يو9: 2 …يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟

 

1وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، 2فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟». 3أَجَابَ يَسُوعُ:«لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَأَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ. 4يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. 5مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ».” (يو9: 1-5)

+++

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

 

“فسأله تلاميذه قائلين:

يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟” [2]

خرج السيد المسيح من الهيكل (يو ٨: ٥٩)، وكان في رفقته تلاميذه الذين لم يتركوه في تجاربه، فتمتعوا بالتعرف عليه، ونالوا خبرات جديدة فائقة. لاحظوا أن عينيه تتطلعان إلى الأعمى المسكين، ولم تكن نظرات عادية، بل نظرات عمل مملوءة حبًا. فتحولت نظراتهم هم أيضًا إلى المولود الأعمى، وعوض السؤال من أجله لشفائه قدموا استفسارًا عن علة ميلاده أعمى.

v إن قلت: من أين جاءوا بهذا السؤال؟ أجبتك: لما شفي السيد المسيح المفلوج قبلاً قال له: “ها أنت قد برئتk فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر” (يو 5: 14). فهؤلاء إذ خطر ببالهم أن ذاك قد أصاب الفالج جسده لأجل خطاياه، إلا أن هذا القول لا ينبغي أن يُقال عن هذا الأعمى، لأن من مولده هو أعمى. فهل أخطأ والداه؟ ولا هذا القول يجوز أن يُقال، لأن الطفل لا يتكبد العقوبة من أجل أبويه… لقد تحدث التلاميذ هنا لا ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حيرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كان القول الرباني (المنسوب للربيين) المشهور: “ليس موت بدون خطية، ولا ألم بدون شر”. وقد حاول الربيون تبرير ذلك بما ورد في حز ١٨: ٢٠؛ مز ٨٩: ٣٢. وقد ثبت هذا القول في أذهان اليهود، من بينهم تلاميذ السيد المسيح الذين لم يسألوا إن كان هذا العمي بسبب الخطية أم لا، ففي نظرهم هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال أو مناقشة، إنما جاء السؤال عمن أخطأ حتى حلت الكارثة المرعبة بهذا الشخص. ما أربك التلاميذ أنه كيف يكون قد أخطأ قبل ولادته حتى يُولد هكذا، ألعل هذا بسبب خطية والديه؟ وما ذنبه هو مادامت الخطية ارتكبها أحد الوالدين؟

لقد اعتقد البعض أن نفس الإنسان قد تكون أخطأت قبل أن تلتحف بالجسد، كما اعتقد العلامة أوريجينوس أن البعض يعانون آلامًا قبل أن يمارسوا خطأ بعد ولادتهم. ولعل البعض اعتمد على المنطق البشري لتبرير العدالة الإلهية، كيف يُولد أناس فقراء وآخرين أغنياء، أو يولد شخص حاد الذكاء وآخر ينقصه الذكاء، أو شخص قوي البنية وآخر مصاب بأمراض كثيرة. هذا وقد اعتمد البعض على تأكيد إمكانية ارتكاب الخطأ قبل الولادة مما قيل عن يعقوب وعيسو وهما في الرحم: “وتزاحم الولدان في بطنها” (تك ٢٥: ٢٢).

وجاء في كتابات الربيين عما يحل بالأبناء بسبب أخطاء الوالدين. قال أحدهم في التزام الرجل ألا يحملق في امرأة: “من يتطلع إلى عقب امرأة سيولد له أطفال معوقين”. وقال آخر أن هذا يحدث لمن يعاشر زوجته أثناء الطمث. وقال آخر أن من يمارس العلاقات الزوجية أثناء وجود دم (فترة الطمث) سيكون له أطفال يعانون من مرض الصرع. وقد وردت أقوال مشابهة كثيرة تبرز في اقتناع الربيين بأن أخطاء الوالدين يُعاقبون عليها بتشوهات خلقية في أبنائهم، يعاني منها الأبناء مدى الحياة.

هذا يوضح أن ما قاله التلاميذ لم يكن من وحي خيالهم، بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليهود خلال تعاليم الربيين وكتاباتهم.

يظن البعض أن التلاميذ سمعوا عن بعض الأفكار الفيثاغورية Pythagrean التي كانت تنادي بالوجود السابق للنفس. ولعل الفريسيون حملوا ذات الفكر عندما قالوا للمولود: “في الخطايا وُلدت أنت بجملتك” [٣٤].

تعتقد كثير من الشعوب الآسيوية في تناسخ الأرواح، ولا تزال الهندوسية تهتم أن تحدد خطية الشخص التي ارتكبها حين كان في جسم آخر قبل ميلاده. اقتبس العلامة أوريجينوس عن كتاب العبرانيين غير القانوني حديثا ليعقوب يقول فيه: “أنا ملاك الله، أحد الرتب الأولى للأرواح. يدعوني الناس يعقوب، وأما اسمي الحقيقي الذي يعطيني الله إياه فهو إسرائيل. يعتقد أفلاطون أن الهواء مملوء بالأرواح، والبعض بسبب نزعاتهم الطبيعية الحيوية يربطون أنفسهم بأجسام، والآخرون يبغضون مثل هذا الاتحاد”.

فاصل

تفسير الأب متى المسكين 

 

1:9- 3 وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ. فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ».

«من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى»:

سؤال يحير العالم كله قديما وحديثا. ولكن إذا أخذنا بالعناصر الأساسية في موضوع الخطية والألم والعقاب، ربما نصل إل أن حل السؤال ليس هيناً. فهو سؤال مبتور، له أصول وفروع، وبداية واحدة ونهايات لا حصر لها.
‏البداية هي الخطية التي دخلت عالم الإنسان ودخل معها العقاب والألم والموت. أما الأصول التي ترتبت على دخول الخطية فمنها الطبيعي مثل:
1- أن الإنسان فقد وضعه الروحي وعشرته مع الله، التي كانت تحجب عنه عوامل الطبيعة المؤذية التي وقع فريسة لها: من مؤذيات حيوانية وحشرية وطفيليات وبكتريا وفيروسات لا حصر لها، بالإضافة إلى المؤذيات النفسية من جور الإنسان والظروف المحيطة.
2- عوامل الزمن الذي يتعاهد مع المؤذيات الأخرى في سرعة شيخوخة خلايا الإنسان، ‏لترجيح كفة الهدم على كفة البناء في فثيولوجيا أعضاء الإنسان، حتى يقع صريعا للمرض والشيخوخة ثم الموت.
3- عوامل المعيشة، إما في بذل الجهد الزائد للحصول على لقمة العيش، حيث بيلغ الجهد فوق طاقة احتمال أجهزته العصبية والنفسية، فيمرض الإنسان ويتألم ويموت. وإما بعدم بذل الجهد اللازم، فيجوع الإنسان ويتألم ويمرض ويموت. وإما لا جهد بالمرة، فتتلف أجهزة الإنسان ويمرض ويتألم ويموت.
4- عوامل كونية يتأثر بها الإنسان أشد التأثر، مثل البراكين والزلازل والحرائق الطبيعية والأوبئة والحروب والجفاف والحرارة والبرودة والمجاعات بأسبابها الكثيرة، ويستحيل على العالم أن يوجد بدونها، فهى لوازم كونية تجدده بأكثر مما تضره. فإن كان الإنسان قد وقع تحتها لأنه خرج بحريته من حضرة الله الحافظة له. فالله لا يلام في ذلك؛ إلا أن هذه الآلام الطبيعية جزء لا يتجزأ من تاريخ تطور حياة الإنسان إلى أفضل.
‏ولكن هناك أنواع من الآلام يجرها الإنسان على نفسه وعلى غيره ويتحمل عواقبها وأضرارها الشديدة: كأن يأكل ما يضره سواء في الكم أو النوع, أو يشرب ما يؤذيه كالخمروغيرها, أو يتعاطى المخدراا بأنواعها, أو يعاشر المرضى بأمراض جنسية، فتجر عليه أنواعا من الأمراض والألام, لا قبل له بها، بل وتتسبب في توريث نسله أنواعا من العاهات لا حصر لها. فالسيدات الحوامل إن هن تعاطين هذه المؤذياا ولدن أطفالا مشوهين بكل أنرع التشورهات الجسدية، ومنها العنى والخرس والصمم والشلل، الذي أصيب به ملايين البشر.
‏ولكن هناك أنوع مماثلة تماما لمثل هذه التشوهات يولد بها الأطفال، ولم يكن الإنسان سببا فيها سواء من جهة الأب أو الأم، حيث تكون التوليفات الجينية في خلايا الجنين فاقدة لعناصرها السليمة المطلوبة، وهذه تُحسب كإخفاقات في قوانين البيولوجيا الوراثية. وهذه تُحذف من مسئولية الإنسان لتضاف لحساب مسئولية الله، مثل حالة هذا الإنسان المولود أعمى الذي لم يسأل المسيح ولا سأل التلاميذ أن يُشفى, بل إن المسيح تقدم من نفسه لشفائه إذ حمل مسئولية عمى هذا الأعمى. لهذا قال لتلاميذه: «لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه»، أو بوضوح أكثر: ليظهر نموذج عمل الله فيه!!
‏ولكن لا يزال السؤال المحير: ما ذنب هذا الأعمى وغيره من الذين وُلدوا مشوهين لأي سبب كان: لماذا يتألمون ويعانون من الحزن والأسى والحرمان, مما يجرح نفوسهم ويعصر مشاعرهم، ويلازمهم الأنين واجترار المرارة كل أيام حياتهم؟؟
‏لقد قلنا إن السبب المباشر لهذه التشوهات هو إخفاق في قانون التحام الجينات والمواريث، وقلنا إن الله يتحمل مسئولية هذه الإخفاقات؛ وبالفعل فإننا نجد أن الطبيعة تتبرع من جهتها بعملية تعويض تساوي النقص الذي هي متسببة فيه، كما يتبرع الله من جهته بعملية تعويض تفوق النقص وكل ما ينتج عنه من الألام مئات المرات!!
‏تعويض الطبيعة: ‏قبل كل شيء يلزم أن نعرف أنه لا يوجد في الخليقة أو المخلوقات جميعاً قانون لا يقبل الخطأ, فالخطأ في قانون الطبيعة هو قانون. لأنه لا يوجد الكمال المطلق إلا في الله. وكل قاعدة لها استثناء، والاستثناء يثبت القاعدة. ولكن لكي تحمي الطبيعة نفسها من امتداد الخطأ، فإنها تقوم بتعويضه لكي تتلافى ‏طغيانه, ولكي تثبت القاعدة. فإذا وُلد مخلوق ناقصا في تكويناته العضوية لسبب طبيعي، فإن القوة الشاملة المخصصة لأعضائه تتوزع على باقي أعضائه، فتزداد باقي أعضائه كفاءة عن معدلها الطبيعي. فلو أخذنا مولوداً فاقد البصر، فإن حواسه الأربعة الباقية تزداد كفاءتها لتصبح كفاءة الأربع الحواس تساوي كفاءة خمس حواس عادية. ولكن قد تحتاج هذه الزيادة إلى تمرين أو تشجيع أو صبر لكي يظهر إمتيازها. وهكذا إذا فقد حاستين أوثلاثا, أو حتى أربعا!! كما سمعنا عن الأنسة هيلين كيلر الواعظة والمبشرة العالمية التي كانت لا تملك من الحواس جميعا سوى حاسة اللمس.
‏ولكن ليس هذا هو باب التعويض الوحيد في الطبيعة. فالطبيعة سبق وأن احتاطت لمثل هذه النقصانات في كيان الأفراد، بأن أضافت إلى باقي المجتمع الحيواني والإنساني, بوجه خاص وفائق, امتيازات إضافية للأصحاء تفوق حاجتهم. فالأم الصحيحة بوجه عام استودعتها الطبيعة من الحنو والعطف والصبر والاحتمال, وكل مواهب الأمومة بوجه عام, ما يفوق حاجة تربية أولادها مهما بلغوا من الكثرة. فتوجد أمهات ممتازات في أمومتهن تستطعن، إذا شئن، تربية مائة طفل أو مائتين أو ربما ألفا من الأطفال. كل هذا منحته الطبيعة لأولئك, احتياطا لتلافي عجز أمهات أخريات، أو تيتم أولادهن، أوتشوه أولاد آخرين. ومثل الأم كذلك الأب، إذ يوجد آباء لهم مواهب فائقة للغاية. فإذا جمعنا المواهب الممتازة والفائقة عن الحاجة في الطبيعة، لوجدناها في جملتها على أقل تقدير تساوي العجز المتولد من إخفاقات قوانينها!!
‏وبهذا يمكن تبرئة الطبيعة من أخطاء قوانينها، على أساس قانون التعويض الاحتياطي. وأصبح على الإنسان المعوق بأي تشويه أن يطالب الطبيعة بحقه بالكامل، على أساس التعويض فيما بقي له من أعضاء وإمكانيات، وذلك بالجهد والمجاهدة، والتمرين والمراس، والصبر، وروح الإنتصار. كما أصبح على الجتمع الإنساني أن يفرز مواهبه الممتازة والزائدة لخدمة وتعويض أعضائه المحرومين، سواء بالعلم الحديث, أو فنون التأهيل التي بلغت آفاقأ مذهلة بواسطة التكنولوجيا الحديثة. والأمثلة الناجحة في تطبيق هذا المبدأ تملأ الأقطار وتبرهن على صحة هذا الكلام.
‏تعويض الله: في البدء يلزم أن نفهم أن الحياة هبة من الله مُعطيها، والهبة لا تصبح حقا لمن أُعطيت له. فهي هبة، وتظل هبة، إلى أن تعود إل الله واهبها. وبالتالى فإن كل أجهزة هذه الحياة من صحة جسدية ونفسية بكل أعضاء وحواس الإنسان، هي كذلك هبة؛ أي أنها ليست حقا من حقوق الإنسان، إذا أخذها بالكامل؛ أما إذا نقص شي ء منها، فهذا ليس سلبأ لحق من حقوقه. لذلك أصبح على الكامل أن يشكر فيما وُهب له وإلا يؤخذ منه، كما أصبح على الذي افتقد شيئا من أعضائه أن يشكر على ما أُخد وإلا يفقد ما بقي.
‏هذا بالنسبة للانسان تجاه الله. أما بالنسبة لله تجاه الإنسان، فالله هو بمثابة الوالد للانسان ولا يزال يحمل همه، يرضعه الحياة قطرة قطرة، كما ترضع الأم طفلها ليعيش. والله يحس بأحاسيس الإنسان، وليس ذلك فقط بل ويشارك الإنسان في أحاسيسه: «في كل ضيقهم تضايق وملاك ‏حضرته خلصهم.« (إش9:63)
‏فإذا كان الأب أو الأم يعتني بولده أو تعتني بولدها المعوق والضعيف أكثر من السليم المعافى، فهذا هو امتداد لصفة الله، وصدى عمل طبيعته في الإنسان. هنا يصعب علينا سرد مراحم الله وحنانه ولطفه وإحسانه على الضعفاء والمعوقين، كما يصعب علينا تحديد أنواع مراحمه، وأنوع وألوان حنانه لكل إنسان حسب حالته واحتياجه، يكفي أن نؤكد من واقع آية إشعياء السالفة وغيرها أن ملاكأ خاصا مرسلاً من الله يعين هؤلاء الضعفاء والمتضايقين في كل ضيقهم: «في الضيق دعوت فنجيتك» (مز7:81)، «معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده.» (مز15:91)
‏والسؤال هو: هل الأفضل للانسان أن يكون الله بنفسه هو العامل عوض العضو الناقص في الإنسان، أم تكون الأعضاء كلها بدون الله؟ ثم بعد هذا، هل يمكن أم نوازن بين حزن الأعمى على فقدان بصره، وبين فرحه بحضور الله في حياته ينيرها ويهبها بصيرة تفوق كل أعوازه؟ وأيضاً بعد هذا كله, يتحتم علينا وعلى كل معوق أو مشلول أو ضعيف أو من فقد قليلا أو كثيرا من مقومات الحياة الحاضرة بسنينها القليلة والشحيحة، أن يعلم أن حياة أخرى مفتوحة أمامنا بكل مباهج الروح, في ملء كمال حضور الله، وغنى نعمته المتفاضلة، ليس فيها حزن ولا كآبة ولا تنهد فيما بعد.
‏لذلك، فحينما تقدم الرب من تلقاء نفسه ليشفي المولود أعمى، ثم بعد ذلك يُعد له مقابلة في الهيكل حيث يدعوه للايمان بابن الله، فيؤمن، ويسجد له، فما هذا إلا آية ونموذج رائع لموقف الله, في النهاية, من المعوق أيا كان.

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

 

“وفيما هو مجتاز رأى إنساناً أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه قائلين يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى. أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي أن اعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دمت في العالم فأنا نور العالم.”

من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلِدَ أعمى= فاليهود يرجعون كل مرض وكل عاهة تصيب الإنسان إلى خطية قد إرتكبها وبسببها يعاقب، أو خطية لأبواه وينال هو جزاؤها، أو خطية إقترفها هو ذاته في حياة أخرى عاشها قبل ولادته في هذه الحياة بمقتضى عقيدة تناسخ الأرواح أي العودة إلى التجسد، التي كانت شائعة في ذلك الوقت في بلدان الشرق الأوسط ولا سيما في مصر وفلسطين والهند. ولذلك قال الفريسيين للأعمى بعد أن شفي “في الخطيئة ولدت أنت بجملتك” (34:9). فالفلسفات نشرت فكرة تناسخ الأرواح وأيضاً فهم اليهود الخاطئ للآية “يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء حتى الجيل الثالث والرابع” جعلهم يتصورون أن الله قد يعاقب مولود نتيجة أخطاء أبويه. ومع أن الله صحح هذا المفهوم (حز4:18) إلاّ أن الفكرة ظلت مستمرة ومعنى أن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، أن الله يبحث في الأبناء.. هل خطيا أبائهم مازالت موجودة.. حينئذ يعاقب. وهو قال الجيل الثالث والرابع حين تكون الخطية صارت شائعة فتكون العقوبة عامة. ولاحظ أنه لم يقل أعاقب الأبناء بل أفتقد أي أبحث هل الخطية مازالت موجودة. ولكن في بعض الأحيان ينشأ طفل بمرض ناتج عن خطية أبواه وذلك مثلاً من أمراض النجاسة، أن أب ينهك صحته فيخرج إبنه ضعيفاً (حز5:20+7:34+ تث9:5). والمسيح لم يجب عن هذا السؤال ليتركنا نفكر ليس عن سبب الألم الذي نحن فيه ولكن كيف نحول الألم لعمل إلهي. والمسيح لم يلغي أن هناك علاقة بين الخطية والمرض فمن المؤكد أن هناك علاقة ولكن من العسير أن ندركها نحن بعيوننا فلا يصح أن نقول على كل متألم أنه متألم نتيجة خطيته. علينا أن لا نفكر فيمن أخطأ بل نصلي للمتألم ولكن من السهل أن نؤمن أن كل شئ يؤول إلى مجد الله فكل الأمور تعمل معاً للخير للذين يحبون الله. وكون أن هناك علاقة بين المرض وبين الخطية يتضح من قول المسيح لمقعد بيت حسدا “لا تخطئ فيكون لك أشر” أنا نور العالم= المسيح هو المرسل (سلوام تعني المرسل). فهذه البركة تشير لشخص المسيح الإلهي فهو المرسل من الآب لخلاص البشر. وهذه البركة كانت ترمز في النبوات إلى عرش ومملكة بيت داود (أش6:8+ نح15:3+ لو4:13) فالنبوات كانت تقول عن المسيح أنه مرسل من الله. والمسيح هو نور العالم ومازال موجوداً في العالم ولن يفارقه، ويعطي نوراً وإنفتاحاً لكل إنسان يؤمن. هو جاء ليكمل عمل الخليقة بإعطائها عيون روحية بدلاً مما فقدتها بالخطية ورافعاً حجاب الظلمة الذي كان يحجز رؤية الإنسان لله. هو يعطي نوراً للعالم وبصيرة في قلب الإنسان. وبين هذا عملياً بشفاء الأعمى. أعمل أعمال الذي أرسلني= في كل عمل أو معجزة يقوم به المسيح فهو يستعلن محبة الله لنا وإرادته من نحونا فهو يفتح عيني الأعمى ليعلن أن إرادة الله الآب هي أن نبصر ويقيم لعازر ليعلن أنه يريد لنا القيامة والحياة. ما دام نهار= ما قبل المسيح كان ليل يغطي الإنسان إذ فقد رؤيته لله وحين جاء المسيح نور العالم صار نهار والمسيح صنع معجزات شفاء كثيرة وعلَّم تعاليم محيية طوال فترة وجوده بالجسد على الأرض والمعنى المباشر الذي يقصده السيد، أنه طالما أنا في الجسد فلأعمل أعمال شفاء لتؤمنوا. ونحن لازلنا نستمتع بنهار المسيح فهو مازال معنا “ها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر” (مت20:28) وهو يعمل مع كل واحد ليفتح بصيرته قبل أن يأتي ليله، وليل الشخص يعني يوم موته وهناك ليل عام وهو يوم الدينونة حين تنتهي فرصة كل إنسان خاطئ أعمى من أن يستنير بنور المسيح. (فلننتهز الفرصة مادام نهار قبل أن نموت). ما دمت في العالم فأنا نور العالم فالمسيح لنا هو نور الحياة، هو يضئ في ظلمة حياتنا. ينبغي أن أعمل= المسيح مشتاق أن يعمل، ويغير طبيعتنا إلى الخليقة الجديدة. فلنسلم له حياتنا طالما نحن أحياء (مادام هناك نهار). ما دام نهار= المقصود به وقت العمل. أما الليل فهو التوقف عن العمل إذاً النهار هو حياة المسيح على الأرض بالجسد قبل صلبه.

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى