطى مثالا آخر في الاحتمال والتسامح، وهو إذا حدثت مشاجرة، وحاول الآخر اغتصاب ثوبك.
“الثوب”: هو اللباس الداخلي مثل جلباب، والشريعة تقضى بألا يأخذه أحد لأنه غطاء الفقير (خر 22: 26-27).
“الرداء”: هو العباءة الخارجية، وهو أغلى ثمنا.
وبذلك نقابل الظلم بالحب، وعطاء أكبر مما كان يريده الظالم، مهما كان الظلم شديدا، فيخجل الظالم ويهدأ غضبه. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من قلب ممتلئ بالمحبة والشبع من الله، فيتنازل بسهولة عن الماديات، حتى لو ظن الآخر في البداية أنه كسب شيئًا منه واستغله، لكنه يقف مبهورا أمام هذا الحب العجيب، فهو بشارة صامتة تقدمها للأشرار حتى يتوبوا، واثقا من أن الله يعوضك أضعاف وأضعاف، ليس فقط في السماء، بل وعلى الأرض أيضا، لأن وعده واضح: “ليس أحد ترك بيتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امراة أو أولادا أو حقولا لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان… وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية” (مر 10: 29-30).
ع41: السُّخرة: هى العمل بدون أجر. فإن أجبرك أحد على عمل، قدّم له خدمة أكبر، فتكسبه بمحبتك، وتنال بركات سمائية.
الميل الثاني: هو الحب، الذي تطفئ به شر وظلم الآخرين.
ع42: إن وجدت إنسانا محتاجا طلب منك، فأعطه. وهذا تنازل عن محبة المال، وإحساس بالآخر، وعدم النظر إليه كطامع، فقد يكون طمعه نتيجة إحساسه بالحرمان، فاحتمله.
وقد يكون خجلا من أن يستعطى منك، فيطلب قرضا وهو غير قادر على رده، فلا تطالبه، بل اتركه له كعطاء محبة منك.
وطبعا، كل هذا على قدر المحبة التي في قلبك. فإن لم تكن قادرا على هذه المحبة، فعلى الأقل احتمله وسامحه. ولا تكن أنانيا شحيحا في عطائك، لأن الله قال بوضوح: “طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون” (ع7).
* إن آمنت بالحب، تستطيع أن تطفئ كل لهيب الشر في المحيطين بك، فالحب أقوى من الكراهية. أشفق بمحبتك على الغضوبين والطامعين، فهم مرضى محتاجون للدواءٍ الذي هو الحب، سواء باحتمالهم والصلاة لأجلهم، أو التكلم معهم بلطف عوض كلماتهم السيئة، أو تقديم خدمات لهم؛ ولا تستطيع أن تحتملهم وتحبهم، إلا إذا امتلأ قلبك بمحبة الله.
فاهتم بعلاقتك الروحية بالله، واطلب معونته، فتستطيع أن تفيض حبا منه على الآخرين.
(10) محبة الأعداء (ع 43-48):
43 «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، 45 لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. 46 لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ 47 وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ 48 فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.
ع43: “قريبك”: في نظر الفرّيسيّين هو اليهودي، أما تفسير المسيح فهو كل إنسان كما في مثل السامرى الصالح (لو 10: 30-37).
أمرت الشريعة في العهد القديم بمحبة القريب، حتى يخرج الإنسان من أنانيته، ويحب أقرباءه والمقربين إليه.
“تبغض عدوك”: هى إضافة من الفرّيسيّين لم تقررها الشريعة، ولعلهم استنتجوا هذا من أمر الله بإبادة الأشرار من أرض الميعاد، أي إزالة الشر.
ومع هذا، فالشريعة أقرت بمساعدة العدو إن وقع حماره تحت حمله (خر 23: 4-5). وأمرت أيضًا ألا يكره الأدومى لأنه قريبه، ولا المصرى لأنه كان نزيلا عنده، مع أنهم من ألد الأعداء الذين أذلّوهم وحاربوهم (تث 23: 7).
ع44: مع النضج الروحي في العهد الجديد، طالبت الشريعة بمحبة الأعداء، لأن طبيعتهم خلقها الله نقية، والشر الذي فيهم دخيل عليهم من إبليس. فلا ننظر إليهم كأشرار، بل كمرضى محتاجين للمحبة والشفقة، فنباركهم بالكلمات الطيبة، فتسكت كلمات الشر التي على أفواههم. وبعمل الخير معهم، تهدأ قلوبهم. ونصلي لأجلهم، حتى يرفع الله عنهم أفكارهم الردية، وبهذا نكسبهم لنا أصدقاء في الإيمان والمحبة.
“باركوا”: فلا تقتصر المحبة على المشاعر الداخلية، بل تخرج في كلمات طيبة ومشجعة.
“أحسنوا”: وترتبط المحبة أيضًا بتقديم خدمات وإحسانات للساقطين في قضية البغضة لنا.
“صَلّوا”: وهى أقل درجة في المحبة أو الوسيلة التي لا يمكن منعها، لأن من يعادينا قد يرفض الحديث معنا أو قبول خدماتنا، ولكنه لا يستطيع منعنا من أن نصلي إليه، مهما كان اضطهاده لنا.
ع45: “أبناء أبيكم”: الله محبة، ودليل بنوتنا، أن نحب كل أحد بما فيهم الأشرار والمسيئين.
بهذه المحبة، نتشبّه بالله الذي أحبنا ومات لأجلنا على الصليب، نحن الذين عصيناه وتحديناه وصلبناه.
والله مستمر في عطائه لكل البشر، سواء المؤمنين به أو الرافضين إياه، فهو يشرق بشمسه على الكل، وأمطاره تروى الكل.
وقد استخدم الشمس والمطر لأجل نفعهما لكل البشر، ولأنهما في السماء فيرمزان لعطايا الله العلوية.
* إن كان الله ينير ويشبع الكل، فقدم محبتك لكل من تقابله، وَانْسَ ذاتك، محتملا الآلام لأجل المسيح، مهما أساء إليك الآخرون.
ع46-47: “العشارون”: هم جامعو الضرائب الرومانية، ويتصفون بالطمع والقسوة، فكانوا أردأ جماعة في المجتمع، ويرتبط اسمهم بالخطاة.
يعلن المسيح بوضوح أن محبتنا لمن يحبنا شيء عادي، يشترك فيه معنا الأشرار، الذين يمثلهم العشارون المتصفون بالقسوة والطمع. ولكن تميزنا كمسيحيين، هو أن نحب ونعطى السلام، ونعمل الخير مع من يسىء إلينا ويعادينا.
“سلّمتم”: كانت الشريعة تقضى بعدم السلام على الأمم، وتقصره على اليهود، وبهذا يظهر قصور المحبة وعدم اتساعها لتشمل كل البشر، فأوصت شريعة العهد الجديد بمحبة الكل.
ع48: “كونوا أنتم كاملين”: أي اسعوا نحو الكمال.
يؤكد المسيح أن هذا هو كمال المحبة، أي محبة الأعداء، فنصير أبناء الله الكامل، وهو يدعونا للسعى نحو الكمال الذي لا يمكن الوصول إليه تماما، ولكن الله يفرح بهذا السعى لأنه هو الكامل، فيكون هذا سعيا نحوه.