ذهباً ولباناً ومراً

المخلوق يقدم للخالق

مع أن الله هو المُعطي ، و المُعطي للكل ، لأنه مصدر كل خير ، إلا أننا كثيراً ما نري المخلوق يعطي للخالق ! ففي قصة الميلاد قدم المجوس للمسيح هدايا ذهباً و لباناً و مراً.

ولم يكن المجوس الوحيدين الذين قدموا للمسيح .
ففي معجزة إشباع الجموع قدم له طفل خمس خبزات و سمكتين …
و في قصة القيامة نري النسوة قد قدموا له الحنوط و الأطياب ، بينما يوسف الرامي قد قدم له مقبرته الجديدة كي يدفن فيها .
و المرأة الخاطئة قدمت دموعها و شعر رأسها لتمسح قدميه . و يوحنا الحبيب قدم راسه لتتكئ علي صدر المسيح … و مريم العذراء قدمت كل شئ …

و في العهد القديم نري كثيرين قدموا تقدمات للرب … و أول إنسان ذكر الكتاب أنه قدم للرب شيئاً هو هابيل الصديق، الذي قدم له محرقة ” من أبكار غنمه و من سمانها ” ( تك 4 ) .
و إبراهيم أب الآباء ذهب ليقدم إبنه الوحيد .
و كثيرين غيره قدموا تقدمات . و كانت هذه التقدمات تسمي أيضاً ( قرابين ) . سميت قرابين ، لأنهم يتقربون إلي الله. و كثرت في العهد القديم الذبائح و المحرقات و التقدمات و القرابين . و كان الله يقبلها ، إن كانت من قلب نقي … و في الأصحاح الأول من سفر أشعياء النبي ، رفض الله التقدمات التي قدمها الأشرار لأن أيديهم ملآنة دماً ( اش 1 : 11- 15 ) . و لكن لماذا قبل الرب تقدمات القديسين ؟
كانت تعبيراً عن الحب و تقديم القلب لله.
و كانت تحمل أحياناً شعور الإنسحاق و الإعتراف بالخطية ، كما في ذبائح الخطية و ذبائح الإثم و المحرقات التي قدمها أيوب عن أبنائه ( أي 1 : 5 ) .
و نحن نقف في عجب ، حينما نري المخلوق يقدم شيئاً للخالق …!
فالخالق يملك كل شئ . و كل ما يملكه الإنسان هو من عنده …
و لكن الأعجب أن الخالق ، كان هو الذي يطلب ! فهو الذي قال عن خليقته : ” و لا تظهروا أمامي فارغين ” ( خر 23 : 15 ) .
و هو الذي وضع شرائع العشور و البكور و النذور … و البخور … و هو أيضاً وضع الشرائع الخاصة بالذبائح و المحرقات …

و في كل ذلك لم يكن يريد هذه التقدمات في ذاتها ، إنما كان يريد القلب ، و ما يحمله من مشاعر حينما يقدم شيئاً . لذلك قال ” يا أبني أعطني قلبك ” أي أعطني حبك …
إن كانت تقدماتك خالية من الحب ، فأنت لم تقدم شيئاً. أما إن قدمت حبك ، فحينئذ تكون قد قدمت كل شئ .
و كل ما تقدمه بعد ذلك ، يكون نابعاً من الحب ، سواء كان شيئاً مادياً كالعشور ، و لكن وراءه المحبة و الشفقة و الحنو … أو كان تقدمة روحية كالصلاة ، و فيها أيضاً الحب و الإشتياق إلي الله
مشاعرك و أنت تقدم ، أهم مما تقدمه …
فافحص إذن مشاعرك ، و تأكد من نقاوتها ، و تأكد من عاطفة الحب فيها . و ثق أن الله هو فاحص القلوب ، و يعرف داخلك تماماً ، لذلك هو يقبل منك إن كانت مشاعر القلب سليمة.

إن الله لا تهمه الكثرة أو القلة فيما تعطيه ، إنما يهمه قلبك ، لذلك ذكر أن التي أعطت الفلسين قد أعطت أكثر من الجميع ، لأنها أعطت من أعوازها ، و فضلت الله علي نفسها …

و لنتأمل هذا أيضاً في تقدمة المجوس … هؤلاء المجوس الذين أتوا إلي السيد المسيح من بلاد بعيدة ، جاءوا إليه عن حب : ساروا المسافات الطويلة حتي وصلوا إليه. و من أجله دخلوا في بلاد غريبة عليهم ، تعرضوا فيها للموت و الهلاك ، غذ كان ممكناً أن يغدر بهم هيرودس الملك أو بعض أتباعه …
كانوا مشتاقين إلي الرب ، تواقين لرؤية هذا المولود الذي دهم عليه النجم . و قد ملك هذا الإشتياق كل قلوبهم ، فسعوا إليه لا يفكرون إلا فيه . من أجل هذا إستحقوا أن يروه ، و يقدموا له عاطاياهم عن حب و عن إيمان . و ماذا أيضاً . المعروف في قصة الميلاد أن المجوس قدموا للسيد المسيح هدايا : ذهباً و لباناً و مراً ( مت 2 : 11 ).

و كانت لهذه الهدايا رموز في قصة الميلاد الإلهي :
كان الذهب يرمز إلي السيد المسيح كملك ، لعظمته.
و كان اللبان يرمز إليه ككاهن ( لاستخدام اللبان في البخور ).
و كان المر يرمز إلي الآمه من أجلنا .

غير أننا نريد أن نعرف رموز هذه الأشياء في حياتنا . هل في حياتك الخاصة تقدم للرب هدايا من هذا النوع ، تقدم نفسك للمسيح ، و تقدم فيها ذهباً و لباناً و مراً …؟ و إن كان الأمر كذلك ، فإلي أي شئ يرمز كل واحد من هذه الثلاثة ، في حياتك الخاصة ؟

الذهب

الذهب يرمز إلي الشئ الثمين ، و يرمز إلي النقاوة.
و لذلك نري كيف كان الذهب مستخدماً في الهيكل في العهد القديم.
كان تابوت العهد مُغشي بالذهب النقي من الداخل و الخارج ، و غطاؤه من ذهب نقي ، و الكاروبان اللذان عليه من الذهب أيضاً ( خر 37 : 2 ، 6 ، 7 ). و كانت المائدة مغشاة بالذهب النقي ، و الأواني من الذهب النقي ( خر 37 : 11 ، 16 ) . و كانت المنارة من ذهب نقي ( خر 37 : 17 ).
و مذبح البخور كان مغشي بذهب نقي ، و له إكليل من ذهب حواليه … ( خر 37 : 26 ) . و المجامر يقول عنها سفر الرؤيا أنها كانت من ذهب ( رؤ 5 : 8 ) و كذلك كانت في العهد القديم ( عب 9 : 4 ).
كل هذا كان رمزاً إلي عظمة الخدمة و نقاوتها.

و السيدة العذراء كانت تُشبه أيضاً المجمرة الذهب ، و بتابوت العهد المغشي بالذهب من الدخل و الخارج ، رمزاً إلي عظمة العذراء و نقاوتها . و كانت العذراء تُشبه أيضاً بقسط المن الذي هو من ذهب أيضاً ( عب 9 : 4 ).

فهل نفسك أيضاً غالية ، يرمز إليها بالذهب؟
هل نفسك التي تقدمها للمسيح ، هي من النفوس الغالية الثمنية التي يرمز إليها الذهب ؟ و هل هي في نقاوتها مثل الذهب النقي ، مثل تابوت العهد المصفح بالذهب من الداخل و الخارج؟
هل نفسك غالية و ثمينة بالنسبة إلي كل المحيطين بها، بالنسبة إلي الكنيسة و إلي المجتمع؟ و غالية عند الله نفسه؟ تقدمها لله من ذهب نقي ، لا شوائب فيها … ليتك كلما تنظر إلي نفسك ، تتذكر النفوس الغالية عند الله

تأمل معي بعضاً من هذه النفوس الغالية الثمينة … يوحنا المعمدان مثلاً ، الذي كان غالياً عند الله ، حتي أنه من بطن أمه إمتلأ من الروح القدس ، و قيل عنه إنه كان عظيماً أمام الرب ( لو 1 : 15 ) .
و الطفل موسي ، الذي كانت نفسه غالية عند الله ، حتي أنه أرسل إليه في طفولته أميرة لتنتشله من الماء ، و تدعوه إبنها ، و تهتم به اهتماماُ خاصاً ( خر 2 ) … موسي الذي دافع عنه الله بكل قوة و حب ، لما تكلمت عليه مريم و هرون ( عدد 12 ) .
و يوحنا الحبيب ، كان نفساً غالية عند الرب ، حتي سمح له أن يتكئ في حضنه ( يو 13 : 23 ) .
و كالمعمدان و موسي و يوحنا الحبيب ، كان أبونا إبراهيم. هذا الذي دعاه الله و باركه و جعله بركة ( تك 12 ) . و دافع عنه لما أخذ أبيمالك سارة زوجة إبراهيم . فهدد الرب أبيمالك بالموت. و قال له ” رد إمرأة الرجل ، فإنه نبي ، فيصلي لأجلك فتحيا ” ( تك 20 : 7 ) … إبراهيم الذي سمح له الله أن يناقشه قبل حرق سدوم ( تك 18 ) ، كما سمح لموسى أن يناقشه لما أراد إفناء الشعب ( خر 32 ) …

و يعوزني الوقت إن تحدثنا عن النفوس الغالية.
التي كانت ثمنية جداً عند الله ، حتي أنه دعاها و بررها و قدسها ، و كان يقبل شفاعتها في غيرها ، و كان يجعلها هيكلاً يحل فيها روحه القدوس … النفوس التي ائتمنها الرب علي المواهب ، و ائتمنها علي رعاية شعبه ، أو علي رسالات يوصلونها إليهم … و النفوس التي كان يرسل لها الله ملائكة لخدمتها ، أو لإنقاذها …

فهل نفسك هي من هذه النفوس الغالية ؟

الذي يشعر أن نفسه غالية ، لا يفسدها ..
إن كانت نفسك غالية عند الله و الناس ، حافظ عليها ، و لا تتسبب في هلاكها و ضياعها ، و لا تسمح أن تفقد نقاوتها و تفقد صورتها الإلهية . لتكن باستمرار ذهباً خالصاً نقياً مثل منارة الذهب ، و المجمرة الذهب ، و تابوت العهد …

إن المجوس لما قدموا للرب ذهباً ، قدموا أثمن ما عندهم .
فهل أنت أيضاً تقدم أثمن ما عندك للرب؟
و أثمن ما عنك هو قلبك . فهل تقدمه للرب ؟
و هل تقدم للرب ايضاً من أعوازك ، كما قدمت الأرملة التي امتدح الرب عطاءها ؟ هل أنت لا تبخل علي الله بشئ مهما كان ثمنياً عندك ؟ حتي إبنك الوحيد تكون مستعداً لتقديمه كما فعل أبونا إبراهيم لما طلب منه الرب وحيده اسحق ؟
أنت تقدم أثمن ما عندك من ذهب ، و أيضاً تقدم لباناً …

اللبان

يرمز إلي الكهنوت و إلي العبادة …

يرمز إلي الكهنوت ، لأن اللبان هو حبات البخور التي توضع في المجمرة . و تقديم البخور هو من عمل الكهنة فقط ( خر 30: 8 ) .
و بخور اللبان يرمز إلي العبادة أيضاً ، كما يقول المرتل ” فلتستقم صلاتي كالبخور قدامك . و ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية ” ( مز 141 : 2 ).
و قيل عن البخور في سفر الرؤيا إنه صلوات القديسين . صلوات القديسين هي بخور ذكي الرائحة ، صاعد إلي الله
فالأربعة و العشرون كاهناً ، كانوا يحملون جامات من ذهب ” مملوءة بخوراً هي صلوات القديسين ” ( رؤ 5 : 8 ) . و حبات اللبان حينما توضع في النار ، تتحول إلي بخور أو دخان تذكرنا بصلوات القديسين ، هذه الصلوات التي تتعطر بها الكنيسة المقدسة كما قيل عنها في سفر نشيد الأناشيد : ” كأعمدة من دخان ، معطرة بالمر و اللبان ” ( نش 3 : 6 ).

و المر و اللبان ، هما كلاهما من الهدايا التي قدمها المجوس للرب في يوم ميلاده . فهل نفسك التي تقدمها لله تكون معطرة بهما أيضاً ، كما هي ثمينة كالذهب ، و هكذا تجمع التقدمات الثلاثة معاً …
هل نفسك تصعد كرائحة بخور أو لباناً أمام الله ؟
تقدم رائحة زكية ، يتنسم منها الله رائحة الرضا ( تك 8 : 21 ) .
و هل صلواتك أيضاً تصعد كرائحة بخور ، في عطرها و في حرارتها ؟
هل أنت لبان ؟ و إن كنت لباناً ، كيف تتحول إلي بخور ؟
البخور هو لباناً محترق ، لبان دخل المجمرة .
إنه لبان دخل إلي النار ، نار الله المقدسة ، إشتعلت فيه ، و استسلم هو لها ، فتحول إلي بخور . فهل أنت قد دخلت إلي النار من أجل الله ؟ و هل تحولت فيها إلي ” محرقة بخور ” حسب تعبير الكتاب ؟
و البخور ( اللبان المحترق ) يعتبر ذبيحة ، كانت تقدم إلي الله علي مذبح البخور ( خر 37 : 35 ).

فهل أنت تقدم حياتك كلها ، و ليس مجرد صلاتك ، كذبيحة لله ، كمحرقة بخور ؟ ليتك في هذا تستمع إلي قول الرسول ” أطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله ن أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة ، مرضية عند الله عبادتك العقلية ” ( رو 12 :1 ) .

نفسك الثمينة يمثلها الذهب . و عبادتك النقية يمثلها اللبان المحترق كبخور . فماذا عن المُر إذن ؟

المُر

هو رمز الألم . و هو أيضاً عطر.

المر نوع من العطور . هو عطر سائل . و لذلك قيل في سفر النشيد ” معطرة بالمرو اللبان ” ( نش 3 : 6 ) . و قالت عذراء النشيد ” قمت لأفتح لحبيبي ، و يداي تقطران مراً ، و أصابعي مر قاطر علي مقبض القفل ” ( نش 5 : 5 ) . و في سفر استير قيل إن الملكات ” كانت تكمل أيام تعطرهن ستة أشهر بزيت المر ” ( اس 2 : 12 ) . و قيل عن عطر المر في سفر المزامير ” المر و الميعة و السليخة من ثيابك ” ( مز 44 ) .

الكنيسة تصعد إلي الله ، معطرة بالمر .
” معطرة بالمر و اللبان ، و كل أذرة التاجر ” … صلواتها ، التي هي لبان محترق ، هي عطر أمام الله ، رائحة بخور . و الآمها التي يرمز إليها المر ، هي أيضاً عطر .
و هذا هو ما نعرفه عن المر : المر في رائحته عطر ، و في مذاقته مر . و هذا يعطينا فكرة جميلة عن الألم الذي يرمز إليه المر … انه في نفس الوقت عطر … أي أن الآلام لها رائحة ذكية أمام الله ، فتتعطر الكنيسة بالآمها حينما تقف أمام الله . و يتنسم الله من الآمها رائحة الرضا .

ليتنا نتأمل هذا التعبير : الكنيسة تتعطر بالآلام .
هكذا كان الشهداء و المعترفون ، الآمهم هي عطورهم ، تفوح منها رائحة جميلة أمام الله و الناس … و هكذا أيضاً كانت كل الآلام التي تحملها الخدام في الخدمة . و لذلك قال الرب عن أكاليل بولس الرسول ” سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل إسمي ” ( أع 9 : 16 ) . لا يكفي إذن أن تكون لباناً ، إنما تكون لباناً عطراً ن معطراً بالمر ، تتحمل الألم لأجل الرب ، تمشي في الطريق الكرب ، و تدخل من الباب الضيق ( مت 7 : 14 ) . و بضيقات كثيرة ينبغي أن ترث ملكوت الله ( أع 14 : 22 ).

و نحن لا يمكن أن نستقبل المسيح بغير المر .
حتي السيدة العذراء نفسها ، بكل محبتها لله ، و بكل محبة الله لها ، قيل لها ” و أنت أيضاً يجوز في نفسك سيف ” ( لو 2 : 35 ) .
و اصبح المر ليس فقط من سمات أولاد الله ن بل من الهبات التي يهبها الرب لنا ، إذ قيل لنا ” وهب لكم لأجل المسيح ، لا أن تؤمنوا به فقط ، بل أيضاً أن تتألموا لأجله ” ( في 1 : 29 ) .

و السيد المسيح نفسه قدم لنا مثالاً للمر في حياته .
ذاق المرارة طول حياته ، و بلغت أقصاها في الآمه علي الصليب . و عليه أيضاً قدموا له مراً ليشرب … و خروف الفصح الذي كان يرمز لليد الرب في عمله الفدائي و ورد في الكتاب إنه يؤكل ” علي أعشاب مرة ” ( خر 12 : 8 ) . و تقدمة الدقيق التي كانت ترمز لتجسد الرب ، ورد في أوصافها أنه لا يكون معها عسل ( لا 2 : 11 ) ، لأن العسل لا يتفق مع المر . بل قيل يوضع عليها اللبان ( لا 2 : 15 ) ، لأن اللبان يتفق مع المر …

و المسيحية لا يمكن أن تبعد عن المر …
لا يمكن أن تبعد علي الصليب أو تنفصل عنه ، إن أرادت أن تكون لباناً و تصعد إلي الله كرائحة بخور . لا بد أن يكون المر معها ” معطرة بالمر و اللبان ” … و إن أرادت أن تكون ذهباً خالصاً ، لا بد أن تكون مراً قاطراً .

فاصل

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى