يو1: 29 …هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم
“29وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ:«هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ! 30هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. 31وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ». 32وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائلاً:«إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. 33وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. 34وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ».” (يو1: 29-34)
+++
تفسير الأب متى المسكين
29:1- وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.
كل الظروف توحي إلينا أن المسيح كان خارجاً للتو من التجربة مع إبليس. لأننا نعلم من الأناجيل الأخرى أنه بعد التجربة دخل الخدمة وبدأ الكرازة، وهنا في هذه الأية واضح أن المسيح جاء عن قصد، إذ أن خدمته حري بها أن تبدأ بشهادة وإعلان، كان هو في غير حاجة إليها، ولكن كان الشعب يحتاجها بكل تأكيد، وكانت لحظة تسليم وتسلم: «ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص». هذا ليس بلسان المعمدان وحده، بل بلسان جميع الأنبياء والعهد القديم بكل مشتملاته.
ويضيف ذهبي الفم أن مجيء المسيح ثانياً للمعمدان بعد عماده كان خصيماُ ليعلنه ويظهره لإسرائيل: [لأنه لهذا جاء ليعطي يوحنا المعمدان فرصة لكي يعلن رؤيته (رأيه) ثانية أيضأ لأنه بقوله هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم فإنه يمنع كل شك.]
«هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.».
كانت ومضة إلهامية نطق فيها المعمدان نطقه الخالد «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.» شهادة من فوق الواقع والزمن لا تعتمد قط على معرفة لا سابقة ولا لاحقة، ولا تستمدها من خلفية ذبائح أو طقوس, كما تاه معظم الشراح, فالمعمدان ليس مشرعاً ولا هو دارس للتشريع، ولا هو جاء ليعيد للشريعة سطوتها المتهالكة ولا مجدها الذاوي. ولكن المعمدان كانت وظيفته تدور حول الخطية، هو يعرفها، ويعرف استحالة غسلها بالماء. كان يعلم أنه يغسل بالماء ولا فائدة ولا قيمة إلا مع الذي سيغسل بالروح القدس، فلما راه كانت الخطية شغله الشاغل الذي ملأ ذهنه، رأه كحمل بلا عيب، بلا خطية! ورآه والروح القدس مستقر على رأسه، ليشير الإشارة الإلهية: أن بهذا يكون العماد، وبهذا يكون الخلاص!!
ولكن أواه, لقد لمح في عينيه الحزينتين صورة الصليب، وبالمنظر المعقول رآه خروفاً قائمأ كأنه مذبوح، فلما هتف المعمدان: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» كان ينطق بما يرى! المعمدان رأى ذلك بيقين، ولكنها كانت رؤيا، أما نحن فأخذنا منه أخذأ وذقنا كيف يرفع الخطية!!
وهوذا العالم وقد صار له موضع في السماء وأمام عرش الله يهتف: «.. أمام الخروف ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخوراً هي صلوات القديسين وهم يترنمون ترنيمة جديدة. قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه لأنك ذُبحت واشتريتنا ته بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة.» (رؤ8:5-9)
والسؤال الذي نلقيه على القارىء: لو لم يجيء الحمل هذا فماذا كان حال العالم اليوم؟ ولكن لا ننسى أن كل ما كان, وكل ما هو كائن من نعم وبركات ومثل عليا أخلاقية وروحية في العالم لن تساوي تماماً ثمن الدم المدفوع. لذلك، فحتماً حتمتً لا يزال أمام العالم بقية من نعم ومجد وسلام أكثر مما كان!!!لأن الدم لا يزال يتدفق من الخروف القائم كأنه مذبوح!!
المعمدان نبي يستمد أقواله بالإلهام من مصادرها العليا دون سبق إعداد أو معرفة، كالرائي في سفر الرؤيا لما رأى المسيح برؤيا الخلاص كخروف قائم كأنه مذبوح، فلا العين رأت خروفاً ولا المسيح تحول إلى ذبيحة منظورة، ولكن هذه كلها يسميها الصوفيون (The Mystics) رؤيا «التورية» اي بالنظر المعقول الذي لا يمت للواقع المادي بشيء.
فلما قال المعمدان: هوذا «حمل الله»، لم يكن قد رأى المسيح خملا ولكنه رأى مجمل الفداء كله في لمحة ذهنية خاطفة، ورأى الخلاص شاملاً كافياً للعالم، بل ورأى العالم فيه مفدياً، ورأى الخطية بثقلها الدهري ترتفع من فوق كاهل العالم المحني تحتها هذه الدهور كلها، لتوضع فوق المسيح الحمل، فلا توجد. هذا هو الحمل الذي سأل عنه إسحق عندما لمح السكين والحطب في يد إبراهيم أبيه، وهذا هو الحمل الذي تخيله إبراهيم «الله يرى له الحمل للمحرقة يا ابني» (تك8:22). نعم لقد رآه الله لنفسه قبل الدهور، وأعده بترتيب تسجل في سجلات الملائكة وكل الروحانيين، فباتوا يعدون الأيام لمجيئه ويعدون أنفسهم لظهوره. وإن كان في هذاا اليوم قد مر على الأرض ولم يلمحه إلا الحامل لروح إيليا، فالسماء عيدت له بطقس «السجود»، اشتركت فيه كل خوارس الملائكة: « ومتى أدخل البكر إلى العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله.» (عب6:1)
وإن كان المعمدان الناطق بالروح القدس والناظر بروح إيليا قد لمح «الحمل» وهو رافع خطية العالم، فما ذلك إلا أن الحمل ذاته كان حاملاً على جسده منظر خطايا كل العالم متزاحمة فوقه: «لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لى جسداً» (عب5:15), فكان هو الذبيحة الحقيقية لذبائح الرموز كلها، والحمل الحقيقي الذي لا ينبغي قط أن نبحث عن اسم له بين حملان الرموز، لأنه توجد حملان كثيرة ذات مناظر حسنة للغاية: حمل إسحق المذبوح تحت يد أبيه (تك10:22)، وحملان موسى المتعددة المناظر والمنافع، وحمل إشعياء المسوق صامتاً إلى الذبح (إش6:53-7)، وحمل إرميا الذي تُعد من ورائه أفكار للهلاك (إر19:11) ، وحمل بطرس الرسول الذي بلا عيب (ابط19:1)، وحمل بولس المكني عنه بالفصح الذي ذُبح (اكو7:5)، وحمل سفر الرؤيا القائم كأنه مذبوح وهو الغالب (رؤ6:5), حملان حسنة كثيرة ولكن ليست كحمل المعمدان ذي الأسم المهيب العجيب: «حمل الله». اسم يجب الأسماء جميعاً ويجمع في نفسه قوة الذبائح جميعاً ويفوقها تفوقاً، يكملها على الآرض ويبقى هو هو حمل الله الرافع خطية العالم حتى مل ء كل الدهور.
ولا تنس، أيها الباحث المدقق، أن تعريف المسيح بـ «االحمل الرافع خطية العالم» جاء قبل البدء بخدمة الصليب، فهذا التعبير يعتبر أقوى وأكبر نبوة عن الفداء الذي سيتم قبل أن يبدأ بلحظات أو قبل الصليب بثلاث سنوات.
ولكن لو نتذكر الحديث الذي تم بين موسى وإيليا, وإيليا بالذات مع المسيح على مسمع من التلاميذ على جبل التجلي، وهو حديث مأساوي: «واذا رجلان يتكلمان معه هما موسى وايليا اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمله في أورشليم» (لو30:9-31)؛ فهذا هو إيليا يظهرفي مل ء المجد، ولكن كان حديثه وهمه في الخروج العتيد أن يكمله المسيح في أورشليم أي حمله للصليب وخروجه خارج أورشليم ليصلب. ثم علينا أن نتذكر دائمأ أن القديس يوحنا المعمدان كان يحيا ويتحرك بروح إيليا، وبمعنى أكثر شمولية كان المعمدان شخصاً رأوياً يرى ما لا يُرى.
حتماً احتوت رؤية المعمدان الحمل وهو رافع خطية العالم كل مضمون المأساة ولكن دون مفردات، فهل تٌرفع الخطية بلا ثمن؟ وهل توضع الخطية على الحمل دون مساعدة السكين؟ وهل يتحمل حمل واحد خطية العالم كله، إن لم يكن هذا العالم بجملته محمولاً أصلاً على كتفيه، والخطية في العالم هي جرؤه الأثقل حملاً؟؟
وبقدر ما تتعدد أسماء خطية العالم بقدر ما يمكن أن تتعدد «وظيفة الحمل»، فهو حمل «المحرقة» و«االخطية» و«الإثم», ولأن العالم وقع تحت أسر الخطية أرضاً صار الحمل للعالم «فيصحاً» أيضاً. فمن العبث أن نسأل المعمدان ماذا كان يرى في ذبيحة الحمل؟ هل محرقة؟ أم فصحاً؟ كل ما يعرفه المعمدان عن يقين أنه فك سيور حذائه، وغسله بالماء، وأفرزه من بين الشعب ليكون جاهزاً قبل الرابح عشر(من نيسان) بثلاثة أيام سنين، حسب طقس تقويم الأنبياء، لأن يوم النبي هو بسنة، حسب دانيال.
وليس من الخارج فقط جهزه الصابغ السابق لهذا اليوم, بل وحمله من الداخل كل ذنوب التائبين الذين اعترفوا وتابوا واعتمدوا على يديه: «هذا جاء للشهادة ليشهد للنور ليؤمن الكل بواسطته.» (يو7:1)
ولكن أليس أيضاً في اسم «الحملا» الإلهي ما يفصح عن وداعة الله ولطفه وحنانه؟ فهو فوق أنه اسم ذبيح؛ فهو اسم الوداعة القادر على الصفح والغفران حسب غنى لطفه كإله وإمهاله وطول أناته، علماً بأن لطف حمل الله يقتاد إلى التوبة ولا يُحسب للانسان خطية!
كذلك يلزمنا أن ننتبه إلى الإيجاز الهائل والتركيز الممعن في الإختزال في أسلوب المعمدان في هذه الآية. فهو لم يذكر أنواع الخطايا, بل أوجزها في كلمة «الخطية» كي تحمل المعنى الكلي للخطايا أو «ناموس الخطية الكامل الكائن في أعضائي» حسبه تعبير بولس الرسول (رو23:7). ولكن أيضاً «خطية العالم» لا تزال تحمل أوزاراً أخرى للعالم الثائر على الله، الجاحد لمحبته، الرافض ليده الممدودة طول الدهور.
ولم يذكر المعمدان نوع الذبيحة، بالتال، التي سيؤديها الحمل, ولكنه ركز تركيزاً في قوتها في كلمة: « يرفع» التي تشمل كل معنى الكفارة والغفران بل والصفح, بما ينصت على معنى رفع الأثر أيضاً .
يرفع: الذي يرفع: جاءت في المضارع بمعنى الذي يرفع ويظل يرفع خطية العالم. وهي الكلمة التي استخدمها القديس يوحنا نفسه في رسالته الأولى 5:3 «وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية». وهذا التعبير «يرفع خطية العالم» هو تعبير عميق وجليل للغاية أخذته الكنيسة كما هو وأدخلته في ليتورجياتها (تسبحة الملائكة في صلاة باكر بالأجبية , والقسمة السرياني) فصار تعبيراً ليتورجياً جليل القدر خاصة عند الغرب، حيث يقولون قبل التناول مباشرة: :(( يا حمل الله الرافع خطية العالم، ارحمنا).
ولم يذكر المعمدان أي إنسان أو الشعب الذي يشمله عمل الحمل، بل جمع شمل كل الناس والشعوب معاً في كلمة «العالم» دون أن يحدد ماضياً له أو مستقبلاً، لكي ينضوي تحت لواء عمل الحمل كل إنسان, كان من كان- في كل العالم.
تفسير القمص تادرس يعقوب
“وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه،
فقال: هوذا حمل اللَّه الذي يرفع خطية العالم” )29).
في شهادة يوحنا له نلاحظ الآتي:
v أنه حمل الله فقد اعتادت البشرية أن تقدم الذبائح لله لمراضاته. أما هنا فالذي يُعد الذبيحة هو الله الآب نفسه الذي يقدم ابنه الوحيد ذبيحة.
v أنه ذبيحة كفارة أو ذبيحة إثم، قادرة بالحق أن ترفع الخطايا، وليست ظلاً أو رمزًا كالذبائح الحيوانية.
v يمتد عملها إلى البشرية كلها. هذا ما كان غريبًا عن الفكر اليهودي، إذ يقول Yalcut Rubeni على سبيل المثال: سوف يحمل المسيا خطايا الإسرائيليين”. أما أن يمتد إلى العالم كله، فهذا ما لا يقبله اليهود.
هنا هو اللقاء الثاني بين شخص السيد المسيح والسابق له يوحنا المعمدان. أما اللقاء الأول فيرويه لنا لوقا الإنجيلي (لو ١: ٣٩-٤١) حيث التقى الجنين الذي في أحشاء القديسة مريم بالجنين في أحشاء القديسة اليصابات. وقد قدم لنا العلامة أوريجينوس نوعًا من المقارنة بين اللقاءين.
أولاً: في اللقاء الأول سكب المسيا وهو جنين في بطن أمه نوعًا من مجده على الجنين يوحنا المعمدان، حتى حمل نوعًا من الشبه، لذلك لم يستطع البعض التمييز بين الأصل والصورة. فحسب البعض يوحنا هو المسيا (يو ١: ٢٠)، وظن آخرون السيد المسيح يوحنا قائمًا من الأموات (لو ٣: ٥؛ مت ١٤: ٢؛ مر ٦: ١٤).
ثانيًا: إن كان المسيح هو الكلمة ويوحنا هو الصوت، فقد كان هذا الصوت عاليًا في أحشاء اليصابات حين امتلأت بالروح القدس عند سماعها تحية مريم، فصرخت بصوتٍ عالٍ وقدمت شهادتها (لو ١: ٤٢). وكما يقول العلامة أوريجينوس [هذا هو السبب الذي لأجله ركض يوحنا وصارت الأم كما لو كانت الفم ونبية عن الابن (الكلمة) عندما صرخت بصوت عالٍ وقالت: “مباركة أنتِ في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنكِ” (لو ١: ٤٢)].
يتساءل العلامة أوريجينوس لماذا دُعي المخلص حملاً مع أن ذبائح العهد القديم هي ثلاثة أنواع من الحيوانات ونوعان من الطيور: الثور، الحمل، الماعز، يمامتان، فرخا حمام (لا ٥: ٦ – ٧، ١٨). يجيب على ذلك بأن خروفين حوليين كانا يُقدمان كل يوم دائمًا، واحد كتقدمة صباحية دائمة، والآخر كتقدمة مسائية دائمة. [أية ذبيحة دائمة يمكن أن تكون روحية تقدم للكائن الروحي أفضل من الكلمة في أولويته، الكلمة الذي يُدعى رمزيا “الحمل” الذي أُرسل حتى تستنير النفس (لأن هذه هي الذبيحة الصباحية) وترفع أيضًا في نهاية (المساء) وقت العقل المنشغل بالأمور السماوية؟] هكذا نبدأ فجر حياتنا بذبيحة الحمل لنقضي يومنا كله مشغولين بخلاصه حتى يحل مساء عمرنا، فننعم بذات الذبيحة التي تحملنا إلى يومنا الجديد، الأبدية التي لا تنقطع، فنراه في السماء مع القديس يوحنا الحبيب: “الحمل كأنه مذبوح” (رؤ ٥: ٦).
v ماذا يلزمنا أن نفهم، وأية عظمة لحمل الله الذي ذُبح لكي يرفع الخطية ليس عن قليلين بل عن كل العالم (٢٩)، الذي من أجله تألم؟ “لأنه إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا العالم أيضًا” (١ يو ٢: ١-٢). إذ هو مخلص كل بشر ولاسيما المؤمنين (١ تي ٤: ١٠). إنه هو الذي محا الصك الذي كان علينا بدمه، ورفعه من الوسط، فلم يعد أثر للخطايا التي وُجدت بل مُحيت، مسمرًا إياها على الصليب، هذا الذي إذ جرد الرئاسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم في الصليب (كو ٢: ١٤-١٥). هكذا تعلمنا أن نكون فرحين حينما نتألم في العالم. نتعلم علة فرحنا، وهو أن العالم قد انهزم (يو ١٦: ٣٣). وبالتأكيد خضع لمن غلبه. لهذا كل الأمم تتحرر ممن سيطروا عليهم، وصاروا يخدمونه، إذ ينقذ الفقراء من الجبار وذلك بقوة آلامه، ويخلص المسكين الذي لا معين له (مز ٧٢: ٤-٥).
v صار حمل الله حملاً صغيرًا بريئًا يُقاد للذبح لكي ينزع خطية العالم (إش ٥٣: ٧؛ يو ١: ٢٩). الذي يهب الكلام (الكلمة) للكل صار مقارنًا بحملٍ صامتٍ أمام جازيه (إش ٥٣: ٧)، لكي نتطهر نحن جميعًا بموته، الذي يُوزع كدواءٍ ضد تأثيرات العدو، وضد خطية الذين يشتاقون إلى قبول الحق. فإن موت المسيح أبطل القوات المقاومة للجنس البشري، وأباد بسلطان لا يوصف الحياة في الخطية في حياة كل مؤمن.
v إذ عمده يوحنا مع كثيرين (آخرين) فلئلا يظن أحد أنه أسرع إلى يوحنا بذات الهدف مثل البقية، أي يعترف بخطايا، ويغتسل في النهر للتوبة، لهذا أعطي ليوحنا الفرصة ليقدم الرأي السليم مرة أخري بالقول: “هوذا حمل الله الذي ينزع خطايا العالم“، فيزيل كل شكٍ.
من الواضح تمامًا أن الذي هو طاهر هكذا حتى يستطيع أن ينزع خطايا الآخرين، لا يأتي لكي يعترف بخطايا، بل ليعطي فرصة لذاك المذيع العجيب أن يعلن ما قاله قبلاً بأكثر تحديد لمن سمعوه قبلاً، كما يسمعه آخرون أيضا.
استخدم كلمة “هوذا” لأن كثيرين بحثوا عنه، لهذا السبب الذي يقوله (يحمل خطاياهم) ولمدة طويلة. لهذا أشار إليه عند حضوره، قائلاً: “هوذا” الذي تبحثون عنهم زمانًا طويلاً، إنه “الحمل”.
دعاه حملاً، مُذكرًا اليهود بنبوة إشعياء النبي التي تقول: “ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه” (إش 53: 7).
ذكرهم بالظل الذي تحت ناموس موسى، لكي يقودهم إلى ما هو أفضل، من الرمز إلى الحقيقة. حمل موسى لم ينزع للحال خطايا أحد، أما هذا فيزيل خطايا كل العالم. كان العالم في خطر الدمار فأسرع إليه وخلصه من غضب الله.
v لا تخجل من صليب مخلصنا بل بالأحرى افتخر به. لأن “كلمة الصليب عند اليهود عثرة، وعند الأمم جهالة”، أما بالنسبة لنا فخلاص (1 كو 2:1، 3). إنه عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهو قوة اللَّه (1 كو 18:1،23). لأنه كما سبق أن قلت أنه لم يكن إنسانًا مجردًا ذاك الذي مات عنا، بل هو ابن اللَّه، اللَّه المتأنس.
بالأحرى إن كان الحمل في أيام موسى جعل المُهلك يعبر، أفلا ينزع عنا خطايانا ذاك الذي هو حمل اللَّه الذي يرفع خطايا العالم؟!
دم الخراف غير الناطقة وهب خلاصًا، أليس بالأحرى دم ابن اللَّه الوحيد يخلص؟!
من ينكر قوة المصلوب فليسأل الشياطين!
من لا يؤمن بالكلام فليؤمن بما يرى، فكثيرون صُلبوا في العالم، لكن الشياطين لم تفزع من واحدٍ منهم، لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذي صُلب عنا يُصعقون، لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب آثامهم، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الآخرين… “لأنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش” (إش 9:53، 1 بط 22:2). لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. لكن إشعياء قال أيضًا، ذاك الذي لم يكن حاضرًا معه بالجسد لكنه تنبأ بالروح عن مجيئه بالجسد.
ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا؟ فها هو بيلاطس نفسه الذي حكم عليه يقول: “لا أجد في هذا الإنسان علة” (لو 23:14) ولما أسلمه غسل يديه قائلاً: “أنا بريء من دم هذا البار”.
هناك شهادة أخرى عن يسوع البار الذي بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس، إذ بكَّت زميله منتهرًا إياه قائلاً: “أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله (لو 23:41)، لأن كلينا تحت قضائه.
v “الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سمع في أرضنا” (نش 2: 12).
يقول العريس: “انظروا فان المروج مزدهرة بأزهار الفضيلة. هل ترى هذا النقاء في جمال النرجس العبق؟ هل ترى ورد التواضع والبنفسج الذي يمثل رائحة السيد المسيح الذكية؟ لماذا إذن لا تعمل تاجًا من هذه الزهور؟ فهذا هو موسم قضب الزهور. لتعمل فرع تاج لتزين بها نفسك. قد حلّ موسم التقليم. يشهد بذلك صوت اليمامة أي أنه يشبه “صوت صارخ في البرية” (متى 3:3)، فيوحنا المعمدان هو اليمامة. هو الذي تقدم هذا الربيع المنير الذي أنبت لبنى البشر الزهور الرائعة للقضب، وقدمها لكل من رغب في جمعها. إنه هو الذي بيّن لنا الزهرة التي من أصل يسى (إش 1:11)، “حمل الله الذي يحمل خطية العالم” (يو 29:1). وهو الذي أوضح لنا التوبة عن الخطية، والحياة حسب الفضيلة. يقول النص: “سُمع صوت اليمامة في أرضنا”، وهي تنادى: “يا أرض” تنادي هؤلاء الذين أُدينوا لخطيتهم، هؤلاء الذين يطلق عليهم الإنجيل “العشارين والزناة”، سمعوا صوت يوحنا المعمدان، بينما لم تقبل البقية تعاليمه.
v “أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان” (نش 6:4)…
خلصت الطبيعة البشرية ومن وصمة الخطية بعد أن رفع حمل اللّه خطية العالم وحطم الإثم (يو 29:1). لذلك يقول النشيد: “كلك جميل يا حبيبتي، ليس فيك عيبة” ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ (نش 6:4)، ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. أن الذي يشارك المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه سينال معه المجد (رو 17:8). وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيب بغيض بواسطة المسيح ومن خلال المسيح ينفصل عن الخطية. إنه مات وقام من الأموات لأجلنا، وله المجد والقوة الآن وإلى الأبد آمين.
القدديس غريغوريوس النيسي
v “هوذا حمل اللَّه“. إنه ليس بفرعٍ ممتدٍ من آدم، إنما استمد منه الجسد ولم يأخذ خطية آدم. إنه لم يأخذ الخطية عليه من العجين الذي لنا، إنما هو الذي ينزع خطايانا.
v النزع (للخطية) يعمل في كل واحدٍ في العالم حتى تُمحى الخطية من العالم كله، ويسلم المخلص مملكة معدة (١ كو ١٥: ٢٤) للآب، ليس فيها خطية ما قط، مملكة تسمح بحكم الآب وتأتي بالكل إلى الله بكاملها، فيتحقق القول “يكون الله الكل في الكل” (١ كو ١٥: ٢٨).
v نؤمَر بذبح الحمل في العشية (خر 12: 6)، حيث أتى الحمل الحقيقي، مخلصنا، إلى العالم (يو 1: 29) في الساعة الأخيرة (1 يو 2: 18).
v كل إنجيل يجلب فرحًا بسبب صالح.
v المسيح هو الصلاح الذي كان ينتظره الشعب.
v لنتأمل في نفع الإيمان المستقيم. إنه نافع لي أن أعرف أنه من أجلي احتمل المسيح ضعفاتي، وخضع لعواطف جسدي. ومن أجلي، أقول من أجل كل إنسانٍ، صار خطية ولعنة (2 كو 21:5؛ غلا 13:3)، من أجلي وفي تواضع وخضوع. ومن أجلي هو الحمل والكرمة والصخرة (يو 36:1؛ 1:15؛ 1 كو4:10)، والعبد وابن أمة (مر 45:10؛ يو 4:13، 5؛ مز 16:86؛ 14:116، يو 38:1)، وغير عارف ليوم الدينونة، من أجلي جهل اليوم والساعة (مت 36:24) .
ماذا يُقصد بالعالم؟
يميل العلامة أوريجينوس الذي يؤمن بخلاص كل البشرية أن العالم كله سيخلص معتمدًا على قول الرسول بولس: “لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله الحي الذي هو مخلص جميع الناس، ولاسيما المؤمنين” (١ تي ٤:١٠). غير أن الرأي السائد في الكنيسة في أيامه غالبًا ما كان يقصد بالعالم هنا العالم الذي استنار بالمخلص فصار كنيسته المقدسة بدمه. وقد عبر عن ذلك العلامة أوريجينوس بقوله: [يرى البعض أن العالم يعني الكنيسة وحدها، بكونها زينة العالم. إذ قيل أيضًا أنها نور العالم، إذ يقول الكتاب: “أنتم نور العالم” (مت ٥: ١٤). الكنيسة هي زينة العالم حيث أن المسيح الذي هو نور العالم الأول هو زينتها… ليته يُقال عن الكنيسة أنها العالم المستنير بالمخلص].
في تسبحة الملائكة في صلاة (تسبحة) باكر نترنم قائلين: “يا حمل الله، يا حامل خطية العالم ارحمنا”. يرى البعض إنها من أقدم التسابيح في الشرق والغرب. ففي الغرب قبيل التناول يرددون: “يا حمل الله الرافع خطية العالم، ارحمنا”.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (29): “وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلًا إليه فقال هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم.”
هوذا= تقال للفت الأنظار لشخص عجيب أو ضالة كان ينشدها أحدهم فوجدها. ونفهم أن المسيح سبق وأتى للمعمدان ليعمده، وهذا ما ذكره متى ومرقس ولوقا ربما في اليوم السابق لهذه الآية. وفي خلال المعمودية رأى المعمدان ما رآه من انفتاح السماء للمسيح. والآن يرى المعمدان المسيح فيعرفه ويشير له أنه حمل الله. وترتيب الحوادث في هذا الأسبوع الذي بدأ فيه المسيح خدمته:-
1- أتي المسيح للمعمدان ليعمده.
2- ذهب للبرية ليجرب من إبليس.
3- أتى للمعمدان في هذا اليوم ليشهد له.
4- بدأ في اختيار تلاميذه.
ونلاحظ تكرار كلمة في الغد هنا 3 مرات (آيات 29 ، 35 ، 43)، فيوحنا الإنجيلي يتابع المسيح يوماً بيوم في أول أسبوع لخدمته.
في الغد الأولى (آية29) :- يوحنا المعمدان يشهد للمسيح.
في الغد الثانية (آية35) :- يوحنا المعمدان يحول تلاميذه للمسيح بعد أن أعدهم.
في الغد الثالثة (آية43) :- المسيح يبدأ في اختيار تلاميذه.
وكما أن (تك1) يتابع الخليقة القديمة يوماً بيوم. هكذا في بداية الخليقة الجديدة يتابع يوحنا أعمال الخالق يوماً بيوم في تكوين كنيسته خليقته الجديدة. وفي الغد هنا تعني غد يوم أرسل اليهود البعثة لتسأله. نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً = أتى يسوع بعد أن انتصر على إبليس ولكن لماذا أتى؟! المسيح في بدء خدمته يحتاج شهادة وإعلان حتى يعرفه الناس فهذه اللحظة هي لحظة تسليم وتسلم، المسيح أتى للمعمدان ليعطيه فرصة أن يشهد له ويستلم المسيح تلاميذه الذين أعدهم له المعمدان مثل يعقوب ويوحنا ابنا زبدي وبطرس وأندراوس. هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ …= قالها المعمدان بروح النبوة، إذ رأي مجمل الفداء في لحظة. هذه أوضح شهادة عن المسيح قدمها إنسان، لكنه إنسان مملوء بالروح الذي فتح عيني قلبه. وقوله حمل الله أي المعين من الله والمقدم كذبيحة مقبولة من الله. وربما كانت عين المعمدان وهو يقول هذا على خروف الفصح أو الحمل الذي يقدم كذبيحة صباحية وذبيحة مسائية. واسم الحمل يدل على غفران المسيح ووداعته ولطفه وحنانه وتسليمه [فالحمل صامت وديع. لا يفتح فاه أمام من يجزه (إش7:53)] .
خطية العالم= قالها بالمفرد لتشير للمعنى الكلي للخطايا، ولأصل الخطايا ومبدأها ونبعها. والمسيح قدم الخلاص لكل العالم ولكن من يخلص هو من يؤمن ويعتمد (مر16:16). يرفع= جاءت في المضارع بمعنى يرفع ويظل يرفع خطايا العالم (1يو5:3) ويوحنا شعر بأن معموديته لا ترفع خطايا الناس بل هذا الحمل سيرفعها، بل هو سينهي سطوتها (رو14:6+ رو3:8).